الجمعة، 25 يناير 2019

170-لو لم نكن حملانًا ما أكلتنا الذئاب


لو لم نكن حملانًا ما أكلتنا الذئاب
د/منى زيتون
الجمعة 25 يناير 2019
برغم محاولة التفاؤل بالعام الجديد، إلا أنني سُرعان ما اكتأبت بعد أيام من دخول يناير؛ فاستمرار تحرك الأوضاع إلى الأسوأ في مصر، وعدم قدرتنا على صنع تغيير –كجماعة وليس كأفراد- ليس بالأمر الهين.
في يناير تعاودني ذكرى محاولة التغيير التي قام بها الشعب في 2011، قبل أن تُسرق منه سريعًا على يد مجلس طنطاوي والإخوان، وفي يناير أيضًا أتذكر خيبة الأمل التي عانينا منها في مثل هذه الأيام من العام الماضي 2018، عندما أفسد السيسي المحاولة السلمية للتغيير عن طريق الانتخابات، وأفشل كل الجهود التي بُذلت لترشح أي مرشح حقيقي أمامه، ولم يقبل سوى بكومبارس!
كنت ممن لم يرض أن يكون المؤمن الضعيف، وانضممت لحملة جمع توكيلات للفريق شفيق، كي يترشح للرئاسة حتى بعد أن عدل عن الترشح، وحدث الكثير مما يمكن أن يُروى، وباءت المحاولة بالفشل.
لكن لو كنت أنا والمجموعة الصغيرة التي حاولت من الضعف بحيث لم يأبه بنا السيسي، ولم نتمكن من صنع تغيير على أرض الواقع، فماذا عن العالم من حولنا الذي تغافل قادته عن المهزلة الانتخابية التي حدثت في مصر؟! بدءًا من منع المرشحين من الترشح بطرق ملتوية مختلفة، وإجبار موظفي الدولة على عمل توكيلات للسيسي، و...... لم يصدر أي بيان رسمي من أي دولة كبرى أو صغرى تستنكر أي مما حدث في مصر!
حتى على المستوى البرلماني الدولي وجدنا صمت القبور! وبعد أن تفاءلنا بإعلان البرلمان الأوروبي أنه سيناقش مهزلة الانتخابات المصرية لم نسمع رجع الصدى!
اقتصر نقاش الأمر على الإعلام العالمي، الذي تمسخرت صحفه وبرامجه الهزلية على مهزلتنا.
ولم يكن هذا رد الفعل الاستعباطي الوحيد الذي صدر عن زعماء العالم الذي يسمونه الحر! تكرر مرة أخرى عندما استعبط زعماء العالم، ولم يصدر عنهم رد فعل محترم، يليق بالجريمة الشنعاء التي فعلها محمد بن سلمان بحق جمال خاشقجي! ثم سافر محمد بن سلمان، وحضر مؤتمرًا اقتصاديًا عالميًا ودعا إلى مؤتمر آخر في بلده بعد فعلته! ولا زال أردوغان يصارع وحده لأجل تدويل القضية، بينما ترامب يدعي أنه يصدق أن مجموعة من القتلة المارقين قتلوا الرجل دون تلقي أوامر من ولي العهد السعودي!
وفي نهاية العام أبى الفرنسيون إلا أن يعلمونا الفرق بيننا وبينهم، وأن لا أحد حتى رئيس الدولة المنتخب بشرعية وليس بالتزوير والاحتيال، بإمكانه أن يخطو خطوة تضر بمصالح الشعب وهم راضخون، على العكس مما يفعل أحفاد سحرة فرعون الذين لم يتوبوا عندنا!
كان أهم درس تعلمته في 2018 أن الحثالة الذين يحكمون العالم المتحضر لا يفرقون بتاتَا عن الحثالة التي تحكم شعوبنا المتخلفة، وإن كان هناك فرق فالفرق في الشعوب؛ الفرق تصنعه الشعوب؛ فشعوبهم هي التي تجبرهم على أن يعاملوهم بما يستحقون من احترام يليق بالبشر.

الاثنين، 14 يناير 2019

169-تأملات في الطباع الأربعة وتوزيعها على الفصول الأربعة!

تأملات في الطباع الأربعة

وتوزيعها على الفصول الأربعة!

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"‏

كُتب ونُشر على ثلاثة أجزاء

ج1، الاثنين 14 يناير 2019

منشور الثلاثاء 15 يناير 2019

http://www.almothaqaf.com/a/b1d/933798

ج2، الخميس 12 مارس 2020

منشور الجمعة 13 مارس 2020

http://www.almothaqaf.com/a/aqlam2019/944264

ج3، منشور على المثقف، الثلاثاء 4 يناير 2022


مقالنا اليوم عن فلسفة "الطباع الأربعة" عند القدماء؛ حيث افترضوا عناصرَ أربعة أساسية، لكل منها طاقة مختلفة الأثر في الكون وفي طباع البشر.

فقد حدد القدماء طباعًا أربعة لا بد أن يُشكل أحدها السمة الواضحة لأي شخصية إنسانية، وصنَّفوا على أساسها البشر، تأسيسًا على الاعتقاد بأنه مهما كانت درجة الفروق الفردية التي تجعل الإنسان متفردًا عن غيره من البشر، فللمكان الذي وُلد ونشأ فيه الشخص، وللوقت من العام الذي كان فيه ميلاده، تأثيرهما القوي على إعطاء طابع عام لشخصية من يشتركون في المولد تحت سقف المكان أو الزمان نفسه. وتأملاتي اليوم خاصة بالزمان.

والطباع الأربعة التي أعنيها كخصائص للشخصيات الإنسانية هي: النار والتراب والهواء والماء؛ فالنار هي رمز الشغف والقوة، والتراب هو رمز الثبات والاستقرار، والهواء هو رمز الفكر والتأمل، والماء هو رمز الانفعالات والمشاعر.

وفيما يخص مكونات الإنسان كانت النار عندهم هي الروح والقوة الحقيقية الداخلية، بينما ‏الهواء هو الفكر والعقل، ومثّل الماء عاطفة الإنسان، وكان التراب لديهم هو الجسد المادي. وكل إنسان وإن كانت تتمثل فيه المكونات والطباع الأربعة إلا أن أحدها هو الأظهر عليه، كما أن كثيرًا من الناس تمتزج طاقتهم فيكون لهم طبعان رئيسيان.

فلسفة دينية!

ورغم كونها فلسفة إنسانية، ولعلها أقدم الفلسفات التي عرفها الإنسان، فهي تتميز عن غيرها بأن لها أصلًا دينيًا، فالله تعالى أخبرنا أنه خلق الدواب جميعها من الماء فهي مجبولة على العاطفة التامة، كما نعلم أن إبليس تكبر عن أن يسجد لآدم عليه السلام لأنه رأى نفسه أشرف منه، لأن الله تعالى خلق إبليس من النار، والنار أشرف العناصر وأطهرها وأنقاها، ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ [الأعراف: 12]. وقد أخبرنا تعالى أنه بدأ خلق الإنسان من طين، ثم امتزج هذا الطين بالماء، فأصبح صلصالًا كالفخار، وهو والحال كذلك لم يحوِ سوى الجزء المادي والجزء العاطفي، ولكن جاء الطور التالي من خلق آدم والذي استحق عنده سجود الملائكة له؛ إذ نُفخت فيه الروح ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]. والروح تمثل النار فهي التي تشعل الحياة في الجسد، ولكن إبليس أصر على أن آدم لا زال طينًا، ورفض الإقرار بالتغير الذي حدث له! ودومًا أقول إن كل من يصر على تصغير أحدهم وتذكيره أنه كان سابقًا أقل نعمة مما هو عليه ليس سوى شيطان بشري.

ومن عجب أن هذا الذي خُلق من نار وهي العنصر الأشرف قد أخطأ إلى الدرجة ‏التي وجبت له بها الجحيم، وأن الذي بدأ خلقه من طين ثم امتزج بباقي العناصر، والنار ‏ليست إلا أثرًا فيه، قد يشرف ويعلو قدره حين يعلي قدر الروح فيه.‏

ونلاحظ أنه في أطوار خلق الإنسان الأولى في القرآن لم يُذكر العنصر الرابع وهو الهواء والذي يعبر عن العقل؛ فالإنسان يولد جاهلًا، ثم يعلم من بعد جهل، والعقل الذي يساعده على تحصيل العلم تحديدًا هو ما يميز البشر عن باقي المخلوقات، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [البقرة: 31]. وخطاب الله للبشر دومًا يكون بوصفهم بأولي الألباب.

