الجمعة، 26 مارس 2021

249- وهديناه النجدين

 

 وهديناه النجدين

د. منى زيتون

الجمعة 26 مارس 2021

وعلى المثقف، السبت 27 مارس 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/954384

تكلم علماء المسلمين ومفكروهم من قديم في مسألة "المعذور وغير المعذور" من الكفار، وكان من رأي الجاحظ أن الكافر المعاند الجاحد وحده غير المعذور، أما من لم يعرف وجوب النظر أو من نظر فلم يستبن له الحق فقد رآهم معذورين.

ولكن روي عن الإمام الشافعي قوله: "لو كان الجهل عذرًا، لكان الجهل أفضل من العلم؛ إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف ويريح قلبه من ضروب التعنيف".

وأنا أوافق الشافعي في رأيه، وأراه يصدق في القضايا الدنيوية مثلما يُقال في شأن قضايا الدين؛ فكل منا يجب عليه تطوير وعيه وإدراكه أمام القضايا والحوادث التي يواجهها أو تعرض أمامه، كي يختار الاختيار السليم ويقرر القرار الصحيح، ومن لا يفعل لن يجديه إدعاء الجهل والنوايا الحسنة يوم الحساب. وكما أقول دائمًا فإنه ليست كل القضايا الخلافية قضايا رأي ورأي آخر؛ فكثيرًا ما تكون القضايا تمييزًا بين حقيقة وخطأ؛ ورؤية قضايا الخيانة أو الفساد وأمثالها حقًا ليس وجهة نظر!

 

الطريق

إن الصعوبة الحقيقية التي نواجهها في مواقفنا الحياتية هي أن نحدد ما هو الصواب وما ينبغي أن يكون عليه موقفنا تبعًا لهذا التقييم، وأوقن أننا بالاجتهاد ومتابعة النظر وطلب التوفيق من الله تعالى نصل إلى الصواب ولا نضل الطريق، فالله أكرم من أن يستفرغ المرء جهده في البحث عن الحق وطلبه ثم لا يرشده إليه.

ولعل أروع تصوير أدبي لقضية الاختيار بين الصواب والخطأ هو رواية "الطريق" لنجيب محفوظ، وقد اختار لها محفوظ اسم "الطريق" كون كل منا يختار لنفسه طريقًا واتجاهًا واحدًا ليسير فيه من بين الطريقين الذين يراهما أمامه بوجه عام، وكذا في كل مسألة خاصة تقوده إليها تفرعات الطريق.

وتختلف الأسباب التي قد يسيء الإنسان اختيار الطريق بسببها؛ فهناك من يدفعهم الخوف لإنكار الخيانة والفساد والافتراء والكذب، وينسى أن المؤمن كالنخلة، وأن النخل لم يعلُ إلا لنبذه التفرع الجانبي؛ فالسيادة القمية تجعل النخل لا ينظر سوى للسماء.

وأحيانًا يختار الإنسان الطريق الخطأ تعصبًا واتباعًا للهوى، وأغلب البشر يصعب عليهم الاستماع لأشخاص لا يحبونهم، كما يصعب عليهم مخالفة الأشخاص موضع ثقتهم وإعجابهم أو من ينتمون لجماعتهم. وقديمًا قال أتباع مسيلمة الكذاب: "والله إنا لنعلم أن محمدًا صادق وأن مسيلمة كذاب، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضر"! وقد أخبرنا رسولنا الكريم أن أغلب أهل النار من النساء، وربما كان ذلك لأنهن أكثر اتباعًا للهوى وإهمالًا لحكم العقل.

فماذا عن أثر الوعي؟! يقول نجيب محفوظ: "النباتات لا تملك العقل، ولو غطيتها بصندوق فيه ثقب لخرجت من هذا الثقب متتبعة للضوء، فما بالنا لا نتتبع النور ونحن نملك العقول؟!"، ومحفوظ هنا يتحدث عن ظاهرة الانتحاء الضوئي في النباتات، والتي يعجز كثيرون ممن اختصهم الله بالعقول من البشر أن ينحوا نحو النباتات فيفعلوا مثلها!

