السبت، 4 ديسمبر 2021

269-استخدام التبصير في المكائد!

استخدام التبصير في المكائد!

د. منى زيتون

الخميس 2 ديسمبر 2021

وعلى المثقف، السبت 4 ديسمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959879

 

من قديم الزمان ولتخوف البشر مما هو قادم وغائب عنهم سعوا في محاولة فك رموز أشياء مختلفة لأجل استخدام تلك الرموز ذات الأشكال المتنوعة والمتعددة في استشراف الغيب والتبصر بالمستقبل؛ فيما عُرف باسم التبصير.

ومن طرق التبصير الشائعة لدينا في البلاد العربية قراءة رموز بقايا فنجان القهوة، وهي تحوير لطريقة صينية قديمة في التبصير، لا زالت تُستخدم في الصين وتُستخدم أيضًا في الدول الأوروبية؛ وهي قراءة الرموز التي ترسمها بقايا تفل الشاي الأخضر. وهذه الطريقة قائمة على الاعتقاد بأن ريقنا مكتوب عليه قدرنا وحوادث حياتنا القريبة؛ ومن ثم فمن يستخدمونها مؤمنون بأن رموزًا ‏ما يكتبها هذا الريق وهناك من يستطيع أن يقرأها.

وهناك من العرافات من تقرأن الأشكال التي يكونها الودع والأصداف البحرية، فتقذفنها على الأرض وتدعين دلالات لطريقة توزيعها، وهناك من يقرأون خط الرمل أو خط الملح، أو يكتبون رموزًا على بيضة ويدورنها بطريقة معينة ويقرأون من الزوايا التي تظهر! وغيرها من الطرق التي تستخدم لاستكشاف المستقبل القريب. بينما قراءة خطوط كف اليد هي طريقة تقوم على الاعتقاد بأن تاريخ أهم حوادث حياة الإنسان ككل مكتوب على كفي يديه، فيعطي القارئون بهذه الطريقة تنبؤات عامة عن حياة الإنسان.

وهناك من تقرأن رموز أوراق التاروت، وهي بطاقات مرسومة تتكون من 78 بطاقة والمكونة من جزئين؛ الجزء الأول منها هي الأوراق العظمى أو بطاقات السر الكبير، وعددها 22 بطاقة، وتتحدث عن مراحل حياة الإنسان الكبرى، وتبدأ بورقة الأحمق the fool الذي يبدأ رحلته في الحياة منفتحًا عليها آملًا فيها الخير دون تخوف مهما كانت المخاطر التي لا يشعر بها! وتُعطى الرقم (0)، وتنتهي بورقة العالم والتي تأخذ الرقم (21)، وتمثل اكتمال الرحلة، ويعتقد قراء التاروت أن أوراق السر الكبير تُعبر عن توصيف عام للمرحلة التي يمر الإنسان بها في حياته.

أما القسم الثاني من هذه البطاقات فهي بطاقات السر الأصغر، وعددها 56 بطاقة، وتتشكل من تفاعل العناصر والطباع الأربعة (النار، والتراب، والهواء، والماء) مع الأرقام العشرة، إضافة لطاقات الجنود والفرسان والملكات والملوك، وتعبر عن حوادث الحياة اليومية، وكما سبق وأوضحت في مقالات سابقة عن فلسفة الطباع الأربعة فإن النار تمثل الروح، فهي تتعلق بالجانب الروحي، ورمزها العصا، والتراب يمثل المادة، ويتعلق بالجانب المالي والصحي، ورمزه الدرهم، والسيف يمثل الهواء، ويتعلق بالجانب الفكري، ورمزه السيف، والماء يمثل العاطفة، فهو يتعلق بالجانب الانفعالي، ورمزه الكأس.

وعن نفسي فأنا أؤمن بعلم الفلك على أساس علمي، وبالمناسبة فهو ليس حظك اليوم وما على شاكلته، بل هو ‏علم كبير للغاية، استدل به العرب في الجاهلية على تغيرات المناخ، وكان للعرب في العصر العباسي إسهام كبير في تطوره وكانوا يعرفونه بعلم الهيئة، ووفقًا لنسبية أينشتين فالكون هو نسيج مترابط، ويقول قانون الجذب العام لنيوتن إن التجاذب والتأثير عام في ‏الكون، وهو بين أي جسمين ماديين يتناسب طرديًا مع كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما، ووفقًا لنسبية أينشتاين أيضًا فكل ما في الكون مادة أو طاقة، وكل الأجسام تنبعث منها طاقات، وهو ما شكل أساسًا لاكتشاف الطاقة النووية المختزنة في أنوية ذرات عناصر المواد المختلفة، ‏والأمر بحاجة لشرح يطول.

وأنا لم أقصد بفتح باب الحديث في هذا الموضوع أن أحاكم أحدًا؛ فكل إنسان حر فيما يعتقد، وإن كان غيره يعتقده حرامًا، والمهم ‏أن لا يؤذي أحدًا بأفعاله. وإنما دافعي لفتح هذا الباب شيء آخر.

منذ سنوات وفي حوار مع بعض الصديقات من أهل الشام تطرق الحديث إلى انتشار التبصير بين علية القوم في بلادهن، إلى درجة أنه صار يستخدم كوسيلة أساسية في كيد النساء وفي تنفيس الأحقاد ومحاولة تغيير فكر ومسار البشر.

فإن كانت امرأة لا تريد لابنها أن يتزوج فتاة معينة، فما عليها إلا أن تعطي البصَّارة -سواء كانت قارئة الفنجان أو التاروت أو غيرهما- مالًا، وتطلب منها أن تخبره أن هذه الفتاة سيئة أو حتى أنها جيدة ولكن لا تناسبه ولن يتوافقا، أو غيرها من الأسباب.

وإن كانت زوجة أخ تريد أن توقع بين أخيها وزوجته تطلب من البصَّارة أن تخبره بكيت وكيت.

ويستخدم هذا التلاعب أيضًا في الترغيب؛ فربما أرادت فتاة أن تراها أم الشاب الذي تحبه فتاة مثالية، فتعطي البصَّارة مالًا لتقول لها ذلك.

ووصل الأمر حد الشئون السياسية، ويُحكى في لبنان أن أحدهم نزع فكرة تكوين حزب سياسي من رأسه بعد أن أعطي خصومه السياسيين مالًا للبصَّارة التي تقرأ له.

ومن خلال عملي في مجال الاستشارات الاجتماعية، فقد بدأت أشك بقوة في الآونة الأخيرة أن هذه العدوى قد وصلتنا في مصر بسبب قدوم نساء تعملن بالتبصير من سوريا تحديدًا بعد النكبة السورية؛ فمن خلال العديد من الحالات الاجتماعية أكاد أجزم بأن ألاعيب البصارات والحموات كانت سببًا في توقف الحال فلم يتم موضوع زواج أو عودة مطلقين، رغم رغبة كلا الطرفين في الآخر.

والخلاصة أن هناك من يؤذون الناس بأشكال مختلفة كالمكائد والوقيعة والسحر، وغيرها. وهؤلاء لا يمكن مساواتهم بالفئة الأولى ممن تحدثت عنهم في بداية المقال؛ ففرق كبير بين أن تطلب امرأة أو رجل من إحدى القارئات أن تقرأ الفنجان أو الودع أو التاروت أو غيره، وبين أن تطلب منها امرأة أن تخبر فلانة أو فلانًا بأن كذا كذا وكيت وكيت وكيت؛ لأجل الوقيعة أو حتى تحصيل المنفعة، والأدهى والأمر من هذا التلاعب هو السحر، وهو كفر بقدر الله ومحاولة تغييره، وقد سبق وتطرقت إليه في مقال آخر.


الثلاثاء، 9 نوفمبر 2021

268-التطرف العرقي

 

التطرف العرقي

د/منى زيتون

الثلاثاء 9 نوفمبر 2021

وعلى المثقف، الأربعاء 10 نوفمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959380

في العصر الحديث يغلب الحديث عن التطرف الديني عند ذكر التطرف؛ فالظاهر لمن يتابع قضية التطرف وما ينشأ عنها من آثار أن النوع الغالب منها هو التطرف الديني؛ الذي ينبني على اعتقادات وأحكام فقهية في دين ما –على فهم المتطرفين- للانتقاص من الآخر المخالف، وربما بقي التطرف فكريًا، وربما تطور ليصبح إرهابًا. لكن إن دققنا لوجدنا أن كثيرًا من المشاكل بين الجماعات التي نظن أن أسبابها ترجع إلى تطرف ديني إنما تكون جذروها هي التطرف العرقي!

ومن يظن أن التطرف الديني مقيتًا فعليه أن يقارنه بالتطرف العرقي، فعلى الأقل تجد المتطرفين دينيًا بعضهم يحمل رأيًا علميًا يتعصب له، أما المتطرفون عرقيًا فقبائليون لا يعرفون سوى أنسابهم ويجهلون ما سوى ذلك، ومجرد قراءة بعض مما يكتبون كفيل بإصابة العاقل بالغثيان.

