الأربعاء، 6 يوليو 2016

51- الخوارج

51-الخوارج (المارقة)
د/ منى زيتون
‏السبت 22 أبريل 2017

 الأحد 23 أبريل 2017
https://www.sasapost.com/opinion/kharijites-atonement2/
**********

‏        الخوارج أو المارقة جمع خارجة. وهي أي طائفة خرجت على جماعة المسلمين وإمامها العادل، وفرَّقوا صفها، وعملت على تكفير المسلمين واستباحة دمائهم، عن طريق تفسير الدين بشكل مغلوط وإنزال الآيات التي نزلت في الكافرين على المسلمين. وهناك من يتوسع ويعطي المصطلح بعدًا سياسيًا باعتبار أي فرقة معارضة سياسية تخرج على الحاكم من الخوارج. لكنني لا آخذ بهذا التعريف.
ورد في مصنف ابن أبي شيبة (37916). حدثنا وكيع، قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن رجل من بني نضر بن معاوية، قال: كنا عند عليّ، فذكروا أهل النهر، فسبَّهم رجل، فقال عليّ: لا تسبوهم، ولكن إن خرجوا على إمام عادل فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم بذلك مقالًا.
والخوارج من أهم الجماعات التي لا نملك إغفالها عند الحديث عن نشأة التطرف الديني بين المسلمين. خرجوا أول مرة في عهد الإمام عليّ بن أبي طالب بعدما كانوا يقاتلون إلى صفه في صِفين، حيث كان من نتائج معركة صفين بين سيدنا عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، أن تم الالتجاء إلى التحكيم، وذلك بعد أن رفع جند معاوية المصاحف على أسِنِّة الرماح، طلبًا للاحتكام إلى كتاب الله، فخرجت الخوارج من جيش عليّ، وأعلنوا أن "لا حكم إلا لله" و "الحكم لله- لا للرجل". ذكر الشهرستاني في "الملل والنحل" (ج1، ص110)  أن "أول من تلفظ بهذا رجل من بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم، يُقال له الحجاج بن عبيد الله يُلقب بالبرك، وهو الذي ضرب معاوية على إليته لمّا سمع بذكر الحكمين، وقال: أتحكم في دين الله؟، لا حَكم إلا الله، تحكم بما حكم القرآن به، فسمعها رجل فقال: طعن والله، فانفذ، فسمّوا المُحكمة بذلك، ولمّا سمع أمير المؤمنين عليّ عليه السلام هذه الكلمة، قال: كلمة عدل يُراد بها جور، إنما يقولون لا إمارة، ولا بد من إمارة برة أو فاجرة"أهـ. بينما ذكر أبو المظفر الإسفراييني في "التبصير" (ص38) "أول من قال منهم لا حُكم إلا لله عروة بن حدير –عروة بن أدية- أخو مرداس الخارجي، وقيل أن أول من قاله يزيد بن عاصم المحاربي، وقيل أنه رجل من بني يشكر كان مع عليّ رضي الله عنه بصفين، ولما اتفق الفريقان على التحكيم ركب وحمل على أصحاب علي، وقتل منهم واحدًا، ثم حمل على أصحاب معاوية، وقتل منهم واحدًا، ثم نادى بين العسكرين أنه بريء من عليّ ومعاوية، وأنه خرج من حكمهم، فقتله رجل من همدان. ثم أن جماعة ممن كانوا مع عليّ رضي الله عنه في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام، واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة، ورجعوا مع عليّ إلى الكوفة، ثم فارقوه ورجعوا إلى حروراء، وكانوا اثنى عشر ألف رجلًا من المقاتلة". ثم عاد وذكر (ص41) رجوع ثمانية آلاف منهم بعد أن نوظروا، وثبات أربعة آلاف منهم على مقاتلة سيدنا عليّ.
فالخوارج لم يوافقوا على التحكيم بين سيدنا عليّ ومعاوية بن أبي سفيان، وأنكروا على سيدنا عليّ أن يُحكِّم في الحق الرجال، فإن كان صاحب الحق فلِم تراجع عن الحرب وقبل التحكيم؟، ولمّا ناقشهم الإمام عليّ بأنه قد كره التحكيم أول الأمر، ولكن سأمهم القتال دفعه لقبوله، عندها عادوا هم وطلبوا المضي في الحرب، فرفض أن ينقض عهده بأن يرسل رسوله للتحكيم، فخرجوا عن طاعته، وخرجوا أول ما خرجوا بموضع يُقال له "حروراء" قريب من الكوفة، عندما انفصلوا عن جيشه وهو عائد من صِفين إلى الكوفة، ولم يُقاتلهم الإمام علي في النهروان بمجرد خروجهم عليه، ورفضهم التحكيم، وإنما مرّ الأمر بمراحل، أولها، أنه بعد أن أرسل سيدنا عليّ أبا موسى الأشعري حكمًا من جهته، وأرسل معاوية عمرو بن العاص حكمًا من جهته، فشلت مفاوضة التحكيم عندما حاول عمرو استخدام الحيلة لتولية معاوية، وبعدها عزم سيدنا عليّ قتال معاوية ومن معه من أهل الشام مرة أخرى، فلم يقبل الخوارج القتال معه، وكفّروه، كما كفّروا عثمان وأصحاب الجمل والحكمين وكل من رضي بالتحكيم، ثم قاتلهم عليًا بالنهروان بعد أن حلّ دمهم بقتلهم عبد الله بن خبّاب بن الأرت.
جاء في خبر بدء خروجهم في "المستدرك- كتاب الفتن والملاحم" (8617)، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عثمان بن يحيى المقري ‏ببغداد، وأبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي بمرو، قالا: ثنا أبو قلابة الرقاشي، ثنا عبد ‏الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، حدثني أبي، ثنا يزيد بن صالح، أن أبا الوضيء عباد بن ‏نسيب حدثه أنه قال: كنا في مسير عامدين إلى الكوفة مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‏رضي الله عنه، فلمّا بلغنا مسيرة ليلتين أو ثلاث من حروراء شذّ منا ناس، فذكرنا ذلك لعليّ ‏فقال: لا يهولنكم أمرهم فإنهم سيرجعون. فنزلنا فلمّا كان من الغد شذّ مثليّ من شذ، فذكرنا ذلك ‏لعليّ فقال: لا يهولنكم أمرهم فإن أمرهم يسير، وقال عليّ رضي الله عنه: لا تبدؤوهم بقتال ‏حتى يكونوا هم الذين يبدؤوكم. فجثوا على ركبهم، واتقينا بترسنا، فجعلوا يناولونا بالنشاب ‏والسهام، ثم أنهم دنوا منا، فأسندوا لنا الرماح، ثم تناولونا بالسيوف حتى همّوا أن يضعوا ‏السيوف فينا، فخرج إليهم رجل من عبد القيس يقال له صعصعة بن صوحان، فنادى ثلاثًا، ‏فقالوا: ما تشاء؟ فقال: أذكركم الله أن تخرجوا بأرض تكون مسبّة على أهل الأرض، وأذكركم الله ‏أن تمرقوا من الدين مروق السهم من الرمية، فلما رأيناهم قد وضعوا فينا السيوف قال علي ‏رضي الله عنه: انهضوا على بركة الله تعالى، فما كان إلا فواق من نهار حتى ضجعنا من ‏ضجعنا، وهرب من هرب، فحمد الله عليّ رضي الله عنه. وأقول: هذا الخبر يظهر منه أنهم لمّا خرجوا بحروراء، بدأوا جيش عليّ بالقتال، فقاتلهم سيدنا عليّ، ولكنّ خبر بدئهم حزب عليّ بالقتال بمجرد خروجهم الوارد في هذه الرواية هو خبر شاذ، ولو صحّ فقد خرج بعدهم جماعة أكبر هي التي جادلهم ابن عباس، وقتلوا خبّابًا، فقاتلهم سيدنا عليّ بالنهروان، فهذه الجماعة الأخيرة هي التي حكى من أخبارها المؤرخون.
