الخميس، 23 يوليو 2020

234-أثر اختلاط الجنسين في تميع الأدوار الاجتماعية واضطراب الهوية الجنسية

أثر اختلاط الجنسين في تميع الأدوار الاجتماعية واضطراب الهوية الجنسية
د/ منى زيتون
الخميس 23 يوليو 2020
وعلى المثقف، الجمعة 24 يوليو 2020

لعله مما لا خلاف ولا تباين بشأنه في جميع المجتمعات المعاصرة أن أكبر مؤسستين مسئولتين عن التربية في المجتمع هما المنزل والمدرسة، ولكليهما دور أساسي في تشكل هوية الفرد الجنسية وإكسابه خصائص الدور الاجتماعي المقبول الخاص بجنسه ذكرًا كان أم أنثى.
ومعلوم أن لكل فرد منذ الميلاد نوعًا بيولوجيًا gender يتحدد على أساسه هويته الجنسية، كما أن المجتمعات الإنسانية تضع معاييرًا للسلوك المقبول من الفرد بناءً على ذلك النوع، وهي ما تسمى بالأدوار الاجتماعية. وهذه الأدوار متعلمة فاكتسابها هو نمط من التعلم الاجتماعي، يكتسب فيه الفرد السلوكيات والاتجاهات والميول التي تتطابق مع التوقعات الثقافية في مجتمعه لكل من الذكورة أو الأنوثة.
ويعتبر سلوك الفرد بما يخالف هذه التوقعات غير مقبول اجتماعيًا، وعليه يُوصف الفرد بأن لديه تميع وعدم وضوح للدور الاجتماعي المرتبط بالنوع، وفي الحالات الأكثر حدة قد يصل الأمر حد المعاناة من اضطراب الهوية الجنسية، عندما لا يرتاح الفرد كليًا عند حثه على السلوك بشكل يتوافق مع نوعه البيولوجي.
وفي سلسلة مقالات سابقة عن خصائص التعليمين المنفصل والمختلط، ذكرت أن واحدة من أهم الخصائص التي يتمسك مؤيدو التعليم المختلط به لأجلها هي المساواة في تطور الدور الاجتماعي لدى الجنسين؛ حيث يذكر ريوردان (Riordan,1990,p.45) أن من خصائص التعليم المختلط إعداد الصغار لتمييز أقل في الأدوار الجنسية.
وقد يكون لتقليل التمييز إلى حد ما، وتوسيع النظرة الإنسانية لدى النشء، ميزة في إكساب أفراد كلا الجنسين الاحترام للجنس الآخر، لكن ربما كان لزيادة الاختلاط واتساع حدوده والتعايش لفترات طويلة بين الذكور والإناث آثارًا سلبية، حيث تزيد المساواة بين الجنسين حتى تكاد تضيع الحدود بينهما حتى من حيث المظهر الخارجي، وهو ما يؤكد عليه أنصار التعليم منفصل الجنس كسبب رئيسي لرفض الاختلاط في التعليم.
وفي الآونة الأخيرة – وعلى كثرة الموضوعات المثيرة للجدل في مجتمعاتنا العربية- دار الحديث لفترة عن الشذوذ الجنسي بعد إعلان فنان شهير تحول ابنته جنسيًا لتصير ذكرًا، مصورًا الأمر على أنه محاولة متأخرة لإصلاح خلل فسيولوجي لديها منذ الميلاد، ثم تلا ذلك بفترة وجيزة انتحار واحدة من مشاهير المتحولين جنسيًا في مصر، رغم أنها هاجرت إلى مجتمع غربي يتقبل منها ما نراه شذوذًا في المجتمعات الشرقية.
ولاحظنا في هذا النقاش المجتمعي الذي دار في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي دفاع كثير من الشباب عن الشذوذ واعتباره حرية شخصية، ما يوضح زيادة تقبل الشذوذ الجنسي بين فئات أوسع من المجتمع المصري والمجتمعات العربية، فلم يصبح متقبلًا بين الشواذ جنسيًا فقط كما كان في الماضي القريب!