العناصر والطباع الأربعة

كان لكل عنصر رمز عُرف به عند القدماء؛ فرمز النار الصولجان أو العصا الغليظة (النبوت)، والسيف القاطع هو رمز الهواء، والقلب أو وعاء الماء هو رمز الماء، بينما رمَز الدرهم إلى التراب.

وعلى الأرض نجد كثيرًا من الماء، وكثيرًا من التربة المتماسكة التي يمكن أن نعيش عليها، وكثيرًا من الهواء، ولكن مع قليل من النار ومصادر الحرارة! فالماء والتراب يفرشان سطح الأرض وأعلى منهما الهواء، والقريب منه لسطح الأرض فقط صالح أن نتنفسه، وهذه إشارة إلى محدودية الفكر النافع! وأعلى وأبعد منه النار (الشمس)؛ نستشعر أثرها كالروح ولا نلمسها، كما أن باطن (لب) الأرض نار. وأثر النار في كوكبنا كأثر الروح في الجسد، كمها قليل، ولكن دونها لا تكون حياة.

وهذه الطباع تتفاوت كثيرًا؛ فمن حيث القوة الجسمية يترتبون من الأعلى للأقل: النار، ثم التراب، ثم الماء، ثم الهواء، وكذلك من حيث القوة النفسية، فالناريون كسهام النار لا يعرفون اللف والدوران ولا يخشون أحدًا من الأساس ليكذبوا عليه، وهم أعلى جاذبية وحضورًا وظهورًا؛ فالنار تُرى ولو كانت فوق جبل، أما العنصر الهوائي فهو الأكثر خداعًا والأقل جاذبية؛ فالهواء فأمامك ولا تلحظه! أما من حيث السرعة فالنار والهواء أسرع العناصر، والتراب أبطأها.

ولسيادة طبع ما أثره في شخصية صاحبه؛ ولكل طبع جانبه الإيجابي وجانبه السلبي، والإنسان يمكن أن يكون صالحًا بأن يُسير الطبع الغالب عليه في الاتجاه الإيجابي، ويمكن أن يكون طالحًا بأن يستسلم للجانب السلبي من الطبع.

فلأن الهواء هو العنصر الذي يستحيل امتلاكه، وهو رمز الفكر، قالوا بتوارد الأفكار بين البشر، وأن للأفكار أجنحة! لذا فإن أصحاب الطبع الهوائي هم الأعلى إنسانية والأكثر تشاركية بين باقي البشر، والأكثر تفكيرًا، ولكنهم أيضًا قد يكونون الأكثر ثرثرة ونشرًا للإشاعات! والهوائي قد يكون مفكرًا وحقوقيًا وقد يكون مخادعًا وربما جاسوسًا!

ولأن الأرض هي أكثر ما يتملكه البشر، يظهر الانكباب على الذات والأهل والشئون الخاصة للفرد في أجلى وأوضح حالاته لدى أصحاب الطبع الترابي الأرضي، فهؤلاء الترابيون هم الأكثر استقرارًا وهم أيضًا شديدو البطء في اتخاذ القرارات.

بينما من يسود لديهم الطبع الناري هم الأكثر قوة والأقدر على القيادة والأجدر بها، والأسرع في اتخاذ القرارات، والناري قد يكون مسئولًا وقد يكون مستبدًا. وأصحاب الطبع المائي هم الأكثر حنانًا ولطفًا، وهم أيضًا الأكثر تلاعبًا وتحايلًا! والأكثر قدرة على بث أفكارهم في أدمغة غيرهم حتى يستشعروا أنها أفكارهم الخاصة! وأصحاب كلا الطبعين أقل اهتمامًا بأحوال البشر عامة من هوائيي الطبع، ولكنهم لا يبلغون في ذلك مبلغ الترابيين المنكبين على شئونهم، فيتوسطون بين هؤلاء وأولئك؛ ذلك أن النار (الطاقة) والماء جزء منهما مشترك وعام بين البشر، وجزء آخر منهما قد يكون ملكية خاصة.

تقسيم الطباع على الفصول الأربعة

ولعل كثيرًا منا يعلم أن القدماء قد قسموا الطباع الأربعة على شهور السنة الشمسية، فكان نصيب كل طبع منها ثلاثة شهور يلتصق بها، أو فلنقل ثلاثة بروج، وتتوزع الطباع على البروج دائريًا؛ برج ناري وبعده ترابي وبعده هوائي وبعده مائي، ثم تتكرر الدورة مرتين، والبروج الاثنا عشر هي كالآتي: الحمل (ناري)- الثور (ترابي)- الجوزاء (هوائي)- السرطان (مائي)- الأسد (ناري)- العذراء (ترابي)- الميزان (هوائي)- العقرب (مائي)- القوس (ناري)- الجدي (ترابي)- الدلو (هوائي)- الحوت (مائي).

ولأن فصول السنة أيضًا أربعة، فقد رأوا لكل فصل بوجه عام طبع خاص به، فالربيع (ترابي)، والصيف (ناري)، والخريف (هوائي)، والشتاء (مائي).

ولو دققنا سنجد أن الربيع هو الفصل الذي تنبت فيه الأرض بالزرع بعد موات الشتاء؛ لذا كان عند أغلب الأمم هو استهلال العام، والدورة الفلكية الجديدة تبدأ بالحمل، أول أبراج الربيع؛ فالربيع هو رمز تراب الأرض والعطاء الآتي منها في شكل نبت ناشئ. والصيف هو فصل سخونة الجو، فهو ناري، والخريف هو الفصل الذي يتحرك فيه الهواء –وفقط الهواء دون الأتربة-، فهو هوائي الطبع، أما الشتاء والذي هو موسم الأمطار عندهم، فهو مائي.

وقد رأوا أيضًا في كل عام تمثيلًا لرحلة الإنسان في الحياة، التي تبدأ بالربيع، والذي يمثل الميلاد وبدء الحياة والطفولة اليانعة، التي تنمو شيئًا فشيئًا، فيكون سريعًا ناريًا في أوله؛ فيعبر عنه برج الحمل، ثم يتباطأ النمو في الطفولة المتوسطة؛ والتي يمثلها برج الثور وهو أكثر الأبراج ترابية وبطءًا، ثم يزيد النمو العقلي،  والذي يعبر عنه برج الجوزاء الهوائي، ثم يأتي من بعد الربيع فصل الصيف الناري، الذي يُعبر في حياة الإنسان عن الشباب، بكل ما فيه من قوة وشغف، والتي تبدأ بعاطفية السرطان التي تشبه مشاعر المراهقين، قبل أن تلتهب الحماسة عند الأسد، لتخف حدتها بعد ذلك عندما يواجه الإنسان مهام العمل، والتي يعبر عنها العذراء، ثم يحل الخريف، ويمثل لحظة الميلاد الثانية، فهو بدء الانعكاس إلى الجهة اليمنية من دائرة البروج وليس الشامية، وهو فصل الحكمة والأفكار والتأمل في منتصف العمر، وأخيرًا يأتي الشتاء معبرًا عن الشيخوخة، والتي يتدرج التعبير عنها من ثبات الرأي والمبادئ على ما تعلم الإنسان (الجدي)، ثم تقبل التغيير (الدلو)، ثم حساسية الإنسان المفرطة (الحوت).

فمن براءة الأطفال لدى مواليد الربيع، والذين يبقى تعلقهم طفوليًا بأمهاتهم مهما طال بهم العمر، إلى جنون الشباب والحماسة في الصيف، لينتقل الإنسان بعدها إلى حالة القوة والصلابة التي تكسبه إياها الأيام، كشجرة تقف وحدها يعصف بها الهواء في الخريف، ومهما تساقطت الأوراق تعبيرًا عن انفضاض الناس يبقى جذعها منتصبًا وتبقى قوية، ثم مرحلة فيض الحنان والمحبة الذين يغمرنا بهما كبار السن، حتى وإن كان يكسوها في درجاتها الأولى، صلابة من يريد أن يكسبنا المبادئ ويعلمنا (الجدي والدلو)، وليس فقط أن يكون محبًا عطوفًا، مع ضعف طاقته البدنية (الحوت).

