الأحد، 26 يونيو 2022

291-مقدمة كتاب "الإلحاد والتطور.. أدلة كثيرة زائفة"

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة كتاب

"الإلحاد والتطور.. أدلة كثيرة زائفة"

د. منى زيتون

على المثقف، الاثنين 27 يونيو 2022

https://www.almothaqaf.com/readings-2/963639


 يمكن تحميل نسخة pdf عبر الرابط

https://payhip.com/DrMonaZaitoon

 

‏بسم الله، والحمد لله، نحمده ونستعينه. أما بعد،

يقول تعالى: ﴿‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً‏﴾‏ ‏[النساء: 89]. وهذا الكتاب، وكما يظهر جليًا ‏من الإهداء موجه إلى المؤمنين بالله؛ ليظهر لهم كثيرًا مما خفي عنهم من علم حقيقي، عن زيف ما يدعيه ‏التطوريون الغربيون وأذنابهم من العرب، ويسهم أحيانًا في زعزعة إيمانهم، وقناعتي التامة أن من شاء فليؤمن ‏ومن شاء فليكفر، فليس الهدف من الكتاب حث الملاحدة المعاندين على الإيمان.‏

وقد كنت منذ سنوات بعيدة ألاحظ أن جدل التطوريين حول القيمة العلمية لنظرية التطور يبالغ ويشيع عنها أنها حقيقة راسخة ثابتة لا مجال لدحضها، وهذه ‏المبالغة تبدو صفة أساسية في الكثير من الدعاوى حول ‏النظرية؛ دعاوى متضخمة لتعويض أدلتهم ‏الهزيلة العاجزة.‏ ولم أجهل أن هناك من يسعون جاهدين لإقناع شباب العرب زورًا بصحة نظرية ‏التطور لإظهار أنفسهم على درجة زائفة من العلم ليست لهم ولا تعبر عن حقيقتهم، ولكن لم يعنني هذا ‏ولم يخلق لدي عزيمة أن أجتهد في الرد عليه حتى ظهرت ثم شاعت نظرة جديدة للتطور وجدت من يروج لها بين العرب، ‏وهو ما أصبح يُعرف بالتطور الموجه؛ وهي محاولة إسلامية لمجاراة ما طرحه فرانسيز كولينز رئيس مشروع ‏الجينوم البشري في كتابه الشهير "لغة الإله".‏

وقد سألت نفسي لِم لا أترك المؤمنين بالله من غير المدققين يؤمنون بأن التطور هو أسلوب ‏الله في ‏الخلق، حتى وإن كنت أعلم يقينًا أن كل أدلته زائفة، طالما أنهم لم يدرسوا أدلة النظرية ‏من جهة، ولا علم لهم ‏بالعقائد من جهة أخرى، ولا يبدو أن الاقتناع بالتطور من عدمه يمكن ‏أن يؤثر في إيمانهم؟ أليس المهم أن يبقوا ‏مؤمنين بوجود الله؟!‏ خاصة وأنا أعلم يقينًا أن أغلب شباب العرب من مدعي مناصرة التطور يفعلون ذلك من باب المسايرة للمجتمع المتحضر ‏‏الذي يحسبون أن جله مقتنع بصحة النظرية، بينما في أحدث استطلاع في الولايات المتحدة الأمريكية عن النظرية ظهر أن ‏‏‏40% من الأمريكان ليسوا مؤمنين بالتطور، هذا على الرغم من كل أساليب الترويج الإعلامي له، ورغم منع ‏تدريس أي وجهة نظر أخرى تعارض التطور في المدارس الأمريكية.‏

ولكني رأيت الأمر أخطر مما يبدو ظاهريًا؛ كان مشركو قريش يعترفون به سبحانه وتعالى خالقًا، ولكن مع ‏الاعتقاد بوجود أصنام تنفع وتضر وتشرك ‏الله بشكل ما في تسيير أمور الكون، ولو كان ‏الإيمان بالله فقط كافيًا ما بُعث سيدنا محمد إلى قريش وغيرهم من ‏المشركين لتصحيح عقيدتهم الفاسدة. ‏إذًا فالأمر لا ‏يتعلق بالإيمان بالله وحسب، بل لا بد أن يكون ذلك الإيمان ‏على عقيدة صحيحة.‏

ثم إن شياطين الإنس يريدون أن يبرهنوا لأنفسهم أنهم على حق، ولأجل ذلك فهدفهم جر مزيد من البشر ‏معهم إلى الهاوية، فهم لا يكتفون ممن يقر بحدوث تطور الأنواع من بعضها باقتناع ساذج بسيط قد لا يؤثر على ‏إيمانه؛ كونه لا يفهم ‏عمق ما يعتقد التطوريون من دور محوري للطبيعة في الخلق، بل ‏يُصرّون على تقديم ما يدّعونه أدلة ‏على حدوث التطور للعامة، وهنا يبدأ الطعن في ‏قيومية وعلم الله وقدرته المعجزة على خلق كل شيء بمقدار. ‏وما يفعله هؤلاء ليس اجتهادًا ‏فكريًا، بل تنطعًا علميًا، ونشرًا لأفكار تقتضي الشرك والإلحاد بدعوى التجديد في ‏الدين، ‏والعقيدة لا تُجدد لتتوافق مع أهواء الملاحدة، وهذا ليس جمودًا فكريًا ولكنه محاربة للعبث ‏بعقيدتنا.‏

والمنظور التطوري الذي يحاول أن يعطي التطور صبغة دينية يدّعي أن الطبيعة تعبث ‏بعيدًا عن الله، ‏ويطعن في علم وحكمة الله وإحاطته بخلقه، يطعن في غائية الخلق حتى مع ‏ادعاءات المدعيين بأنه أريد ‏للخلق أن يكون هكذا.‏ إنها حيلة الشيطان القديمة تتجدد مع مصدر شرك وكفر عصري؛ فعبادة الأصنام بدأت عندما أقنع ‏الشيطان أتباعه بتكريم عظمائهم وصنع أصنام لهم، ثم عبدوها واتخذوها آلهة مع الله، ثم كان من بعضهم أن ‏عبدوها دون الله.