وهدفي في هذا المقال ليس مناقشة القضية من منظور ديني، فالأمر محسوم دينيًا بالنسبة للمتدينين ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات: 49]. كما أنني لست معنية بنقاش الموضوع من جهة الفسيولوجيا والهرمونات ونحوها، ولكن الهدف هو البحث من منظور اجتماعي تربوي في سبب رئيسي لهذا التحول الفكري والمفاهيمي لدى فئة من أفراد مجتمعاتنا.
بدايةً، أنا أزعم أن الثقافة الشرقية لا زالت تحتفظ بتصورات تقليدية للأدوار الاجتماعية المقبولة لكلا الجنسين، وذلك على العكس من الثقافة الغربية، ولكني أرى أن هناك عاملًا كان يعمل بخفاء خلال العقود الأخيرة لإحداث التغيير المفاهيمي الذي نراه اليوم. هذا العامل هو انتشار التعليم المختلط في مرحلة المراهقة بين الجيل الجديد من أبناء الطبقات الاجتماعية المترفة على العكس من طبقات المجتمع الأدنى، والتي يُلحق أغلبهم أبناءهم وبناتهم بمدارس حكومية منفصلة. ولا ينتشر التعليم المختلط في المدارس الحكومية إلا في الريف وأقاصي الصعيد، وذلك لأسباب اقتصادية تتعلق بعدم قدرة الحكومة على إنشاء مدرستين منفصلتين للبنين والبنات على حدة. ولكن الاختلاط في تلك البيئات المحافظة يكون اختلاطًا اسميًا فقط، لا تأثير له على أرض الواقع.
 وتعتبر مرحلة المراهقة المرحلة العمرية الأهم في تشكيل السلوك الاجتماعي لدى أفراد المجتمع واكتسابهم الأدوار الاجتماعية المقبولة المرتبطة بالنوع (ذكر/أنثى)، وقد أشار كثير من التربويين في دراسات مقارنة عن بيئة التعليم المختلط والتعليم منفصل الجنس إلى أن الاختلاط قد يؤدي إلى تميع الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالنوع، ورفض الأدوار التقليدية المتوارثة عما هو مقبول من الرجال والنساء. وأنا هنا أضيف إلى أنه قد يسهم في إعادة تشكيل الهوية الجنسية والأفكار عنها إلى الدرجة التي قد تخيف بعض الآباء وتجعلهم يدفعون أبناءهم الذكور دفعًا نحو سلوك جنسي مبكر للاطمئنان عليهم! والرجل المصري لا يعبأ بأن يُوصف ابنه بأنه متحرش، وتخوفه الأساسي من أن يكون شاذًا أو يبدي أي سلوك ناعم يجعله في نظره أقرب للفتيات.
ولعلها ليست مصادفة أن أغلب الحالات التي مرت عليّ لإدعاء الفتيان في سن المراهقة علاقات وهمية مع الفتيات لم تنشأ في الأساس بغرض التفاخر أمام الأقران الذكور، بل نشأت بسبب ضغط الأب الذي يريد أن يتأكد من الميول الجنسية لابنه! خاصة إن كان الابن في مدرسة مختلطة، ويتعامل مع زميلاته بلطف ورقي يراه الأب قلة خشونة لا تليق بالذكور فيبدأ تخوفه وفتح حوارات مع الابن عن زميلاته الفتيات وطبيعة علاقته بهن، ويشجعه على التودد إليهن بما يتنافى مع حدود الزمالة، ما قد يلجئ الصبي إلى الإدعاءات التي قد تتحول إلى حالة مرضية مستدامة بعد ذلك!
بل لقد ظهرت بعض الحالات الفردية في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة لتحرش أطفال صغار في الصفوف الابتدائية الأولى وأحيانًا في رياض الأطفال بزميلاتهن، وكان للأب أيضًا دوره في تشجيع الطفل على تقبيل زميلته، ولا زلنا نذكر دفاع الأب عن سلوك طفله المعيب بأن لابنه أن يفعل ما يحلو له، "واللي عنده معزة يربطها"!