وربما كان يُمثل الشتاء –من منظور آخر- حياة الجنين في وسط مائي في رحم أمه قبل مولده عند الأمم التي رأت أن بداية العام موسم الدلو، أو أن موسم الدلو يعبر عن التغير والتقلب الحادث بانتقال الفرد من بيئة الرحم إلى الكون الفسيح، والحوت يعبر عن فترة الضعف الأولى بعد الميلاد مباشرة، ليكون الحمل الناري وفقًا لهذا التصور تعبيرًا عن بداية المشي والحركة واعتماد الطفل على ذاته.

وقد لاحظت أن كل فصل من فصول السنة تمثله ثلاثة بروج ذات ثلاثة طباع مختلفة، أحدها هو الطبع العام للفصل، بينما يختفي طبع واحد من كل فصل من فصول السنة.

بروج فصل الربيع (الترابي): الحمل (ناري)، والثور (ترابي)، والجوزاء (هوائي).

بروج فصل الصيف (الناري): السرطان (مائي)، والأسد (ناري)، والعذراء (ترابي).

بروج فصل الخريف (الهوائي): الميزان (هوائي)، والعقرب (مائي)، والقوس (ناري).

بروج فصل الشتاء (المائي): الجدي (ترابي)، والدلو (هوائي)، والحوت (مائي).

ففي الربيع نجد النار والتراب والهواء، ولا يوجد تمثيل للطبع المائي، وفي الصيف يختفي الطبع الهوائي، وفي الخريف يختفي الطبع الترابي، بينما في الشتاء يختفي الطبع الناري.

وهناك تقابل ملحوظ؛ فالصيف هو رمز النار، والتي تختفي تمامًا في الشتاء، حيث يحل الصقيع! وبينما الربيع يحمل رمزية التراب، نجد طبع التراب يختفي تمامًا من الخريف! تعبيرًا عن العقل والحكمة وليس التصاق الأقدام بالأرض والتركيز على الماديات.

وربما كان لهذا ارتباط أيضًا بقوة هذه الطباع، فأقوى الطباع هو النار، ثم التراب، ثم الماء، ثم الهواء؛ حيث الهواء أفكار وتأملات وليس قوة مادية؛ ومن ثم لا عجب أن يختفي الهواء رمز الفكر والتأمل من الصيف، الذي يرمز للشباب، ليكون الهواء بعدها –وعلى النقيض- رمزًا للخريف بأكمله، والذي يمثل المرحلة اللاحقة من العمر، أو النضج العقلي وليس الجسمي.

كذلك فإن النار التي تختفي من الشتاء هي أعلى درجات القوة، ومن الطبيعي أن تختفي الدرجة العالية من القوة من الفصل الذي يمثل الشيخوخة، بعد أن كانت معبرة عن أبراج فصل الصيف (الشباب) بأكمله.

امتزاج الطباع

دائمًا ما يكون البرج الذي يتفق طبعه مع الطبع العام للفصل الذي يوجد فيه، هو الأعلى في هذا الطبع من البرجين الآخرين الذين على شاكلته؛ ومن خلال الطبع الرئيسي والطبع الفرعي لكل برج يمكن فهم الكثير عن طاقته، ويمكن وصف طباع الأبراج وفقًا لامتزاج الطاقة الرئيسية لها مع طاقة فصل السنة التي توجد فيها على النحو:

الأسد: ناري، والحمل: ناري ترابي، والقوس: ناري هوائي.

الثور: ترابي، والعذراء: ترابي ناري، والجدي: ترابي مائي.

الحوت: مائي، والسرطان: مائي ناري، والعقرب: مائي هوائي.

الميزان: هوائي، والجوزاء: هوائي ترابي، والدلو: هوائي مائي.

وعليه فالأسد برج ناري الطبع مرتين؛ مرة لأن النارية طبعه الخاص، ومرة لأنها طبع فصل الصيف الذي يحل فيه، ما يجعله أقوى الأبراج ومواليده أكثرهم شجاعة وجسارة، وهو لذلك طالع القادة العسكريين العظام عبر التاريخ كنابليون وخالد بن الوليد، ويليه الحمل في الدرجة الثانية من النارية، حيث يوجد في فصل ترابي، والتراب يلي النار من حيث قوة الطبع، فالحمل ناري ترابي، وهو أكثر الأبراج النارية مادية، وامتزاج طاقة النار التي تمثل القوة مع طاقة التراب التي تمثل الثبات والاستقرار هي أفضل طاقة لتأسيس ‏كيان قوي وثابت، فالخيمة تُقام على أربعة عصي –والعصا هي القوة وهي رمز طاقة النار- وهذه العصي ‏تثبت في التراب، ولذا فالحمل هو طالع الأباطرة الكبار الذين أسسوا دولًا كبرى، كالإسكندر وقورش وغيرهما، وكان أصحاب طالع الحمل من الأباطرة يفتخرون به ويلقبون بذي القرنين، بينما القوس هو أقل أبراج المثلث الناري نارية، حيث هو البرج التاسع في دائرة البروج وهو آخر أبراج فصل الخريف، وتمتزج ناريته بهوائية الخريف، تعبيرًا عن تقدم الإنسان في العمر والعقل، فالقوس هو مزيج من القوة (النار) والعقل والفكر (الهواء)؛ لذا فهو طالع الكتاب والمفكرين الكبار على مستوى العالم.

وكذلك الثور هو الأعلى ترابية من العذراء والجدي، لأنه البرج الترابي الذي يقع في الربيع، وهو الفصل الترابي، وهو لذلك بطئ ثابت يحب جمع المال، والميزان هو الأشد هوائية من الجوزاء والدلو، لذا فهو يفكر ويفكر ويصعب عليه اتخاذ قرار! فلا تتوازن كفتاه بسهولة، والحوت هو الأعلى مائية من السرطان والعقرب، لأنه برج مائي يقع في الشتاء، وهو الفصل المائي، وهو لذلك الأكثر عاطفية، والأبعد نوعًا عن التفكير المنطقي.

والسرطان ماء ساخن مشاعره متدفقة، ويستحيل عليه ضبطها؛ لذا فهو كثير ‏الشكاية. والجوزاء منفصم بين العقل والمادة! وطريقة تفكيره ساذجة نوعًا رغم كونه برج ‏هوائي بالأساس، ربما لأنه البرج الثالث في ترتيب البروج ويعبر عن مرحلة تفكير الأطفال ‏الصغار، ويمكن القول إنه كالأطفال يعتمد على مهارات تواصله العالية في تفاعله الاجتماعي أكثر مما يعتمد على التفكير الناضج. والعذراء تمتزج لديه الطاقتان النارية والترابية كالحمل، ولكن طاقته ترابية في ‏الأساس، وهو لذلك الأكثر مثابرة في العمل والتزامًا بالقوانين والنظم، كما شغالة النحل.‏

والعقرب والدلو هما مزيج من طبعين شديدي التنافر؛ وأعني الماء والهواء، فكيف ‏للعاطفة والعقل أن يجتمعا! فهما في صراع دائم داخليهما، لكن العقل أغلب عند العقرب ‏فهو الأكثر قدرة على التحكم في مشاعره من بين جميع الأبراج، وهذا عجيب بالنسبة لبرج ‏طبعه الأساسي مائي، أما الدلو فهو ثائر بدرجة أعلى وعقله قد يضعف أمام عاطفته، لكن ‏امتزاج الطبعين المائي والهوائي يجعلهما الأعلى قدرة بين سائر الأبراج على التخلي؛ فهما الأكثر ‏قدرة على إحداث تدمير للوضع القائم لبناء غيره، رغم أن كل منهما يقع في منتصف الفصل ‏الذي يوجد به، والمفترض أن تكون طاقته أكثر ثباتًا!‏

وهذا الامتزاج الطاقي يتزايد في مناطق خاصة من السماء، مثل المجموعات النجمية التي تقع بين درجات برجين، وأغلبها تكون منازلًا ممتزجة الطاقة للقمر، ومثل منطقة الامتزاج الطاقي الواسعة بين الجدي والدلو حيث يكون الجدي في الطالع، ولكن تعلوه جزء من المجموعة النجمية للدلو، وتمثل كف الدالي المبسوط، وتعرفها العرب باسم سعد بُلع، ثم تأتي مجموعة نجمية أخرى هي كتف الدالي الأيسر وتُعرف بسعد السعود، والأخيرة تقع بين درجات طالعي الجدي والدلو. و طاقة الدلو هوائية مائية، فهو مفكر ثائر وقادر على التخلي عن أي شيء لا يفيد، والجدي ترابي مائي، فهو قادر على تأسيس كيان مادي وريه حتى يثمر، ومن تكون هذه المنطقة الممتزجة مفعلة في خريطته الفلكية يكون إداريًا عظيمًا بالفطرة.