‏ومما يروج له التطوريون أن نظرية الخلق تغذي في الإنسان نرجسيته، ولذا فهناك من يتمسك بها ويرفض ‏التطور لأجل ذلك، والحقيقة على عكس ما يدعي مروجو نظرية الأسلاف القردة، بل نظرية الخلق تفهم الإنسان ‏قيمته وتفرده ودوره على الأرض كخليفة لله فيها، على عكس نظرية التطور التي لا تجعله يميز نفسه عن ‏الحيوانات، ويركز فقط على احتياجاته الفسيولوجية ولا يرى في ذلك بأسًا.‏

وهذا كان السبب الرئيسي لإنعاش نظرية التطور في القرن العشرين بإدخال آلية الطفرة؛ لأن الداروينية صارت أيديولوجية تسهم في صياغة العصر المادي الذي أرادوا أن يتم تكريس الإنسان ‏فيه بأن يقنعوه أن ‏أصله حيوان، إذًا فلتبقِ أسير غرائزك ورغباتك أيها الإنسان. ونحمد الله أن العقد الأخير من القرن العشرين كان بداية طرق معاول الهدم في تلك النظرية ‏‏البهيمية، ولا زالت تتصدع بأيدي التطوريين بما تسفر عنه نتائج دراساتهم عن الجينوم -على عكس ما يظن العامة-، وبالمستجدات العلمية في بقية العلوم، وهو ما سنفصل فيه في الباب الرابع، كما تصدعت كثيرًا بضربات قوية من أصحاب نظرية التصميم الذكي.‏

وهدفي من الكتاب أن أثبت أن التطور ليس أسلوب الخلق، وأن التطور مرفوض علميًا مثلما هو مرفوض عقديًا؛ فالتطور وانبثاق الأنواع من بعضها ليست نظرية علمية، وإنما هي تفسير معيب ألبس ثوب العلم زورًا ودون أدلة، ويقيني ‏أن التفسير المعيب قد يعيق العلم لأنه يوقف مسيرته ويهبط عزيمة العلماء عن السعي لمعرفة التفسير الصحيح، ‏كما أنه قد تنبني عليه أكوام من الاستنتاجات الخاطئة. ولو كان العلماء الحقيقيون يصدقون كل دعاوى ‏التطوريين ما اكتشفوا وظائفًا لكل ما ادعى التطوريون أنه عديم ‏الوظيفة من أجزاء الجينوم أو أعضاء جسم ‏الإنسان وباقي الأنواع، ‏ولكن التطوريين لم يستطيعوا إعاقة حركة العلم لخدمة نظريتهم، وإن كانوا قد خدموها ‏بالتضخيم ونشر الزيف وترديد الأكاذيب عنها حتى صدقوها وصدقها معهم كثير من الناس.‏

وهناك فكرة شائعة عن نظرية التطور بأن جذورها تعود إلى فلاسفة اليونان، ونسبة النظرية إلى الفيلسوف ‏اليوناني أناكسيمندر ‏Anaximander‏ ‏ ‏(610 ق.م– 546 ق.م)، وهو من ‏ أعلام المدرسة الميليسية (تابعة للأيونية)،‏ وهذه النسبة غير صحيحة، ‏فهو قد استثنى الإنسان من بقية الحيوانات التي –وفقًا له- خرجت من المياه إلى اليابسة، وقال إن الإنسان ‏الأول بقي محفوظًا في جوف الأسماك جنينًا حتى كبر واستطاع القيام بأمر نفسه فخرج إلى اليابسة عندها، ولم ‏يقل إن السمك هو أصل الإنسان أو أن الإنسان تولد عنه، ومن يدّعِ أن  أناكسيمندر‏ قال إن نوعًا يمكن أن ينتج ‏من آخر لم يفهم حقيقة ما قال، وما أكثرهم!‏

في هذا الكتاب تعرضت بالنقد لنظرية نشأة وارتقاء الحياة على الأرض عن طريق آلية الانتخاب الطبيعي، ‏والتي تُنسب إلى دارون، فتُعرف به ويُعرف بها، وإن كان الباحثون في المجال لا يخفى عليهم أن ألفريد والاس ‏هو من صرح بها أولًا  عام 1858م، فادعى دارون أنه توصل إليها قبل عشرين سنة، وهناك تشكك في أن ‏كليهما سرقاها من الاسكتلندي باتريك ماثيو، ولست مهتمة بتتبع أول من فكر في دور الانتخاب الطبيعي ‏المزعوم في التنوع الحيوي، فعلى كل حال لم نر هذا الانتخاب الطبيعي يخلق أنواعًا، وقد وفرت جهدي في ‏تقديم شروح عن النظرية والرد على ادعاءاتها، وليس البحث عمن بلانا بها، فحسابه على الله. ‏

وإن كان هذا لا يمنع أن أصرح باقتناعي التام أن أيًا من والاس أو ماثيو ما كان بإمكانه نشر مثل هذه ‏النظرية الحدسية غير المنطقية؛ فدارون كان شخصاً يمتلك قدرًا كبيرًا من الذكاء الاجتماعي، في حين كان يفتقد ‏إلى كل ما له ‏علاقة بمتطلبات النجاح الأكاديمي؛ إذ كانت كتابته رديئة وكثير الأخطاء ‏الإملائية وبطيء الفهم، ما ‏يدل على ذكاء لغوي منحدر، ولم يعرف عنه خلال دراسته التميز في ‏الرياضيات أو الفلسفة أو المنطق، ما يدل ‏على ضعف ذكائه المنطقي/الرياضي؛ الذي لو كان يتحلى ‏بدرجة معقولة منه لما وضع نظرية قائمة بتمامها على ‏الحدس، رغم ما حاول ادعائه لها من أدلة، وعليه فدارون إنما نجح في تمرير نظريته إلى الوسط العلمي في ‏عصره من خلال علاقاته الاجتماعية ‏وتحزبات وثلل تدافع عنه وليس لقيمتها. ‏ ‏

كما لم أهتم بعرض الفروق بين أفكار دارون في الطبعات الثلاث من كتابه "أصل الأنواع" الذي ‏عرض فيه نظريته، فنظرية التطور الحديثة تختلف اختلافًا بائنًا عما عرضه دارون بسبب ما استجد من علوم. وإن ‏كنت قد رددت على نوعيات الأدلة التي استدل بها دارون في كتابه ضمن مقالات الباب الرابع.‏

فالكتاب الذي بين أيديكم هو مجموعة من المقالات الفكرية والعلمية، كُتبت ونُشرت على مدونتي لنقد ‏التطور وبعض مواقع الكترونية عبر ‏سنوات، وفي البداية كانت في صورة مختصرة لأنها كانت ردودًا ‏توليت صياغتها سريعًا ردًا على أحد دعاة التطور العرب، ثم حسّنتها وزدتها، وسبق جمعها ونشرها ‏ككتاب الكتروني دون طباعة. وكان سبب جمعها سوية هو مراوغة التطوريين المعروفة عنهم والتهرب من نقاش ‏دليل لآخر. وهذه هي الطبعة الأولى للكتاب.‏

https://critiqueofevolution.blogspot.com/

يحتوي الكتاب أربعة أبواب، أولها يتضمن مقالات للرد على بعض ما يستند إليه الملاحدة ويعرضونه من ‏أفكار، مثل: عرض ونقد لفلسفة العلم عند كارل بوبر، وحديث عن الإلحاد ودور الاستقراء التام‏ فيه، والأفكار ‏الإلحادية المضمنة في نظرية التطور‏، وعرض لمعنى لا محدود‏ية الله، ومعنى الإلحاد في أسمائه، وبعض من الخواطر حول الإلحاد‏، وأخيرًا: ‏هل ينبغي علينا أن نكترث لأمر الملحدين؟‏!‏