وبداية لا بد أن نميز بين مصطلح العِرق ومصطلح الإثنية. والإثنية Ethnic مصطلح يستخدم حاليًا في العلوم الاجتماعية للدلالة على شكل من أشكال الهوية الثقافية التي تربط الجماعة؛ وسبب انتماء الفرد إلى جماعة إثنية يختلف باختلاف تركيب الجماعة؛ فقد يكون الأساس المشترك الذي تقوم عليه الجماعة الإثنية وتتحدد على أساسه هويتها هو الدين الواحد أو الجهة الجغرافية أو الهوية القومية الواحدة أو اللغة الواحدة أو العِرق المشترك.

فالجماعة الإثنية مهما اختلف تركيبها لديها عوامل تشعر أفرادها بالتضامن والترابط؛ وهي تتشابه في ملامح التراث الثقافي السائد (الزي والطقوس والعادات وطرق الطهي والفنون وغيرها)، وتشترك في اللغة، وقد تشترك في التاريخ والإقليم الجغرافي الواحد أو الوطن الواحد، إضافة إلى السلف الواحد، والأخير تحديدًا هو ما يُطلق عليه مصطلح "عِرق" Race، ويُستخدم للإشارة إلى السلالة البشرية التي ينتمي إليها الأفراد، وهو مؤسس على الوراثة. وليست كل مجموعة إثنية تشترط النقاء العرقي، فمصطلح الإثنية يستند بالأساس إلى الملامح الثقافية المتشابهة وليس التشابه البيولوجي الصارم.

وقد يكون تطرف البشر ناتجًا عن أحد عوامل التشابه التي تتألف بسببها الجماعات الإثنية، ولكن يعد العِرق السبب الأكثر انتشارًا للتطرف من بينها. ونلاحظ أن الله تعالى في كتابه العزيز اعتنى بلفت النظر إلى دور العرقيات والشعوبيات في صراعات البشر، فقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]. وقد أعجبني ما قال الطبري في معنى الشعب: "إذا قيل للرجل من العرب: من أيّ شعب أنت؟ قال: أنا من مضر، أو من ربيعة". فالشعب فرع كبير أكبر من القبيلة، ويجمع عددًا كبيرًا من القبائل، وهو أقل من الأصل. فالأصل إننا بشر من ذكر وأنثى، ثم إننا من عرق كبير، ثم من شعب، وكل شعبة انقسمت إلى قبائل، ولكن الناس لا تهتم سوى بالقبائل وتتناسى الأصل.

وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا عن التطرف العرقي، وأرشد الناس إلى التركيز على العمل الصالح، ومن ذلك ما أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378)، فعن أبي هريرة، سُئِلَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: "أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ". قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ، قالَ: "فَعَنْ معادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعادِنُ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الإسْلَامِ إذَا فَقُهُوا".

كما أخرج أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/100)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5137) عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ".

ويقول سيدنا علي بن أبي طالب:

كن ابن من شئتَ واكتسب أدبًا *** يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ

فليسَ يُغني الحسيبُ نسبته *** بلا لسانٍ له ولا أدبِ

إن الفتى من يقولُ ها أنا ذا *** ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي

 

اللغة أساس القومية

يذهب العالم اللغوي إدوارد سابير إلى أن اللغة هي على الأرجح أعظم قوة من القوى التي تجعل من الفرد كائنًا اجتماعيًا. ويعلق د.عثمان أمين في كتابه "فلسفة اللغة العربية" أن مضمون هذا الرأي أمران: الأول أن اتصال الناس بعضهم ببعض في المجتمع البشري لا يتيسر حصوله بدون اللغة. والأمر الثاني أن وجود لغة مشتركة بين أفراد قوم أو أمة من شأنه أن يكون هو نفسه رمزًا ثابتًا فريدًا للتضامن بين الأفراد المتكلمين بها.

وأستنتج من ذلك أن الإثنية القومية وإن كانت تتأسس على الشعور بهوية قومية مشتركة لدى أفراد الجماعة، إلا أن وجود اللغة الواحدة التي تتكلمها الجماعة ويتواصلون ويتفاهمون بها هو السبب الرئيسي لاستشعار الجماعة هذه الهوية، وكلما كانت اللهجات الفرعية أكثر تشابهًا تعززت تلك الهوية المشتركة.

وربما كانت اللغة أو اللهجة المختلفة سببًا في نشوء جماعات إثنية على أساس لغوي، حتى وإن كانت تجمعهم هوية قومية واحدة! ويظهر هذا عندما تتعدد اللغات الرسمية في دولة واحدة مثلما هو الحال في كندا، أو عندما تكون هناك لهجات شديدة التباين في ألفاظها وأصواتها في المجتمع الواحد. فاللغة من أهم العوامل التي يتوحد ويتفرق على أساسها البشر.

ورغم توحد أوروبا تحت مظلة الاتحاد الأوروبي فإن الأوربيين لا يستشعرون أنهم قومية واحدة بسبب اختلاف اللغة. وكان أول ما فكر فيه اليهود عندما قرروا بناء دولتهم هو إحياء اللغة العبرية، لأنه لا قومية حقيقية دون لغة، والعِرق المشترك –الذي يدّعونه- لا يصلح أساسًا لتكوين هوية واحدة دون لغة.

وأقول إن بلاد فارس دخلت في الإسلام ولم يتوقف الفرس عن التحدث بالفارسية لذلك حافظوا على قوميتهم. وكان من الفرس أكابر العلماء، ممن كتبوا تفاسير للقرآن كالطبري والفخر الرازي، وجميع المحدثين الكبار كانوا فرسًا، فالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه جميعهم فرس، وحتى الإمام أحمد بن حنبل أمه فارسية. وكانت مجالس العلم عندهم يدور فيها الحوار بالفارسية، ثم بعد خروج العلماء وطلبة العلم منها يتحدثون في شئون حياتهم بلغتهم؛ فلم يكن طلب العلم يومًا مبررًا لفقدان الهوية القومية.

والأتراك أيضًا جلهم مسلمون ومع ذلك يعتزون بلغتهم وقوميتهم ولم ينصهروا في بوتقة العروبة، وكذلك فعل الأمازيغ، والنوبيون، والهنود، فكلهم شعوب احتفظوا بلغاتهم، ومن ثم يمكنهم التحدث عن أنفسهم كقوميات منفصلة عن العروبة.

أما المصريون فقد صاروا عربًا ودخلوا في العرب المستعربة طواعية منذ أن تكلموا العربية في مجالسهم وبيوتهم.

 

التطرف العرقي بين العرب

معلوم أن التقسيم الدارج للعرب يجعلهم ثلاثة أقسام، عرب بائدة، وعرب عاربة وهم القحطانيون وقحطان أبو اليمن، وعرب مستعربة وهم العدنانيون. فالقحطانيون شعبان: سبأ وحضرموت، والعدنانيون شعبان: ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان.

ولأن التطرف العرقي يوجد حتى داخل القومية الواحدة؛ فإن العرب أكثر من يتفاخرون بأنسابهم على بعضهم البعض، وفي إحدى مجموعات الأنساب على موقع الفيسبوك قرأت منشورًا لم أكن أتصور أن يوجد في الحقيقة، وهل يُعقل أن يتناظر القحطانيون مع العدنانيين، ويقولوا لهم إن كان الله قد اصطفى آل إبراهيم وإن كان رسولنا محمد منكم فالقرآن يقول: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ أَهْلَكْنَاهُمْ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ[الدخان: 37].

يقول الطبري في تفسير الآية: "أهؤلاء المشركون من قريش خير أم قوم تبع والذين من قبلهم من الأمم الكافرة بربها، يقول: فليس هؤلاء بخير من أولئك، فنصفح عنهم، ولا نهلكهم، وهم بالله كافرون، كما كان الذين أهلكناهم من الأمم من قبلهم كفارًا". وكما يتضح من الآية فالتساؤل لا يُستدل منه على أفضلية قوم تُبَّع، علمًا بأن تُبَّع كان رجلًا صالحًا ذم الله قومه ولم يذمه.

ويقولون إن أول العرب المستعربة هم بنو إسماعيل من زوجته الجُرهمية لأن ابن أخت القوم منهم. وقولهم في ابن الأخت من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء في صحيح البخاري (3528) عن أنس رضي الله عنه قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال: "هل فيكم أحد من غيركم؟" قالوا: لا إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم". ولكن هل يصح أن ينفوا عن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أنه عربي وأنه قد تحدث العربية؟!

لقد تواترت الأخبار عن تحدث إسماعيل عليه السلام العربية من خلال عشرته لقبائل جُرهم الذين تربى بينهم، روى البخاري (3364) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة إسماعيل وهاجر عليهما السلام - قال: " ... وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ". وقد روى الإمام السيوطي في الجامع الصغير (2837) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل، وهو ابن أربع عشرة سنة". وروى الإمام الحاكم في المستدرك على الصحيحين (ج2، 4029/38) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أول من نطق بالعربية ووضع الكتاب على لفظه ومنطقه، ثم جعل كتابًا واحدًا مثل بسم الله الرحمن الرحيم الموصول حتى فرق بينه ولده: إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما". أي أن اللسان العربي المبين بلغة قريش، والذي نزل به القرآن الكريم، كان إسماعيل بن إبراهيم أول من نطق به.