فإضافة إلى الخوف والتعصب يمكننا ملاحظة وجود فئة تساند الأنظمة الفاسدة والفاسدين من البشر عمومًا لدوافع أخرى أهمها قلة الوعي؛ فبعض الناس أضعف عقلًا من أن يعوا حقيقة ما حولهم، وفي مقال كتبته تعقيبًا على انتخابات الرئاسة المصرية 2018 رويت قصة بائعة الليمون التي تقف دومًا أمام مبنى البنك الذي أتعامل معه، ودائمًا ما أشتري منها، وكيف رأيتها تقف أمام إحدى لجان الانتخابات تنتظر منحة غذائية مما يتم توزيعه على من يقومون بالتصويت في الانتخابات. ولا زلت أتساءل: هل تلك المرأة الجاهلة تُعذر فيما تفعله لأن ليس في مقدورها حقًا أن تعي وتدرك تأثير ما تفعله هي ومن على شاكلتها في حياة باقي أفراد المجتمع؟ فإن كان مثلها يُعذر فهل يُعذر غيرها ممن لا زالوا يبررون؟!

وربما يكون سبب قلة الوعي هو إصرار بعض ممن لا يُفترض جهلهم على تغذية عقولهم على نوعية محددة من المواقع الإخبارية المقروءة والمرئية التي تريهم لونًا واحدًا وتسمعهم نغمة واحدة يحسبونها الصواب المطلق، وينظرون إلى ما عداها من أفكار على أنها الشر المبين.

وهنا نقرر أن قلة الوعي -الناتجة عن تقصيرهم- هذه لن تنفعهم في حسابهم أمام الله؛ فالله تعالى يقول في كتابه عن حال الإنسان في الدنيا: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10]، فهناك نجد الخير وهناك نجد الشر، والنجد هو طريق صاعد في ارتفاع، فالمشي فيه يُحمِّل المرء مشقة، فرحلتنا في الحياة ليست استجمامًا، وغني عن الذكر أننا مخيرون في هذه الحياة، ولسنا ريشة في مهب الريح، وليس لإنسان أن يسلم أذنيه لمن يحشوهما بأفكار ثم يدعي الاقتناع بها دون أن يسمع غيرها، بل عليه أن يقرأ ويسمع لأطياف مختلفة ويتبصر ليعي ويدرك ويحسن الفهم ويتخذ قراره بعدها. وكل قليل الإدراك سيحاسب على قلة وعيه وإدراكه ومواقفه التي أخذها في الحياة بناءً على قلة الوعي والإدراك هذين لأنه لم يستفرغ جهده في محاولة التعلم والفهم! مع الأخذ في الاعتبار بأن الله تعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولكن من سار على الدرب وصل، ومن بحث عن الحقيقة نالها.

ولا تقف حدود المشكلة عند حد نقص الإدراك، بل إن الأكثر فداحة ألا يرى ناقص الإدراك إدراكه ناقصًا! ثم يبدأ في نشر تلك الأفكار التي لم يطلع على غيرها! يقول مالك بن نبي: "ألا قاتل الله الجهل؛ الجهل الذي يلبس أصحابه ثوب العلم؛ فإن هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوام؛ لأن جهل العوام بيِّن ظاهر يسهل علاجه، أما الأول فهو متخفٍ في غرور المتعلمين".

وقد زادت حالات الجهل المتخفية في ثوب العلم انتشارًا في السنوات الأخيرة منذ اندلعت الثورات العربية، وخاصة بين النساء عند الحديث عن القضايا السياسية، فإحداهن لم تقرأ مقالًا سياسيًا طوال حياتها، وربما لم تستمع قط لنشرة الأخبار اليومية قبل 2011، وصارت تتابع بعض إعلاميي الغبرة التابعين للأنظمة السياسية الحاكمة كنظام السيسي في مصر وغيره، ثم تُبغبغ بما سمعته باعتبارها وطنية -ومن عداها ليس كذلك!- وتفتي لمن يفوقونها ثقافة سياسية ظانة نفسها هنري كيسنجر!