وبعيدًا عن التحرش فقد رأيت من الآباء من لا يهتم بأن يصدر عن ابنه الذكر سلوك مشين يدل على سوء تربية لأن هكذا يكون الرجال من وجهة نظره! ونراه يرد على من ينتقد أسلوبه التربوي بأن ابني ليس مخنثًا! وبعضهم يصطحب أبنائه الذكور إلى المقاهي الشعبية ليجلس وسط الرجال ويقلدهم، مع الأخذ في الاعتبار نوعية الحوارات والألفاظ التي يستخدمونها!
وعلى النقيض فهناك من الآباء من لا يقوم بدوره في تنشئة أبنائه، ويترك الأمر برُمته لزوجته لانشغاله الدائم في عمله أو لعدم تحمله للمسئولية، ولافتقاد دور الأب أثره السلبي على كل من البنين والبنات، فالابن ينشأ بين أمه وصاحباتها ولا يكاد يرى نماذج ذكرية ليقلد سلوكها ويكتسب الدور الاجتماعي الملائم لنوعه، والابنة إما أن تنشأ بالغة الضعف أو على العكس قد تفتقد الشعور بالأمان ما يجعلها تشعر بضرورة تعويض دور الأب بأن تكون قوية لتحمي نفسها. والأم من جهتها قد تكون سببًا في شعور الفتاة باحتقار نوعها البيولوجي –وكذلك قد يفعل الأب-، كما قد تدلل الابن إلى الدرجة التي تمنعه من تحمل المسئولية والقيام بتبعات الدور الاجتماعي الذكري.
وأمثال هذه الممارسات المتناقضة من الآباء هي التطرف والتطرف المضاد، وما زاد عن حده قد ينقلب إلى ضده.
والأمر لا يقتصر على الآباء في المنزل، فللمدرسة دورها في إحداث هذا العبث، ولكن بدرجات تتفاوت بين الجنسين، ولقد كان ملحوظًا في بعض الدراسات لدى الباحثين التربويين أن المعلمين في البيئات التعليمية المختلطة يتدخلون بشدة لمنع الذكور من الخروج عن أدوارهم الاجتماعية التقليدية، ولكن الأمر ليس بهذه الصرامة بالنسبة للإناث، فكثيرًا ما يكون هناك تشجيع لهن على اكتساب بعض من الأدوار الاجتماعية الذكرية لتكون الأنثى قوية وتستطيع مواجهة تحديات المجتمع المعاصر؛ ما قد يزيد لديهن بعض الخصائص النفسية المرتبطة بالذكورة كالقوة والاستقلال والتمرد على أي امتهان، وهي تغيرات سلوكية إيجابية ما لم تزد عن حدها وتؤدي لابتعاد الفتاة ورفضها التام لجميع خصائص الدور الاجتماعي الأنثوي التقليدي. ورغم أن هذا التغير السلوكي في صورته المعتدلة يتناغم مع طبيعة البشر السوية، فإنه لا يمنع من التعرض لانتقادات اجتماعية، مع تجاهل تام للأسباب التي أجبرت النساء على هذه الاستقلالية وإظهار القوة وأن تصبح strong independent woman!
ومن وجهة النظر النفسية فهناك اتجاه لاعتبار أن الذكورة والأنوثة النفسية –وليست البيولوجية- هي أكثر تعقيدًا وتداخلًا مع بعضها البعض، كما أنها أقل تحديدًا وتمايزًا مما كان الأمر عليه في الأجيال السابقة.
ولكن تميع الأدوار الاجتماعية المرتبطة بالنوع البيولوجي ليس بالأثر شديد الخطورة مقارنة بالشذوذ الجنسي الذي يتعارض مع الطبيعة التي فطر الله الناس عليها. ويبقى الأثر الأكثر أهمية والأشد خطورة للتغير في التنشئة الاجتماعية في العقود الأخيرة الناشيء عن انتشار الاختلاط في التعليم هو أن التمييز الجنسي بين الذكور والإناث في البيئات المدرسية المختلطة، قد يعد دافعًا من دوافع بعض الفتيات للتحول الجنسي في الشرق والغرب. وهذا الأثر للبيئة المدرسية أقوى من أثر إشعار الفتيات بالدونية وربما عدم الرغبة فيهن، والذي كان يحدث في عصور سابقة على نطاق ضيق في المنازل.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر –ورغم أن هذا الأمر لا علاقة له بالاختلاط بين الجنسين- فالتحرش الجنسي بالبنين يزيد في المدارس المنفصلة للبنين، وفي بعض الأحيان تتكون ثلة أشبه بالعصابة قد تجتمع لمضايقة والتنمر والتحرش بالبنين الأصغر عمرًا والأكثر ضعفًا بالمدرسة، في غياب رقابة المعلمين والإدارة المدرسية. والتحرش الجنسي بالولد ومناداته باسم أنثى ومعاملته على أنه فتاة هو ضربة البداية في خلق اضطراب الهوية الجنسية لديه، وتحويله إلى شاذ جنسيًا.