ثم إن هناك إشارات وروايات متناثرة تدعي أن العرب الباقية كلهم من ولد إسماعيل. وقد روى الإمام البخاري في صحيحه، في باب "نسبة اليمن إلى إسماعيل" (3507) عن سلمة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسُوق فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا". وذكر البخاري: وأسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة. وإنما يعني البخاري أن خزاعة كانت ممن تفرق من قبائل سبأ بعد سيل العرم، وكانت الأوس والخزرج منهم، وقد خاطبهم الرسول بأنهم من بني إسماعيل رغم أن التقسيم الشائع أن سبأ وأبنائه قحطانيون وليسوا من ولد إسماعيل!

ولا يعنينا كثيرًا إن كان القحطانيون من ولد إسماعيل أم لا، ولكن تطرف بعض السفهاء وصل حد التطاول على الأنبياء! ومعلوم إن هذا الشكل من التطرف بين العرب العاربة والمستعربة، وكذا بين ربيعة ومضر، وهو من دعاوى الجاهلية، عاد سريعًا للعرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرادت بعض قبائل العرب أن تفاخر قريشًا بعدما قضى الله أن يكون النبي منهم، وبعدما هزموا في حروب الردة وفشلت دعوات المتنبئين الكذبة. ولا ينسى التاريخ قولة قالتها قبائل ربيعة ممن سارعوا في تأييد كذاب اليمامة: "كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر".

وللخليفة المأمون العباسي قول شهير رواه عنه الإمام الطبري في ترجمته في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص652) قال: "وأما ربيعة فساخطةٌ على ‏الله منذ بعث نبيه من مُضَر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا "أهـ. والشُراة هم الخوارج، ويعني أن نصفهم خوارج.‏

وكان العرب يكثرون التفاخر فيما بينهم بقوتهم وكثرة عددهم وعظم أنسابهم، فعلمهم رسول الله أن التفاضل يكون بالتقوى وبالفضل والسبق إلى الإسلام. في صحيح البخاري (3515) عن أبي بكرة نفيع بن الحارث قال رسول الله: "أَرَأَيْتُمْ إنْ كانَ جُهَيْنَةُ، ومُزَيْنَةُ، وأَسْلَمُ، وغِفارُ، خَيْرًا مِن بَنِي تَمِيمٍ، وبَنِي أسَدٍ، ومِنْ بَنِي عبدِ اللَّهِ بنِ غَطَفانَ، ومِنْ بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ. فقالَ رَجُلٌ: خابُوا وخَسِرُوا، فقالَ: هُمْ خَيْرٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، ومِنْ بَنِي أسَدٍ، ومِنْ بَنِي عبدِ اللَّهِ بنِ غَطَفانَ، ومِنْ بَنِي عامِرِ بنِ صَعْصَعَةَ".

وفي رواية أخرى (3516) عن أبي بكرة نفيع بن الحارث أنَّ الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ قالَ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّما بَايَعَكَ سُرَّاقُ الحَجِيجِ، مِن أسْلَمَ وغِفَارَ ومُزَيْنَةَ، -وأَحْسِبُهُ- وجُهَيْنَةَ -ابنُ أبِي يَعْقُوبَ شَكَّ- قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أرَأَيْتَ إنْ كانَ أسْلَمُ، وغِفَارُ، ومُزَيْنَةُ -وأَحْسِبُهُ- وجُهَيْنَةُ، خَيْرًا مِن بَنِي تَمِيمٍ، وبَنِي عَامِرٍ، وأَسَدٍ، وغَطَفَانَ خَابُوا وخَسِرُوا؟" قالَ: نَعَمْ، قالَ: "والذي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُمْ لأَخَيْرٌ منهمْ".

 

التطرف بين الأعراق

إن كان التطرف لا زال موجودًا بين أبناء العِرق الواحد، خاصة بين العرب، فلم يتخلقوا بأخلاق الإسلام ويدعوه، فمن باب أولى ألا ينقطع التطرف بين الأعراق المختلفة، ومن أشهر الصراعات العرقية التي دارت في العصور القديمة الصراع بين الفرس والروم، والحرب الباردة في عصرنا بين إيران وأمريكا ما هي إلا شكل متجدد عصري لحرب الفرس والروم قديمًا.

ويحكي التاريخ أن ملوك الحيرة المناذرة كان ملكهم في العراق على حدود بلاد فارس، وكان يخدمهم كتيبتان رئيسيتان من الجند، الشهباء والدواسر. والأشاهب بنو المنذر؛ فهم بنو عم الملك وإخوانه، وسُموا بذلك لبياض وجوههم وجمالهم. وكانت أغلب الدواسر تغلبية، يرجع نسبهم إلى تغلب بن وائل من ربيعة، فهم عدنانيون، وأصلهم من نجد، وهناك دواسر من الأزد من سبأ وكانوا يسكنون مأرب في اليمن. فالدواسر ليسوا قبيلة واحدة، وإنما اكتسبوا الاسم من الكتيبة التي كانوا يقاتلون فيها. وقيل إن الدوسر هو اسم من أسماء الفَرَس، وقيل هو اسم للجمل الضخم، والدُّسُر أيضًا المَسامير الضخمة محددة الطرفين التي تُدق فتربط الألواح الخشبية ببعضها، وقيل سُمّيت دوسر اشتقاقًا من الدَّسْر، وهو الطعن الشديد، والعرب تضرب بهم المثل في البطش، تقول: أَبْطَشُ من دَوْسَر. ولكن كثيرًا من عرب نجد تحديدًا يقفون هذه المرة مع الروم، بينما كان جدودهم جنودًا لفارس ودواسرًا لهم. أما عرب العراق فأغلبهم لا زال على ولائهم لفارس، وربما كان التطرف الديني يطل برأسه هذه المرة ويبرر هذا الولاء.

كما أن الصراع في اليمن اليوم ليس دينيًا طائفيًا فقط، بل هو عرقي أيضًا؛ فإيران وريثة الإمبراطورية الساسانية لا تزال ترغب في الاحتفاظ بنفوذ في اليمن، مثلما لا زالت تحتفظ بنفوذها في العراق، بينما من رفعوا نفوذها عنهم في نجد منذ قرون لا يرحبون بذلك! وهذا ولا شك لا يبرئ المعتدين على اليمن. وكان الفرس قد اكتسبوا نفوذهم في اليمن منذ أن ساعد كسرى (خسرو) الأول معد يكرب سيف بن ذي يزن على استعادة ملك آبائه بخلع مسروق بن أبرهة الحبشي، وتولى سيف الحكم حوالي سنة 575 أو 577م، وكان مسروق قد تولى الحكم في اليمن خلفًا لأبيه أبرهة الذي قتله الله وجيشه سنة 571م والمعروف بعام الفيل.

ولا ننسى الموجة العدائية ضد مصر التي سادت في العقد الأخير في السودان، وادعاءات تدفق الحضارة مع النيل، ومن ثم فحضارتنا هي حضارتهم، ومحاولتهم سرقة تاريخ مصر بدلًا من التنقيب عن تاريخ خاص بهم؛ فيدعون أن سيدنا موسى مدفون في جبل مرة، وأن مجمع البحرين هو التقاء النيل الأزرق بالنيل الأبيض! وموقفهم المخزي في قضية سد النهضة وتمنيات السوء لمصر، والذي ارتد عليهم فتضرروا من فيضان 2020 أشد الضرر بعد أن خزنت إثيوبيا المياه خلف السد واضطرت لتفريغ كمية كبيرة منها، وكل هذا ما هو إلا تطرف عرقي، وللأسف أن يصدر عن أشقاء.

ولا ننسى دعاوى سيادة العرق الآري التي لعبت بعقل النازي وتسببت في ويلات الحرب العالمية الثانية. ويهود إسرائيل يدَّعون أيضًا أنهم شعب الله المختار؛ فهم يعتبرون أنفسهم مميزين كقومية وليس كأصحاب دين؛ فيظهر لديهم التطرف العرقي أكثر من التطرف الديني. وتظهر كثير من الدراسات التي أجريت على اليهود المهاجرين إلى إسرائيل ‏أن أغلبهم أقرب للإلحاد، ولا يؤمنون بالحساب ووجود الجنة والنار، ولكنهم مع ذلك مقتنعون ‏أنهم القومية الأكثر تميزًا بين البشر! وهذا هو السبب الحقيقي لهجرتهم إلى إسرائيل، أو الإعلان عن ‏هويتهم الدينية في أوروبا وأمريكا، فهم أعلى نفيرًا وهذا يوفر لهم ميزات، وينشأ عن اقتناعهم ذاك أيضًا نظرتهم الاستعلائية على من دونهم حتى إنهم يستبيحون الكذب على من عداهم ‏من الجوييم (الجماهير غير اليهودية)، ولا يعتبرون ذلك نقيصة.‏

‏ وسبب الإشكالية الرئيسي فيما تفعله السلطات الصينية مع أقلية الأويغور المسلمة أن الأويغور هم عرقية تركية، تتحدث لغة أقرب إلى اللغة التركية، ومن ثم فهم أقرب عرقيًا وثقافيًا لشعوب آسيا الوسطى. فتطرف الصين ضد الأويغور هو تطرف عرقي ومحاولات للإبادة العرقية، وإن كان ظاهريًا يبدو تطرفًا دينيًا.