وعلى ذكر السيسي، فقد ذكرت في مقال "الهوس بالتفرع الثنائي" أن إصدار حكم عام على الإنسان لا يكون منصفًا في كثير من الأحيان، وأنني لا أحب إطلاق الأحكام العامة لأنها تقيد عقل الإنسان، فقد يصيب من أعطيناه حكمًا عامًا بالشر فنظلمه ونبخس هذا الموقف الحسن منه، لكن ليس الحال على هذا النحو بالنسبة لهذا الشخص تحديدًا، فمنذ فترة طويلة لم نر منه أي إحسان أو شبهة إحسان، وليس من المنطقي أن يبقى مؤيدوه يظنون أن من حوله هم المسيئون فنبقى نحسن به الظن رغم كل المقدمات التي أمامنا والتي من البدهي أن تقود أي عاقل إلى استنتاج أنه رأس الفساد والخراب، وبعض مؤيديه وصل منذ فشلت مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا إلى أنه هو المسئول ولكنهم لا زالوا يثقون في حنكته وقدرته على إصلاح الأمور! أو هكذا يكابرون تعصبًا.

 

قد خاب!

وفي معرض حديثنا عن الاختيار وسوء الاختيار، وما يترتب على الأخير من سوء العاقبة، أذكِّر بما أورده رب العالمين في كتابه عن المصير المحتوم بخيبة الأمل والخسران المبين لأربع فئات في أربع آيات متفرقة من القرآن الكريم، فمن هم هؤلاء الذين تحققت خيبتهم وبئسوا وبئس مصيرهم؟

أولى الآيات التي توعد فيها الحق تبارك وتعالى بعض عباده بالخيبة هي ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ [إبراهيم: 15]. فأول الفئات ممن توعدهم الله بالخيبة هي كل كافر متجبر متكبر معاند مُصر على الكفر إلى درجة أن يطلب من الرسل أن يرى العذاب عاجلًا إن كان ما يدعونه إليه حقًا ومن عند الله. وهذا كان حال سائر الأمم الكافرة قبل الإسلام.

وثاني الآيات هي ﴿قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ﴾ [طه: 61]. وهنا جاءت الخيبة مقرونة بـ "قد"، وقد: حرف يفيد التحقيق. وهو حكم قاطع بهلاك وعذاب كل من قال كذبًا يرجو به إدراك حاجته؛ ذلك أن الصدق منجاة، وقد حث الإسلام أتباعه على الصدق، والكذب ضمنًا يعني خوفك من الناس، وتقديم ذلك الخوف منهم على خوفك من الله ووجوب طاعته بالصدق وعدم اقتراف الخطأ والإقرار به إن حدث، لأنك ما لم تخفهم وتخشهم ما كذبت، وإن كنت تخشى الله من البداية فربما عصمك الخوف منه من ارتكاب الخطأ ابتداءً.

وأما الآية الثالثة التي توعد فيها الحق سبحانه من اقترف ما جاء فيها فهي ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا﴾ [طه: 111]، وهي جزء مقتطع من سياق الحديث عن حساب الله تعالى للبشر يوم القيامة واستيفاءه حقوق المظلومين من الظلمة. ونجد الخيبة فيها أيضًا مقترنة بحرف التحقيق "قد". وبعد وعيده المحقق للظالمين جاء تطمينه للمؤمنين الصالحين بأنهم لن يُظلموا فتُزاد سيئاتهم، ولن يُهضموا فتُنقص حسناتهم، فأتبع بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا﴾ [طه: 112]، والكل في ذلك اليوم مستسلم لمصيره المستحق، يعلم أن الله لم تغب عنه غائبة ولم تفته فائتة، فهو حي قيوم لا ينام ولا يغفل ثوينة عن عباده الظالمين والمظلومين.

وللظلم آثار سلبية على صاحبه في الدنيا والآخرة، وعلى الجماعة في الدنيا بحسب نوعه، والظلم أنواع؛ والله تعالى سيُحاسبنا في الآخرة على العبادات والمعاملات، كما سيحاسبنا على صحة الاعتقاد، وهو وحده الذي له حق الحساب على النوع الأخير، وإن كانت هناك نوعية من البشر ترى لنفسها الحق في امتحان قلوب العباد وسؤالهم عن معتقداتهم ومكنوناتهم.