وبناءً عليه أرى أن المجتمعات -الشرقية تحديدًا- بحاجة لإعادة النظر في بعض الممارسات التربوية في المدرسة والمنزل، والتي ترتبط بتميع الأدوار الاجتماعية واضطرابات الهوية الجنسية، وإجمالًا يجب إحلال المدارس المشتركة ذات الفصول المنفصلة كبديل للمدارس المختلطة، بحيث تكون الدراسة في فصول منفصلة للجنسين، مع الحرص على مشاركة جميع تلاميذ وتلميذات المدرسة في الأنشطة المدرسية في جماعات مختلطة؛ لتوفير بيئة مدرسية واحدة تدعم نمو المهارات الاجتماعية والثقة بالنفس لدى التلاميذ والتلميذات، كما أن علينا أن نخفف -كآباء ومعلمين- من الممارسات التي تشعر بعض الفتيات بأنهن جنس أدنى من الذكور، وأن نتفهم أن حُسن تربية الذكور لا يتعارض مع تنشئتهم كرجال، بل هو عين الرجولة والالتزام.


الجمعة، 17 يوليو 2020

233-اضطراب الشخصية المتعدد كحل سياسي!


اضطراب الشخصية المتعدد كحل سياسي!
د/ منى زيتون
الجمعة 17 يوليو 2020

من أشهر الأفلام في السينما المصرية في ستينات القرن الماضي، فيلم يحمل اسم "عفريت مراتي"، تدور أحداثه في قالب كوميدي؛ حيث يعاني زوج من تقمص زوجته لشخصيات حقيقية مختلفة، تتعرف عليها الزوجة من خلال مشاهدة الأفلام السينمائية في السينما المجاورة للمنزل كل ليلة، فتارة تتقمص دور السفاحة "ريا" وتكاد تخنق أخته، وتارة أخرى تتقمص دور "إيرما الغانية" وتفضحه أمام مديره وزملائه في العمل حين تتعامل كغانية تتراقص وتغني بخلاعة أمامهم، وغيرها من أدوار. وكانت الزوجة تفيق بعد كل حالة تقمص ناسية تمامًا كل ما حدث منها في الليلة السابقة.
وفي أحد أفلام إسماعيل يس دخل مستشفى المجانين، وتحديدًا "عنبر العقلاء" كما كان مسماهم، وتعرف في حوار غنائي ضاحك على نوعية المجانين فيه، والذين كان كل منهم يتقمص شخصية تاريخية واحدة، تطغى على شخصيته الحقيقية التي يرفضها تمامًا، كما يرفض الانخلاع من الشخصية المتقمصة.
وقد يظن أغلب الناس إن هذه الحبكات السينمائية لا أساس لها في الواقع، ولكن على العكس من ذلك -فرغم الكوميديا والمبالغات في الأفلام السابق ذكرها وغيرها- هناك بالفعل أشخاص يعانون من اضطراب عقلي يؤدي بهم إلى تقمص شخصيات، غالبًا ما تكون حقيقية. ويُعرف هذا الاضطراب باسم "اضطراب الشخصية المتعدد" (Multiple Personality Disorder).
وقد يكون الفرد على وعي بتقمصه وتحولاته الشخصية، وقد يكون غير واعي تمامًا، ولدى أغلب الحالات المرضية بهذا الاضطراب توجد شخصيتان مستقلتان تمامًا يتحول الفرد بينهما، ولكن قد يصل العدد إلى عشر شخصيات. وهذا الاضطراب ينتشر بنسبة أكبر بكثير في الإناث عنه في الذكور، لأنه يُستخدم غالبًا كميكانيزم دفاعي للهرب من ضغوط الواقع.