وقد جادلهم ابن عباس رضي الله عنه في بدء خروجهم، واستطاع إعادة كثيرين منهم إلى جادة الصواب. جاء في مستدرك الحاكم على الصحيحين (2656)، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: لما ‏خرجت الحرورية اجتمعوا في دار وهم ستة آلاف، أتيتُ عليًا فقلت: يا أمير المؤمنين ابرد ‏بالظهر لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: إني أخاف عليك. قلت: كلا. قال ابن عباس: ‏فخرجت إليهم ولبست أحسن ما يكون من حُلل اليمن. قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلًا ‏جهيرًا. قال ابن عباس: فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم قائلون، فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا ‏بك يا ابن عباس، فما هذه الحلة؟ قال قلت: ما تعيبون عليّ. لقد رأيت على رسول الله صلى ‏الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: ‏‏‏﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏‏﴾‏‏ [الأعراف: 32]. قالوا: فما جاء بك؟ قلت: أتيتكم من عند صحابة النبي ‏صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لأبلغكم ما يقولون المخبرون بما يقولون، فعليهم ‏نزل القرآن وهم أعلم بالوحي منكم وفيهم أُنزل، ‏‏‏‏‏‏وليس فيكم منهم أحد‏‏،‏‏ فقال بعضهم: لا ‏تخاصموا قريشًا فإن الله يقول: ‏‏‏﴿‏‏‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏‏﴾‏‏ [الزخرف: 58]. قال ابن عباس: وأتيت ‏قومًا لم أر قومًا قط أشد اجتهادًا منهم. مُسهّمة وجوههم من السهر. كأن أيديهم وركبهم تثني ‏عليهم. فمضى من حضر، فقال بعضهم: لنكلِّمنه ولننظرنّ ما يقول. قلت: أخبروني ماذا نقمتم ‏على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ قالوا: ثلاثًا. قلت: ‏ما هن؟ قالوا: أمّا إحداهن فإنه حكّم الرجال في أمر الله، وقال الله تعالى: ‏‏‏﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ‏‏﴾‏‏ ‏‏[يوسف: 40]، وما للرجال وما للحكم. فقلت: هذه واحدة. قالوا: وأمّا الأخرى فإنه قاتل ولم يسبِ ‏ولم يغنم، فلئن كان الذي قاتل كفارًا لقد حلّ سبيهم وغنيمتهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلّ ‏قتالهم. قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة؟ قال: إنه محا نفسه من أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. ‏قلت: أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. فقلت لهم: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن ‏سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يردّ به قولكم أترضون؟ قالوا: نعم. فقلت: أمّا قولكم حكّم ‏الرجال في أمر الله، فأنا أقرأ عليكم ما قد رُدّ حُكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم في أرنب ‏ونحوها من الصيد، فقال: ‏‏‏﴿‏‏‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏‏﴾‏‏ إلى قوله: ‏‏‏﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ‏‏﴾‏‏ [المائدة: 95]، فنشدتكم الله، أحُكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل أم ‏حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم؟ وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يُصيِّر ذلك إلى ‏الرجال، وفي المرأة وزوجها قال الله عز وجل: ‏‏‏﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35] فجعل الله حكم الرجال سنة ‏مأمونة. أخرجتُ عن هذه. قالوا: نعم. قال: وأمّا قولكم، قاتل ولم يسْبِ ولم يغنم، أتسْبون أمكم ‏عائشة، ثم يستحلون منها ما يستحل من غيرها، فلئن فعلتم لقد كفرتم وهي أمكم، ولئن قلتم ‏ليست أمنا لقد كفرتم، فإن الله يقول: ‏‏‏﴿‏‏‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏‏﴾‏‏ ‏‏[الأحزاب: 6]، فأنتم تدورون بين ضلالتين أيهما صرتم إليها صرتم إلى ضلالة. فنظر بعضهم ‏إلى بعض. قلت: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. وأما قولكم: محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا ‏آتيكم بمن ترضون وأريكم. قد سمعتم أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية كاتب سهيل ‏بن عمرو وأبا سفيان بن حرب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمير المؤمنين: اكتب يا ‏عليّ (هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله). فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله. لو ‏نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك تعلم أني رسول ‏الله. اكتب يا عليّ (هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله )، فوالله لرسول الله خير من عليّ، ‏وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه. قال عبد الله بن عباس: فرجع من القوم ألفان، وقُتل ‏سائرهم على ضلالة. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.‏ بينما روى أبو المظفر الإسفراييني في "التبصير" قصة المناظرة، على أن أمير المؤمنين عليّ هو من وقف لمناظرتهم بنفسه، وأورد نفس المقالات.
كانت أهم عقائدهم أن الإيمان لا ينفصل عن العمل، فهو ما وقر في القلب وصدّقته الجوارح والعمل، وقد قادتهم تلك المقدمة إلى نتيجة خطيرة جعلتهم أول فرقة متطرفة في تاريخ الإسلام، وهي أن الفاسق غير مؤمن، فمرتكب الكبيرة هو كافر بزعمهم، فكفّروا المسلمين ووقعوا في دمائهم – عدا الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق الحنفي ذلك أنهم كانوا يعتبرون باقي المسلمين مشركين، وديارهم ديار شرك-. ولا نجد في أدبيات الخوارج حديث عن توبة صاحب الكبيرة كما هو الحال عند المعتزلة، وفي هذا فتح لباب المعاصي، وتجاهل للضعف الإنساني، وإغلاق لباب الرحمة في وجوه العباد. ويذكر الإمام البخاري في أول باب (قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم) "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في ‏الكفار، فجعلوها على المؤمنين"‏أهـ. ورواها ابن عبد البر في "الاستذكار" (ج8، ص90) (10576) من رواية نافع عن ابن عمر. وأقول: ولا زالوا يفعلون. وصدق ابن عباس عندما قال في الخوارج "يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه".
يذكر علي سامي النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص233) "وجد الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية، أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك، هو (الحكم لله لا لعليّ)، ينشرون أصلًا آخر خطير لقتل المسلمين، وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم، وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب إلى الأمصار ويعلنها للناس، بأن الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها"أهـ. ومسألة موضع العمل من الإيمان من أهم مباحث الخلاف العقائدي بين طوائف الأمة، وجميع الفرق في تاريخ الإسلام التي قالت بأن العمل من أصل الإيمان وليس فرعًا له وقعت في تكفير المسلمين أو تفسيقهم، وأبرزهم في عصرنا الفرقة المسماة بالسلفية.
ثم إن الآية التي كفَّر بها الخوارج الإمام عليّ، وكفَّر من تلاهم من الخوارج جموع المسلمين، ولا زالوا يفعلون، وهي الآية الكريمة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، جمهور أئمة المسلمين القدماء والمحدثين على أن المقصود بالكفر في تلك الآية الكريمة ليس الكفر المُخرِج من الملة للمسلمين، هذا إن اعتبرنا أن المقصود بها هم المسلمون. على سبيل المثال: يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره للآية: "وقد اختلف أهل التأويل في تأويل "الكفر" في هذا الموضع. فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله وبدَّلوا حكمه"، ثم يعدد من وافقه في هذا الرأي، وهم كُثر. ثم أتبع الطبري ذكر قلة قالوا بأنه تعالى عنى بـ"الكافرين" أهل الإسلام، وذكر قول آخرين بأنه ليس الكفر المخرج من الإسلام، ومنهم كبار المفسرين كطاوس، "قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة"، وابن عباس "قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله"، ومثل قول عطاء: "كفرٌ دون كفر، وظلمٌ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق".
وقال الإمام القرطبي في تفسير الآية في "الجامع لأحكام القرآن" (ج7، ص 497: 499): "الكافرون والظالمون والفاسقون، نزلت كلها في الكفار؛ ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء. وعلى هذا المُعظَم. فأما المسلم فلا يُكفَّر وإن ارتكب كبيرة. وقيل فيه إضمار، أي: ومن لم يحكم بما أنزل الله ردًا للقرآن، وجحدًا لقول الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو كافر. قاله ابن عباس ومجاهد، فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدًا ذلك ومستحلًا له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرَّم، فهو من فُسَّاق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له. وقال ابن عباس في رواية: ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفار،..........."، وذكر القرطبي الاختلافات بين العلماء في تفسيرها على نحو ما أورد الطبري، فالأغلب أنه إما كفر دون كفر، وإما أنها نزلت في اليهود.
وفي المستدرك على الصحيحين. روى الحاكم (ج2، رقم3219/336) عن سُفيان بن عُيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه. إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44] كفرٌ دون كفر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه الشيخان.
يقول الشريف العوني –وهو سلفي- في "تكفير أهل الشهادتين" (ص141) في تكفير الحاكمية عند الخوارج: "لذلك كان الاحتجاج بظاهر قوله تعالى ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة:44]، في تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله مطلقًا جهلًا لم يقل به أحد من العلماء!، بل لم يقل به حتى المخالفون، فهم لا يقولون بأن كل حكم بغير ما أنزل الله كفر، وإنما يضعون قيودًا سطحية وغير منضبطة للتكفير بالحكم بغير ما أنزل الله، تخرج هذه القيود بالآية عن ظاهرها غير المراد، لتدخل بها إلى معنى آخر غير مراد أيضًا ومخالف لظاهرها، معنى لا يتمسح بدعوى أحقية الظاهر وتقديمه على المعنى المؤول"أهـ.
وقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج الأُول، ثم خروج طوائف عديدة منهم وحتى آخر الزمان. وذكر صفاتهم المتعلقة بتدينهم الشكلي، كما وصف الرواة شكل الرجل الذي أطلق النبي نبوءته الأولى عنهم بسببه. والأحاديث في ذلك متواترة بأسانيد كثيرة وصحيحة، ومنها ما أخرج الإمام البخاري في صحيحه (4351) عن عبد الرحمن بن أبي نُعِم، قال: سمعت أبا سعيد الخُدري يقول: بعث عليّ بن ‏أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في أديم ‏مقروظ، لم تُحَصل من ترُابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر، بين عيينة بن بدر، وأقرع بن ‏حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن ‏أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين ‏من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحًا ومساء"، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف ‏الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق ‏الله، قال: "ويلك، أولستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله". قال: ثم ولىّ الرجل. قال خالد بن ‏الوليد: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله أن يكون يصلي". فقال خالد: وكم من ‏مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُومر أن ‏أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مُقف فقال: "إنه يخرج من ضِئضيء ‏هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا، لا يُجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من ‏الرمية"، وأظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود".‏ والحديث في صحيح مسلم بسند آخر (2499-143/1064) مع اختلافات بسيطة.
وفي بعض روايات الحديث أورد الرواة أن الرجل المعني هو أبو خويصرة التميمي أو ابنه، عند البخاري (3610- 6933) وعند الإمام مسلم في صحيحه (2505 -148/1064)‏.
وجاء في وصف الرجل في حديث (4351) بصحيح البخاري ‏أنه "رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار". وهو نفس الوصف في حديث صحيح مسلم (2500 -144/1064) و (2502 -146/1064) ‏أنه "رَجُلٌ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ ‏الإِزَارِ". وفي حديث صحيح مسلم (2499-143/1064)‏ و (2501 -145/1064) أنه "رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِيءُ الْجَبِينِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ". فذُكر أنه ناتيء الجبهة، ولم يُذكر تشميره للإزار.
وجاء في وصف التدين الشكلي للخوارج القدماء جملة صفات تكرر ذكرها في أحاديث كثيرة. على سبيل المثال: في الأحاديث بصحيح البخاري (‏3610) و (6931) وبصحيح مسلم ‏(2503 -147/1064) ‏و ‏(2505 -148/1064) و (2499-143/1064) ومستدرك الحاكم على الصحيحين (2649) وسنن ابن ماجه (169).‏ وهي أنهم شديدو الاجتهاد في العبادة "يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ"‏ أي يجدها قليلة ويظنها أقل ثوابًا وقبولًا إذا قارنها ‏بصلاتهم، فهم يجهدون أنفسهم بالعبادة. و"يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ –حَنَاجِرَهُمْ-" أي لا يتعداها، والتراقي جمع ترقوة وهي عظم يصل ما بين ثغرة النحر والعاتق. وفي وصف آخر بحديث صحيح مسلم ‏(2501 -145/1064) "يتلون كتاب الله رطبًا، لا يُجاوز حناجرهم"، والمراد لا يفقهون ‏معناه، ولا تخشع له قلوبهم، ولا يؤثر في نفوسهم، فلا يعملون بمقتضاه.
ووصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم "يحسنون القيل ويسيئون الفعل" في أحاديث مستدرك الحاكم على الصحيحين (2648) ‏و (2649) و (2650) و (2659) وحديث مسند الإمام أحمد 5562 م3.
ومن وصف الخوارج الأولين والآخرين أنهم يُكفرون المسلمين ويكونون حربًا عليهم، فحروبهم كلها ضدهم. "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، ‏وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ". جاء هذا الوصف بحديث (2499-143/1064) بصحيح مسلم، وحديث (4101) في سُنن النسائي.
ومما يجمع الخوارج القدماء والمحدثين هو وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم "يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ –أو من الدين- كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ"، وزاد في بعض الروايات "يُنظر إلى ‏نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر ‏إلى رِصافه فما يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى نضيه -وهو قِدحه- فلا ‏يوجد فيه شيء، ثم يُنظر ‏إلى قُذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم". ومعنى يمرقون أي يخرجون منه سريعًا دون أن يستفيدوا منه. والرمية هو الصيد المرمي. فشبّه مروقهم ‏من الدين بمروق السهم الذي يصيب الصيد، فيدخل فيه ويخرج منه دون أن يعلق به شيء منه ‏لشدة سرعة خروجه. و (نصله) حديدة السهم، و (رصافه) هو العصب الذي يلوى فوق مدخل ‏النصل، و (قدحه) هو عود السهم قبل أن يوضع له الريش، و (قذذه) جمع قذة وهي واحدة الريش ‏الذي يعلق على السهم. ( قد سبق الفرث والدم ) أي لم يتعلق بالسهم شيء منهما لشدة سرعته. وقد جاء هذا الوصف لهم في عشرات الأحاديث الصحاح، مثل: أحاديث البخاري (3610) و (3611) و (5057) و (4351) و (6930) و (6931) و (6932) و (6933) و (6934) و (7562). وأحاديث صحيح مسلم (2496- 142/1063) ‏و ‏(2499-143/1064)‏ و ‏(2500 -144/1064)‏ و ‏(2503 -147/1064)‏ و ‏(2504 -148/1064)‏ و ‏ (2505 -148/1064)‏ و ‏(2511 -154/1066)‏ و ‏(2512 -154/1066) ‏و ‏(2513 -154/1066) ‏ و ‏(2516 -156/1066) ‏و ‏(2518 -158/1067)‏ و ‏(2519 -159/1068)‏. وأحاديث مستدرك الحاكم على الصحيحين (2645) و (2647) و (2649) و (2650) و (2651) و (2659). وسُنن ابن ماجه (168) و (169) و (170) و (171) و (172) وسنن النسائي (4101) و (4102) و (4103) وسُنن الترمذي (2188) وغيرها. لذا فخبر خروجهم من ملة الإسلام، وزيف ما يدعونه من تدين، متواتر بدرجة لا تقبل التشكيك.
وهناك من الأحاديث ما تثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعدّهم من الأمة. ورد في صحيح البخاري (6931) عن أبي سعيد ‏الخدري، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم ‏تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم -أو حناجرهم-. يمرقون من ‏الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رِصافه، فيتمارى في ‏الفُوقة، هل علِق بها من الدم شيء".‏ فلم يقل منها: أي لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة بكلمة (من) ‏لأنهم ليسوا منها في الحقيقة. وقد ورد الحديث في صحيح مسلم (2503 -147/1064).
وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم شرار الخلق أو من شرار الخلق، وزاد في بعض الروايات أنهم "شرار الخلق والخليقة". والخلق الناس. والخليقة البهائم. وقيل هما بمعنى. ويريدها ‏جميع الخلق.‏ جاء هذا الوصف في أحاديث صحيح مسلم (2506 -149/1065) ‏‏و (2518 -158/1067)‏ وأحاديث مستدرك الحاكم على الصحيحين (2647) و (2649) و (2650) و (2659) وسنن ابن ماجه (170) وسنن النسائي (4103).
وجاء الوصف بأن "الله بريء منهم" في حديث مستدرك الحاكم على الصحيحين (2659) وأنهم "يدعون إلى الله وليسوا من الله في شيء" في المستدرك (2648)‏.
كما ثبت وصفه لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم "كلاب النار" في أحاديث منها، مستدرك الحاكم على الصحيحين (2654) ‏و (2655)، وسنن ابن ماجه (173)، ومسند الإمام أحمد (22051‏) و (22083) و (22109)، والترمذي (3000)، والبوصيري في "الزوائد" (‏3448/2) و (‏3448/6).
‏        وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الخوارج، وحذّر منهم كثيرًا. وهناك أحاديث ذكر فيها صفات خوارج آخر الزمان سنوردها عند ذكرهم. أمّا أنه قد ذكرهم كثيرًا، فيُستدل عليه من اختلاف الأحداث والأماكن التي رُوي فيها خبرهم ما بين منبره ومسجده وموضع يبعد عن مكة كان يوزع فيه مالًا، وكثرة الأحاديث التي رُويت بشأنهم، وأخيرًا ما رواه بعض الصحابة وأقسموا عليه أنهم سمعوا منه صلى الله عليه وسلم مرارًا.
روى الإمام أحمد في مسنده بثلاثة أسانيد (22051) و (22083) و(22109) عن أبي أُمامة أنه ‏رأى رؤوسًا منصوبة على درج ‏مسجد دمشق، فقال أبو ‏أمامة: كلاب النار، كلاب النار –ثلاثًا- ‏شر قتلى تحت أديم السماء، ‏خير قتلى من قَتَلوه، ‏ثم قرأ: ﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ الآيتين. قلت لأبي أمامة: أسمعته ‏من ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرتين ‏أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا أو ستًا أو سبعًا ما ‏‏حَدّثْتُكُم.‏
وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2654) بسنده عن شداد بن عبد الله أبي عمار قال: شهدت أبا أمامة ‏الباهلي رضي الله عنه، وهو واقف على رأس الحرورية –الخوارج- عند باب دمشق. وهو يقول: ‏كلاب أهل النار -قالها ثلاثًا-. خير قتلى من قتلوه، ودمعت عيناه. فقال له رجل: يا أبا أمامة ‏أرأيت قولك هؤلاء كلاب النار، أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رأيك؟ ‏قال: إني إذًا لجريء. لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثًا ‏وعدّ سبع مرات ما حدثتكموه.
كما قد حثّ رسول اللَّه ‏‏صلى الله عليه وسلم على حربهم، واستئصالهم، وقال في حديث صحيح مسلم (2499-143/1064) وحديث سنن النسائي (4101): "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ ‏قَتْلَ عَادٍ".‏ وفي حديث صحيح البخاري (4351) وحديث صحيح مسلم (2500 -144/1064)‏ و ‏(2501 -145/1064)‏ و ‏(2502 -146/1064) ‏‏"لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ ثَمُود".
وأكّد الرسول على أجر من قتلهم قال: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة".‏ ‏كما أخبر أن خير قتيل هو من قتلوه. والأحاديث كثيرة في ذلك المعنى. منها: بصحيح البخاري (‏3611 ‏، ‏5057‏، 6930)، وحديث صحيح مسلم (2511 -154/1066)‏، وسنن ابن ماجه ‏(168) والنسائي (4102). وفي مستدرك الحاكم على الصحيحين (2659) بلفظ "فمن لقيهم فليقاتلهم، فمن قتلهم فله أفضل الأجر، ومن قتلوه فله أفضل الشهادة".
وجميع فرق الخوارج لها نفس الحكم. جاء بالزوائد للبوصيري ‏(3448/2) و (3448/6)، عن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبداللّه بن أبي أوفى –أحد الصحابة- فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ قلت: أنا سعيد بن جمهان قال: ما ‏فعل أبوك؟ قلت: قتلته الأزارقة. فقال: لعن اللّه الأزارقة -مرتين أو ثلاثًا-. حدثنا رسول اللّه ‏صلى الله عليه وسلم أنهم كلاب النار. قلت: الأزارقة وحدها أم الخوارج كلها؟ قال: بلى، ‏الخوا رج كلها.‏
ومع كل ما سبق من صفتهم، اختلف العلماء في كفرهم، والأرجح من رأي العلماء أنهم لا يُكفَّرون؛ فقد سئل عنهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأجاب بعدم تكفيرهم. أخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (18656)، عمن سمع الحسن قال: "لما قَتل عليّ رضي الله عنه الحرورية، قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين؟ أكفار هم؟، قال: من الكفر فروا، قيل: فمنافقين؟، قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا، وهؤلاء يذكرون الله كثيرًا، قيل: فما هم؟ قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا". وأخرج الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (ج8، ص90) (10577- 10578) "وقد ذكرنا في "التهميد" رواية جماعة عن عليّ رضي الله عنه أنه سُئل عن أهل النهروان أكفارٌ هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فهم منافقون؟ فقال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلًا. قيل: فما هم؟ قال: قوم ضلّ سعيهم وعموا عن الحق، وهم بغوا علينا؛ فقاتلناهم، فنصرنا الله عليهم. وذكر نعيم بن حماد، عن وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل، عن علي رضي الله عنه قال: لم نقاتل أهل النهروان على الشرك"أهـ. كما ذكر ابن عبد البر (10564-10565) أمر اختلاف العلماء في كفرهم، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "ويتمارى في الفُوق" –يعني السهم- أنه دليل على الشك في خروجهم جملة على الإسلام، لأن التماري الشك -أي يشك إن كان أصاب الدم الفُوق أم لا، والفوق هو الشيء الذي يدخل فيه الوتر-. فإذا وقع الشك في خروجهم لم يقطع عليهم بالخروج الكلي من الإسلام. كما احتج من ذهب هذا المذهب بلفظة رويت في بعض الأحاديث الواردة فيهم، في قوله صلى الله عليه وسلم "يخرج فيكم قوم من أمتي"، فلو صحّت هذه اللفظة كانت شهادة منه عليه السلام أنهم من أمته.