فالحقيقة إن السلطات الصينية تسعى إلى قولبة المجتمع الصيني، وفرض هيمنة ثقافة عرقية الـ "هان" والتي تعتبر أكبر جماعة عرقية في العالم بأسره؛ إذ يشكلون 92% من سكان الصين و18% من سكان العالم، والمشكلة الأهم التي أقلقت السلطات الصينية أن الأويغور رغم كونهم قلة عددية في الصين ولا يزيد عددهم عن 11 مليون نسمة إلا إنهم يشكلون أغلبية في مقاطعة شينجيانغ التي تتمتع بالحكم الذاتي، وهذا يجعل الثقافة السائدة في هذه المقاطعة تختلف عن الثقافة العامة في البلاد.

ومن ثم فهناك رفض من الحكومة الصينية لبروز أي ثقافة غريبة داخل البلاد، وأي سلوكيات تختلف عن سلوكيات الجماعة الكبرى، لذلك تقوم السلطات الصينية بترحيل مواطنين من عرقية الهان إلى شينجيانغ، وإجبار الأويغور على الرحيل منه، إضافة إلى اعتقال 10% منهم، إذ قامت بحملات اعتقال جماعية لنحو مليون شخص منهم منذ سنة 2016م فيما يسمونه معسكرات "إعادة التأهيل" و"مراكز مكافحة التطرف" بدعوى إنهم متشددون وبحاجة للتثقيف! ويتم تعقيم النساء إجباريًا لمنعهن من الإنجاب، وكذلك فصل أبناء الأويغور عن آبائهم المعتقلين ووضعهم في مدارس داخلية بغرض محو ثقافتهم التي تراها الحكومة الصينية مختلفة عن الثقافة العامة للمجتمع والمطلوب ألا يبقى غيرها! وجميع ما يحدث من إجراءات في هذا الشأن يستحق أن يوصف بأنه عين الغباء ويستحيل تحقيقه على أرض الواقع. ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118].

 

الثراء الثقافي للشخصية المصرية

في مقدمته الشهيرة أضاف ابن خلدون قسمًا رابعًا إلى ما سبق وذكرناه من العرب؛ وهم العرب المستعجمة وهم أبناء الأعاجم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية. والعجم هو اصطلاح يشمل كل من ليسوا عربًا.

وإن أردنا أن نصف من منظور أنثروبولوجي علاقة المصريين بالعروبة فإن المصريين –ومنذ العصور الوسطى- ينتمون إلى القومية العربية وإن لم يكونوا من العِرق نفسه، والقوميات عادة تخلو من النقاء العرقي، والسبب في ذلك الانتماء هو اللغة العربية في المقام الأول. وإن كان يصعب ضم المصريين والعرب في مجموعة إثنية واحدة بأريحية؛ فالتراث الثقافي المصري إجمالًا –والثقافة أوسع وأشمل من اللغة- يتشابه في ملامح كثيرة مع التراث الثقافي العربي، ولكن تبقى مساحة الاختلافات واسعة.

وقد انتشرت صورة لفترة على صفحات موقع الفيسبوك تظهر فيها بعض الآثار والتماثيل الفرعونية باعتبارها آثارًا مصرية وفي المقابل منها بعض رموز الثقافة البدوية، وتدعو الصورة المصريين لرفض العروبة والانتصار لعِرقهم القبطي! وقد تداولها بعضهم وتحمسوا لها، وهؤلاء الذين تشدقوا بالمصرية رافضين العروبة بعضهم مسلمون وبعضهم مسيحيون، ومنهم من لا ينتمون عرقيًا إلى قدماء المصريين كما تبدو من صفاتهم الظاهرية التي تؤكد أن جيناتهم أقرب للساميين، ثم إنهم تناسوا أو يتناسون أن الوضع قد حُسم من قديم بتخلي أجدادهم عن اللغة القبطية حتى لم تعد تستخدم سوى في الكنائس فقط، واللغة هي أساس القومية كما أسلفنا.

أستطيع أن أتفهم أن كثيرًا من المصريين قد اختنقوا بعض الشيء في السنوات الأخيرة من بعض العرب بسبب تدخلاتهم وتعليقاتهم على اختياراتنا السياسية، وبسبب محاولات بعض الجماعات الدينية المتطرفة طمس الهوية المصرية، ولكن لا ينبغي أن يكون رد الفعل بهذا العنف، وإلى درجة تفقد المصري هويته العربية تدريجيًا.‏

في كتاب "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" لعالم الجغرافيا الفذ د. جمال حمدان فصل قصير هام بعنوان ‏"تعدد الأبعاد والجوانب"‏، وهو من أهم فصول الكتاب الذي اختاره د.جمال ليترجمه إلى الإنجليزية. وأعتقد أن كثيرين بحاجة إلى قراءته ليضبط تفكيرهم بخصوص حالة استقطاب الهوية التي يحاولون إيقاع ‏الشخصية المصرية فيها؛ فمن لم يفهم كيف أن مصر آسيوية وأفريقية وعربية ونيلية ومتوسطية معًا لم يفهم كيف أثرت عبقرية المكان في هذا ‏الشعب، ولا من أين أتى تميزه.

وما أراد د.جمال قوله إن الثقافة المصرية بقوتها امتصت كل التأثيرات الثقافية التي جاءتها من موقعها الجغرافي ‏العبقري كملتقى للقارات والذي لم يكن طاردًا للبشر المسالمين العابرين من مكان لآخر عبر مصر، ومن ظروفها ‏التاريخية التي نشأت من الغزوات المتكررة من أعراق وأجناس مختلفة، ثم أفرزت مصر ما امتصته لتكون ثقافة ‏عظيمة نشأت من تلاقح ثقافات كثيرة.‏

ولا شك لدي –رغم التدهور الحضاري البادي- أن الشخصية المصرية لا زالت لديها أسباب للثراء الثقافي، نستشعره من خلال التعامل مع المصري البسيط؛ فلديه مخزون كبير من الخبرات والحكمة لا يمكن تفسيره إلا بأنه مكتسب من خلال ‏البيئة لأن مثله لم يتعلم تعليمًا نظاميًا، كما أن نظامنا التعليمي ذاته أصبح ضحلًا ولا يمكن أن يُدعى أنه يدعم الثقافة ‏بأي حال من الأحوال. ‏

ولو كانت مصر منغلقة على ثقافتها القديمة ما كانت هذه العظمة في شخصية المصري التي تظهرها التحديات، ومن ‏وجهة نظري فإن ذلك يفسر سبب تراجع ثقافة الشعب المصري ككل، وأعني الثقافة الفطرية وليس فقط ثقافة الكتب. ‏ففي العقود الأخيرة انغلق المصريون على أنفسهم بشكل لم يحدث مسبقًا في تاريخهم، وحتى متابعاتهم الإعلامية ‏تكاد تقتصر على القنوات المصرية، بينما باقي العرب يتابعون قنوات من كل البلاد العربية ما زاد ثراءهم الثقافي ‏وتراجع في المقابل المخزون الثقافي المصري، لذا أرى أن دعاوى استقطاب الهوية والإصرار على مصرية ‏مصر فقط ستؤثر علينا ثقافيًا بشكل سلبي، وينبغي أن نعي هويتنا الثقافية المركبة الثرية، وأن مصر شجرة لها جذور قوية ولكن فروعها طُعِّمت من أشجار ‏أخرى ما أكسبها نكهتها.‏

 

خاتمة

في مقال "أن تكون من الفئة الغالبة" سبق وتحدثنا عن الرغبة في التميز، والتي توجد داخل الإنسان، فإن لم يتمكن من تحقيقها بأعماله الفردية، حققها من خلال الانتماء إلى جماعة، وكثير من الجماعات التي صارت تتكون تحت أي اتجاه؛ ديني أو سياسي أو رياضي وغيره صارت بديلًا للأعراق وللقومية، والتعصب لها ربما يفوق التعصب للأعراق، حتى إنني كثيرًا ما أقول إن الإخوان يظنون أنفسهم "جماعة الله المختارة".

ومثل ذلك يُقال عند ذكر جماعات الخوارج القديمة كالباطنية الإسماعيلية النزارية، والذين ذكرتهم في مقال مؤخرًا بعنوان "جدود وأحفاد ريا وسكينة"، واتهمني بعضهم بأنني أتطرف ضدهم عرقيًا! علمًا بأنهم لا ينتمون إلى عرق واحد؛ بل هم حثالة ما في جميع الأعراق الشرقية، حيث تجمع الحثالة من العرب والقبط والفرس والأرد والترك والزنج واندمجوا في هذه الجماعة!

إن النقاء العرقي أكذوبة، وصحيح أن ابن آدم نسبه لأبيه، ولكن ابن الأخت منهم، وجميعنا نحمل جينات عربية وقبطية وتركية وهندية وفارسية وأمازيغية وغيرها، فلا داعي للتعالي على عباد الله بآخر ما ينبغي أن نتعالى به، فأي منا لم يكتسب نسبه بكده، وفرق كبير بين أن يعرف الإنسان قدر نسبه ليتذكر أصله الطيب ويحافظ على الأثر الصالح لأجداده، وبين أن يتفاخر بنسبه ويمشي يتيه به على خلق الله.

والمشكلة أن المتطرف عرقيًا هو نتاج تربية وتنشئة تجعله يظن نفسه وجماعته العرقية أعلى قدرًا من غيره من البشر ممن لا ينتمون إلى العرق ذاته، ولا يعي أن كل متطرف عرقي ينتمي إلى أي عرق آخر يُربى على ما تربى هو عليه، ويبقى كل منهم يظن أن باقي البشر يحسدونه على انتمائه العرقي، إلى درجة أنه لا يدرك أيضًا أن بعض الأعراق تُربى على احتقار أعراق أخرى، وأن غيره من المتطرفين على شاكلته يحقره لأجل عرقه!