وفي حال عدم الوعي والانفصال التام تكون لكل شخصية متقمصة خصائص –من حيث العمر والعرق والجنس- وطريقة تواصل تختلف عن الشخصية الأخرى، كما وقد تكون لها ذكريات لا يتذكرها الفرد إلا عندما يتقمصها، وينساها حين يشرد ويتحول إلى الشخصية الثانية. بالرغم من ذلك فعادة تكون الشخصية مدركة لوجود الشخصية الأخرى تتبادلان لتخفيف الضغط الواقع على الفرد!
وقد تكون الشخصية التي يتم تقمصها شخصية حقيقية كأبيه أو أحد مشاهير العالم الأحياء أو الأموات، فيقلد سلوكها ويحاول إعادة تاريخها، كما قد تكون شخصية خيالية، تمثل ذاته التي كان يرغب فيها ويتمنى أن يكونها. وفي بعض الحالات المرضية الشديدة قد يتقمص الفرد شخصية حيوان حقيقي أو أسطوري!
وقد يلاحظ المحيطون بالفرد شروده وتقمصه في شخصية أخرى يدرك ويفكر في العالم من خلالها، وقد لا يلاحظون عندما يحرص الفرد على أن ينعزل عندما يستشعر رغبته في الهرب إلى شخصية غير شخصيته الحقيقية.
وتتفاوت أعراض الحالة، وهناك تصور لدى بعض علماء النفس والأطباء النفسيين بأن كل البشر لديهم درجة من الشرود الواعي الذي يحدث لفترات قصيرة يتخيلون بها أنفسهم في شخصية أخرى، وذلك عندما تتزايد عليهم ضغوط الحياة، ولا يصنف العلماء تلك الأعراض البسيطة كحالات مرضية لاضطراب الشخصية؛ كونها لا تتداخل مع الشخصية الحقيقية للفرد في حياته الشخصية والمهنية ولا تسبب له المشاكل. وبعض الناس يوجه رغبته في التقمص تلك توجيهًا إيجابيًا فنيًا بدلًا من أن تتمكن منه وتسبب اضطرابًا يمس شخصيته الحقيقية، ومن هنا نشأ فن التمثيل.
والنظرية السائدة عن نشأة هذا الاضطراب كحالة مرضية هو أنه غالبًا يبدأ في مرحلة الطفولة عند تكرار الإيذاء النفسي والجسدي الحاد للطفل، مع عدم وجود أي شخص كبير يدافع عن الطفل ويمنع عنه الإساءة، فيلجأ الطفل إلى الانفصال عن نفسه وذكرياته المؤلمة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن لعب الأطفال بالعرائس والحيوانات وخيالاتهم أثناء هذا اللعب ليست هي اضطراب الشخصية المتعدد.
وقد تتأخر حالات الإيذاء المتكررة أو العنيفة الصادمة التي تأتي الفرد من البيئة الاجتماعية القريبة لمرحلة المراهقة، وطالما لم يجد المراهق الدعم فغالبًا سيبدأ اضطراب الشخصية المتعدد في الحدوث، فيلجأ لخلق عالمه الخاص المنعزل وشخصيته/شخصياته المتخيلة التي تستطيع مواجهة الواقع الذي تعجز شخصيته الحقيقية عن مواجهته. كما تزداد في مرحلة المراهقة النمذجة الاجتماعية وتأثر المراهقين بشخصية معينة أو بعض الشخصيات، ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى نشأة الاضطراب، ولكن يلزمنا التمييز بين تمثل النموذج وتشرب سلوكه ليصبح السلوك الدائم للفرد، وبين أن يحدث الشرود والتقمص لتلك الشخصية أو بعض سماتها في أوقات الأزمات عندما ينعزل وينفصل الفرد عن الواقع كمحاولة لتخفيف العبء النفسي.
ويمكن القول باختصار إن الإنسان -خاصة في طفولته المبكرة أو مراهقته- كثيرًا ما يصعب عليه مواجهة ذكرياته المؤلمة التي تذكره بالمواقف الصادمة، فيلجأ إلى الهرب منها، وقد يتسبب ذلك في نشأة اضطراب الشخصية المتعدد.