ونلاحظ عدم تكفير سيدنا عليّ لهم رغم أنهم قد حكموا على عليّ عليه السلام بالكفر لأجل قبوله التحكيم الذي أجبروه هم عليه، كما كفّروا الخليفة الثالث عثمان بسبب بعض المخالفات التي صدرت عنه في الست سنوات الأخيرة من خلافته، هذا فضلًا عن تكفيرهم عددًا من كبار الصحابة كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم. وأخرج الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (ج8، ص89) (10573) عن رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، أن نجدة الحروري كان يقول عن ابن عمر أنه كافر. فالخوارج هم أول من وقعوا في بدعة تكفير المسلمين، فهم يكفّرون بترك الواجب، ويكفرون بفعل الكبيرة، ويخرجون بالسيف على مخالفيهم من أهل الإسلام بتكفيرهم إياهم.
وقد خطّ لهم سيدنا عليّ خطة للتعامل معهم طالما لم تمتد أيديهم بأذى، لأن عدم اعتدائهم يعني عدم تيقنه من كونهم الفرقة المارقة التي حدّث النبي عنها. روى ابن أبي شيبة في مصنفه (38926/37930) حدثنا ابن نمير، عن الأجلح، عن سلمة بن كُهيل، عن كثير بن نمر، قال: بينا أنا في الجمعة، وعليّ بن أبي طالب على المنبر، إذ قام رجل –من الخوارج- فقال: لا حُكم إلا لله، ثم قام آخر فقال: لا حُكم إلا لله، ثم قاموا من نواحي المسجد يُحكِّمون الله، فأشار عليهم بيده: اجلسوا، نعم، لا حكم إلا لله؛ كلمة حق يُبتغى بها باطل. حُكم الله يُنتظر فيكم، الآن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا؛ لن نمنعكم مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه، ولا نمنعكم فيئًا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا، ثم أخذ في خطبته.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه ‏(38892/37896) حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن حُميد بن هلال، قال: حدثني رجل من عبد القيس، قال: كنت مع الخوارج فرأيت منهم شيئًا كرهته، ففارقتهم، على أن لا أكثر عليهم، فبينا أنا مع طائفة منهم إذ رأوا رجلًا خرج كأنه فزع، وبينهم وبينه نهر، فقطعوا إليه النهر، فقالوا: "كأنّا رعناك؟" قال: أجل. قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خبّاب بن الأرت. قالوا: عندك حديث تحدثناه عن أبيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فتنة جائية. القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، فإذا لقيتهم فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فلا تكن عبد الله القاتل". قال: فقربوه إلى النهر، فضربوا عنقه، فرأيت دمه يسيل يجري على الماء كأنه شِراك ماء ابْذَقر –أي ما انقطع- بالماء حتى توارى عنه، ثم دعوا بسرية له حُبلى، فبقروا عما في بطنها!.
وخبر قتلهم لعبد الله بن خبّاب بن الأرت، وهو صحابي وابن صحابي، خبر شهير، وكان أول ما أحدثوه في الإسلام. ثم قالوا لسيدنا عليّ عن خباب: "كلنا شركٌ في دمه"، فاستحل عليّ قتالهم، لما سفكوا من الدم الحرام واعتدوا على الحرمات والأموال، والإفساد في الأرض، فأيقن أنهم أصحاب العلامات التي أنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ينبغي دفع أذاهم عن رعيته. وكانت وقعة النهروان. وظل على موقفه من عدم تكفيرهم حتى مع قتاله لهم، ولهذا لم يُرو عنه أنه قد سبى نساءهم أو غنم أموالهم.
وكان الأمر بحاجة إلى جرأة وإيمان أبي الحسن رضي الله عنه ليتجرأ على حرب أمثال هؤلاء المتدينين تدينًا قشريًا زائفًا. إيمان بصدق ما نبأه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر خروجهم على فُرقة من المسلمين، وأنه تقتلهم أولى الفئتين بالحق. ورد في صحيح البخاري (6939)، أنه تنازع أبو عبد الرحمن، وحِبّان بن عطية، فقال أبو عبد الرحمن لحِبّان: لقد ‏علمت ما الذي جرأ صاحبك على الدماء -يعني عليًا-، قال: ما هو لا أبا لك؟ قال شيء سمعته ‏يقوله، قال ما هو؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير وأبا مرثد، وكلنا فارس، ‏قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة حاج -قال أبو سلمة: هكذا قال أبو عوانة: حاج والصحيح خاخ- فإنّ فيها ‏امرأة معها صحيفة من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فأتوني بها". فانطلقنا على أفراسنا ‏حتى أدركناها حيث قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسير على بعير لها، وقد كان –يعني حاطب- ‏كتب إلى أهل مكة بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقلنا: أين الكتاب الذي معك؟ ‏قالت: ما معي كتاب، فأنخنا بها بعيرها، فابتغينا في رحلها فما وجدنا شيئًا، فقال صاحباي: ما ‏نرى معها كتابًا، قال: فقلتُ لقد علمنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حلف عليّ: ‏والذي يُحلَف به لتُخرِجِن الكتاب أو لأجردنك، فأهوت إلى حُجزتها -وهي محتجزة بكساء- ‏فأخرجت الصحيفة". وصدق أبو عبد الرحمن، فما جرّأه على الحرب إلا يقينه بصحة ما أخبر به الرسول من حديث الخوارج، مثلما كان موقنًا بصحة ما أنبأهم به يوم لحقوا بتلك المرأة.
وقد بلغ من يقينه رضي الله عنه بما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أنبأ بعلامة تكون في واحد من قتلى هؤلاء الخوارج الأُول –الحروريين-، وأن عليًا رضي الله عنه أخذ يبحث عن صاحب العلامة بين القتلى حتى وجده. وقد جاء الخبر بأن العلامة كانت ظاهرة فيه. ورد في صحيح مسلم (2517 -157/1066) عَنْ ‏عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ ‏رضي الله عنه. قَالُوا: لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ. قَالَ عَلِىٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم ‏وَصَفَ نَاسًا إِنِّى لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِى هَؤُلاَءِ "يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ -وَأَشَارَ ‏إِلَى حَلْقِهِ-. مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ. مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْىُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْىٍ". فَلَمَّا ‏قَتَلَهُمْ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: انْظُرُوا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا، ‏فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِى خَرِبَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. ‏قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَقَوْلِ عَلِىٍّ فِيهِمْ، زَادَ يُونُسُ فِى رِوَايَتِهِ. قَالَ بُكَيْرٌ: ‏وَحَدَّثَنِى رَجُلٌ عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الأَسْوَدَ.‏ ووردت أحاديث كثيرة تثبت الخبر.
وأوررد البخاري في صحيحه حديث (‏3610)، أن أبا ‏سعيد الخدري رضي الله عنه قال:‏ بينما نحن عند رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا ‏رسول ‏الله اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل". ‏فقال عمر: يا ‏رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه؟ فقال: "دعه، فإن له أصحابًا يحقر أحدكم ‏صلاته مع صلاتهم، ‏وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين ‏كما يمرق السهم من الرمية، يُنظر إلى ‏نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رِصافه فما ‏يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى نضيه -وهو قِدحه- فلا ‏يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى قُذذه فلا ‏يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى ‏عضديه مثل ثدي المرأة، أو ‏مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فُرقة من الناس".‏ قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت ‏هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم ‏وأنا معه، ‏فأمر بذلك الرجل فالتُمس فأُتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي ‏نعته.أهـ. وروى البخاري في صحيحه بسند آخر حديث (6933) قال أبو سعيد: "آيتهم رجل إحدى ‏يديه، أو قال: ثدييه، مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة ‏من الناس".
وروى الإمام مسلم الحديث في صحيحه بجملة روايات. فبسند آخر (2505 -148/1064) قال أبو سعيد: "آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْىِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ. يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ ‏فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ". والحديث (2514 -155/1066) و (2515 -155/1066) عَنْ عَلِىٍّ، قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ -أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ ‏الْيَدِ-. فسئل: آنْتَ ‏سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ ‏صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.‏
وفي صحيح مسلم (2516 -156/1066) حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا ‏عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِى سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، حَدَّثَنِى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِىُّ، أَنَّهُ كَانَ فِى ‏الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِىٍّ رضي الله عنه، الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ: عَلِىٌّ رضي الله ‏عنه: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ ‏قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ، وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ، وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ. ‏يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ. لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا ‏يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ". لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ ‏صلى الله عليه وسلم ‏لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ. وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ، وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ ‏حَلَمَةِ الثَّدْىِ. عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاَءِ يَخْلُفُونَكُمْ ‏فِى ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ. وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ. فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا ‏فِى سَرْحِ النَّاسِ. فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزَّلَنِى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا حَتَّى قَالَ ‏مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِىُّ، فَقَالَ لَهُمْ أَلْقُوا ‏الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا ‏فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا ‏أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ رَجُلاَنِ. فَقَالَ عَلِىٌّ رضي الله عنه: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ ‏فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِىٌّ رضي الله عنه بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: ‏أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِى الأَرْضَ، فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ ‏السَّلْمَانِىُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: إِى وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ. حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاَثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.‏
ومعنى ‏آيتهم أي علامتهم. والبضعة قطعة اللحم. وتُدردر أي تضطرب وتذهب وتجيء.‏ والمثدون هو صغير اليد مجتمعها، والمخدج هو ناقص الخلقة، أما المودن فهو ناقص اليد صغيرها. وخلاصة القول أنه كانت في يد هذا الرجل علامة غريبة اختلف الناس في وصفها بدقة لغرابتها. كما ورد ذكر هذه العلامة في أحاديث كثيرة صحيحة رواها غير البخاري ومسلم، كالحاكم في المستدرك (2658) و(8617)، وابن ماجه في سننه (167). وفي الملل والنحل (ج1، ص107) قال الشهرستاني: "من رؤساء الخوارج بحروراء حرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية". وذكر أبو المظفر الإسفراييني في "التبصير" (ص41) أنه قبل القتال "خرج حرقوص بن زُهير في وجه علي رضي الله عنه وقال: والله لا نريد بقتالك إلا وجه الله تعالى، والنجاة في الآخرة، فتلا عليه علي: ‏‏‏﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103-104].