ويتضمن الباب الثاني مقالات توضح موقع نظرية التطور من العلم والدين، فبدأت بعرض الاتجاهات المختلفة في تفسير التنوع الحيوي، ‏وعرض لنظرية خلق الأنواع وفنائها كما أراها لأنني لم أقرأ لأحد حاول تنظيرها ووضع مبادئ لها، وتضمن مقالًا إجابة عن ‏السؤال الهام: هل التطور علم؟ وأوضحت في آخر بعض المغالطات المنطقية المرتبطة بالتطور، كما خصصت مقالًا عن فلسفة ‏الصراع من أجل البقاء، والتي برر بها دارون لحتمية التطور وحدوث الانتخاب الطبيعي، والنزعة العنصرية ‏للنظرية وما نشأ ‏عنها؛ إذ يدعي بعض المتحذلقين أن دارون لم يقصد بتاتًا الصراع العنيف الدامي وإنما فقط ‏صلوحية الصفات للتكيف مع البيئة أو الصلوحية العمرانية على حد تعبير الشيخ رشيد رضا، ولكن هذه ليست ‏الحقيقة وما عهد النازية منا ببعيد، ومعلوم كيف أثرت أفكار دارون في هتلر وقادته لكل الحماقات التي اقترفها.‏

ومقالات الباب الثالث تتضمن شروحًا عن النظرية، مثل: رحلة البيغل الثانية التي شارك فيها دارون ‏وبعض المغالطات التفسيرية التي يلصقونها بيوميات دارون عنها، ومقالًا عن فساد التمثيل والقياس بين ‏الانتخاب الطبيعي والانتخاب الصناعي، والذي أسرف دارون في الحديث عنه في "أصل الأنواع"، ‏ويتضمن هذا المقال عرضًا للإشكاليات المرتبطة بتعريف النوع الحيوي، وشرحًا للاعتراضات والانتقادات التي وُجهت ‏إلى نظرية التطور في عصر دارون، وشروحًا عن فرضيات أصل الحياة على الأرض، وتقديرات عمر الأرض وعلاقتها ‏بنظرية التطور،‏ وما يرتبط به من مفاهيم كالحد الكوني والألفة الكيميائية‏، وشروحًا عن الطفرة؛ تلك الآلية ‏الجديدة التي أحيا بها التطوريون النظرية في القرن العشرين، والتضاعف الجيني وكيف يتصورون قدرته على ‏تخليق المعلومات الجديدة اللازمة للانتواع. وشرحًا لأكذوبة نشأة الأنظمة الحيوية تدريجيًا وعن طريق سقالات، والذي يقيسه التطوريون على نمو الأجنة.‏

وأما الباب الرابع فيتضمن ردودًا على كل ما استخدمه التطوريون من أدلة على ‏صحة النظرية، وبيان زيفها؛ ستجدون ردودًا على استدلالاتهم بالتوزيع الحيوي وعلم المورفولوجي وعلم ‏الأجنة، وعلى خرافة الأعضاء الأثرية‏، وما أسموه بعيوب التصميم في جسم الإنسان، والتأسل ‏الرجعي. إضافة إلى الرد على مزاعم امتلاء السجل الأحفوري الذي كان يأمل دارون أن يمتلئ بما يخدم نظريته، ‏وادعى بعضهم أنه صار دليلًا دامغًا على حدوث التطور، وعرض ونقد لأشهر الحفريات والأدلة التي يقدمونها على تطور ‏البرمائيات والطيور والحيتان والإنسان. وما استجد من استدلالاتهم بعد اكتشاف ‏DNA، والتعديلات المتكررة ‏التي أدخلوها على شجرة التطور التي كانت مجرد فكرة أولية وضعها دارون وأنماها التطوريون من بعده. وكيف ‏أثرت المكتشفات في علم فوق الوراثة (فوق الجينات)‏ في إعادة النظر في ادعاءات التطوريين عن الطفرة والتطور ‏الصغروي، والرد على أدلة التطور الصغروي.‏

ولم يعتنِ الكتاب بعرض بعض روائع تصميم الخالق، وهي بحاجة إلى كتاب كامل يمكن أن يكون جزءًا ‏ثانيًا لما بين أيديكم، إن يسر الله، وسيسرني إن فكر غيري في إعداده، فالتطوريون تصيبهم كلمة تصميم في مقتل، ‏‏ودومًا يسعون ‏إلى تشويه روعة أي تصميم حيوي،‏ بل إن التصميم الدقيق للكون ‏يفترضونه لأن كوننا نشأ من بين أكوان متعددة!‏

لقد خاضت نظرية التطور حروباً ومعارك كثيرة، وتم نفخ الروح فيها من جديد، وعن نفسي أتمنى أن لا ‏‏يقبضني الله قبل أن يقبضها.‏ وقد كان مما فت في عضدي منذ كتابة المقالات الأولية للكتاب أن كثيرين ‏من المؤمنين لم يروا أن الموضوع يستحق ما أبذله من جهد فيه، وأن الحياة على الأرض قاربت أن تنتهي ‏ونفنى، فما أهمية الرد على المعاندين المشغولين بكيف بدأت ليبرروا لأنفسهم بعض قناعاتهم العقدية؟ ورغم ‏أنني لا أحب المناظرات عمومًا، فإنني لم أوافق هؤلاء المؤمنين في الرأي، لأن التطوريين خلطوا العلم الزائف ‏بالعقيدة ليفسدوا على الناس عقيدتهم ويدخلوا الشك في نفوسهم، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ‏فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْق‏﴾‏ ‏[العنكبوت: 20]؛ فالبحث في أصل الحياة على الأرض أمر إلهي، وفي مقال "أصل ‏الحياة" سنرى أن التطوريين بعد جهد عادوا مرة أخرى إلى فرضية الأديان، وصارت نظرية الطين الصلصال ‏Clay Theory‏ مما يروج له بعضهم لتفسير نشأة الحياة الأولى، وإن ادعوا أنها ليست هي أساطير الأديان! لذا ‏فإن على من يعلم واجب أن يعلم غيره. ولمن لا يعرف فأنا حاصلة على عدة درجات جامعية، منها درجة ‏جامعية في التاريخ الطبيعي.‏ ولأجل هذا كله كان هذا الكتاب.‏