ومما يساعد على التطرف العرقي تجمع الأفراد الذين ينتمون إلى العرق الواحد وعدم تفرقهم في البلاد، بينما يخفف اختلاط الأعراق وعدم تجمع عرق معين في مكان واحد التطرف بينهم، فيقلل درجته ويساعد البشر على الاندماج. ولعل السفر وكثرة الترحال العلاج الأنجح للتطرف العرقي ولكل تطرف؛ كونه يفتح عين المتطرف على اختلافات البشر ويجعله أقرب لتقبلها.

 

الأحد، 7 نوفمبر 2021

267-التغيير

التغيير

د/منى زيتون

السبت 6 نوفمبر 2021

وعلى المثقف، الأحد 7 نوفمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959329

 

من خلال خبراتي في الحياة ومع البشر يمكنني تقسيم البشر من حيث القدرة على التغيير إلى ثلاثة أنواع؛ فنوع مقاوم للتغيير شديد الثبات والتشبث بأي وضع قائم، ويمكن أن ينهار عليه هذا الوضع المتهالك الآيل للسقوط قبل أن يتقبل ضرورة تركه، وأن يبدأ بدايات جديدة في حياته. وهناك نوع منهم قادر على صنع وخلق التغيير والبدء فيه، ونوع ثالث من البشر يمكنهم التكيف بنجاح مع التغيير إن حدث، ولكنهم لا يصنعونه بإرادتهم.

وفي مصر والبلاد العربية يسود النوع مقاوم التغيير؛ فالتربية التي يتلقاها أغلبنا منذ الصغر تعلمه أن يصطف مع زملائه ليكون واحدًا منهم، وقد أشار د.جمال حمدان إلى هذا المعنى في كتابه "شخصية مصر"؛ إذ ذكر إن الاعتدال هو آفة الشخصية المصرية؛ فهي تجعل المصري شخصية غير مقتحمة وغير ثورية على الإطلاق، فمصر شديدة الاعتدال لدرجة تجعلها بيئة طاردة لأبنائها الممتازين، والرضا الشديد بالواقع لدى المصريين يساوي في حقيقته العجز عن تغييره.

والتغيير الذي أعنيه في هذا المقال هو التغيير بمعناه العام وليس تغييرًا خاصًا محددًا، فالتغيير الذي يمكن أن يحدث للإنسان يتنوع؛ فقد يكون تغييرًا ماديًا في البيئة، أو تغييرًا فكريًا، وقد يكون تغييرًا يمس روحه وخلقه أو تغييرًا انفعاليًا تجاه ما يحب وما يكره.

والتغيير –أي تغيير- بحاجة إلى قوة نفسية لدى الفرد تمكنه من إحداثه والتكيف معه، أو على الأقل للتكيف معه إن حدث، وتجاوز ما مضى، وهذه القوة تتفاوت من فرد لآخر، وكلما زادت لديك زادت قدرتك على النجاح في الحياة.

 

التغيير في نفسك

ولا يسعنا الحديث عن التغيير في البيئة المادية الخارجية للفرد دون العروج أولًا على التغيير الداخلي في النفس، والذي يصنعه الإنسان في نفسه بتغيير خلقه إلى الأفضل، ولا يقتصر كما يظن أغلبنا على تنمية المهارات والقدرات. وأفضل استثمار هو ما تستثمره في نفسك، وهو نافع لك ولا شك في الدنيا والآخرة.

يقول صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ونحن نلمس التراجع في أخلاقيات المجتمع ككل، ونسبة لا بأس بها من البشر الفاسدين في المجتمع هم نتاج تنشئة نوعية من الآباء والأمهات يتصورون أن التربية والحرية نقيضان! فلا يعملون على رياضة نفوسهم ونفوس أبنائهم لتتغير للأفضل.

ولو سألني سائل عن ضربة البداية في تغيير الخُلق نحو الأفضل فالإجابة عندي هي أن يتحرى الصدق والكلام المباشر، وهناك حديث شريف لا يُقال كثيرًا رغم نفعه، ربما لأن أغلب مشايخنا مشغولون بتعليم العبادات وليس المعاملات. يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه الإمام أحمد في مسنده (13071): "لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"، فالصدق طريق الاستقامة، والقول والقرار الصائب أخلاقيًا وإنسانيًا يبقى صائبًا مهما كانت عواقبه وخسائره الظاهرة، فعوِّد نفسك على أن تقول وتفعل الصواب ولا تلتفت.

والاستقامة لا تكون في ذكر الحقيقة فقط بل تتمثل أيضًا في ذكرها دون مواربة والكف عن اللف والدوران، وقد قلتها مرارًا في مقالاتي عن التواصل أن التواصل المباشر أرجى من التواصل غير المباشر في إيصال رسالة المتحدث كما أرادها، وهو الأرجى في جذب انتباه المستمع، والانتباه هو أولى العمليات العقلية التي يقوم بها المخ عند عرض المثيرات البيئية أمامه، وعندما ينتبه لها يدركها، أما لو لم ينتبه لها لأن طريقة عرض المثيرات لم تكن واضحة فلن ينتقل العقل إلى العملية العقلية التالية وهي الإدراك!

ولا ننسى أيضًا أن الله تعالى خلق البشر ليقوموا بالقسط، والغرض الأسمى لرسالة محمد هو إقامة العدل، فالعدل هو القيمة العظمى، وليتذكر كل منا أنه بعيد عن الإسلام بعده عن العدل والإنصاف.

ويبقى الكبر جذرًا لكل الشرور وأولى عتبات الفشل، وسبب التوهان والانصراف عن تحقيق الهدف رغم وضوحه أمام الفرد، وتبقى القدرة على الاعتذار أهم ما يميز المؤمنين.

والمتفهم لمعنى التدين الحقيقي يعلم أنه يخلق في نفس المؤمن شعورًا دائمًا بالتقصير نحو ربه؛ ذلك أنه عرف ربه وحقه العظيم، وعليه فقد أدرك عظم تقصيره، وهو لأجل ذلك يمضي في حياته كالطالب المجتهد أثناء أدائه الامتحان؛ يبقى يقرأ إجاباته ويضيف إلى ورقة إجابته حتى لحظة نزعها من بين يديه، وذلك على النقيض تمامًا من زميله الفاشل المعجب بنفسه والمكتفي بما كتب فيها على قلته، والذي يشغل نفسه طوال فترة الامتحان في مراقبة الناس وترصد القاصي والداني، بدلًا عن أن يُحسن من إجاباته.

ومن أشد ما يضحكني يوم الامتحان أثناء مروري بين اللجان أن أسأل أحد الملاحظين عن شيء فيسارع أحد الطلبة الخائبين إلى إعطائي الجواب، فهو يعرف من مر من الأساتذة في الممر ومن ركن سيارته منهم منذ قليل، وربما لو سألته عما كان يلبس الملاحظ الذي كان يقف في الامتحان السابق لوصفه تمام الوصف، أما المجتهد فربما انفجرت قنبلة في المبنى وهو غير منتبه لها!

 

التكيف مع الزوج والمجتمع الغريب

في الآونة الأخيرة انتشرت قنوات على موقع اليوتيوب تعرض يوميات عائلية، ولأنها تحقق مشاهدات عالية في مصر فإن بعضها يظهر لي ضمن قائمة اقتراحات اليوتيوب الجانبية، والحقيقة أنني لم أرغب في متابعة أي منها يومًا، ولا أفهم ما هي الفائدة التي تعود على متابعيها، ولكن حديثي عنها الآن ليس لنقدها، وإنما لألفت النظر إلى شيء آخر يتعلق بالقدرة على إحداث التغيير والتكيف معه.

لاحظت أن من بين هذه القنوات لليوميات العائلية قنوات لعائلة تتكون من زوجة مصرية وزوج هندي، ويعيشون في الهند، وعائلة لزوج مصري وزوجة جزائرية ويعيشون في الجزائر، وعائلة لزوجة مغربية وزوج باكستاني، وغير ذلك من التشكيلات الثقافية الكثير.

والحقيقة أنني أجد أمثال هؤلاء البشر خارقين، فأن تعيش في مجتمع غريب وتتكيف معه هو أمر صعب بلا شك، ومع ذلك فإن مما يمكن أن يخفف عنك وطأة وصعوبة الحياة في الغربة أن يكون رفيق حياتك في غربتك من بلدك وله الثقافة نفسها، ولا يكفي أن يكون عربيًا أو مسلمًا فقط، فالثقافة شيء أكثر خصوصية من العروبة ومن الدين، بل إن هناك ثقافات فرعية في كل دولة.