فمما ينبغي لفت النظر إليه أيضًا أن طاقة أي إنسان لا تتحدد ببرجه الطالع فقط، والذي يُعرف من تواجد المجموعة النجمية للبرج عند الأفق الشرقي في اللحظة التي وُلد فيها، ولا حتى برجه الشمسي فقط، والذي يُحدده تواجد الشمس في درجات هذا البرج يوم ميلاده، ولا برجه القمري فقط، والذي يُحدده تواجد القمر في درجات هذا البرج وقت ميلاده، ولا المنزلة القمرية داخل البرج القمري فقط، ولا غيرها من السمات الفلكية وحدها، فلكل إنسان منا خريطة فلكية شديدة التعقيد، وينبغي فحصها بالكامل، وهي تختلف لكل فرد منا عن الآخر، وحتى بين التوائم، فهي كبصمة الأصابع، كما أنه يستحيل أن يولد إنسان وطاقته كلها متركزة في برج واحد، أو في بروج ذات طاقة واحدة نارية كانت أو ترابية أو مائية أو هوائية. وما شرحته هي طاقة كل برج على حدة، ولكن كل فرد منا تتوزع طاقته بدرجات مختلفة وبأشكال مختلفة ما بين مجموعة من البروج.

كما أن هذه الطباع هي إمكانيات فطرية كخامات الجواهر، وما لم يعمل الإنسان عليها لتطويرها بشكل إيجابي ستبقى دون صقل، وعلى سبيل المثال فإنه ليس كل من تكتلت طاقته في برج الأسد سيكون قائدًا حربيًا كنابليون، ولا كل من تركزت في الحمل سيبلغ مبلغ الإسكندر، ولا قدرة القوس الفائقة على التعلم كل الأقواس يستغلونها ويستثمرونها فيصيرون كتابًا ومفكرين وأساتذة جامعات.

خاتمة

ولأني أعرف أن القدماء قد اعتبروا الميزان، بيت هبوط الشمس، فقد تأملت في ذلك، ولا أحسبه قد أتى من فراغ؛ فالميزان هو أول بروج الخريف، والشمس هي صاحبة النار، التي كانت لها الكلمة العليا في فصل الصيف، ولأنه الأعلى هوائية؛ كونه برج هوائي الطبع، يقع في فصل هوائي الطبع، فهذه هي الفرصة الوحيدة لانتصار الهواء (الفكر والتأمل والحكمة والعدالة) على النار (القوة)، لتنضبط كفتا الميزان!

وكثيرًا ما لفتني أثناء تصفح أوراق التاريخ أن معاركَ تحققت فيها العدالة لصاحب الحق وليس صاحب القوة وقعت في زمن الميزان؛ كنجاة سيدنا موسى من فرعون وغزوة بدر ومعركة حِطين وحرب السادس من أكتوبر 1973، بينما يتجلى الاستئساد في أقوى صوره عندما يتزامن مع وقت الأسد؛ كارثتا هيروشيما وناجازاكي، على سبيل المثال!

وأتمنى أن تكون رحلتي التأملية في طباع البشر وفصول السنة قد راقت لكم، كما أتعشم أن ينقشع الشتاء سريعًا، فقد اتحد هواؤه وماؤه وترابه علينا، وغابت النار! وكقوسية نارية أعاني الأمرّين!

*******************************

أكتب هذا المقال بينما أسمع زعابيب إعصار التنين التي هبت على مصر وبعض بلدان المشرق العربي يوم الخميس 12 مارس 2020، والذي تخوف منه كثيرون، حيث تزامن مع تربيع القمر في وباله في الدرجة الأولى من العقرب وفي منزلة الإكليل (الطريق المحترق) مع زحل في الدرجة الأخيرة من الجدي، وهي سمة فلكية تتشابه جزئيًا مع الريح الصرصر العاتية التي أصابت قوم عاد ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:6-7]. ولكن الله رحمنا فكانت رياحنا مصحوبة بالمطر، وليست مبعوثة بالعذاب.

يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ

ولأبدأ بعرض رؤية فلكية لي عن توقيت الزمن الذي أصاب قوم عاد فيه العذاب، ووصفه في آية أخرى -غير آيتي الحاقة- بأنه كان يوم نحس مستمر ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] رغم أنه استمر ما يزيد على الأسبوع، والذي قيل إنه كان الأسبوع الأخير من الشهر العربي، وأنه بدأ يوم أربعاء وانتهى يوم أربعاء، ويوم الأربعاء هو يوم كارمي لتسديد الديون وتلقي الجزاءات.

واللافت لي أن الآية وردت في سورة القمر، وتُذَّكِر في أولها بالآيات والنُذر، وبعدها ورد ذكر عذاب قوم نوح، والذي يحكي الفلكيون العرب القدامى أن كواكبًا عديدة اجتمعت مع القمر في الحوت وهو أعلى الأبراج مائية، فهطلت الأمطار الغزيرة، وأضيف أنه ربما اقترب القمر من الأرض بشدة فجذب الماء من باطنها حتى تفجرت منها العيون؛ بسبب طاقته المائية التي نراها في ظاهرة المد في البحار.

 أما بالنسبة لقوم عاد، والذين ورد ذكر عقابهم بعدهم في السورة، فلمن لا يعلم فإن القمر في رحلته الشهرية حول الأرض يكون في وضع تربيع لزحل مرتين، إحداهما يكون فيها متزايدًا لم يصل للبدر بعد، والأخرى يكون فيها متناقصًا، وتقول العرب عن كلا اليومين الذين يحدث فيهما التربيع بين القمر وزحل إنهما يوما نحس، وخاصة عندما يكون القمر متناقصًا. أما ما أراه في تفسير "يوم النحس المستمر" فهو أن التربيع بين القمر وزحل قد استمر، فثبت القمر ولم يتنقل في المنازل، رغم أن الأرض بقيت تدور حول الشمس، ومن ثم كانت الشمس تشرق وتغرب، فبحساب الشروق والغروب فقد دارت الأيام والليالي، وبحساب ثبات القمر في وضعه واستمرار تربيعه لزحل كان يوم نحس مستمر.

وبالنسبة لما لقينا حتى الآن في سنتنا الكبيسة النحيسة 2020، فقد كان القدماء لا يحبون السنة الكبيسة وسنوات النسيء لأنها سنة تسوية كسور مستحقة، كما كانوا يتخوفون من السنة التي تبدأ يوم أربعاء، ويقولون إنها سنة كارمية؛ سنة سداد ديون، وسترتد فيها على كل إنسان أي إساءة فعلها في آخر يومًا ما، كما كانوا يقولون إن السنة التي تبدأ والقمر في الحوت هي سنة مرض وموت؛ لأن الحوت هو آخر دائرة البروج. وقد اجتمعت في سنة 2020 كل هذه العلامات!

العناصر الأربعة والطهارة

وبمناسبة هبوب هذه الرياح المحملة بالأتربة كثر الحديث عن التراب وأثره –إن هب- في تطهير الهواء من الأوبئة، فرأيت أن أعرض بعضًا مما أعرف عن اعتقاد القدماء في الطهارة وتعلقها بالعناصر الأربعة.

تعتبر العناصر الأربعة طاهرة في أصلها، وأشدها قدرة على التطهير النار، ولكنها اختصاص إلهي، يستحيل أن نتطهر نحن بها، ولكن يمكننا تطهير بعض أشيائنا بها. والهواء –وإن كان طاهرًا- لا يُمسك فلا قدرة على التطهر به، من ثم فنحن نتطهر بالماء، فإن غاب فعلينا التيمم بالتراب.

فالماء هو مطهر النجاسة، والماء طَهور كما وُصف في الحديث الشريف، وهو أصل التطهير والقاعدة الشرعية أن "الماء طاهر، ويُطهر غيره". وماء المطر هو أطهر الماء. يقول تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾. [الأنفال: 11].

وهذا إن كان المرء حيًا، لكن إن مات الحي فتغسيله بالماء قبل ملاقاة ربه واجب، ولكنه غير كاف، وهنا اختلفت الأمم ما بين الدفن في التراب أو الحرق بالنار -كما عند الهندوس- للتخلص من جثث الموتى، فإن لم تُدفن الجثث وتُركت في الهواء فالوباء والبلاء حال لا محالة.

وقالوا إن أكثر ما يحمل الوباء الهواء، وهو أضعف العناصر الأربعة، لذا كانوا يقولون إن هوائيي الطبع أضعف جسمًا من أصحاب الطباع الأخرى، بينما أقواهم بنية أصحاب الطبع الناري. ومن عجب أن قوم عاد الجبارين أهلكوا بأضعف العناصر!