وسيجد القارئ أسلوب تنسيق الكتاب وتوثيق مراجعه بخلاف المعتاد باعتباره معدًا ليكون كتابًا الكترونيًا ‏بالأساس، وبالنسبة لكثرة النقول باللغة الإنجليزية في الباب الرابع، والتي أوردتها مصحوبة برابطها الالكتروني، ‏ولم أكتف بترجمة محتواها أو صياغته بأسلوبي،  فذلك كان مقصودًا لتحقيق الفائدة المرجوة، فمن خلال ‏تجاربي مع التطوريين العرب أعرف أنهم دائمو التشكيك بالباطل في صحة كل ما نكتب ونشرح من نتائج ‏الدراسات الأجنبية، وإيراد النص باللغة الإنجليزية كما هو مصحوبًا بترجمته أفضل سبيل لسك أفواههم، فهو ‏شيء اضطررت إليه رغم تفضيلي للكتابة الإبداعية وعدم اللجوء إلى النقول بكثرة. ولا أنسى ما أصر عليه أحدهم ‏عند نقاشه مع أحد المراهقين المؤمنين عن سحالي جزر بودماركارو، وهي مما يستدل به التطوريون ‏على حدوث التطور الصغروي؛ إذ أصر التطوري على أن هذه السحالي قد تطورت وصارت نوعًا آخر، وبقي ‏يجادل المؤمن حتى أعطيت الأخير النص الإنجليزي الذي يثبت أن جينوم السحالي لا زال على ما كان عليه، ‏ومن ثم فلا زالت النوع نفسه.‏

ولعل القارئ يجد في هذه المقالات والبحوث فائدة، وأن يعم النفع بها.‏

د. منى زيتون

مصر- الإسماعيلية

29 نوفمبر 2021

  

الجمعة، 24 يونيو 2022

290-خطيئة حواء مجددًا!

 

خطيئة حواء مجددًا!

د. منى زيتون

الجمعة 24 يونيو 2022

وعلى المثقف، السبت 25 يونيو 2022

https://www.almothaqaf.com/qadaya/963603

 

من الملحوظ لذوي البصيرة أن آثار التدليل المفسد قد زادت واتسعت في عصرنا بسبب نمط الحياة المترف الذي لا يكتفي بأن يحقق للفرد كل ما يريد، بل يحققه له في التو واللحظة. وعلى سبيل المثال فإن التدليل بالمداومة على شراء الأطعمة بواسطة خدمة الديلفري وشراء الملابس جاهزة والشراء عبر الانترنت، يختلف عن درجة التدليل التي كانت متاحة في زمن آبائنا، فلم يعد للمدللين صبر على الانتظار للغد حتى تعد لهم أمهم ما يشتهون من طعام، ولا ينتظرون عودة أحد من السفر وقد اشترى لهم ما يرغبون من ملابس، ولا ينتظرون خياطًا لينتهي من تفصيل أقمشة اشتروها، فكل ما يرغبون يحصلون عليه بأسرع ما يكون.

ويعتقد أغلب الناس أن التدليل الزائد الذي يوصل النشء إلى درجة الفساد والإفساد يقتصر على الأغنياء، لكن الحقيقة المرة أن للفقراء منه نصيب، وكل يدلل ويفسد على قدره!

أذكر أنني رأيت بعيني امرأة بسيطة تشتري باذنجانًا للحشو وقد قارب أن يحين وقت العصر، وتخبر البائع أن أبناءها بعد أن أعدت لهم محشو ورق العنب رفضوا أن يأكلوا منه وطلبوا منها أن تعد محشو باذنجان، فما كان منها إلا أن خرجت في التو لشراء ما يلزمها لتبدأ في إعداد ما طلب أبناؤها المدللون، ففوق أنهم لم يبالوا بتقدير تعبها في إعداد الوجبة الأولى، لم يأكلوا أي شيء آخر من المتاح أمامهم في المنزل، بل وزادوا بأن طلبوا منها إعداد وجبة أخرى، علمًا بأنها ليست وجبة سريعة الإعداد.

وأمثال هذه المرأة تعرف كيف تبتلي المجتمع بنماذج فاسدة، وتجعلهم ينتفخون، ويحسبون أن العالم الخارجي سيتعامل معهم بالطريقة ذاتها التي كانت تعاملهم بها هذه الأم الجاهلة التي لا تتأخر في تحقيق أي طلب لهم على قدر استطاعتها، وتفشل تمامًا في حثهم على تقبل ما بين أيديهم وأن يحمدوا الله عليه.

ذبيحة جامعة المنصورة

منذ أيام فُجع الوطن العربي بنبأ مقتل فتاة مصرية جميلة في ريعان شبابها ذبحًا على يد زميلها أمام أسوار جامعتها، والذي كان دائم المطاردة والتهديد لها في الحياة وعلى وسائط التواصل الاجتماعي، بعد رفضها طلب خطبته لها مرتين، وتحرير أبيها ثلاثة محاضر له في الشرطة تلزمه بعدم التعرض لها، وعقد جلسة عرفية اتفق فيها معه أن يبتعد عن الفتاة، ولكن كل هذا لم يُجدِ مع الفتى المدلل الذي لم يستوعب أن طلبًا له لم يُجاب، وأن اللعبة التي أرادها أبت أن تكون له!

وهذا الشاب كما عرفنا من أحواله من خلال وسائل الإعلام يتيم الأب، وله أختان متفوقتان أكبر منه سنًا، ولم يترك أبوه لهم معاشًا حكوميًا يتدبرون به أمور معيشتهم، فكانت أمه تعمل للإنفاق على الأسرة، ومع ذلك فلم يذكر أحد أنه حاول أن يعمل ولو عملًا مؤقتًا في خلال الإجازات الصيفية ليساعد والدته التي حنت ظهرها السنون، وإنما بدلًا من هذا طلب الفتاة من والدها مرة ومن والدتها مرة، متوهمًا أنهم سيقبلون به بعد أن أبدت الفتاة إعراضًا عنه، وحُق لها أن تفعل.

ولم يقتصر السوء على الجريمة، بل كان الأسوأ منها بعض من تحيلوا لتبريرها بأنها نتاج الاختلاط وتبرج الفتاة وغيرها من الأسباب التي يشيعها التافهون وضيقو الأفق ليخرجوا النقاش المجتمعي لأي قضية من قضايانا عن سياقه، ويجعلوا من الرجل الطرف المظلوم الذي تم دفعه لارتكاب الخطيئة، وتبقى حواء دائمًا وأبدًا سبب الخطيئة منذ الأزل وإلى قيام الساعة، وإن كانت مظلوميتها واضحة.

رأينا أحد المشايخ المتفرنجين الثقلاء ممن يستخف دمه في مواطن لا تحتمل درجة ظرفه المتطرفة، وهو يتحدث عما أسماه سبسبة الشعر وارتداء الجينز، وأن هذا المظهر سيجعل من تظهر به تتحول إلى جثة، وأحد رجال الدين المسيحيين هو الآخر لم يقصر فخرج علينا في مقطع يتحدث عن شمشون الجبار ودليلة التي أرادت إذلاله، وكيف سمح لها أن تذله، وهكذا بقدرة قادر مثّل الفتاة الذبيحة بدليلة، فإن كانت قد ذُبحت فتلك ولا شك جريرة خطيئتها، فهي التي استدرجته حتى فعل ما فعل!