وقد كنت كلما ذُكرت قصة السيدة هاجر أم إسماعيل عليهما السلام أتعجب أشد العجب من قدرتها الخارقة للعادة على تقبل التغيير البيئي والتكيف له. ذكر كثير من المفسرين أن السيدة هاجر كانت أميرة مصرية أصبحت جارية بعد ذهاب دولة آبائها على أيدي الغزاة –ويُعتقد أن ذلك حدث في عصر الهكسوس- وهذا أول تغيير جوهري حدث في حياتها، فكيف لأميرة أن تتحول إلى جارية في يوم وليلة! وبعدها دخل سيدنا إبراهيم مصر، ولم يدخل للدعوة إلى الله، ويبدو أنه لم يدخل إلا ليخرج بهاجر، والتي كانت اختيار الله له فتزوجها، فانتقلت بذلك حياتها من أكبر دولة حضرية على ظهر الأرض وقتها إلى عيشة أقرب إلى عيشة البدو مع زوج غريب عنها وليست له عاداتها ولا عيشته كعيشتها ولا يتكلم لغتها، ووسط قوم لم تعرفهم ولا تعرف لغتهم، ولكنها تكيفت وتأقلمت مرة ثانية مع حياتها الجديدة، وبعد أن أنجبت ابنها جاءها تغيير ثالث عندما نقلها هذا الزوج إلى بلد غريب آخر ليست فيه أي مقومات للحياة ليتركها تكمل حياتها فيه هي وابنها وحدهم، ولتجاور أقوامًا جددًا وتتعلم لغة جديدة! فأي قوة نفسية كانت لدى تلك المرأة وأي قدرة على التكيف كانت لديها على كل تلك التغييرات العظيمة المتتالية التي حدثت في حياتها! وقد خلد الله سبحانه سعي وكفاح هذه المرأة العظيمة في أن جعل السعي بين الصفا والمروة -وهو أحد مناسك الحج- تذكيرًا بعملها.

ومن وجهة نظري إن زواج المرأة من شخص من بلد وثقافة مختلفة حتى وإن لم تنتقل من بلدها وعاش معها فيها هو أمر أصعب على المرأة عن الحياة في الغربة مع زوج من بلدها وثقافتها نفسها. لذا فإنه بمقارنة ما حدث للسيدة هاجر بما حدث للسيدة سارة من نُقلة وتغيير في الحياة فإن قدرة هاجر على تقبل التغيير والتكيف معه كانت أعظم، فخليل الرحمن كان ابن عم سارة ومن بيئتها وثقافتها ويتكلم لغتها، وتكيفها كان فقط مع البيئة الخارجية الجديدة التي انتقلا إليها، أما هاجر فإن كل ما ومن حولها قد تغير، وتبدلت حياتها مرات تبدلًا تامًا.

 

تغيير المهنة shift career

دلتني خبرات الحياة على أن الإنسان الذي يمتلك مقومات النجاح المهني قادر على النجاح في أي موقع يُسند إليه، ليس لأنه يمتلك جميع معارف وخبرات الحياة، ولكن لأن الناجح يمتلك درجة مرتفعة من الذكاء الشخصي؛ وهو القدرة على امتلاك الفهم لنفسك، ومعرفة من أنت، وماذا يمكنك عمله، وماذا تريد أن تفعل، ‏وكيف تتفاعل مع الأشياء، وأي الأشياء تتجنب، وأي الأشياء تنجذب إليها، وتعرف المتشابهات ‏والاختلافات في نفسك عن الآخرين، وأن تكون متلائمًا مع المشاعر الداخلية والقيم والمعتقدات ‏وعمليات التفكير، وتستخدم تلك المعلومات لضبط حياتك واتخاذ قرارات. إنه الذكاء ‏الذي يُمكِّن الأفراد أن يُكوِّنوا نموذجًا عقليًا عن أنفسهم يتفهمون من خلاله مشاعرهم ودوافعهم ‏الذاتية، ويعتمدون عليه في كل ما يخص حياتهم.

وبالنسبة للنجاح المهني فإن الصورة المثالية للشخص الناجح في مصر هو أن يتخرج من الجامعة ويأتيه تعيينه وترسيمه في مصلحة حكومية أو شركة فيتسلم مكتبًا وكرسيًا، ويبقى ما يزيد عن الثلاثين سنة يعمل في المكان نفسه ويترقى فيه، إلى أن يحين موعد تقاعده عند بلوغه سن الستين، فيعد له زملاؤه حفلًا للاحتفاء به، ويسلمهم المكتب والكرسي ويرحل!

أما من يعرف في نفسه مواهبًا أكبر من الحجم الذي تفرضه عليه هذه الوظيفة، ويحاول ويسعى لخلق تغيير مهني بحيث يترقى في حياته للأفضل، لثقته أنه ليس شجرة، فإنه يلقى تثبيطًا في عزيمته ممن حوله محاولين إثنائه عن عزمه، مذكرين إياه بالمعاش التقاعدي والأمان الوظيفي، والميري –أصلها الأميري وتعني الحكومي- والتمرغ في ترابه. بل إن بعض أمثال هؤلاء المثبطين -ممن كان دفعهم له للثبات وعدم اتخاذ قرار جاد بالتغيير حسدًا- ربما يقتلهم نجاحه عندما يتحقق إلى درجة التحامق ومحاولة إشعاره أنه فقد شيئًا ثمينًا عندما رحل!

ومن أعجب ما حُكي لي في ذلك قصة عن د.أحمد زويل العالم المصري الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء، والذي كان قبل سفره لأمريكا ضمن معاوني هيئة التدريس بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية. ويُحكى أنه عندما زار مصر بعد حصوله على الجائزة التقى ببعض زملائه القدامى، وإذا بأحدهم –وكان يحمل غلًا وحقدًا دفينًا قديمًا له- يقول له إنه كان يتمنى لو لم تنهي كلية علوم الإسكندرية خدمته لانقطاعه عن العمل!

يقول أبو القاسم الشابي:

إذا ما طمحتُ إلى غاية *** ركبت المُنى ونسيت الحذر

ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحُفر

إن أحد الشروط الهامة لتتمكن من خلق تغيير إيجابي حقيقي في حياتك هو أن تثق في نفسك وفي مواهبك طالما تعرف عن نفسك أنك شخص مميز لست مثل غيرك ممن يناسبهم السير في أمان بجوار الحائط، ثم ألا تهتم لكلام الناس ممن يريدون أن يثبتوك في الصف ذاته مثلهم، فلا تتميز وتعلو عليهم، وتذكر أن الشجرة كي تطول وترتفع لا بد أن يتم قصها من الجوانب؛ أي إنك لن تعلو إلا عندما تتوقف عن النظر حولك والالتفات إلى كلام الناس.

ومن أشهر من غيروا مهنتهم في عصرنا الحديث رغم المكانة الاجتماعية الرفيعة التي كانت للمهنة الأولى في المجتمع، الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي ترك العمل في النيابة العامة، والتي كانت العتبة الأولى للترقي بعدها للعمل في القضاء، وتفرغ للكتابة، وكتب تحفته الأنثروبولوجية "يوميات نائب في الأرياف" ليخلد فيها بعضًا من الصور التي رآها في تلك الرحلة المهنية الشاقة.

ومن أشهرهم أيضًا د.جمال حمدان، والذي ترك العمل كأستاذ في الجامعة، وتفرغ للبحث العلمي والكتابة العلمية الحرة، لأنه لم يتوافق مع معايير لجان الترقيات في الجامعات المصرية التي كانت تهتم بالأقدمية بين الأساتذة في الترقيات وترى الجغرافيا مجرد خرائط وحدود! وهو كان يراها علاقة بين الإنسان والمكان؛ فكتب كتابه الشهير "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان"، وغيره من الكتب. 

قدرة المبدعين على التغيير

وضمن سياق الحديث عن التغيير وقدرة المبدعين عليه، بعيدًا عن أولئك الذين يتحركون في حياتهم على قضبان القطار، فأنا أزعم أن هناك كتبًا في العلوم الاجتماعية في المكتبة العربية لم تلق عناية من العرب كونهم اعتادوا أساليبًا معينة في السرد، ولكنها الكتب الأهم من تلك التي سردت المحتوى بالمنهجية الجامدة المتعارف عليها، ولهذا لقيت هذه الإبداعات المختلفة عناية خاصة من المستشرقين.

ومن هذه الكتب "مقدمة ابن خلدون" والتي وضع فيها خلاصة آرائه وخبراته من قراءته للتاريخ، وهي أهم مما كتبه في كتابه ذاته من سرد مفصل للحوادث، وكتاب "الفخري في الآداب السلطانية" لابن الطقطقا والذي وضعه للتدبر وإفهام قارئه كيف تُساس الدول، وعرض رأيه وتقييمه للدول الإسلامية ولعهد كل خليفة من الخلفاء، ولم يسرد الحوادث التي حدثت في زمن كل منهم سردًا آليًا، و"معجم البلدان" لياقوت الحموي هو الآخر فريد من نوعه، يمر فيه ياقوت على كل بلد من البلاد التي يعرفها في زمانه، وقد يكتفي بكتابة اسمه وضبط نطقه وبيان مكانه، وقد يضيف عنه مزيجًا من الوصف للبلد والأكابر الذين كانوا منه، وقليل من الحوادث الهامة التي حدثت به دون تفصيل. وكتاب "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" لابن بطوطة من أهم الكتب العربية، ولعله أقدم كتب أدب الرحلات في العالم.