روى الإمام النسائي في "الخصائص" (189) بسنده عن زر بن حبيش أنه سمع عليًا يقول: أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قوتل أهل النهروان، ولولا أني أخشى أن تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم، مبصرًا لضلالتهم، عارفًا بالهدى الذي نحن عليه".
وكان الصحابة وكبار التابعين على سنة عليّ عليه السلام في قتال الخروج، حتى ابن عمر الذي اعتزل القتال سواء مع سيدنا علي أو معاوية كان يرى قتالهم. أخرج الإمام ابن عبد البر في "الاستذكار" (ج8، ص89) (10574) "عن نافع أن ابن عمر حين خرج نجدة الحروري كان يرى قتاله. كما قال عبد الرزاق: وأخبرنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه –أي طاووس-، أنه كان يُحرِّض على قتال الحرورية"أهـ.
وكما ذكرنا، فلم تكن مظاهرهم التعبدية إلا زيفًا لا يمس قلوبهم، لذا كانوا يطلبون الدنيا أيضًا، فإنها كانت مطمحهم. ويمكن ملاحظة مبادئهم المائعة التي لا تثبت على الحق في مواقف كثيرة. على سبيل المثال: ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج4، ص23) أن نجدة بن عامر الحنفي وهو من رؤوس الخوارج كُلِّم في رجل يشرب الخمر في عسكره، فقال: هو رجل شديد النكاية على العدو، وقد استنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين. وروي في كتاب "وقعة النهروان أو الخوارج" أن عبيدة بن هلال اليشكري الحنفي وهو أحد قادتهم وشعرائهم اُتهم بامرأة رجل حداد، رأوه مرارًا يدخل منزله بغير إذن. فأتوا خليفتهم (قطري بن الفجاءة التميمي)، فذكروا ذلك له. فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، ثم احتال له فأخبره بالخبر قبل أن يجمعه بهم. فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة فقال: انصرفوا. ثم بعث الى عبيدة فأخبره. ويروي عنهم المؤرخون أن زياد بن أبيه حينما كان يعطيهم المال والأرزاق الوفيرة كانوا يكفون عنه، ويقبلون بالتردد عليه، والسمر عنده.
لكن الخوارج ليسوا فرقة مرّت وانتهى أمرهم، بل هم جماعات تظهر في كل زمن لهم فكر واحد. وهناك روايات صحيحة في هذا الباب. فقد روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين بسنده (8558) عن عَبْد اللهِ بْن عَمْرٍو بن العاص رضي الله عنهما: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ‏‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إنها تكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم إلى مهاجر ‏إبراهيم –يعني الشام-، ويبقى في الأرض شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله، ‏فتحشرهم النار مع القردة والخنازير". وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يَخْرُجُ ناسٌ مِنْ قِبَلِ ‏‏الْمَشْرِقِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، ‏كُلَّمَا قُطِعَ قَرْنٌ نَشَأَ قَرْنٌ، حَتَّى يَخْرُجَ فِي بَقِيَّتِهِمُ ‏‏الدَّجَّالُ". ‏وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه.
وقد روي الحديث في مسند الإمام أحمد بسند آخر (6871) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج ‏أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قُطع، ‏كلما خرج منهم قرن قُطع، حتى عدّها زيادة على عشرة مرات: كلما خرج منهم قرن قُطع، حتى ‏يخرج الدجال في بقيتهم".‏ قال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح، والحديث رواه الحافظ ابن عساكر في ‏‏"تاريخ دمشق" (1: 149). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (6: 228). أما تعليق شعيب ‏الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
وبسند آخر في مسند الإمام أحمد (6952) قال عَبْد اللهِ بْن عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ‏صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ‏‏"يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، ‏كُلَّمَا قُطِعَ قَرْنٌ نَشَأَ قَرْنٌ، حَتَّى ‏يَخْرُجَ فِي بَقِيَّتِهِمُ الدَّجَّالُ". وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح. والحديث ‏رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1: 149-150).
وبسند آخر في مسند الإمام أحمد (5562 م3) عن عبد الله بن عمر يقول: ‏‏"يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا ‏فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن ‏قطعه الله عز وجل"، فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع. تعليق شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح لكن هذا الإسناد ضعيف، وقد أخرجه ابن ماجة (174) بإسناد حسن.
رُوي في سنن ابن ماجه (174) بسند عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينشأ نشء يقرؤون القرآن لا ‏يجاوز تراقيهم. كلما خرج قرن قطع". قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏يقول: "كلما خرج قرن قطع". أكثر من عشرين مرة. "حتى يخرج في عراضهم الدجال". وفي الزوائد للبوصيري إسناده صحيح. وقد احتج البخاري بجميع رواته. وقال الشيخ الألباني في تحقيقه ‏حسن.
فتفيد الأحاديث أن الخوارج هي فرقة مارقة من الأمة، وأنهم يظهرون على فترات، وكلما ظهرت طائفة قطع الله دابرهم، ثم بعد فترة تظهر طائفة أخرى منهم. وهكذا حتى يظهر خوارج آخر الزمان. وكذا كان؛ فخرجت فرق منهم على خلفاء وملوك المسلمين من بعد عليّ، حتى وصل الأمر لقطع الطرق والإغارة على الحجيج وسرقة الحجر الأسود سنة 317هـ.
ومن أشهر جماعاتهم التي ظهرت عبر تاريخ الإسلام:
·     الحرورية، وقد عُرفوا بذلك الاسم لأنهم خرجوا على سيدنا عليّ بحروراء بجوار الكوفة، وقد حاربهم سيدنا عليّ بعد قتلهم عبد الله بن خبّاب واعتدائهم على الناس. ثم قتله واحد منهم سنة 40هـ.
ومن بعد سنة 64هـ كان الخوارج ثلاث فرق رئيسية: الأزارقة، والنجدات، والبيهسية.
·        الأزارقة: وينتسبون إلى زعيمها نافع بن الأزرق الحنفي –وهو من بني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، وموطنهم اليمامة بنجد-. وكان في أول أمره من أصحاب ابن عباس رضي الله عنه. خرج الخوارج على عبد الله بن الزبير بعد أن كانوا قد قاتلوا معه الجيش الذي بعثه لحربه يزيد بن معاوية، ثم بعد وفاة يزيد عام 64هـ اختلفوا مع ابن الزبير، فتوجه نافع بن الأزرق الحنفي إلى البصرة –وكانت البصرة وسائر العراق تابعة لابن الزبير-، وكان معه بعض قادة الخوارج (عبد الله بن صَفَّار التميمي، وعبد الله بن إباض التميمي، وحنظلة بن بَيْهسَ، وبنو الماحوز (عبد الله وعثمان والزبير) التميميين، وعطية بن الأسود الحنفي اليشكري، وعبيدة بن هلال الحنفي اليشكري، وعمر بن عمير العنبري التميمي وصخر بن حنبا التميمي، وغيرهم)، ثم افترقت كلمتهم، وخرج نافع من البصرة، وعُرف من أخذوا برأي نافع باسم الأزارقة. كانت بين الأزارقة وبين الأمويين وقائع شديدة حتى شتتهم المهلب بن أبي صفرة إلى ما وراء بلاد فارس. ثم تنازعوا فافترقوا، ثم قضى عليهم المهلب تمامًا سنة 78هـ.
·        البيهسية: نسبة إلى مؤسسها أبي بيهس هيصم بن جابر من بني سعد بن الحارث بن ضُبيعة بن ربيعة بن نزار –ديارهم بين اليمامة بنجد والبحرين والعراق-، وانقسم بفريق من الخوارج لخلاف مع نافع بن الأزرق. كان أبو بيهس في زمن الحجاج، ولكن استمر أتباعه بعده، وتداخلوا مع فرقة ممن اشتقت عن الإباضية.
·        النجدات: بعد وفاة يزيد بن معاوية، واختلاف الخوارج مع عبد الله بن الزبير، انطلق منهم أبو طالوت من بني بكر بن وائل، وعبد الله بن ثور (أبو فُدَيك) إلى ‏اليمامة من أرض نجد –وهي أرض مسيلمة الكذاب، ومجاورة لحوطة بني تميم-، ليملكاها، ثم اجتمع أمرهما بعد ذلك على نجدة بن عامر الحَنَفي -وهو أيضًا من بني حنيفة- سنة 66هـ، وانتسبوا إليه، وكان قد خالف نافع بن الأزرق في بعض المسائل أيضًا.‏ واستقل نجدة باليمامة وتلقب بأمير المؤمنين، وقد قتله أصحاب ابن الزبير سنة 69هـ، وذكر الإسفراييني في "التبصير" (ص44) أنه قتله أبو فديك الذي خرج عليه، ثم بعث عبد الملك بن مروان جندًا إلى أبي فديك فقُتل وكفى الله المسلمين شرهم.
·        الصفرية: نسبة إلى عبد الله بن صَفَّار التميمي. وينسبهم الإسفراييني في "التبصير" (ص44) إلى زياد بن الأصفر. منذ عام 75 هـ أُضيفت تلك الفرقة المعروفة باسم الصفرية، فصاروا أربع فرق رئيسية للخوارج.