أثر  التدليل

إن قضية كبرى مثل هذه تحمل في طياتها قضايا فرعية كثيرة بحاجة إلى نقاش، وليس من بينها الاختلاط، أو لنقل إنه ليس أهمها الاختلاط، فلا البنت كانت تظهر اهتمامًا به ولا جارته في مشاعره، وباعتراف جار الشاب، الذي ربّاه، أن ما أسماه (حبه لها) كان من طرف واحد، فعاش في بالونة في رأسه، وفقدت قدماه اتصالها بالأرض.

وبدايةً فإن تسمية شعور هذا الشاب تجاه الفتاة بالحب هو تسمية معيبة؛ فمن يحب لا يؤذي من يحبها، ومن الصواب القول إن شعوره تجاهها هو رغبة تملك وربما شهوة وليست حبًا.

ومن أهم ما ينبغي أن نتذكره من طرح هذه القضية الاجتماعية أن الإنسان يولد غير قادر على ضبط رغباته؛ يبكي إذا جاع، ويفرغ مثانته وبطنه فجأة عندما تمتلئان، ولا يعرف كيف يتحرك وحده، ولا يصبر أن يُبطأ عليه طلب يريده، والتربية الفاسدة وإن كانت تعلمه أن يضبط مواعيد طعامه وإخراجه ويوازن حركة جسمه، فإنها لا تزيد عن هذا، ولكن التربية الصحيحة تهذبه وتعلمه التحكم في رغباته كافة والصبر على تحقيقها.

وكل مغتصب، وكل شاب شوّه وجه فتاة رفضته أو شوّه سمعتها، وكل قاتل قتل فتاة رفضته، أو اعتدى على عريسها الذي قبلت به ورفضته، هو نتاج تربية لم يتعلم منها أن ليس كل ما تريده يمكن أن يكون لك.

وفي مقال سابق عن الإلحاد ذكرت أنني لا أبالغ إن قلتُ إن التدليل قد يكون من أسباب الإلحاد، فبعضهم قد لا يقتل أو يغتصب، ولكنه يدعو كثيرًا كطفل يتوسل لتحقيق حاجته، وعندما لا تتحقق لا يتقبل عدم تحققها، ويشك في وجود الله الذي دعاه ولم يستجب له.

كما سبق وحكيت في بعض مقالات كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي" قصصًا عن نوعية الأمهات الجاهلة ناقصة التمييز التي تُفهم ابنها المدلل، الذي تراه سيد الناس، أن أي بنت تتمناه، وكيف تتجرأ بعضهن أن تخطب لمثل هذا الفاشل عديم المزايا فتيات متميزات، وتحسب أن أهلهن يمكن أن يرحبن بهم!

وبحسب شهادات أهل الفتاة وجيران القاتل فالسلوك العدواني للقاتل لم يظهر لأول مرة تجاه الفتاة، فله ماضٍ من سلوك التعنيف والأذى الجسدي تجاه أمه وأختيه رغم أنهن أكبر منه سنًا، وهن من قمن بتربيته هذه التربية المنحطة التي لم تمنعه عن رفع يديه عمن حملنه صغيرًا، ومثله لا يُستغرب منه سلوكه العنيف تجاه الفتاة التي رغب أن يملكها ورفضته. وإن كان الفارق أن هذه الفتاة القتيلة ليس لها ذنب في هذا السلوك، بينما أمه بالدرجة الأولى من تتحمل مسئولية شعور الدِيكة الذي أوصله لهذا المسلك.

وخلاصة ما يُقال في هذه القضية إنه إن كنتم تبحثون عن حواء لتحملوها الخطيئة مجددًا، فهي خطيئة من دللته فأفسدته، وليست خطيئة القتيلة.

أثر رفاق السوء

في أغلب الحالات الشبيهة التي أعرف تفاصيلها عن قرب من خلال بعض الباحثين الاجتماعيين ممن بحثوها، لا يخفى فيها جميعها أثر رفاق السوء في حدوث الجريمة أيًا كان نوعها؛ فسواء كانت اغتصابًا أو تشويه سمعة أو قتلًا، أو خلافها، فهناك رفاق سوء لعبوا دور إبليس في القصة، ووسوسوا لصاحبهم وقادوه إلى الهاوية.

تبدأ الكارثة في التصاعد عندما يعمد أمثال القاتل في قصتنا إلى إيهام المحيطين به أنه على علاقة بالفتاة التي يريدها، وشيئًا فشيئًا يتكشف لهم كذبه، ولأنهم أصدقاء سوء يكونون سببًا رئيسيًا في ألا ينزع الموضوع من رأسه، ويطالبونه بأن يثبت لهم وجود علاقة مع الفتاة، وهنا يحدث التصعيد بحسب نوع الجريمة؛ فيبدأ صاحبهم في اختلاق حسابات مزيفة على وسائط التواصل باسم الفتاة ليظهر لهم كذبًا أنها تكلمه وبينهما علاقة، أو يحاول أن يختلق حديثًا معها ما أمكن لأتفه الأسباب، سواء كان حقيقيًا أو تليفونيًا، ليثبت لهم أن هناك تواصلًا بينه وبين الضحية. وفي جريمة حدثت في منطقة التجمع الأول بالقاهرة منذ سنوات دفع أصدقاء السوء الشاب إلى بيت المرأة دفعًا وطلبوا منه أن يصعد إلى منزلها في وقت كانت وحيدة فيه، ليثبت لهم أنها على علاقة به، فاضطر أن يصعد ولما فتحت المرأة الباب لترى ماذا يريد ولماذا يطرق بابها، دفعها فحاولت أن تصرخ فقتلها وهرب!

وأثناء استماعي لشهادات الشهود في قضية فتاة جامعة المنصورة لفت نظري أن بعض الشباب من زملاء القاتل قالوا إنه لا يوجد مبرر لأن يقتلها وإن خانته وتركته! وهذا على عكس شهادة جاره ومربيه الذي قال إن الشاب اعترف له أنه حب من طرف واحد وأن الفتاة رفضته تمامًا منذ البداية، كما أكدت مراسلات الفتاة مع أختها عبر تطبيق الواتس آب رفضها له، وكانت تصفه بمن أراد خطبتها، وذكرت لأختها أنه هددها وكرر تهديده لها. فلماذا يظن أو يردد بعض الشباب أنها خانته؟!

كما ذكرت بعض الشابات من صديقات القتيلة أنه اختلق حسابات وهمية كثيرة على موقع الفيسبوك ليتمكن من محادثتها، ولكن الفتاة حظرته، فاستخدم هذه الحسابات للتشنيع عليها منها.

وبحسب تصوري فقد صدّق بعض زملائه ما حاول التشنيع به على الفتاة من وجود علاقة بينهما، أو جاروه في ادعاءاته، ولدي شك بنسبة لا تقل عن 90% أن بعض زملاء الشاب القاتل في الكلية لعبوا دور إبليس في القصة، كما يلعب أمثالهم هذا الدور في كل قصة شبيهة، وهم من أوصلوه لحالة الهياج العقلي التي وصلها لما انكشف رفض الفتاة له، وهؤلاء يجب البحث عنهم وفضح دورهم في الجريمة ومحاسبتهم، فليسوا بأقل منه جُرمًا.