وكما يفسد الهوى (العاطفة) الرأي (الفكر) يفسد الماء الهواء، ولأن زمن الشتاء زمن رطوبة، فالشتاء طبعه الماء كما سبق وأوضحنا، فهو يفسد الهواء ويكثر فيه الأوبئة التي تنتقل عن طريق التنفس، ولا يُخلَّص الهواء من سمومه وتلوثه إلا التراب، فما أفسده الماء في الهواء يصلحه التراب! لذا كانوا يفرحون إن هبت أتربة الربيع بعد شتاء ملئ بالوباء.

والتراب هو مطهر الوباء بوجه عام، وفي الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ, أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ".

لكن يبقى الماء هو الطاهر المُطهر لغيره، فإذا تنجس التراب ذاته يُطهر بالماء أو يُترك لنار وحرارة الشمس تطهره وتعيده طاهرًا كما كان.

الماء والحب!

ذكرنا أن الماء عند القدماء هو العاطفة والانفعالات. يقول تعالى في محكم كتابه: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان: 54]. وقد أثبت العلم الحديث أن 78% من كتلة جسم الإنسان ماء، وأن انفعالات الإنسان تزيد وتصل ذروتها عندما يكتمل القمر بدرًا، وربما هذا يوضح الحكمة من الأمر بصيام الأيام البيض أواسط الشهر العربي، وقد قال القدماء إن القمر طاقته مائية، تؤثر على مشاعر البشر، وطالما تغنى العربي تحت سماء الصحراء بأشعار الغزل على ضوء القمر وهو يذكر حبيبته، ونرى بأعيننا كيف تجذب طاقة القمر ماء البحر فتحدث ظاهرة المد.

ولمن لا يعلم فإن وعاء الماء في اللغة العربية الفصحى يُسمى الحُب! ولا زال في بعض لهجات العرب في العراق وغيره يسمون وعاء الماء الفخار الكبير –الزير في لهجة أهل مصر- بالحُب.

ولاعتقادهم قديمًا بأن السوائل التي نشربها تؤثر في مشاعرنا كانوا يحرصون أن يشرب كل من يعيشون في بيت واحد من وعاء ماء واحد، وربما يشرب أحدهم من باقي كوب الآخر، وفي الأثر أن سيدنا رسول الله كان يشرب من كوب السيدة عائشة، ويتتبع أثر فمها في الإناء.

ولم تكن كل أسرة نووية تطبخ أكلها وحدها، بل كان هناك مطبخ كبير لبيت العائلة، وكان سلق اللحم للعائلة كلها يتم في إناء واحد بحيث يكون المرق الناتج عن سلق قطع اللحم التي سيأكلها كل فرد من العائلة ممتزجًا، وكان هذا الحرص يصل لدرجة أن الإناء إن لم يسع كل اللحم لكثرة عددهم، فإما أن يسلق الجزء الباقي في إناء آخر، ثم يخلط المرق كله قبل التقديم، أو أن يُنتظر حتى يتم سلق الجزء الأول من اللحم، ثم يتم انتشاله من المرق، ووضع باقي الكمية ليتم سلقها؛ لذا كانت أواني الطهي كبيرة الحجم في البيوت لتجنب قسمة الأكل، ليس فقط لعدم إرهاق النساء، بل لأنه كان الاعتقاد بأن شربهم جميعًا من المرق نفسه الذي ذابت فيه قطع اللحم التي ستنمو منها أجسادهم سيجعلهم أقرب إلى بعضهم البعض، ويزيد المحبة والألفة بينهم. وكان أيضًا النهي عن أكل الطعام جافًا دون سوائل، وفي الأثر الذي رواه الطبراني "ائتدموا ولو بالماء".

رحلتنا للتعلم قاربت أن تنتهي

ولأننا قد بدأنا الحديث بهلاك قوم عاد فقد خطر لي أن أنهيه بأسطورة تتعلق بنهاية الكون، لا يكاد يعرفها أحد. في مقالي السابق عن الطباع الأربعة تحدثنا عن طاقة التجمعات النجمية التي تُعرف ببروج أو كوكبات السماء. ولكن ما لم أذكره في ذاك المقال أن البروج الإثني عشر تتوزع على ستة محاور، كل محور منها له طرفان هما البرج والبرج الرقيب له؛ فهناك محور (1، 7) وهو محور الحمل/الميزان، ويمثل الأنا والآخر، ومحور (2، 8) وهو محور الثور/العقرب، ويمثل المال الخاص والمال المشترك، ومحور (3، 9) وهو محور الجوزاء/القوس، ويمثل السفر القريب والتعليم الأولي في الجوزاء والسفر البعيد والتعليم العالي في القوس، وهكذا.

ولمن لا يعلم فإن مدار دوران القمر حول الأرض ومدار دوران الأرض حول الشمس يتقاطعان كأي دائرتين في نقطتين وهميتين، تُعرفان بالرأس والذنب، وعند درجاتهما يحدث الكسوف والخسوف، ويكون هذان الرأس والذنب متقابلين تمامًا على أحد المحاور الستة للبروج. والرأس يمثل البدايات بينما الذنب يمثل النهايات.

وتقول الأسطورة إنه عند لحظة بدء الكون كان الرأس في الجوزاء، والذنب في القوس، وبما أن محور الجوزاء/القوس هو محور السفر والتعلم، فالبشر في هذا الكون في رحلة للتعلم، وأنه عندما تقارب الرحلة على نهايتها وتقترب نهاية العالم فإن اتجاه الرحلة سينعكس، وسيبدأ الكون في التحرك تجاه القوس.

واللافت أن العلماء منذ سبعينات القرن الماضي رصدوا بالفعل أن مجرتنا بالكامل وكذلك باقي المجرات التي تنتمي إليها مجرتنا تتحرك في اتجاه مركز المجرة التي تقع خلف المجموعة النجمية لبرج القوس، وقدروا هذه الحركة بسرعة 600 كم في الثانية، ولا يعلمون يقينًا مصدر هذا الجذب، فهو مجهول الهوية، وإن كانوا يسمونه بالجاذب العظيم!

وإلى تأملات أخرى مع إعصار رحمة آخر إن شاء الله تعالى.

 

الاثنين، 7 يناير 2019

168-فضيحة حوار السيسي مع قناة CBS


فضيحة حوار السيسي مع قناة CBS
د/منى زيتون
الاثنين 7يناير2019


مساء يوم الخميس، الثالث من يناير 2019، انتشر خبر مفاده أن قناة سي بي إس CBS الأمريكية ستعرض مساء الأحد السادس من يناير 2019، حلقة من برنامج 60 دقيقة، كانت قد سجلتها مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رغم أن السفير المصري بواشنطن طالب طاقم البرنامج بعدم بث الحوار!
وعلى موقعها الالكتروني، أكدت القناة التليفزيونية الخبر بمقال عنوانه "المقابلة التي لا تريدها الحكومة المصرية أن تُبث".

ولعل الأعجب من مطالبة السفارة المصرية بواشنطن بعدم بث الحوار بعد أن سمحوا بإجراء المقابلة، هو أن هذا الحوار لم يتم تسجيله حديثًا، بل سُجِّل أواخر سبتمبر 2018، على هامش مشاركة السيسي في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك؛ فاللقاء أُجري بالفعل قبل ما يزيد على ثلاثة شهور، ونشرت صحيفة الفجر المصرية خبرًا عنه فجر الأربعاء 26/سبتمبر/2018 - 04:26 ص، بعنوان "الرئيس السيسي يجري حوارًا مع قناة "CBS" الأمريكية".
جاء في الخبر الذي نشرته الفجر: "أجرى الرئيس عبد الفتاح السيسي، حوارًا مع قناة CBS الأمريكية، بمقر إقامته في نيويورك، وذلك على هامش مشاركته في فعاليات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتناول خلاله مختلف الملفات الداخلية والإقليمية والدولية. واستعرض الرئيس السيسي، خلال الحوار، الرؤية المصرية تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية، فضلًا عن جهود مكافحة الإرهاب. كما تناول الأوضاع الداخلية، وإجراءات الإصلاح الاقتصادي التي اتخذتها الدولة المصرية".