وعادة يكون فقد الذاكرة الجزئي أهم الأعراض التي تصاحب هذا الاضطراب، وغالبًا يكون من أعراضه أيضًا ثورات الغضب الشديدة لدى الفرد، والكذب المرضي غير الواعي، وتخيل النفس في مكانة اجتماعية وبيئة أخرى، وأحيانًا يصل الاضطراب إلى رفض صورة الجسد، فلا يتعرف الفرد على نفسه في المرآة، وليس بالضرورة أن توجد هلاوس سمعية أو بصرية تصاحب هذا الاضطراب.

حاليًا معنا عمر المختار، وربما أيضًا جمال عبد الناصر!
منذ عرفنا الرئيس السيسي كان من الواضح أن هناك شخصيتين رئيسيتين يتبادل تقمصهما، وهما شخصية الخديو إسماعيل، وشخصية الرئيس السادات.
بدأ حكمه بشق تفريعة لقناة السويس تكلفت مليارات، أوهم المصريين أنها ستكون فاتحة خير اقتصاديًا عليهم، ولكن كان من الواضح أنه يحاكي شق الخديو إسماعيل لقناة السويس الأولى، ولم ينس أن يقيم حفلًا كبيرًا يدعو إليه رئيس فرنسا فيمن دعا، وكما فعل إسماعيل فأفرط في الاستدانة بدعوى بناء مصر الحديثة، لا ينفك أخونا يقترض ويقترض ثم يعود فيقترض، معرضًا مستقبل مصر لأعظم الخطر.
وفي حفل افتتاح تفريعته أصر على أن يبحر وسطها في مشهد يحاكي إعادة افتتاح الرئيس السادات لقناة السويس عام 1975 بعد تطهيرها من ألغام ومخلفات الحرب، وكما كان الرئيس السادات يحرص على الظهور بمظهر الرئيس الرياضي، فالسيسي مغرم بتكوين الصورة ذاتها عن نفسه، ولكنه يحب ركوب الدراجات.
وكل هذا يهون، لكن الأدهى إصراره العجيب على الدخول في مفاوضات لا تلزمه والتوقيع على اتفاقية سد النهضة عام 2015 رغم نصيحة جميع المستشارين والخبراء له ألا يفعل، قائلين إن المشروع سيبقى معلقًا ولن يجد تمويلًا إن لم يوقع، وظننا وقتها أنه يُوقِّع بحثًا عن الاعتراف به كرئيس لمصر بعد تعليق الاتحاد الإفريقي لعضوية مصر بعد 3 يوليو 2013، ولكنني عندما أعدت تحليل الموقف وسط المستجدات الأخيرة، ومراجعة بعض سقطات لسانه، خالجني شك قوي أن إصراره العجيب على التفاوض الذي لا يلزمه، وتصوره أنه حقق نصرًا بتوقيع الاتفاقية التي أضاعت حقوقنا، وفرحته غير المبررة يومها، كان تشبهًا منه بالسادات في مفاوضات كامب ديفيد، وما أبعده عن السادات، فالسادات –سواء اتفقنا أو اختلفنا معه- كان ثعلبًا، أعاد سيناء وأعطاهم ورقة! وحتى قريب كان السيسي يتحدث طالبًا أن نثق به مصورًا لنا أن الأيام ستثبت حنكته وبعد نظره، مثلما كان السادات يؤكد على الشعب بعد كامب ديفيد، ولما تأزم الأمر حاول إدخال الرئيس الأمريكي كوسيط، وربما يظن ترامب كارتر!
ومعروف أن الضغوط عندما تلاحق إحدى الشخصيات لدى المصاب باضطراب الشخصية المتعدد، يتم استدعاء الشخصية الأخرى القادرة على تخفيف الضغط الراهن عن النفس، ولكن عندما تكون الشخصية الثانية أيضًا غير قادرة على مواجهة الضغوط يلزم الفرد الهروب إلى شخصية ثالثة جديدة لتعطي رد الفعل الذي يجنبه الضغط النفسي.