المجالس العرفية ومحاضر الشرطة!

في قصتنا هذه حاولت الفتاة أن تدفع الأحمق عنها بأن أخبرت أباها، وتصرف الرجل تصرفًا محترمًا، فلم يستغل أن أبا الشاب متوفٍ، ورجل في مثل حاله كان بإمكانه أن يهدد الشاب وأمه وأختيه، ولكنه لجأ إلى تحرير ثلاثة محاضر تلزم الشاب بعدم التعرض لابنته، كما لجأ إلى المجالس العرفية، ولم يُجدِ أي منها، والسؤال المهم هو لماذا لا تُجدِ أمثال هذه المحاضر والشكاوى في بلادنا؟!

منذ سنوات، عندما كانت أرقام الهواتف المحمولة في مصر لا يُشترط تسجيلها وربطها بأسماء، تلقت فتاة أعرفها رسائل معاكسات كثيرة متتالية من رقم لا تعرفه، وذهبت لتحرير محضر ضد من أرسلها، وبحسب ما أخبرتني فقد كان من يكتب المحضر متعاطفًا تمامًا مع من أرسلها، ومتعجبًا من غضبها منه؛ لأنه من الواضح أنه يحبها! وعندما همت بأن تخرج وتأخذ رقم المحضر لتتابع ما سيتم فيه، أخبروها أنهم طاوعوها فقط وحرروا المحضر ولكنه سيُحفظ لأن الرجل يحبها، ولم ير أي منهم عيبًا فيما فعل!

وعليه فأنا أعتقد أن الإجابة الصحيحة للسؤال عن سبب عدم جدوى هذه السلوكيات المتحضرة التي سلكها الأب أن أمثال هذه المجالس والمحاضر كانت صورية، ولم يستشعر الشاب أي ضغط حقيقي عليه ليقلع عن سلوكه السيئ ويكف عن مضايقة الفتاة، بل ربما وجد من يتعاطف معه!

وبعض التعليقات التي قرأتها حول القضية أظهرت بالفعل بعض التعاطف مع الشاب، واستشهدوا بالحديث الشريف "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"! علمًا بأن كثيرًا من العلماء تكلموا في صحة هذا الحديث، ومنهم الإمام البخاري، فضلًا عن أن بلغت درجة سفههم أن يصفوا قاتلًا ومدمن مخدرات بأنه مرضي الدين والخلق، وعلى فهمهم الضحل فكل من جاءك يطلب ابنتك أو أختك زوّجه، ولا عبرة برضا وقبول الفتاة، فيكفي أن الشاب يريدها لتتزوجه مرغمة وهي لا تطيق أن ترى وجهه وليس لها حق في الرفض! ويبدو أن تلوث ماء النيل سيرينا من الغباء المتزايد أضعاف ما كنا نرى!

ويؤسفني أن أقول في المقابل إنني متأكدة تمامًا أن الشاب لو وجد من يضربه ضربًا مبرحًا ويعنفه ويعنف أمه وأختيه لارتدع واحترم نفسه غصبًا عنه وابتعد عن الفتاة مرغمًا.

لكن الأحمق لم يرتدع، والفتاة قد ذُبحت بلا ذنب، ولم يبق لنا إلا المطالبة بالقصاص العادل العاجل منه ومن كل من يثبت أنه ساهم في تحريضه، والمطالبة كذلك بسك أفواه المختلين عقليًا ونفسيًا ممن يخرجون علينا في وسائل الإعلام ومقاطع اليوتيوب يحاولون التبرير لفعلته.

 

 

289-اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ

 

اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ

‏وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 50]. وهي الآية التي كان لرسول الله قبلها أن يتزوج أي النساء شاء، فقُصر الحِل له بعدها على الأربعة أصناف المذكورات فيها من النساء، وليس له أن يتعداهن.

والجزء الأول من الآية يتحدث عن أن من يحللن للرسول صلى الله عليه وسلم هن أزواجه اللاتي آتاهن مهورهن، وما ملكت يمينه، وهو ما لم يستغلق على أغلب الناس فهمه، ولكن الإشكالية حدثت في عدم فهم ما تلا ذلك من قوله تعالى: ‏﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ وقوله: ﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. ولا أفهم ما العجيب في هاتين الجزئيتين ليستعصيا على الفهم!

ولنبدأ بمفهوم الحِل، وهو على وجهين: ففلانة تحل لك بمعنى أنها ليست من المحرمات عليك تحريمًا أبديًا أو تحريمًا مؤقتًا لأي من الأسباب، ومن ثم يجوز لك أن تتقدم طالبًا إياها للزواج، والوجه الثاني بقولهم إن فلانة حلال لفلان أي أنها زوجته، والمعنى في الآية واضح أنك يا محمد يجوز ويحل لك أن تخطب أي من بنات عمومتك وبنات خالك وخالاتك اللاتي هاجرن معك فقط، وعلى هذا فسخ الرسول صلى الله عليه وسلم نيته التي كانت معقودة بالزواج من ابنة عمه أم هانئ ابنة أبي طالب لأنها أسلمت يوم فتح مكة، فهي من طلقاء يوم الفتح، فلم يحل له الزواج منها، ولا تعني الآية بأي حال من الأحوال أن لرسول الله أن يعامل قريباته تعامل الرجل مع زوجته!

ولو نظرنا إلى الحكمة من تحريم زواجه صلى الله عليه وسلم من قريباته اللاتي لم يهاجرن فإن الله قد حرَّمه ولا شك كي تقر أعين زوجاته؛ فقريباته إن تزوج منهن ستكون لهن مكانة خاصة أعلى من مكانة بقية زوجاته، خاصة ابنة عمه أبي طالب التي تربى معها، فكيف يجوز أن يكون لامرأة من الطلقاء منزلة على السابقات الأوليات إلى الإسلام!

وأما قوله تعالى: ‏﴿وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فالمعنى بوهبها نفسها له أي أنها قبلت أن تتزوجه بغير صِداق، أي راغبة عن المهر، وهذا إن قبل النبي أن يتزوجها على أن تكون خالية من الزوج، فلا يُعقل أن تذهب امرأة متزوجة إلى الرسول لتعرض عليه أن يتزوجها وهي زوجة لرجل آخر وعلى ذمته! والمعنى أيضًا أن رجال أمتك يجب أن يؤتوا النساء صداقهن ولا يحل لهم الوهب، وأن هذا الحكم خالص لك دونهم.