وهناك من فرق الخوارج الأُول الكثير كالشبيبية أتباع شبيب بن يزيد الشيباني، والذين جوّزوا إمامة النساء، وكانت غزالة أم شبيب هي الإمام بعده إلى أن قُتلت -كانت زوجة شبيب الشيباني اسمها جهيزة، وغزالة أمه، وقيل العكس-. وكان للحجاج مع غزالة وقعة شهيرة، وتندر عليه الشعراء بسببها، وكتب فيه أحدهم قصيدة مطلعها:
أسدٌ عليّ وفي الحروبِ نعامةٌ **** ربداء تجفل من صفير الصافرِ
هلّا برزتَ إلى غزالة في الوغى **** بل كان قلبك في جناحيّ طائر

واتّفقت هذه الفرق ومن اشتق عنهم فيما بينهم على اعتقادات، واختلفوا في غيرها، ولكن أهم ما جمعهم أنهم كالحرورية كانوا يكفرون المسلمين بالذنوب. واصطدموا بالدولة الأموية مرات عديدة، وقد عدّ المؤرخون 23 ثورة لهم على بني أمية، مما تسبب في إضعاف الدولة الأموية، وساعدت الناقمين على بني أمية من غير الخوارج على التعبير عن عدم رضاهم، حتى سقطت سريعًا، فلم تُكمل مائة عام، وبادت معهم تلك الطوائف. ثم ظهرت طوائف أخرى، أشهرها:
·        القرامطة: كانوا من الإسماعيلية، ثم انشقوا عن الفاطميين العبيديين بعد أن أعلن عبيد الله المهدي أنه إمام من نسل محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فرفضوا إمامته، وقطعوا علاقتهم به، وأقاموا لنفسهم دولة بالبحرين، وعُرفوا باسم القرامطة نسبة إلى أمرائهم. ولعله لم تبلغ فرقة من الخوارج درجة من الفسق وانتهاك الحرمات مثلما فعلت القرامطة، حتى وصل الأمر إلى سرقة أهل مكة والإغارة على الحجاج، وانتزاع الحجر الأسود من الكعبة سنة 317هـ، وخلع أستار الكعبة، ولم يعيد زعيمهم أبو طاهر القرمطي الحجر وأستار الكعبة إلا سنة 339هـ، بعد تهديد الفاطميين الذين أعادوا موسم الحج لما كان عليه، وكان يُخطب لهم بمكة طيلة قرنين من الزمان بدلًا من العباسيين. لكن كان القرامطة يضايقون حجاج العراق ويمنعونهم من الحج. بدأ الضعف يسري فيهم منذ نهاية القرن الرابع الهجري، ثم بادوا.

ولي ملاحظات على الخوارج القدماء عمومًا وهي: ‏
§        الحروريون، وهم الخوارج الأوائل الذين خرجوا على سيدنا عليّ خرجوا بجانب الكوفة من أرض العراق، والعراق على الخط الشرقي للحجاز، وهناك روايات في كتب الأحاديث تقول أن سيدنا عليّ لما عثر على الرجل المخدج ذي العلامة بين القتلى، سأل عنه، فقالوا أنهم لا يعرفونه، ولكنه رجل قدم من اليمامة بنجد، وكان يجتهد في الصلاة بالمسجد. وفي الملل والنحل (ج1، ص107) قال الشهرستاني: "من رؤساء الخوارج بحروراء حرقوص بن زهير ‏المعروف بذي الثدية". وذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج3، ص51) أن حُرقوص كان أمير الجماعة من أهل البصرة الذين خرجوا على سيدنا عثمان بن عفان ضمن من خرج عليه من أهل الأمصار سنة 35هـ وقتلوه. وذُكر في الروض الأنف (ج4، ص277) عن الواقدي أنه قال: "حرقوص بن زهير الكعبي من بني سعد تميم"، فالأصوب أنه ليس هو ذاته ذو الخويصرة التميمي الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من نسله ‏المارقة، وإن كان حرقوص أيضًا تميمي.
§        أغلب من بايع نافع بن الأزرق الحنفي على الإمارة كانوا من بني تميم. و‏كان نافع بن الأزرق الحنفي ونجدة بن عامر الحَنَفي ‏من بني حنيفة قوم مسيلمة، وموطنهم ‏اليمامة بنجد، وكان أبو بيهس هيصم بن جابر من بني سعد بن الحارث بن ضُبيعة بن ربيعة بن نزار، و‏ديارهم بين اليمامة والبحرين والعراق، كما كان عبد الله بن صَفَّار التميمي، وعبد الله بن إباض التميمي، وأبي بلال مرداس بن ‏أُدَيَّة التميمي وبني الماحوز كلهم من بني تميم، كما أن محمد بن عبد الوهاب زعيم الفرقة المسماة بالوهابية التي ‏ظهرت في القرن الثاني عشر الهجري من بني تميم. وبنو تميم هم قوم ذو الخويصرة الذي قال ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من نسله المارقة. وموطنهم حوطة بني تميم بجوار اليمامة بنجد.
§        القرامطة الذين آذوا الحجيج وانتهكوا حرمة بيت الله كانت دولتهم بالبحرين، والحشاشون الذين حاربوا واغتالوا كبراء المسلمين، والذين سيأتي ذكرهم لاحقًا، كانت دولتهم في بلاد فارس. فوالله ما كذب رسول الله أن الفتنة من المشرق وأنه من ضئضئي (نسل) هذا الرجل ستخرج المارقة.
§        ذكر الواقدي في كتاب "الردة" من القبائل التي ارتدت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه ارتدت بنو حنيفة ‏باليمامة، وارتدت عامة بني تميم –وكان كثير من بني تميم قبل الإسلام على المجوسية-، وارتد أهل البحرين، وبكر بن وائل. وأقول: وهؤلاء جميعًا هم ‏أجداد الخوارج.‏
§        لا يعني كلامي أن كل من انتسب إلى تلك الأراضي أو القبائل مطعون في إيمانه، ولكن كان فيهم ومنهم المارقون، والتاريخ لا يكذب، ورسول الله لا يكذب. والخيرية وعز الأنساب في الدنيا لا يعادلان الخيرية عند الله عز وجل. ورد في صحيح البخاري (3515) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن كان جهينة ومُزينة وأسلم وغِفار خيرًا من بني تميم، وبني أسد، ومن بني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة". فقال رجل: خابوا وخسروا، فقال: "هم خير من بني تميم، ومن بني أسد، ومن بني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة".

كان مما يجمع الخوارج القدماء أنهم كفَّروا سيدنا عليّ بن أبي طالب، فلم يكن هناك أدنى احتمال للالتباس بينهم وبين الشيعة، ولا إلى زيادة التطرف ضد الشيعة للتشكك في كونهم خوارج، والآن نأتي إلى طائفة من الخوارج، أدى ظهورها إلى زيادة معاناة الشيعة عمومًا طوال القرون التي عاثوا فيها فسادًا، ولا زال يوجد من يخلط بينهم وبين الشيعة إلى وقتنا هذا.


الحشاشون (الباطنية):
الباطنية أو الحشاشون ASSASINs أو الإسماعيلية النزارية أو الإسماعيلية (من باب التخفيف) هي طائفة إسماعيلية نزارية، انفصلت عن الفاطميين في القرن الخامس الهجري. تمركزهم كان في بلاد فارس. وكانوا يُستأجرون للقيام بالاغتيالات السياسية عن طريق مباغتة الضحية بخنجر بعد التربص به، وعُرِف عن قادتهم أنهم يُعطونهم مخدر الحشيش بكميات كبيرة حتى يدمنوه، ويكون من السهل التأثير عليهم والانقياد لهم لتنفيذ ما يؤمرون به من عمليات. وبالرغم من عدائهم مع الخلافة العباسية والدول والسلطنات الكبرى التابعة لها في الشرق كالسلاجقة والخوارزميين، وكذا الزنكيين والأيوبيين، وعداءها العقائدي والسياسي مع الفاطميين، إلا أن أحدًا لم يستطع استئصالهم بسهولة لأنهم اتخذوا من القلاع فوق الجبال حصونًا لهم.
عمّت البلوى بهم ما بين القرن الخامس والسابع الهجري. وفي القرن الخامس زاد شرهم في بلاد فارس، وقاتلهم سلاطين ووزراء السلاجقة. وفي نهاية القرن الخامس والقرن السادس تسلطوا على الكثير من الأمراء والوزراء وقتلوهم، حيث كثر قتلهم غيلة ونسبة القتلة إلى الباطنية. ووصل الأمر إلى قتل الخليفة المسترشد بالله سنة 529هـ، كما قيل في سبب موت الخليفة الراشد سنة 532هـ ثلاثة أقوال، أحدها أنه سُقي السم ثلاث مرات، والثاني أنه قتله قوم من الفراشين الذين كانوا في خدمته، والثالث أنه قتله الباطنية وقُتلوا بعده. واختلف المؤرخون كذلك حول قتل الوزير السلجوقي نظام الملك هل قتله أحد الحشاشين أم سلّط عليه السلطان ملكشاه من قتله سنة 485هـ.
وكان للحشاشين بعض قلاع في بلاد الشام، ولكن لم يكونوا مارقين بنفس كيفية ودرجة من في بلاد فارس. كان لهم عداء مع الأيوبيين بالإضافة إلى الصليبيين، وحاولوا اغتيال صلاح الدين الأيوبي، كما اغتالوا المركيز كونراد من مونفيراتو ملك بيت المقدس الصليبي. قضى هولاكو على الحشاشين بفارس عند الغزو المغولي وأحرق قلاعهم سنة 655هـ، ثم قضى السلطان بيبرس على بقيتهم في الشام واستولى على قلاعهم سنة 671هـ.

وكان ممن قتلهم الحشاشون باتفاق المؤرخين:
§       سنة 490هـ، ذكر ابن الأثير  خبر قتل عبد الرحمن السميرمي، وزير أم السلطان بركيارق، قتله باطني غيلة. كما قُتِل أرغش النظامي مملوك نظام الملك بالريّ على يد باطني، وكان قد تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، وقُتِل الأمير برسق الكبير، من أصحاب السلطان طغرلبك، وهو أول شِحنة كان ببغداد. قتله باطني.