فلأن كل المساعي الدبلوماسية لإصلاح ما أفسده في ملف سد النهضة قد باءت بالفشل، فهو يستعد للهروب إلى شخصية جديدة هيأت لها الظروف أن تظهر، بعد محاولات التدخل التركي في ليبيا، وهزيمة حليفه خليفة حفتر. السيسي الآن يستدعي شخصية شيخ المجاهدين عمر المختار بعد أن قرر التدخل في ليبيا لتخطي أزمته النفسية. شعرت بذلك منذ أُذيعت أغنية الفنانة أصالة الجديدة "الحب والسلام"، والتي تُوضع فيها صورته في الخلفية بجانب صورة المختار، وحديثه المتواصل واتصالاته المكثفة بشأن ليبيا في الوقت الذي يلزم فيه توجيه كافة الجهود إلى الملف الإثيوبي، وتأكد ظني حد اليقين بعد اجتماعه أمس الخميس مع وفد القبائل الليبية، وإجلاسه من قيل إنه حفيد عمر المختار إلى جانبه. حاليًا معنا عمر المختار!
كما أن قراراته الأخيرة المتفرقة بشأن مخالفات البناء ونزع الملكيات الخاصة، وقرارات قبلها بسنوات خصت ملكيات الإخوان تحديدًا، تذكرنا بدرجة ما بجمال عبد الناصر، وبخصوص الشأن الليبي فما أشبه اليوم بالبارحة، فإن كان السيسي يستضيف ويستقبل حاليًا وفد قبائل ليبيا قبل التدخل العسكري في ليبيا، فلا زال التاريخ يذكر لعبد الناصر اجتماعه بوفد قبائل اليمن ليعطوه تفويضًا بالتدخل العسكري في اليمن.

ولا ندري كم شخصية تاريخية سيتقمصها السيسي لتخرجه من ورطاته وعثراته المتلاحقة سياسيًا واقتصاديًا!

الخميس، 9 يوليو 2020

232-وفي نفوس البشر لا يمتنع اجتماع متناقضين!


وفي نفوس البشر لا يمتنع اجتماع متناقضين!
د/ منى زيتون
الخميس 9 يوليو 2020
وعلى المثقف الجمعة 10 يوليو 2020

لعل أفضل ما توصف به النفس البشرية أنها معقدة، ويصعب فهمها، حتى أنه يجب التعامل مع كل نفس وكل موقف كحالة بذاتها، وهناك انفعالات متعاكسة قد توجد داخل النفس الواحدة تجاه الشخص أو الشيء ذاته! وفي نفوس البشر لا يمتنع اجتماع متناقضين!
من ذلك أنه كثيرًا ما تقابلني حالات يأتي فيها أحد الطرفين الرئيسيين في المشكلة المطروحة بسلوكيات من الواضح تمامًا أنها تضر بالطرف الآخر رغم حبه له، ورغم قرابته اللصيقة به.
قد يُفسر الأمر في البداية على أنه قلة وعي وإدراك، وأن هذا الطرف كالدُبة التي قتلت صاحبها –كما يُقال في الأمثال-، ولكن تتكرر السلوكيات ذاتها منه مهما تم تنبيهه إليها أو تحدث منه سلوكيات أخرى في مواقف غيرها تؤكد أنه وإن كان هناك حب فهناك بغض أيضًا ورغبة في إلحاق الأذى.
وقد يكون الإنسان واعيًا برغبة إلحاق الأذى هذه داخله، وقد تكون دفينة في عقله اللاواعي.
وفي أغلب الحالات قد يكون السبب في تلك الرغبة الحقد والحسد من الطرف المؤذي للطرف الآخر، أو قد يكون رغبة منه في الانتقام لأجل أذى سابق يرى الطرف المؤذي أن الطرف الأول قد ألحقه به، وقد لا تكون حقيقة الأمر على هذا النحو أو ربما آذاه الأول بالفعل دون أن يشعر!