وقد اُختلف في المقصودة في هذا الجزء من الآية، والأرجح أن المرأة المؤمنة المقصودة هي السيدة ميمونة بنت الحارث أخت السيدة لبابة الكبرى أم الفضل زوجة العباس عم الرسول، والتي وهبت نفسها للرسول في عمرة القضاء قبل فتح مكة بعام، وتزوجها الرسول بعد أن تحلل من إحرامه دون مهر، والفرق بينها وبين أم هانئ أن ميمونة من السابقات  الأوليات وإن لم تهاجر معه، فلم تكن من الطلقاء، كما لم تكن من قريباته.

 

288-لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم

 

لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

يقول الحق سبحانه في سورة النور، في معرض حديثه عن حادثة الإفك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].

والحديث في الآية –كما نعلم- يدور عمن افتروا وتكلموا في حق السيدة عائشة أم المؤمنين، وقد أورد الإمام الطبري عن ابن عباس أنهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وقيل أيضًا المنافق عبد الله بن أُبيّ، مع أن الآية تنص على أنهم ﴿عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ فهم مؤمنون لكنهم أذنبوا ذنبًا عظيمًا، وقد اختلف في الذي تولى كبره والأغلب أنه حسان بن ثابت؛ أي أنه هو من ابتدأ الكلام وكبّر القصة ودار يتكلم بها في المجالس وبين الجموع، وفي ترجمة صفوان بن المعطل في "المنتظم" لابن الجوزي (ج5، ص 330) ذكر خبر ضربه حسان بن ثابت بالسيف على كتفه بعد أن ظهرت براءته وبراءة السيدة عائشة مما أشيع في الإفك. وأيًا من كان فهو –وإن كان ذكرًا من المنظور البيولوجي- فكأن الجانب الأنثوي في شخصيته أكبر وأوضح من الجانب الذكوري.

وأكثر ما كان يستوقفني في الآيات هو قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، فكم تساءلت عن أين الخير في هذه الحادثة؟ ليس ردًا لكلام الحق سبحانه وتعالى ولكن لأن المصاب جلل، فأين تراه الخير في أن تُتهم واحدة من أطهر النساء في عفتها!

وبقي تعجبي حتى بدأ عملي في مجال الاستشارات المهنية والزوجية، فاكتشفت أن كلام الزوجة في حق زوجها، وكلام الزوج في حق زوجته هو أهم شهادة، وقد يبرئ الخائن في أعين الناس، ويخون الأمين.

والأمر سواء في الشرق والغرب، ولو رجعنا –على سبيل المثال- إلى الاتهام الذي واجهه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بأنه أقام علاقة مع إحدى المتدربات في البيت الأبيض، فلا يحتاج الأمر إلى درجة مرتفعة من الذكاء لنعرف أن تلك الحادثة لم تكن لتمر لو لم تقف هيلاري كلينتون إلى جانب زوجها ولآل به الحال إلى أحقر شأن، لأن الناس اقتنعوا أنها لو لم تكن حادثة بسيطة –وفقًا لأعرافهم- وليست علاقة جنسية كاملة لطلبت زوجته الطلاق.

أما في أعرافنا فإن وقوف أحد الزوجين في صف الآخر دليل على أن الأمر برمته افتراءً، خاصة عندما يقف الزوج إلى جانب زوجته. فإن حدث العكس فسوء السمعة ولا شك واقع، وهو سواء أيضًا بين النساء الرجال، وأعرف صديقة ظنت بزوجها السوء –وهو على الأغلب بريء- وقامت بخلعه، وقد ساءت سمعة الزوج من يومها وتدمرت تمامًا.

وبالعودة إلى حادثة الإفك سنجد أن ما رُوي لا يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدّق في عائشة ما قاله الأفاكون، وإنما استشار عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد في فراقها لما لحقها من سوء السمعة، وأن سيدنا علي لم يشر عليه بفراقها إلا لذلك السبب لا غير، وكما قال له فإن الله لم يضيق عليه في النساء، ولو كان رسول الله طلقها لكانت سُنة من بعده، وكم من نساء شريفات عفيفات كُن سيتطلقن لأن الكائدين والكائدات كادوا لهن وشنعوا عليهن. فهل هناك خير لنا من أن صار التثبت من شرف الزوجة كافيًا للإبقاء عليها وعدم طلاقها ورد كيد الكائدين؟

والغريب أن موقفها من علي الذي أشار على النبي بطلاقها كان أصعب من موقفها من حسان بن ثابت الذي شنع عليها! فقد غفرت لحسان وكانت تسمح له بالدخول عليها بعد أن فقد بصره ونال العذاب الأليم الذي توعده به الله سبحانه، واعتذر لها بأبيات تمدحها.  فكأن العقاب الذي طاله قد شفى صدرها مما قال في حقها، ولكنها مع ذلك لم تغفر لسيدنا علي إشارته على الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها رغم أنه لم يشنع عليها، بل أراد فقط أن يُنقي عرض ابن عمه مما طالته من أقاويل.

السيدة عائشة وقولها في الولاية

في مقالي "الجميلة والوحش" ذكرت أنه تعجبني كثيرًا دقة الوصف الذي استخدمه الحق سبحانه وتعالى في الحديث عن حادثة الإفك في سورة ‏النور، فهو يصف النساء البريئات اللاتي تُحاك القصص عنهن من الفُساق بـ ﴿الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾، ‏فهي لم تقترف إثمًا، ويستحيل أن يدور في خلدها أن فاسقًا لعينًا يتقول عليها ويدعي عليها ‏سوءًا، وأن هناك من يلوك ذلك الإفك بلسانه عنها غيرة أو حسدًا أو سفاهة، وهي حقًا غافلة عن كل ذلك!

وكم أتذكر هذا الوصف عن السيدة عائشة كلما دار الحديث عن الولاية في فقه الأحوال الشخصية، وحديثها الشهير بأن ما من امرأة تزوجت بغير ولي إلا ونكاحها باطل، وهو رأي يناسب حسن ظنها بالناس وشخصيتها البريئة تمامًا التي لا تتخيل حجم الشر الذي يوجد في نفوس بعض البشر، فهي لفرط طيبتها تتوهم أن الأولياء جميعًا يستحيل أن يتفقوا على رفض رجل صالح تقدم لفتاة تقع تحت ولايتهم، ومن ثم فهي ترى –وبلا أدنى شك من جانبها- أن من تخالفهم وتزوج نفسها نكاحها باطل! ومعروف أن الإمام أبا حنيفة قد خالف هذا الرأي إن كان الرجل كفؤًا للفتاة لأن هذا يعني أنهم يتعنتون ولا يراعون مصلحتها، وهو الرأي الأولى بالصواب، وقد يصلح في حالات نادرة، وهناك قرية تقع بجانب مدينتي كانوا يكثرون فيها من زواج الأقارب منعًا لخروج أرض العائلة لأيدي أغراب، ففشت بينهم الأمراض الوراثية، وأشار عليهم الأطباء بالتوقف عن زواج الأقارب، فصار الرجال يتزوجون ويمنعون البنات من الزواج ويرفضون كل من يتقدم إليهن، خاصة إن كن متعلمات ويعملن ولهن دخل، وهناك حالة تعاملتُ معها لفتاة متعلمة منهن وتعمل ولها دخل معقول تزوجت رغمًا عن عائلتها ممن هو دونها في المستوى التعليمي لأنه قوي بما يكفي ليقف أمام عائلتها الرافضين لزواجها منه أو من غيره.