وهناك حقيقة ينبغي أن نضعها نصب أعيننا وهي أن ظواهر الأمور ليست دائمًا كبواطنها، وعلينا ‏أن نعود ‏أنفسنا على أن نعف ألسنتنا عما لم نشهد ونستوثق، وإلا فنحن واقعون في ظلم العباد لا محالة.

ومعلوم أيضًا أن هناك كثيرين ممن تسول لهم أنفسهم التغول على حقوق العباد؛ إذ ينتشر ظلم المعاملات للبشر مع بعضهم، وأحيانًا الظلم للحيوانات استغلالًا لضعف سيادة القانون، وأما عندما يكون الظلم من حملة القانون وأصحاب الشأن، فهنا يبلغ منتهاه.

وأما الآية الرابعة التي توعدت بتحقق خيبة صاحبها فهي ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 10]، والخيبة المحققة هنا ليست على عدم إصلاح السلوك بل على عدم إصلاح النفس ودخائلها، حتى وإن لم ينتج عن ذلك السوء الداخلي سلوك ظاهر، وبقي الأمر في نفس العبد لا يعلم منه هذا الفساد إلا خالقه، وأوضح الأمثلة على ذلك الحسد والحقد والضغينة.

 

جهود مهدرة أم أثر مخزون؟!

لعله لا يوجد عربي لا يعرف مصطلح "الفول المُدمَس"، ولكن قليلين هم من يفهمون معنى "مُدمَس"، والمدمس نسبة إلى تسوية الفول على نار الدَمْس، وهي نار شديدة الضعف تشتعل تحت التراب، تُحس حرارتها ولكنها لا تُرى لضعفها واختفائها تحت التراب، ووضع قدور الفول الكبيرة لتُسوى عليها يحتاج إلى ساعات طوال كي يتم تسويتها، ولكن طعمه الطيب يجعل أصحاب المواقد لا يكترثون لطول الوقت، وكذلك تحاكيهم ربات البيوت عند تسوية الفول في المنزل فيسوينه على أضعف شعلة في مواقدهن، موقنات أنه رغم ضعف الشعلة فإنها مع مرور الوقت ستحدث أثرها.

وعلى عكس ما يظنه كثيرون من أن جهودهم على طريق الصلاح كثيرًا ما تذهب سُدى، فإن الحقيقة أن لا عمل يضيع على هذه الأرض ما دام هناك رب حيٌ قيوم لا يهضم حقوق عباده الصالحين، وأنت عندما تطرق على صخرة كبيرة لتحطيمها لا يكاد يظهر أثر لتعبك، وتجد فتاتًا فقط، والحقيقة أن ضرباتك تؤثر في الصخرة، ولكنه يبقى أثرًا مخزونًا حتى تحين اللحظة التي تتجمع فيها كل الآثار المخزونة مع الضربة الأخيرة فتنفلق الصخرة وترى نتيجة جهدك وحصيلة تعبك في لحظة المكافأة.

كما أن الحكمة من تأخر بعض ما تراه خيرًا لك قد تكون خافية عليك حتى تعرفها، وربما تموت وأنت لا تعرفها، وفي سورة الكهف قصص ثلاث لموسى عليه السلام مع العبد الصالح توضح أنك قد تعرف الحكمة بعد فترة قصيرة كحال أصحاب السفينة المخروقة حين حزنوا على خرق سفينتهم ثم ظهر لهم أن هذا كان سبب نجاة سفينتهم من الملك الغاصب حين رآها معيبة فتركها لهم، وقد تظهر الحكمة بعد فترة طويلة كحال الغلامين اليتيمين الذين كان أبوهما صالحًا حين استخرجا كنزهما بعد بلوغهما وعلما أن الله قد حفظ لهما المال عندما زار قريتهما رجلان غريبان أعاد أحدهما بناء الجدار الذي كاد أن ينقض، وقد تموت وأنت لم تعرف الحكمة الإلهية من حدث ٍأصابك وأساءك حتى ظننته ابتلاء، بينما كان عين رحمة الله بك، مثلما كان حال الأبوين الصالحين الذين قتل العبد الصالح ابنهما الوحيد الذي كان مصيره سيؤول إلى الكفر إن عاش.

 

مثلث الإيمان والأمانة والنصيحة!

يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام: "لا إيمان لمن لا أمانة له"، ويقول أيضًا: "الدين النصيحة"، وعنه أيضًا أنه قال: "المستشار مؤتمن"، والأحاديث الثلاثة يربط كل منها بين ضلعين من أضلاع ما يمكنني تسميته بـ "مثلث الإيمان والأمانة والنصيحة"، وهو مثلث مترابط؛ فالأمانة دليل الإيمان والنصيحة الصادقة أيضًا دليل الإيمان، ومن ينصح مؤتمن فلا يخون من ائتمنه وإلا لا يكون مؤمنًا.

ولكن هناك من يُنصح فيرفض النُصح، ومن أوضح علامات الحمق من وجهة نظري أن الأحمق يستخف ويستهتر بما لا يفهمه مهما علا شأن المتحدث وفاقه علمًا، ولا يخامره الشك ولو للحظة في أن عقله أضعف من أن يفهم ما يُقال، أو أن ليس لديه من العلم اللازم ليكون أساسًا لفهم ما يُعرض عليه، وعليه قد يطلب الاستيضاح.

ولا يكون العيب واقعًا عليه وحده، بل ربما كان العيب الأكبر على محدثه بما لا يطيق فهمه؛ لذا نجد الرسول يحذرنا من أن نحدث الناس بما يفوق قدرة عقولهم على الفهم. ومما رواه الإمام مسلم في صحيحه عن ابن مسعود "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".

كما أن هناك من يستمعون إلى القول لا ليتبعوا أحسنه بل لينقدوه، بينما الحكمة ضالة المؤمن، وعلى العاقل أن ينكش في كومة قش إن كان في داخلها قطعة صغيرة من الذهب لا أن ينفض عن عاتقه عناء البحث فيه أو أن يفرغ لنقد من يفعل؛ فالرغبة في النقد والفحص الشديدين كثيرًا ما يمنعان الإنسان من استكشاف الحكمة، والإنسان العاقل يسيطر على رغبته في النقد.

 

دور النموذج "القدوة" في تعديل السلوك

وطالما تطرقنا إلى النصح للعباد، فلا بد من التذكير بدور القدوة، وهو ما يقرره علم النفس الحديث بأن التعلم الاجتماعي يقوم في أساسه على النمذجة.

أذكر أنني في إحدى الجلسات الودية سمعت حوارًا بين عمٍ وابن أخيه يخبره فيه أن أباه –أخا المتحدث- هو صاحب أكبر فضل عليه بعد والديه؛ ذلك أن نجاح الأب واجتيازه لاختبار الثانوية العامة كان حافزًا له على اجتياز الاختبار مثله والالتحاق بالجامعة، وقد كان اختبار الثانوية العامة حتى عقود اختبارًا يتخوفه حتى النُجباء، وقد مُني بالرسوب فيه من سبقهما من أبناء العائلة.

وأحد أبناء عمومتي لديه عدد من الأبناء، كانوا متفوقين في دراستهم ولكن ليس إلى أقصى حدود التفوق التي يمكن أن توصلهم لما نعرفه باسم كليات القمة، حتى التحق أكبرهم بالصف الأول الثانوي، ونتيجة لاختياره اللغة الفرنسية كلغة ثانية، بينما اختار أغلب المتفوقين ممن يفوقونه في المستوى الدراسي اللغة الألمانية كلغة ثانية، فقد أتيحت له فرصة دخول فصل الفائقين ممن اختاروا اللغة الفرنسية، فرأى مستوى من التفوق لم يسبق له أن عرفه، واختلط بصنف من الطلاب يكرس نفسه للدراسة، فكان القرار الذي غير حياته بأن يكون مثلهم، وقد كان، فتفوق حتى دخل كلية الطب، وهو الآن طبيب شاب ناجح، وكما كان زملاؤه قدوة ونموذجًا له، كان هو قدوة لباقي إخوته فتفوقوا مثله.

كل منا بإمكانه أن يختار الطريق الذي سيسلكه في حياته، كما أن بإمكانه أن يختار أن يغير ويعدل الطريق. الأهم أن تصدق النية ويعلم الله منك طلبك الحقيقة ورغبتك في اتباع طريق الحق والخير.