لماذا وافق السيسي على إجراء الحوار؟
وفقًا لمقطع فيديو صور كواليس عمل فريق برنامج 60 Minutes في إعداد الحلقة التي استضافت السيسي، فبالنسبة لفريق عمل البرنامج كانت هذه فرصة عظيمة لأن يسألوه أسئلة لا يجرؤ أحد في مصر أن يسأله إياها، كما ذكر سكوت بيلي مقدم البرنامج في مقدمة الحلقة ذاتها –بعد بثها في الموعد المعلن عنه- أنهم فوجئوا بموافقة السيسي على إجراء الحوار معهم! ويبدو أنه بالفعل ليس على دراية بأسلوب البرنامج.

يبدو بدهيًا أنه، ولأن السيسي محب للظهور الإعلامي؛ فقد رحب باللقاء غير مدرك للفرق بين الإعلام الحقيقي في الدول التي يتمتع مواطنوها بحرية الرأي، والإعلام الموجه الذي يتعامل معه في مصر، والذي أصبح سمة لعصره؟! إعلامه الذي يتعامل هو معه باحتقار، ويُسيره، بل ويسمح لنفسه باستبدال الدور مع المذيع واستجوابه، وقد كان من المضحك أن السيسي في حلقة 60 دقيقة، نسي لحظة أنه يخاطب سكوت بيلي، وبدلًا من أن يجيب على سؤاله، تصور أن بإمكانه أداء دور المذيع وطرح الأسئلة كما يفعل في مصر؛ إذ قال لسكوت: "أنا عايز أسألك، هل أنتم متابعين الموضوع ده كويس؟!".
طلب السيسي أسئلة المقابلة قبل إجرائها، وحدثت مداولات لمدة شهر كامل، رفض فيه فريق العمل تمامًا هذا الإجراء؛ لأن هذه ليست الطريقة التي يُدار بها البرنامج. بالرغم من ذلك وافق السيسي على إجراء المقابلة، وأكمل الحوار رغم توقعات طاقم البرنامج المسبقة أنه ربما يرفض الإجابة على بعض الأسئلة إلى درجة إلقاء الأوراق ومغادرة المكان!
ويبدو أن السيسي تحلى بأقصى درجات ضبط النفس أثناءء إجراء الحوار، لكنه انفعل بعد انتهائه على مدير المخابرات العامة عباس كامل، والسفير المصري في واشنطن، مطالبًا إياهما بمنع بث المقابلة المسجلة.

لماذا يتم بث الحوار الآن؟!
محاولات منع بث الحوار أعلنت عنها القناة بعد شهور من الاستجابة لذلك الطلب على ما يبدو! وتبدو أسباب طلب السفير المصري منع بث البرنامج واضحة، فالسيسي من جهة بدا مرتبكًا، ولغة جسده فاضحة، ومن جهة أخرى فقد صرّح بالتعاون المصري الإسرائيلي في مجال القضاء على الإرهاب في سيناء، على عكس النفي المصري السابق لذلك، وواجهه المذيع ببيان وزير الداخلية المصري محمد إبراهيم عن أعداد الأسلحة البسيطة التي تم ضبطها في اعتصام رابعة العدوية، في أغسطس 2013، والتي تؤكد أن الاعتصام لم يكن مسلحًا بالدرجة التي تحتم حدوث مواجهات تودي بحياة 800 شخص، كما واجهه بأعداد المساجين السياسيين في مصر التي تصل وفقًا لتقدير هيومن رايتس ووتش إلى 60 ألف سجين سياسي.

لكن الأهم، وهو ما يثير تساؤلًا أقوى، هو الأسباب التي تقف وراء تغير نهج القناة وقناعاتها حول قيمة بث تلك المقابلة المهلهلة، بعدما استجابت في البداية بعدم بثها، وهل كان هذا فقط لأجل مزيد من الدعاية المجانية للبرنامج الشهير، وإظهار أن رئيسًا لا يثق في إمكانياته، ولديه العديد مما يمكن أن يؤاخذ عليه، قد غامر بالموافقة على إجراء حوار معهم؛ لأجل الانضمام لقائمة كبار القادة الذين يحاورهم البرنامج؟!
كان من اللافت في المقابلة أن التقرير الصوتي المصاحب للحوار القصير للغاية الذي تم الإبقاء عليه ليُبث من مجمل اللقاء مع السيسي، قد جاء على سيرة الحادث الإرهابي الذي وقع لأتوبيس سياحي في منطقة الأهرامات أواخر ديسمبر 2018، وهو يؤكد حداثة هذا التقرير الذي تم إلحاقه بالمقابلة، ومن ضمن ما أُشيع أن المخابرات الأمريكية حصلت على معلومات مؤكدة حول الأربعين سجينًا سياسيًا، الذين قام النظام بتصفيتهم في اليوم التالي للحادث، بادعاء أنهم الإرهابيون الذين قاموا بالعملية الإرهابية.
ومعلوم أن شبكة سي بي إس CBS تتبع الديمقراطيين، الذين صارت لهم أغلبية في الكونجرس الأمريكي مؤخرًا، ويهدفون إلى إظهار أخطاء سياسة الجمهوريين الخارجية، ومن المنطقي أن يكون السيسي من أهم النماذج التي تُظهر مراهنة ترامب على حصان خاسر، لا قيمة له، ولا فائدة من وراء دعمه، خاصة وأن هذا الخاسر يتلقى معونات أمريكية مادية كبيرة.

محتوى المقابلة
جاءت المقابلة مختصرة للغاية، في أقل من أربع عشرة دقيقة، وتعتمد بالأساس على التقرير الصوتي الذي أعده وتلاه سكوت بيلي، وبعض الحوارات القصيرة مع الضيوف، وفقط بضع أسئلة قصيرة وُجهت للسيسي!
بدايةً، فقد سُئل السيسي عن المعتقلين السياسيين، فأنكر وجود أي سجناء سياسيين أو سجناء رأي في مصر! وادعى أن جميع من يحتجزهم إرهابيين متطرفين، يحاولون فرض أفكارهم على الناس، وأنهم يتلقون محاكمات عادلة، وسط إجراءات قانونية، لكنها تحتاج إلى وقت طويل، قد يستغرق أعوامًا.
واجهه المذيع بالأعداد التقديرية التي حددتها منظمة هيومن رايتس ووتش بستين ألف سجين سياسي في مصر، فأنكر، وتعجب أن من أين أتوا بهذا الرقم؟!
يأتي هذا الإنكار من قِبل السيسي، رغم أن نظامه أفرج عن مصريين أمريكيين كانوا محتجزين في مصر، أحدهم كان ممن أُجري معهم لقاء في الحلقة ذاتها! لكن يبدو أن السيسي لا يعتبر أسباب احتجازهم سياسية!
منظمة العفو الدولية بدورها، وبعد الإعلان عن موعد بث الحلقة، أعادت نشر تقريرها الصادر عن مصر منذ أشهر، والذي وصفت فيه مصر بأنها سجن كبير، وأن القمع وصل لأعلى مستوياته فيها في عهد السيسي.
وكم كنت أتمنى أن يتطرق الحوار إلى الإجراءات التعسفية التي استخدمها السيسي لمنع خصومه السياسيين من الترشح أمامه في مهزلة انتخابات الرئاسة المصرية 2018، ولكن كلام المذيع عن السجناء السياسيين كان عامًا لم يميز بين الآلاف من الشباب المحتجزين في سجون السيسي وبين كبار السياسيين المسجونين أو المقيدة حركتهم، باستثناء الفريق عنان الذي جاء ذكره في التقرير بشكل عابر، باعتباره أكبر منافسيه السياسيين –وفقًا للتقرير-، الذين تم حبسهم لمنعه من الترشح، رغم أن الإجراءات التي حدثت مع الفريق شفيق لمنعه من الترشح لا تقل تعسفًا، وشعبية شفيق تفوق شعبية عنان في الشارع المصري بمراحل، والذي كان بحق يُعتبر أكبر وأهم منافسي السيسي.