§       في سنة 493هـ، وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان، قتلوا شحنة أصبهان الأمير بلكابك سرمز، في دار السلطان محمد، كما قتلوا أمير بالريّ في دار ابن نظام الملك في نفس السنة. ذكره ابن الجوزي.
§       سنة 494هـ، قُتل الفقيه الحنفي أحمد بن الحسين البلخي. قتله تيرانشاه صاحب كرمان الباطني. وكان قد قتل أيضًا ألفي رجل من الأتراك الإسماعيلية، وينتسبون إلى أمير اسمه إسماعيل، وهم سُنة وليسوا باطنية، كما قطع أيدي ألفين آخرين منهم.
§       سنة 495هـ، قُتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني، وزير السلطان بركيارق على أصبهان، على يد باطني، وقيل بل كان من قتله مولى أبي سعيد الحداد، وكان الوزير قتله العام الماضي، وكذلك قُتِل الأمير جناح الدولة حسين صاحب حمص.
§       سنة 496هـ، قُتل الواعظ أبو المظفر بن الخجندي، وهو أشعري شافعي، قُتِل بالريّ، في الجامع، بعدما فرغ من درسه. قيل قتله باطني، بينما قال ابن الأثير قتله علوي، أي شيعي، وربما كان هذا من علامات الخلط الذي شاع في تلك القرون بين الشيعة الإمامية والإسماعيلية.
§       سنة 498هـ، قتل الباطنية الواعظ أبو جعفر بن المشاط الشافعي، بالريّ، في الجامع، بعدما فرغ من درسه. قال ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص84) "هو من شيوخ الشافعية، أخذ الفقه عن الخجندي، وكان يُدرِّس بالريّ، ويعظ الناس، فلمَّا نزل من كرسيه أتاه باطني فقتله"أهـ.
§       وفي نفس السنة، 498هـ، ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص84) خبر سير جمع كثير من الإسماعيلية من طريثيث عن بعض أعمال بيهق –وبيهق مجموعة قرى بجانب نيسابور، كان الإسماعيلية يتمركزون في بعضها، ومن أهم قراهم طريثيث وطرز-، وإغارتهم على الناس، فقتلوهم ونهبوهم وسبوا نساءهم، بل وقتلوا الحجاج عند عودتهم من الحج. وكان  ذلك بجوار الريّ.
§       سنة 499هـ، قتل الباطنية القاضي أبو العلاء صاعد بن أبي محمد النيسابوري الحنفي، بجامع أصبهان.
§       سنة 500هـ، قتلوا الوزير فخر الملك بن نظام الملك وزير السلطان سنجر.
§       سنة 502 هـ قُتل عبدالواحد بن إسماعيل الروياني الطبري الفقيه الشافعي على يد النزاريين، وقُتل قاضي أصبهان عبيد الله بن علي الخطيبي بهمذان على يد باطني، وكذا مقتل قاضي نيسابور الحنفي أبو العلاء صاعد بن محمد بن عبدالرحمن السابوري على يد النزاريين بعد عقده زواج ابنة ملكشاه على المستظهر العباسي.
§       سنة 503هـ، طُعن الوزير أحمد بن نظام الملك بالسكّين من قبل أحد الاسماعيلية في شعبان، فبقي مريضًا مدة ثم بريء، بعد أن كان قد توجه إلى قلعة ألموت لمحاربة الإسماعيليين بزعامة حسن الصبّاح في المحرم.
§       سنة 507هـ، مقتل الأمير مودود صاحب الموصل في جامع دمشق. قال ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص150) "قيل أن الباطنية بالشام خافوه وقتلوه، وقيل بل خافه طغتكين –صاحب دمشق- فوضع عليه من قتله". وكذا قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص220). وتفرد ابن الجوزي بخبر قتله سنة 505هـ.
§       سنة 510هـ، مقتل أحمديل ابن صاحب مراغة إبراهيم الروادي الكردي على يد الإسماعيليين النزاريين في دار السلطان محمد ببغداد.
§       سنة 511 هـ، مقتل أبي أحمد القزويني خازن السلطان محمد علي يد الإسماعيليين النزاريين.
§       سنة 515هـ، حريق في المسجد الجامع بأصفهان، نُسِب أنه بتدبير جماعة من الإسماعيلية النزاريين، وفي الثالث والعشرين من رمضان قُتل أمير الجيوش الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي، صاحب الأمر والحكم بمصر، وكان مقتله على يد الاسماعيليين. قال ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص208) "وكان الإسماعيلية يكرهونه لأسباب منها: تضييعه على إمامهم، وتركه ما يجب عندهم سلوكه معهم، ومنها ترك معارضة أهل السُنة في اعتقادهم والنهي عن معارضتهم، وإذنه للناس في إظهار معتقداتهم والمناظرة عليها، فكثر الغرباء ببلاد مصر، وكان حسن السيرة عادلًا. وقيل أن الآمر بأحكام الله صاحب مصر وضع عليه".
§       سنة 516هـ، مقتل الكمال أبي طالب السُّميرمي وزير السلطان محمود على يد الباطنية.
§       سنة 519هـ، قُتل القاضي أبي سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي، بهمذان. قتله الباطنية.
§       سنة 520هـ، قتلوا الأمير آقسنقر البرسقي صاحب الموصل في مقصورة الجامع بالموصل يوم الجمعة.
§       سنة 521هـ، قتلوا معين الملك وزير السلطان سنجر، والذي كان قد غزاهم في العام السابق.
§       سنة 523هـ، قتل الإسماعيلية عبداللطيف بن الخجندي رئيس الشافعية بأصفهان، وكان ذا رياسة عظيمة وتحكم كثير.
§       سنة 524 هـ قُتل الآمر بأحكام الله أبو علي بن المستعلي صاحب مصر الفاطمي على يد الإسماعيليين.
§       سنة 525هـ، ثار الباطنية بالأمير تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق، فجرحوه جرحين، فبرأ أحدهما وتنسر الآخر، وبقي فيه ألمه. توفي متأثرًا بجراحه العام التالي.
§       سنة 527هـ، قُتِل الأمير آق سنقر الأحمديلي. ذكر ابن الأثير (ج9، ص269) "قتله الباطنية. فقيل: إن السلطان مسعود وضع عليه من قتله"أهـ.
§       سنة 551هـ، ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص411) "في شوال، قصد الإسماعيلية طبس بخراسان، فأوقعوا بها وقعة عظيمة، وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان، ونهبوا أولادهم ودوابهم، وقتلوا فيهم".
§       سنة 552هـ، قُتل حجاج خراسان قرب بسطام بأيدي الإسماعيلية. ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص417) "في ربيع الأول، سار حجاج خراسان، فلمَّا رحلوا عن بسطام، أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قد قصدوا طبرستان، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفرًا منهم، وسلم الباقون، وساروا من موضعهم، فبينما هم سائرون، إذ طلع عليهم الإسماعيلية، فقاتلهم الحجاج قتالًا عظيمًا، وصبروا صبرًا عظيمًا، فقُتِل أميرهم، فانخذلوا، وألقوا بأيديهم، واستسلموا، وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيلية، وقتلوهم، ولم يبقوا منهم إلا شرذمة يسيرة، وقُتِل فيهم من الأئمة العلماء والزهاد والصلحاء جمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمَّت بلاد الإسلام، وخصت خراسان"أهـ.
§       سنة 553هـ، ذكر ابن الأثير في الكامل (ج9، ص425-426) "كان بنواحي قهستان طائفة من التركمان، فنزل إليهم جمع من الإسماعيلية من قلاعهم، وهم ألف وسبعمائة، فأوقعوا بالتركمان، فلم يجدوا الرجال، وكانوا قد فارقوا بيوتهم، فنهبوا الأموال، وأخذوا النساء والأطفال، وأحرقوا ما لم يقدروا على حمله، وعاد التركمان، فرأوا ما فُعل بهم، فتبعوا أثر الإسماعيلية، فأدركوهم وهم يقتسمون الغنيمة، فكبَّروا، وحملوا عليهم، ووضعوا فيهم السيف، فقتلوهم كيف شاءوا، حتى أفنوهم قتلًا وأسرًا، ولم ينج إلا تسعة رجال لا غير".
§       سنة 560هـ، ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص478) "وفيها بنى الإسماعيلية قلعة، بالقرب من قزوين، فقيل لشمس الدين ايلدكز عنها، فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفًا من شرهم، وغائلتهم، فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها، وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس".
§       سنة 570هـ، نجاة صلاح الدين الأيوبي من محاولة اغتيال قام بها الإسماعيلية، أثناء محاصرته حلب، وجرحوا الأمير خمارتكين صاحب قلعة بوقيس، وقتلوا جماعة ثم قُتِلوا. ثم في سنة 571 هـ نجا صلاح الدين الأيوبي من محاولة اغتيال ثانية قام بها الإسماعيلية النزاريون في الشام، بينما هو في خيمة أحد أمرائه. ذكره ابن الأثير في "الكامل" (ج10، ص68-76).
§       سنة 573هـ، اغتيال شهاب الدين أبو صالح بن العجمي وزير الأيوبيين بحلب على يد الإسماعيلية النزارية، ومختلف فيمن قتله، هل هم الباطنية أم سعد الدين كمشتكين قائد جيش الأيوبيين في حلب، كما قُتل بيد الإسماعيليين، الوزير عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء، وزير المستضيء بأمر الله العباسي، وقُتِل معه ابن المعوّج حاجب الباب عندما هب لنُصرة الوزير. كان ذلك أثناء خروج الوزير للحج، وإن كانت العامة قد أرجفت بأن صاحب المخزن وتتامش لهما يد في وضع الباطنية على قتل الوزير.
§       سنة 589هـ، قُتل السلطان سيف الدين بُكتمر، وقيل أن زوج ابنته طمع في المُلك فوضع عليه من قتله.
§       سنة 596هـ، مقتل نظام الملك مسعود بن علي وزير خوارزم شاه بيد النزاريين، بعد عودة خوارزم شاه إلى خوارزم بعد افتتاحه إحدى قلاعهم، وحصاره قلعة الموت، وقتلوا أيضًا صدر الدين محمد بن الوزان رئيس الشافعية بالريّ.