ويتضح الأمر دائمًا بذكر المثال، فعندما يكون السبب هو الحقد والحسد قد نجد أخًا يؤذي أخاه الذي يحبه ويحاول الحط من شأنه أمام الناس لأنه نال من التعليم حظًا أوفر منه أو لأنه جنى من المال ما أغناه وكفاه ورفع شأنه في المجتمع، أو لأنه تبوأ منصبًا رفيعًا في الدولة، وقد يحدث هذا رغم أن الأخ الذي استغنى يترفق بأخيه ويساعده ما أمكنه، كما أنه لا دخل له بقلة حظ أخيه الحاسد من الدنيا.
وقد يكون الدافع لإلحاق الأذى هو الرغبة في الانتقام؛ من ذلك أن نجد أختًا –رغم حبها لأخيها- تلدغه كالعقربة من وقت لآخر وتفسد عليه شئونه وتكاد تتسبب في خراب بيته، لأنها لا زالت ناقمة عليه لأنه منذ حوالي نصف قرن تسبب في حرمانها من استكمال تعليمها والذي كان منتهى أملها، وذلك كعادة الأهل في التعامل مع البنات في ذلك العصر؛ حيث كان يتم التعجيل بزواجهن، ويُسفه من يسمح لبناته وأخواته بالخروج يوميًا للدراسة، ولمّا تغير الزمان صار هذا الأخ أحرص الناس على تعليم بناته، حتى أنه سمح لإحداهن بالاغتراب في محافظة أخرى لدخول إحدى كليات القمة. ورغم تطاول السنين تبدو الغصة باقية في نفس أخته حتى الساعة.
وقد نجد ابنة رغم إدعاء حبها لأبيها وحرصها على مصالحه تفسد عليه نجاحاته وعلاقاته بالآخرين، وتتلاعب بعقله لحد قد يفقده ثقته في كل البشر عداها، والسبب أنه كان السبب في طلاقها وحرمانها من هنائها مع زوجها، بسبب خلافات نشبت بينه وبين طليقها، لرفض الأب استغلال نفوذه لأجل تمكين طليقها من تحقيق مكاسب مالية كبيرة، فبقيت الابنة ناقمة على أبيها، وتسبب له المتاعب المتلاحقة، وكأنها أقسمت منذ لحظة طلاقها ألا تذيقه الراحة.
وهناك أسباب أخرى غير هذين السببين الرئيسيين، منها التوحد مع من تحب ورؤية نفسك فيه، إلى الدرجة التي تريده ألا يخرج من جلبابك، حتى ولو إلى جلباب أفضل. مرت علي حالة كانت الأم فيها تحاول قدر المستطاع إفساد العلاقة بين ابنتها العروس وزوجها، ولم يكن التفسير صعبًا لأنها أغنتني عن عياء البحث، وقالت بلسانها إن أمها قد طلقتها من زوجها الأول وهي عروس، وهي تعلم أن حظ ابنتها لا شك سيكون مماثلًا لحظها! وكان العلاج في فصم هذا التطابق والتناسخ المتوهم في عقلها.
وفي بعض الأحيان تتكون الرغبة في إلحاق الأذى في نفس الشخص السيء فقط عندما تتعارض مصلحته مع مصلحة من يدعي حبه، وهذا من وجهة نظري هو أكبر اختبار للحب، فالمحب الحقيقي لا يُقدم مصلحته على مصلحة من يحبه.
فهل توافق على أن يسعد أبوك أو أمك بزواج من شخص مناسب أم ترفض وتعمل على إحداث الوقيعة والإفساد بين الطرفين لأنك تنظر للمستقبل، وتخشى على نقص نصيبك من مال ميراث تتوقعه بعد سنوات، ولا يعلم الغيب إلا الله، والله أعلم من سيدفن من؟ وكم مات من صغيرٍ وكم عُمِّر من مُعمِّر!
والنصيحة التي تصلح لأي إنسان أن لا تثق فيمن لا يستحق الثقة، وأسس ثقتك في الناس على أساس عقلي وليس على أساس انفعالي عاطفي، وحاول فهم دوافعهم. راجع تقييمك للناس من حولك على أساس ما يظهرونه من سلوكيات نحوك، فالمواقف وما تظهره أصدق مما يقولونه بألسنتهم؛ وبعض الناس يظهرون المودة بينما هم يسعون لتدمير نجاحك وتدمير سمعتك وتدمير أسرتك وربما تدميرك صحيًا!