ثم عرض التقرير المصاحب للحوار، لاعتصام الإخوان المسلمين في ميدان رابعة العدوية، بعد إطاحة السيسي بالرئيس المنتمي إلى جماعتهم، محمد مرسي، وهو الاعتصام الذي تم فضه بالقوة الجبرية، وقُتل فيه وفقًا لتقديرات المنظمات الدولية حوالي 800 شخص.
أشار التقرير إلى التناقض بين اعتبار نظام السيسي جماعة الإخوان جماعة إرهابية، وبين رفض الأنظمة الأمريكية المتعاقبة إدراج الجماعة على لائحة الجماعات الإرهابية! وأعطى التقرير لمحة عن تكوين الجماعة، وعن تمادي السيسي في قمعها في سنوات حكمه، قبل أن يتوسع ليقمع المعارضة العلمانية هي الأخرى!
شرح التقرير أيضًا باختصار كيفية وصول السيسي إلى حكم مصر، وكيف استغل السيسي محاولة الإخوان في عام حكمهم الاستئثار بالحكم، والسخط الشعبي عليهم، في إزاحتهم.
شملت الحلقة أيضًا حوارًا قصيرًا عن الإخوان وقمع السيسي للمعارضة المصرية بكافة أشكالها، مع أندرو ميلر، مسئول ملف مصر السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، الذي رأى أنه ليس كل أعضاء الجماعة قد لجأت للعنف.
كان هناك حوار قصير آخر بين سكوت بيلي وعبد المجيد درديري نائب البرلمان المصري أثناء حكم الإخوان المسلمين، والذي اتهم السيسي بأنه قوّض حلم المصريين في الحرية.
في الجزء القصير من المقابلة التي حاور فيها سكوت السيسي حول الإخوان، قال السيسي إن الشعب المصري رفض التشدد الديني المتمثل في الإخوان. سأله سكوت بيلي إن كان قد قام بتجريم جماعة الإخوان لأنهم أكبر جماعة معارضة لحكمه فحسب، فأنكر السيسي، وادعى أنه يتعامل فقط مع المتطرفين ممن يحملون السلاح، ويدمرون الاقتصاد المصري. أخبره سكوت بأن هناك مصريين يرفضون تسميته بالرئيس، ويقولون إنه ديكتاتور! فضحك السيسي، وقال إنه فقط استجاب لرغبة 30 مليون مصري تظاهروا رفضًا لحكم الإخوان، وإنه اضطر لاتخاذ إجراءات لاستعادة الأمن.
تطرق التقرير المصاحب إلى فض اعتصام رابعة العدوية، ثم كان حوار بين سكوت ومحمد سلطان، المصري الأمريكي، الذي أصيب في فض اعتصام رابعة العدوية، واعتقل في سجون السيسي بعد ذلك، قبل أن يُفرج عنه، وينتقل للإقامة في أمريكا.
عاد بعدها سكوت بيلي لمحاورة السيسي، سائلًا إياه إن كان قد أعطى الأوامر بفض اعتصام رابعة العدوية باستخدام السلاح، فاتهمه السيسي اتهامًا ضمنيًا بأنه غير متابع للأوضاع في مصر، وشكك في مصادر معلوماتهم في إعداد البرنامج، وأخبره بأن الاعتصام لم يكن سلميًا بل كان مسلحًا، وأنه فشل في فضه بالطرق السلمية. ثم كذّب السيسي ما جاء في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" عن استخدام الأسلحة لقنص المعتصمين أثناء الفض.
عرض سكوت بيلي بعدها جزءًا من بيان وزير الداخلية المصري، وقت فض اعتصام رابعة، محمد إبراهيم، والذي أعلن فيه العثور على 12 قطعة سلاح فقط في الاعتصام، ثم عرض جزءًا من تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية يصف القتل والتعذيب في السجون المصرية.
عاد الحوار مرة ثانية بين سكوت ومحمد سلطان، الذي حكى خبرته عن الحبس الانفرادي في السجون المصرية، الذي يُعد أحد أساليب التعذيب في حد ذاته، إضافة إلى أساليب مصاحبة له، كالإضاءة المركزة للمنع من النوم، وحكى عن شفرات الحلاقة التي كان الحراس يمررونها له، ويشرحون له كيف يستخدمها لقطع شرايين يده وإنهاء حياته.
وصف التقرير ما يفعله قمع السيسي في مصر –وفقًا لأندرو ميلر- بأنه يجعل مصر أكثر عرضة للانفجار، بسبب المحاكمات والإعدامات الجماعية، على عكس ما يصور السيسي. كما أنه وعلى عكس ما يرى السيسي فإن مصر لم تحظ بالاستقرار في عهده، فالدولة تنهار ومستوى المعيشة ينخفض. أشار ميلر أيضًا لتنامي تنظيم داعش في سيناء في عهد السيسي، وعدم تمييز النظام المصري في السجون؛ فالنشطاء السلميون يُحبسون إلى جانب المتشددين، وهو ما يعمل على تحويل عدد أكبر من المصريين إلى متطرفين.

ثم أشار التقرير بصوت سكوت بيلي إلى الحادث الإرهابي الذي استهدف أوتوبيسًا سياحيًا في منطقة الأهرامات، أواخر ديسمبر الماضي، وفي اليوم التالي قتلت قوات الأمن المصرية 40 شخصًا مدعية أنهم منفذو الحادث الإرهابي! هذا الجزء من التقرير تحديدًا يؤكد أن التقرير المصاحب للحوار القصير للغاية الذي تم استبقاؤه وعرضه من مقابلة البرنامج للسيسي، تم إعداده منذ أيام لا أكثر، لاستكمال المعلومات التي تم حذف الحوار مع السيسي عنها.
ذكر التقرير أيضًا حادثة مقتل أكثر من ثلاثمائة مسلم في مسجد الروضة بشمال سيناء في يوم الجمعة الموافق 24 نوفمبر 2017، على يد الجماعات المتطرفة، وحادثة إرهابية أخرى حدثت في إحدى الكنائس المصرية.
ولأول مرة –وهو ما يُسجل لسكوت بيلي- يعترف السيسي رسميًا أثناء المقابلة، بوجود تعاون عسكري بين الجيشين المصري والإسرائيلي في سيناء. وبعد اعترافه بالتعاون العسكري مع إسرائيل، سأله سكوت بيلي عن فشله في القضاء فقط على ألف إرهابي من تنظيم داعش في سيناء، فرد السيسي عليه بسؤال –وهو يبتسم!- عن سبب فشل الولايات المتحدة في اقتلاع الإرهاب من أفغانستان رغم السنوات الطوال وحجم الإنفاق الهائل!

كلام السيسي حمل إهانات ضمنية للجيش المصري، فهو عاجز عن القضاء على الإرهاب في سيناء عبر سنوات، رغم كل صفقات الأسلحة التي أتمها السيسي، عجزًا حمله على التعاون مع إسرائيل والسماح لها بشن حملات في سيناء بدعوى مكافحة الإرهاب معه، بفتح سماء مصر أمام إسرائيل، وهو استكمال لأهم ما فعله السيسي عبر سنوات، بتغيير عقيدة الجيش المصري والشعب المصري حول عدوه الأول، والذي يُعد التغيير الغامض، والذي يمكن أن يُوصف أيضًا بالغبي، في ظل ثبات موقف إسرائيل العدائي تجاه العرب بوجه عام، ومجاهرتها بمشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
فهل يُسمح لطيران دولة تضع عينها على أراضينا باقتحام سمائنا؟ وهل نتعاون مع مخابرات دولة تهدف وتسعى إلى احتلالنا؟! ومنذ متى كانت إسرائيل تهدف إلى المساعدة في تأمين مصر والقضاء على أعدائها؟! وهل يوجد حقًا ما يبرر هذا التطبيع العسكري؟!
والتساؤل الذي بات يطرح نفسه بشكل ملح هو هل النظام المصري وإسرائيل يبذلان جهودًا كافية للقضاء على الإرهاب في سيناء أم أنهما مستفيدان منه لإيجاد مبررات لعملياتهما المهيئة لصفقة القرن؟
وهل كان منع التغطية الإعلامية لحملة الحرب على الإرهاب في سيناء محاولة من النظام للتعمية على التعاون العسكري المصري الإسرائيلي فيها، والذي انفضح في الحوار مع CBS؟
ما يفعله السيسي الآن كان لا يمكن أن يُوصف بأقل من الخيانة العظمى منذ سنوات، وهو إضافة لهذا غريب؛ فتسامحه العجيب تجاه إسرائيل يُقابله عداء غير مبرر لدول إسلامية كبرى كإيران وتركيا، فإن كانت تركيا تدعم حركة الإخوان المسلمين، وهو ما يجده السيسي مبررًا كافيًا لعدائها، فلا يوجد مبرر إطلاقًا للعداء الذي تظهره أنظمة مصر والسعودية، تجاه إيران، وتصويرها بصورة شيطان المنطقة، سوى أنه استجابة للتوجه الأمريكي نحوها، والذي يسعى دومًا نحو تحجيمها، فإن كانت أمريكا لا تملك أسبابًا طائفية لذلك العداء، فلدينا من يؤجج الفتن الطائفية ويبالغ فيها تجاوبًا مع ما تريده أمريكا.
جميعنا يعلم أن هناك مدنيين كُثر قُتلوا وتهدمت منازلهم وهُجِّروا كجزء من هذه الحملة المزعومة ضد الإرهاب، والتي لم نلمس لها نتيجة إيجابية تُذكر. والأهم أن الجيش المصري عبر متحدثنا العسكري كان قد نفى سابقًا مرارًا مشاركة إسرائيل فيما يُسمى بالحملة على الإرهاب في سيناء، بما يعني أن نظام السيسي كان يكذب على شعبه!
إهانات السيسي للجيش المصري في الحوار لم تكن الأولى، فقد استطاع تحويل الجيش المصري في عيون المصريين والعرب إلى جيش مختص بتعبيد الطرق وبناء الكباري والإشراف على تنفيذ وبيع منتجات استهلاكية! وهل هناك إهانة يمكن أن تُوجه إلى جيش مصنف عالميًا أكثر من هذه؟! وهل كانت إسرائيل تحلم بما يسمح به السيسي؟!