§       سنة 602هـ، مقتل الأمير شهاب الدين الغوري، قال ابن الأثير في "الكامل" (ج10، ص303) "قتله نفر من الكفار الكوكرية، لزموا عسكره، عازمين على قتله لما فعل بهم من القتل والأسر والسبي". وكان هؤلاء الكوكرية قد ارتدوا عن الإسلام.
§       سنة 608هـ، وثب الباطنية على أخي الأمير قتادة أمير مكة، بمنى أيام الحج، وقتلوه، ظنًا منهم أنه قتادة. ونُهِب الحجاج، ورماهم أمير مكة وأهلها بالحجارة والنبل، وكانوا بأسوأ حال. رواه ابن الأثير في "الكامل".
§       سنة 614هـ، قُتِل الأمير أغلمش ملك بلاد الجبل على يد الباطنية.
ولا شك أن كثيرًا ممن رُوي أنه قد اغتالتهم الباطنية قد قُتلوا لأسباب سياسية، ومن قتلوهم الله أعلم باعتقاداتهم، ولكن ما ليس فيه شك أن هذه الفرقة من الخوارج كانت موجودة حقيقة في تلك القرون، ويتحصنون بالقلاع، مما صعَّب التخلص منهم، فلم يكسرهم في بلاد فارس إلا التتار، وفي بلاد الشام إلا بيبرس، فحتى السلاجقة والأيوبيين لم يقهروهم. كما ينبغي ملاحظة أن هذا ليس حصرًا تامًا لمن قيل أنهم قُتِلوا بأيديهم، بل مجرد  أمثلة.
ويصف ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص168) حال عامة الناس بسبب الباطنية. يقول: "كان في أيام السلطان محمد، المقدم عليهم –أي على الباطنية-، والقيِّم بأمرهم، الحسن بن الصباح الرازي، صاحب قلعة الموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة الموت ما يُقارب ستًا وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزواته عليهم، وقتله وأسره رجالهم، وسبي نسائهم"أهـ.
ويذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج17، ص63) من قصصهم مع العامة "استفحل أمرهم بأصبهان لمَّا مات ملكشاه، فآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان فيقتلونه ويلقونه في البئر، فكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله يئسوا منه. وفتَّش الناس المواضع، فوجدوا امرأة في دار الأزج فوق حصير، فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلًا، فقتلوا المرأة وأخربوا الدار والمحلة، وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه الدار، فإذا مرّ به إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق، فإذا حصل هناك جذبه من في الدار، واستولوا عليه"أهـ. وأقول: إن ما حكاه ابن الجوزي من حيل لاجتذاب الضحايا ودفنهم ظل معروفًا إلى أوائل القرن العشرين، وفي سجلات الشرطة المصرية تحديدًا كثير من الجرائم التي تمت بنفس الأساليب، مما يدل أن حكايا ابن الجوزي صحيحة، وأن هذه كانت فِعالهم. كما يكاد يُجمع المؤرخون أنهم كانوا يتعاطون الحشيش المخدر، ويدمنون عليه، ويقدمون على الاغتيالات السياسية في حق الكبراء تحت تأثيره، ومن هنا جاءت تسميتهم أيضًا بالحشاشين.
وكثيرون لا يعرفون أن الغجر هم بقايا ما عُرف في القرون الخامس والسادس والسابع الهجريين باسم الباطنية، وأغلبهم اندمجوا بين سكان المدن، بل والقرى، ولكن لا زالت لهم بقايا في مصر وجبال لبنان. وفي صعيد مصر يُطلق عليهم اسم "الحلبة"، نسبة إلى أصلهم، لأنهم قدموا مصر من حلب، وهو مركزهم القديم في بلاد الشام. ومن أشهر عصاباتهم التي زلزلت الرأي العام المصري في القرن العشرين "عصابة ريّا وسكينة".
وبتتبع أخبار القرون التي علا فيها شأن الإسماعيلية، والقرن السادس الهجري على وجه الخصوص، سنجد الكثير من الأخبار عن تسيير كثير من الملوك والأمراء جيوشًا لمحاربة الإسماعيلية، مثل:
§        تسيير نظام الملك وزير السلطان ملكشاه جيشًا لحربهم، وحصار قلعة ألموت سنة 485هـ، ولكن وفاة السلطان ونظام الملك في نفس السنة، أدى إلى فشل الحملة.
§        تسيير السلطان محمد بن ملكشاه جيشًا بقيادته سنة 500هـ، للاستيلاء على قلعة شاهدز، وهي قلعة للباطنية بأصبهان، ونجح في الاستيلاء عليها، وقتل منهم الكثير، وقُتِل زعيمهم أحمد بن عبد الملك بن عطاش.
§        محاصرة أحمد بن نظام الملك لقلعة الموت سنة 503هـ، بأمر من السلطان، لكنه اُضطر لفك الحصار، وقد طعنوه بعدها، لكنه لم يمت بسببها.
§        كرر السلطان المحاولة في عام 505هـ، وندب لقتال الحسن الأمير أنوشتكين شيركبر، فملك من الباطنية عدة قلاع، وحاصر قلعة الموت ست سنوات، حتى كادت أن تقع، ولكن اضطر أنوشتكين إلى فك الحصار، بسبب وفاة السلطان محمد سنة 511هـ، وإصرار الأمراء والجند على الرحيل، بعد أن كانت القلعة وشيكة السقوط.
§        غزو الوزير أبو نصر بن الفضل وزير السلطان سنجر للبلاد التي يتمركز فيها الإسماعيلية بخراسان (طريثيث وطرز من أعمال بيهق –بيهق هي مجموعة من القرى تابعة لنيسابور-)، سنة 520هـ، وحدثت إبادة جماعية لسكان المنطقتين وسلب للأموال من قبل جيش السلطان. وكانت هذه الحملة مما دعا الإسماعيليين إلى تحصين وترميم قلعة الموت. وقتل الوزير معين الملك الذي غزاهم في العام التالي -سنة 521هـ-. لكن وفي المقابل، وفي نفس السنة -520هـ-، عظم أمر الإسماعيلية بالشام، بعد أن أعطى ضغتكين أتابك دمشق قلعة بانياس لبهرام داعي الإسماعيلية.
§        تسيير السلطان سنجر سنة 521هـ جيشًا نحو قلعة ألموت، وقيل أنه قتل منهم ما يزيد على عشرة آلاف نفس، وذلك وفقًا لابن الأثير، أما ابن الجوزي في "المنتظم" فقال أن الخبر جاء بأنه قتل من الباطنية اثني عشر ألفًا.
§        أمر تاج الملوك بوري بن طغتكين آتابك دمشق سنة 523 هـ بقتل حوالي ستة آلاف من النزاريين بدمشق، منتصف رمضان من السنة.
§        وفي سنة 546هـ، ذكر ابن الأثير خبر سير الأمير قجق، في طائفة من عسكر السلطان سنجر، إلى طريثيث بخراسان، وأغار على بلاد الإسماعيلية، فنهب وسبى وخرَّب وأحرق المساكن، وفعل بهم أفاعيل عظيمة، وعاد سالمًا. وكان علاء الدين محمود الغالب على أمر طريثيث قد حاول إعادة الغلبة للسُنة في القرية سنة 545هـ، فلم يتمكن.
§        غزو رستم بن علي صاحب طبرستان بلدة ألموت، وهي للإسماعيلية، سنة 552هـ. ووفقًا لابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص417) فإنه "أغار عليها، وأحرق القرى والسواد، وقتل فأكثر، وغنم أموالهم، وسبى نساءهم، واسترق أبناءهم، فباعهم في السوق، وعاد سالمًا غانمًا، وانخذل الإسماعيلية، ودخل عليهم من الوهن ما لم يُصابوا بمثله، وخرِب من بلادهم ما لا يعمر في السنين الكثيرة"أهـ.
§        تسيير صلاح الدين الأيوبي عسكره سنة 572هـ إلى بلاد الإسماعيلية بجانب حلب، ردًا على محاولتهم قتله مرتين عاميّ 570هـ و 571هـ، فنهب بلدهم، وخرَّبه وأحرقه، وحصر قلعة مصيات، وهي أعظم حصونهم، وأحصن قلاعهم، فنصب عليها المنجنيقات، وضيَّق على من بها. ثم اصطلح مع الإسماعيلية بواسطة الحارمي صاحب حماة، وهو خال صلاح الدين.

وقد اهتممت بعرض الكثير عن الخوارج الإسماعيلية النزاريين؛ لأن المحنة بهم قد طالت، كما أن الخوارج الأُول كان معروف موقفهم من سيدنا علي وآل البيت، فما سُموا خوارج إلا بخروجهم عليه، ولكن الإسماعيلية والحشاشين نسبوا أنفسهم إليه وإلى حبه، فصار كثير من العامة والخاصة إلى الخلط بينهم وبين الشيعة الإمامية، وأدى إلى اضطهادهم، مما سنُفصِل فيه عند ذكر فتن الأشاعرة مع الشيعة.
والعجيب أنه كما اُبتلي الإسلام بجماعات تسعى إلى تفسير النصوص بالباطن، اُبتلي أيضًا بمن أصروا على ظاهر غير مراد، والأعجب أن كلا الفئتين خوارج، وقعوا في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ولم تعد لأغلب فرق الخوارج القديمة وجود، فقد بادت، كما أن فكر واعتقاد من بقي منهم كالإباضية المنتسبين إلى عبد الله بن إباض التميمي، -ودولتهم لا زالت باقية بعُمان- لا يحمل أهم ما يسم الخوارج وهو قتل المسلمين، لذا لا يجوز أن ننسبهم للخوارج، وحالهم كذلك. خاصة وأن اتخاذ إمام خاص بكل دولة أصبح متقبلًا في عصرنا، ولا يوجد خليفة لتُعتبر دولتهم المستقلة خروجًا عليه. وأصبح لخوارج عصرنا سلف آخر.