أما في العصر الحديث فهناك كتاب آخر فريد بخلاف كتب د. جمال حمدان بعنوان "إقليم البحيرة" للأديب محمد محمود زيتون، والحاصل على جائزة الدولة سنة 1948 في التأليف المسرحي والشعر والخطابة، وغيرها من الجوائز الثقافية. والكتاب عن تاريخ الإقليم، ولكنه نوع من التأريخ لن تجد مثيله في المكتبة العربية. وكتب الشيخ محمد الغزالي أيضًا تختلف عن النمط السائد من الكتب الدينية التي تُحشى بالنقول والأسانيد وتكاد تخلو من الاستخلاصات والآراء التي تخص المؤلف، وهي أقرب لكتب المفكرين منها إلى كتب المشايخ.

 

خاتمة

إن قيمتك في الحياة تتحدد بقدرتك على إحداث التغيير في حياتك وحياة من حولك، فهناك تغيير يمس الفرد وهناك تغيير للجماعة، وهناك من يتعذر عليه أن يحدث تغييرًا في نفسه ولكنه يستطيع خلقه في حياة أبنائه أو بعض من حوله، ومن هنا احترم البشر عبر العصور المكافحين والعصاميين والمصلحين والأنبياء؛ هؤلاء الذين لم يعبروا في الحياة ليتركوها مثلما كانت قبلهم.

والتغيير عادة يستلزم ويتطلب وقتًا طويلًا، خاصة عندما يتصل بالمجتمعات وليس الأفراد، ولكنه أيضًا قد يأتي سريعًا في صورة ثورة، ولأن التقلب السريع لا تتقبله طبيعة البشر فغالبًا ما تحدث سلبيات من الثورات تفوق ما أرادت تصحيحه، ولكنها في النهاية قد تمثل ضرورة عندما تتفاقم الأوضاع السلبية. وفي أصداء السيرة الذاتية كتب نجيب محفوظ: "سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة".

وترتبط القدرة على إحداث التغيير بوضوح الأهداف، والتخطيط الجيد لها، والمثابرة وبذل الجهد في تنفيذها. وهناك أشخاص ناجحون غاية النجاح في التنظير، ولا يضاهي نجاحهم هذا إلا فشلهم عندما تُوكل إليهم مهام ومسئوليات يضعون فيها خبراتهم ومعارفهم النظرية موضع التنفيذ لأجل إحداث التغيير المنشود. وأثناء عملي في إحدى الجامعات السعودية زاملت أستاذة جامعية مصرية في تخصص التخطيط التربوي، وكانت سمعتها جيدة جدًا بين الطالبات والأستاذات كأستاذة متميزة في تخصصها، وهي الآن ضمن الفريق التربوي الذي يعمل مع د.طارق شوقي وزير التربية والتعليم، ولا أريد أن أزيد فقد رأت مصر كلها تخطيطها التربوي على أرض الواقع، ويالهول ما رأت!

وفي ختام حديثنا عن التغيير، أود التعريف بأمر يخفى على كثيرين بخصوص تغيير رسم الجهات الأصلية، وكان ذلك على الأرجح بدءًا من عصر النهضة في أوروبا. فقد كان العرب في العصر العباسي يرسمون الخرائط الجغرافية والفلكية بحيث يكون اتجاه الشرق جهة اليد اليسرى واتجاه الغرب هو اليد اليمنى، ومن ثم فالجنوب إلى الأعلى والشمال إلى الأسفل، وهو ما يعني أن ما نراه من تحديد لرسم الاتجاهات في عالمنا المعاصر هو قلب للشمال ليكون في الأعلى، صاحبه بالضرورة تبدل ما بين الشرق والغرب نتيجة للتدوير الحادث في الخرائط! فكان هذا التغيير البسيط رمزًا للتغيير الذي حدث على المستوى الحضاري؛ فتقدمت أوروبا ودخلنا في عصورنا المظلمة!


الخميس، 4 نوفمبر 2021

266-ما بين التقييم المنطقي والتقييم العاطفي‏

 

ما بين التقييم المنطقي والتقييم العاطفي‏

د/منى زيتون

الخميس 4 نوفمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959286

 

في حياتي العملية قمت بتقييم أوراق إجابات آلاف من الطلبة والطالبات في مراحل دراسية متعددة؛ فمنهم الطلبة الممتازون ومتوسطو المستوى الدراسي، ومنهم الطلبة البُلداء ممن لم يكتبوا إجابات وافية على أسئلة الاختبارات تضمن لهم إحراز درجات جيدة وتفي بشروط نجاحهم، وهذه الفئة الأخيرة تحديدًا كثيرًا ما كان آخر ما كتبوه في أوراق إجاباتهم شبه الفارغة هو شرح ظروفهم السيئة ورجاء مني أن أترفق بهم لأجل تلك الظروف؛ بمعنى أن أضع لهم مزيدًا من الدرجات التي لا يستحقونها لينجحوا! ولم يحدث مطلقًا أن مرت علي ورقة لطالب مُجد يكتب فيها أمثال هذه الاستعطافات لأنه ببساطة لديه ما يخاطب عقلي به، وهو إجاباته التي تظهر تحصيله المرتفع.

يقول تعالى مخاطبًا رسوله ونبيه داود عليه السلام: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26]. وفي الآية نهي واضح عن اتباع الهوى، وبيان لسوء عاقبة اتباعه، وأمر واضح بالحكم بالحق، وإن كان الخطاب في الآية لداود عليه السلام، فالأمر والنهي فيها عام لكل من حكّمه الله بين الناس في أي شأن. ولكن مع الأسف الشديد فإن العامة منا –خاصة- لا يتبعون هذا الأمر والنهي في حكمهم بين العباد، فتكون لهم أحكامهم العاطفية التي لا علاقة لها بالعقل والمعايير الصحيحة التي ينبغي أن يقوم عليها التقييم، والتي تختلف من موقف إلى آخر.

وما نراه من تقييم عاطفي على أسس ومعايير غير موضوعية الأمثلة عليه كثيرة، فإن صدر حكم طرد على رجل يستأجر شقة وفقًا لأحكام قانون الإيجارات القديم، والذي يؤبد عقد الإيجار ولا يزيد قيمته، وأحكامه ظالمة جائرة في حق المالك، رأينا سُذجًا يتباكون على حاله، وقد كان المالك الأحق بالتعاطف معه وقد اغتصب حقه في الانتفاع بملكه لأكثر من نصف قرن، وإن أخطأ ضعيف وجدنا من يتحيل لإلصاق خطئه بآخر، وإن أجرم مجرم سعى له بعض السعاة وتحيلوا لتبرير جريمته وخلق دوافع لها ربما تدفع عنه العقاب لأن لديه أبناء أو أم أو أب بحاجة إليه!

وفي عالم السياسة العربية نرى اتباع الهوى في أزهى صوره في الكيفية التي يقيم بها العرب المرشحين في الانتخابات، والتي لا صلة بينها وبين العقل والمنطق! ومن أكبر الأمثلة على ذلك ما رأيناه في انتخابات الرئاسة المصرية 2012م، والتي رغم ما شابها من تزوير أثر على نتيجتها الأخيرة فقد كانت تجربتنا الديمقراطية الأولى والأخيرة لاختيار حاكم عبر تاريخ مصر الطويل. في هذه الانتخابات نجد إنه من بين المرشحين الثلاثة عشر لم يتقدم أي منهم ببرنامج انتخابي حقيقي صيغت أهدافه صياغة إجرائية واضحة سوى الفريق دكتور أحمد شفيق، فكان الوحيد من بينهم الذي خاطب من له عقل من المصريين، بينما بقي بقيتهم يُنظِّرون على الناس، ويخاطبونهم خطابًا عاطفيًا، دون امتلاك أي تخطيط أو تحديد آليات للتنفيذ لما يذكرونه من أهداف عامة. وكان هذا على اختلاف توجهاتهم فلا فارق بين مرسي مرشح الإخوان وبين حمدين مرشح الناصريين!

وكان أنصار مرشح الإخوان د.محمد مرسي رحمه الله يفاخرون بأنه يحفظ كتاب الله كاملًا! وقد اجتذب هذا الأمر كثيرين إليه من بسطاء المجتمع ممن رأوا ذلك معيارًا جيدًا للحكم على صلاحه، والحقيقة أنه ربما كان معيارًا صالحًا لاختياره إمامًا للصلاة إن حان وقتها، وليس لحكم بلد بحجم مصر في القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد!

يُروى أنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فتح تَسْتَر في بلاد فارس على يد أبي موسى الأشعري، ووجدوا جثمان النبي دانيال عليه السلام في تابوت، وبدنه سليم؛ فالأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن دانيال عليه السلام مات منذ قرون ولم يُدفن بعد، وبشر من يعثر عليه بالجنة. قال: "من دل على دانيال فبشروه بالجنة". وكان الذي عثر عليه رجل بسيط من عامة المسلمين، ولما بلغ الخبر الخليفة، بعث كتابًا إلى أبي موسى الأشعري يأمره فيه بأن يرسله إليه كونه رجل من أهل الجنة، وإلى هنا نجد أن خبر الرجل قد انقطع من كتب التاريخ، فلم يذكر لنا الرواة أن الخليفة عمر قد ولاه على بلد ولا استعمله على صدقات، فهو رجل من أهل الجنة وحسبه وكفى، ولا يصلح أن يلي أمرًا من أمور المسلمين.