بعد حديث السيسي عن الإرهاب في سيناء مبررًا فشله، عاد سكوت بيلي لتلاوة تقريره، وركز على ما أحسبه الهدف الرئيسي من بث المقابلة، فذكر لقاء ترامب مع السيسي والملك سلمان لفتح مركز سعودي ضد التطرف، عام 2017، ثم يتعجب سكوت من أن ضباطًا سعوديين قد قتلوا صحفيًا وصاحب عمود في الواشنطن بوست هو جمال خاشقجي! ويعجب كذلك من اعتبار وزارة الخارجية الأمريكية السيسي مسئولًا عن الاختفاءات القصرية والتعذيب في مصر!
تساءل سكوت بيلي بعد ذلك عم يمكن أن يجعل الاستثمار في حكومة السيسي أمرًا ذا جدوى؟ رد السيسي بأنه استثمار للأمن والاستقرار لكامل المنطقة، وهو ما يلزم الولايات المتحدة باعتبارها مسئولة عن الأمن في العالم!
واجهه سكوت بأن نقّاده في الكونجرس والأمم المتحدة يقولون إنه احتجز الآلاف وقتل المئات من غير المسلحين، ومن ثم فإن يديه ملطخة بالدماء. أعاد بعدها السيسي الادعاء بأنه يتعامل مع متطرفين قتلة.
فكعادته، حرص السيسي على إلقاء اللوم على الشعب المصري، وهي الصورة التي يصدرها السيسي دومًا عن المصريين للإعلام المصري والأجنبي؛ فهناك الآلاف من المتطرفين والإرهابيين والعنصريين والفاسدين في الشعب المصري، وهناك الكثير من العاطلين بسبب الشعب الكسول وليس الإدارة الفاشلة، فهل الشعب هو من يقترض مليارات ويقرر إنفاقها في مشاريع سفيهة لا عائد لها ولا ربحية؟! وهل الشعب هو المسئول عن قرار إنشاء تفريعة قناة السويس الجديدة أم عن تشييد العاصمة الإدارية في قلب الصحراء؟! وهل الشعب من يصدر قرارات استجابة لشروط صندوق النقد الدولي قضت وستقضي على بقايا الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري؟ أم أن هذه مخلفات عهد مبارك كما يدعي أنصار السيسي؟! لقد تضاعف الدين المصري في عهد السيسي حتى بلغ أرقامًا فلكية!

ختم سكوت تقريره بلوم خفي للإدارة الأمريكية الحالية التي تتغاضى عن قمع السيسي للمصريين الذي يمكن أن يتسبب في ثورة جديدة، لأن ترامب يتفهم أولوية مواجهة الإرهاب الذي يدعي السيسي أنه يحاربه! ثم ذكر سكوت -بشكل عابر- أن هناك مناقشات في البرلمان المصري حول مدة الرئاسة ليُسمح للسيسي بالاستمرار في الحكم.
وفيما يخص تعديل الدستور المصري، فقد أثبت السيسي مرارًا للمصريين أنه لا يعترف سوى بسلطة القوة لأجل تحقيق أهدافه، مهما تعارضت مع القانون والدستور. وحديث أنصاره عن ضرورة فتح مدد الرئاسة، أو تعيينه رئيسًا مدى الحياة، أو إنشاء مجلس رئاسة أعلى برئاسته يرن في آذاننا!

أخيرًا، فقد كانت المقابلة بوجه عام منصبة على انتهاكات السيسي في حق الإخوان المسلمين، واجترار ذكريات فض اعتصام رابعة العدوية، وفقط اعتصام رابعة، فلا حديث عن مسئولية السيسي أو غيره من المجلس العسكري عن انتهاكات أخرى في حق أي فئة أخرى من المصريين، وكان كلا الضيفين المصريين الذين حاورهما المذيع ينتميان إلى الجماعة، كما أعطى الضيف الأمريكي صورة إيجابية عنها.
وكان غياب الحديث عن انتخابات الرئاسة المصرية الماضية، والحديث عن تعديل الدستور، من أكثر ما لفتني في الحوار؛ فالمفترض أن الانتهاكات التي منعت أحدًا ذا شأن من الترشح أمام السيسي لدورة رئاسية جديدة، ثم الحديث عن تعديل الدستور أو إيجاد أي سبيل قانوني ليبقى السيسي جاثمًا على كرسي الحكم في مصر، أهم من اجترار ذكريات الماضي، فالحاضر والمستقبل أجدر بالنقاش، أو لنقل إنه ليس من المنطقي إغفالهما! لكن يبدو أن فريق الإعداد كان له رأي آخر!


لغة الجسد أثناءإجراء الحوار
موقف السيسي خلال الحوار جاء مختلفًا تمامًا عما اعتاده منه المصريون في التعامل مع الإعلاميين المصريين الذين حاوروه عبر سنوات، فقد جلس جلسة التلميذ المهذب أمام أستاذه، وكانت تعبيرًا عن الصَغار الذي يشعر به أمام الغربيين على النقيض التام من استعلائه علينا!
بالرغم من اقتطاع أجزاء كبيرة من الحوار، والتي سبق أن شاهدناها في مقاطع وصور تم تسريبها قبل أيام من عرض المقابلة شديدة القصر، فكلنا قد شاهدنا لغة الجسد في الحوار، خاصة تعبيرات الوجه، والتي كانت أكثر من فاضحة، حتى أننا شاهدنا في صور الأجزاء المقتطعة منه احمرار الوجه أحيانًا إلى درجة الاحتقان وتصبب العرق.

محاولات تخفيف تأثيرات الحوار
تم قص الحوار كما كان متوقعًا، وبلغ طول الفترة المخصصة للسيسي في الحلقة أقل من ربع الساعة! وجاء أغلبها كتقرير إخباري مصاحب لمقتطفات قصيرة للغاية مما تكلم به السيسي خلال الحوار الكامل الذي لم يُبث، ولا نعلم هل سنتمكن من مشاهدته كاملًا يومًا ما.
وكان قد سبق يوم بث الحوار نشر إشارات تفيد بأن ما صرح به السيسي عن التعاون العسكري المصري الإسرائيلي في سيناء قد سبب حرجًا لإسرائيل، وربما يُعرِّضها إلى اتهامات ادعاء المشاركة في شن جرائم حرب. لأجل ذلك توقعنا أن تضغط إسرائيل كي تتم قصقصة الحوار، وبث جزء بسيط منه، منعًا للحرج الذي يمكن أن يحدث للقناة في حال عدم بثه مطلقًا، بعد الإعلان عنه.
كما تسربت أنباء أيضًا، عن التنبيه على قنوات الإعلام المصري، بعدم الإشارة إلى الحوار مطلقًا، وكأنه لم يكن.
من جهة أخرى، وربما لأن نظام السيسي لا أمل فيه بكل معنى الكلمة، فقد حدثت أيضًا محاولة تفجير كنيسة بالقاهرة بمدينة نصر، كان يُعد لها أن تكون ليلة 6-7 يناير التي تم بث حلقة البرنامج فيها، ولكن لعبت الصدفة دورها في كشف القنبلة وقت زراعتها قبلها بليلة، في المسجد المجاور للكنيسة، واستشهد ضابط شرطة المفرقعات أثناء محاولة تفكيك القنبلة! والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل لهذه القنبلة علاقة ببث المقابلة؟!