ولكننا اليوم في عصور انحطاطنا نجد جماعة تُعرف بالإسلاميين، تقوم دعاياتها الانتخابية في البلاد العربية والإسلامية على أساس صلاح المرشح الديني، وليس على معايير كفاءة حقيقية تختص بحُسن قيامه بالمهام التي يترشح ليؤديها، والأدهى والأمر أن يظهر بعد ذلك في أحايين كثيرة أن هذا الصلاح في أمور الدين متوهم وأن بعض مرشحيهم منافقون أفاقون!

وقد وصل الإسلاميون إلى الحكم من خلال وزارات في دول عربية ملكية؛ وهي المغرب والأردن، ولم يلمس مواطنو الدولتين تحسنًا في ظروفهم المعيشية، وبقي مواطنوهم ومنهم مؤيدوهم يحلمون بالهجرة، ومن المضحكات المبكيات التي حُكيت لي أن رجلًا مغربيًا يعيش في ألمانيا كان شديد التأييد للإسلاميين في بلده، حتى أنه يتخاصم مع أقربائه وأصدقائه ممن يعزفون عن انتخابهم لعدم اقتناعهم بقدراتهم على إحداث تغيير إيجابي في المجتمع، ويعظم الخطب عليه إن علم أنهم سيرشحون امرأة، حتى قال له أحد أقربائه يومًا: طالما يعجبك الإسلاميون فلنتبادل، ولتعد هنا لتتمتع بالنعيم الذي خلقوه لنا، ونذهب مكانك، ثم ما بالك تلعن من يرشح النساء وأنت مقيم في بلد تحكمه امرأة!

وطوال السنة التي حكم فيها د.محمد مرسي مصر لم تظهر منه أي خطوات على الطريق تدل على أنه تحرك شبرًا نحو الهدف الذي ادعى أنه يأمل أن يصل بمصر إليه، فلا تغيير في السياسة الخارجية أو الاقتصاد أو التعليم، ولا حتى بانت منه نية أنه يريد أن يحقق أو يخلق شيئًا مختلفًا عمن كانوا يحكمون حكمًا علمانيًا –على قوله-، لأنه لم يملك يومًا أي خطة لتنفيذ هدفه، بل وكانت هناك ضبابية لديه حول هذا الهدف، فهو وجماعته يريدون إرجاع عز الإسلام، والإسلام هو الحل لإصلاح المجتمع، أما عن المعنى التطبيقي لهذا الهدف على أرض الواقع وكيفية تحقق ذلك فليست لديهم أدنى فكرة عن الإجابة! ولكنه الخطاب العاطفي الساذج الذي يُوجه خاصة لاستقطاب فئة من الجماهير العربية يعجبها ويقيمون الناس على أساسه.

ويدَّعي بعضهم أن الإسلاميين قد أُفشلوا في مصر، وأنه كان هناك تعجل واضح في الحكم على أداء د.مرسي، وأن الأهداف الكبيرة لا تتحقق بين يوم وليلة، وهذا كلام عاطفي آخر مردود عليه، ولنأخذ مثالًا؛ فالسفر من القاهرة وصولًا إلى أسوان في جنوب مصر سفر طويل ولا شك، ولكنه يمر بمحطات، ووصولك لمحطة تلو الأخرى على الطريق دليل على تقدمك نحو هدفك، فإن كان المفترض أن تبدأ الحركة من منزلك في العاشرة صباحًا، فالمفترض أيضًا أن أتصل بك بعد ساعات لأجدك في الفيوم، وإن كانت أعطالًا قد حدثت لك فعلى الأقل يمكن أن تكون قد تجاوزت الجيزة، ولكن ليس من المنطقي أن أتصل بك لأسألك أين أنت فتخبرني أنك لا زلت في المنزل، ثم أعاود الاتصال بك بعدها بمدة لتخبرني أنك لا زلت في المنزل، وتريد أن تقنعني أنك حقًا تريد التوجه إلى أسوان! ثم أعلم بعدها أنك في استراحة على طريق الإسكندرية لأتأكد أنك تسير في اتجاه مخالف تمامًا لما ادعيت أنه وجهتك!

لقد خلقوا للدكتور مرسي هالة حوله لنفخ صورته وتعظيمها أمام الناس، خاصة غير المصريين، حتى بات من يعرفونه على الحقيقة لا يصدقون أن هذا الرجل البسيط يستحق كل هذا القدر من التعظيم وكأنه الخليفة المنتظر! وهي هالة سبق خلقها حول أردوغان بلا أدنى مبرر غير تصريحات جوفاء وسلوكيات لا قيمة لها تخرج منه وتصدر عنه من آنٍ لآخر.

والإشكالية التي تتسبب في نجاح هذا الشكل من أشكال الخطابات العاطفية مع فئة من الجماهير أن بعض السفهاء ممن يوجهونهم فكريًا أفهموهم أن عودة مجد وعز المسلمين في أن يكون لهم جميعًا حاكم واحد! علمًا بأن العصر الذهبي للإسلام لم يكن المسلمون فيه دولة واحدة، بل كانت هناك ثلاث دول كبرى تدعي كل منها مسمى الخلافة؛ فكانت الدولة العباسية ومركزها العراق، والدولة الفاطمية ومركزها مصر، والدولة الأموية ومركزها الأندلس.

وإن كانت أوروبا قد اتحدت في العصر الحديث، فاتحادها كان عقلانيًا يراعي المصالح، فتأشيرة واحدة تُعطى لزيارة دولها مجتمعة، ولهم برلمان واحد لدراسة شئونهم المشتركة، ولكن لا يوجد عاقل يقر أن تقوم حكومة واحدة على خدمة كل هؤلاء الملايين من البشر، وهذا هو حكم العقل وليس حكم العاطفة. ومثله كان اتحاد الولايات المتحدة الأمريكية، وفي العالم العربي طبق الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله النظام الاتحادي الفيدرالي في دولة الإمارات، ويعد أكثر الأنظمة العربية التي حققت رفاهية ورخاء لمواطنيها، بغض النظر عن عدم اقتناعي بكثير من المواقف السياسية التي كانت من البلد من بعد وفاة الشيخ زايد.

ولكن للحق فإن من يرغب أن يستمع إلى نموذج ممتاز للخطاب العاطفي فعليه بفقرة من فقرات خطب السيسي، وهو يحدثنا عن الإنجازات التي يتوهم أنه حققها! ثم وهو يحدثنا عن سد النهضة ويطمئننا بشأنه! متجاوزًا احتمال مرور مصر بشدة أكثر كارثية من الشدة المستنصرية، علمًا بأن المستنصر بالله الفاطمي كان بريئًا من أي اتهام يتعلق بأسباب الشدة في زمنه، فقد كان قضاء الله وانخفاض منسوب النيل لسنوات سبع، ولم تكن مصر قد تعافت من آثار الشدة العظمى التي سبقتها، واستمرت ثماني سنوات، ثم إن المستنصر بالله لم يكن يعيش في الرفاه ويبني القصور تاركًا الشعب في شدته، بل كان في أسوأ حال وقتها هو الآخر وفقًا لما رواه المؤرخون.

وقد ذكرت في مقال سابق إن السيسي يتبادل تقمص شخصيتي الخديو إسماعيل والرئيس السادات، وهو بنفسه من حكى عن التقشف الذي عاش فيه سنوات، وأحسبه حقيقيًا بسبب كارثة مالية وضع نفسه فيها، فشخصية إسماعيل تقنعه أن الديون التي يخلقها بسفهه لها ما يبررها، وشخصية السادات ترحمه من جلد الذات وتشعره بأنه ناجح في التفاوض وقادر على اتخاذ قرارات جريئة لا يتفهمها كثيرون! ولكن الأسوأ من الخطاب العاطفي للسيسي هو التقييم العاطفي لمؤيديه ممن عدموا العقول، فلا يرون ما جرته علينا خيبته الواضحة في الإدارة.

وعلى العكس تكون الثقافة الغربية، فهم أقرب لتحكيم العقل منا، وفي أثناء الحرب التي شنتها قوات التحالف الأمريكية البريطانية عام 2003م لإسقاط نظام صدام حسين، كان يتولى حقيبة وزارة الإعلام العراقية الوزير محمد سعيد الصحاف، وكان يخرج علينا ليلقي بيانات ويجيب عن أسئلة الصحفيين ويتوعد قوات التحالف، فلما سقطت بغداد اختبأ ضمن من اختبأ من رجال النظام العراقي، إلى أن صرح الأمريكان أن الصحاف ليس من المسئولين العراقيين المطلوبين لدى قوات التحالف، فهو وفقًا للتقييم المنطقي رجل ظريف ولا يشكل أي خطر عليهم! فسلم نفسه وأفرجوا عنه مباشرة ولم يمسوه بسوء رغم سبه لهم! بينما لو كانوا استخدموا التقييم العاطفي لكان الصحاف أول من بحثت عنه قوات التحالف لقتله. وهذا ليس تبريرًا للحرب التي شنتها أمريكا وبريطانيا على العراق، بل هي كلمة لبيان إلى أي درجة لا يتفاهم هؤلاء القوم إلا بلغة العقل والمصالح، ولا يعرفون غيرها، وهذا سر نجاحهم. وإن كنا قد رأينا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة 2020م كثيرًا من الحوادث التي تؤكد أن لوثة التقييم العاطفي أصابت فئة لا بأس بها منهم، وهل هناك عاقل يمكنه أن يقتنع ببهلوان مثل دونالد ترامب!