287-إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ

 

إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ، فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ﴾ [الشعراء: 52: 60].

ووقفتنا مع وصف فرعون لبني إسرائيل الذين فروا منه مع نبيهم موسى عليه السلام بـ ﴿إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾، والشرذمة هي البقية القليلة من كل شيء، وهو وصف صحيح يتناسب مع ما نعرف من حالهم، فإذا كان بنو إسرائيل هم أبناء يعقوب عليه السلام الاثنا عشر، والذين جاءوا جميعًا من البدو إلى مصر مع أهلهم أجمعين، وعددهم وفقًا للتوراة سبعين، وذلك بعد أن صار أحدهم وهو يوسف عليه السلام عزيز مصر، ثم ذهب عزهم بعد أن باد ملوك الهكسوس الذين كانوا في خدمتهم، وتبدلت الدول، حتى جاءهم بعد قرنين أو ثلاثة قرون على الأكثر من دخولهم مصر ملك متجبر نالهم من ربهم بلاء عظيم على يديه بذبحه وجنوده أبناءهم الذكور لسنين، فالمنطق يقضي بأنه ما بقيت منهم وقت خروجهم من مصر إلا شرذمة قليلين.

والأهم أن الله تعالى ذكر هذا الوصف على لسان فرعون في كتابه العزيز، فهو كلام الله، وكلام الله حق، ويصدق على ذلك أن الله تعالى لم يعقبه بتكذيب ما ذكر فرعون.

لكننا نجد مفسرينا ينساقون مع التفسيرات المستقاة من التوراة؛ فذكروا أن عدد بني إسرائيل يوم خرجوا مع موسى كان ستّ مئة ألف وسبعين ألفًا! وأخذوا يسوقون التبريرات للوصف القرآني المخالف تمامًا للرقم الذي يضربونه تخرصًا بأن كل سبط منهم كان قليلًا ولكن جمعهم كان كثيرًا على هذا العدد! فهل ما يزيد عن خمسين ألف رجل لكل سبط يُسمى شرذمة! ثم ما علاقة فرعون بأنسابهم وتصنيفهم إلى أسباط؟! وهي مبالغات وتخرصات بالغيب غير مبررة تتعلق بالأرقام اعتدناها من مفسرينا في مواضع كثيرة، كذلك الذي ذكرناه عند عرض قصة البقرة في مقال ‏"القصص القرآني بين العرض المنطقي والعرض السيكولوجي" ‏عندما ذكر بعض المفسرين أنهم أخذوا يبحثون عن البقرة أربعين سنة! رغم اختيار الحق سبحانه وتعالى للفاء للعطف في الآية ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: 72]؛ ما دل على أن هذا الحوار والجدل عن البقرة بين موسى وبني إسرائيل لم يستغرق أكثر من ساعات، وغالبًا لم يكن القتيل قد دُفن.

كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ

يقول تعالى: ﴿فَأتْبَعُوهم مُشْرِقِينَ، فَلَمّا تَراءى الجَمْعانِ قالَ أصْحابُ مُوسى إنّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: 60-62].

ولنتأمل قليلًا في قول الكليم يوم ظن من معه أن فرعون لاحق بهم ﴿قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وقال هذا وقد تراءى الجمعان مع شروق الشمس وأوشكا أن يتلاقيا، فجند فرعون من خلفهم والبحر أمامهم، وموسى مُصر أن الله تعالى الذي أمره بالسير بهم سيهديه السبيل، فهو معهم. لم يشك لحظة في ربه أو أنه تاركه، ولا شك أنه منجيه.

إن ﴿كَلَّا هذه التي قالها الكليم لردع قومه عن الجزع والخوف لو وُضعت في كفة وإيمان أهل الأرض اليوم في كفة لرجحتهم.

إنه اطمئنان المؤمن الواثق في وعد الله له. ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ﴾ [طه: 77].

 

286-فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

 

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

استكمالًا للحديث عن الظواهر التي قد تخالف تمامًا حقيقة الأمر، لنا وقفة مع قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص:8].

عندما كنت صغيرة أذكر أنني استمعت إلى تفسير الآية في حديث الشيخ الشعراوي الأسبوعي، وكان الجزء الذي لفتني أن الشيخ الجليل قد رأى أن أخذ فرعون للرضيع الذي وجدوه ملقى في تابوته بجوار شجرة على الترعة المجاورة لقصره علامة على غبائه لأنه –وفقًا لما رأى الشيخ- من سيكون ألقاه إلا هؤلاء القوم الذين تُذبح أبناءهم؟

والحقيقة أنني –وعلى الرغم من حداثة سني وقتها- لم أوافق الشيخ فيما رأى في هذه الجزئية؛ فلم أر الحادثة على أنها علامة على غباء فرعون، وإنما رأيتها كيدًا من الله وتحديًا له، فالله تعالى لم يفجأ فرعون برسول في سن الكهولة يأتيه على حين غفلة، بل قد أراه رؤيا أولوها له بشكل صحيح، وعلى إثرها صار يذبح البنين من بني إسرائيل، ولأنهم كانوا عبيده الذين يكلفهم بمشاق الأعمال سُخرة دون أجر فقد اضطر إلى الرجوع إلى مؤولي الأحلام وكهنته وعرافيه ليكشفوا له عن السنوات التي يمكن أن يولد فيها هذا الصبي الذي سيكون تدمير ملكه على يديه، وكان يمكن أن يحسبوا له خطأ، ولكنهم أصابوا وفقًا للطبائع الأربعة التي تدور على السنين مثلما تدور على البروج (نار ثم تراب ثم هواء ثم ماء)، فعرفوا أن هناك سنة لا يمكن أن يولد فيها الصبي ويمكن استبقاء مواليدها دون ذبح، وبعدها سنة يكون فيها الخطر، وهكذا دواليك، ثم كان التحدي الأكبر بأن هذا الطفل سيولد في سنة من تلك التي تذبح فيها المواليد، ومع ذلك سينجو ويُربى، وأنت يا فرعون من ستربيه!

وإننا إذ نعلم أن هذا الطفل –موسى الرضيع- من بني إسرائيل، وأن أمه قد ألقته في اليم تنفيذًا لما أوحى الله به إليها لينجو، فإن هذا العلم من إخبار الله تعالى لنا وإلا فإن هذا آخر ما ينبغي أن يدور في ذهن فرعون وفي أذهاننا لو لم يخبرنا به الله.

ولنراجع الحدث معًا، إذ يبدو أن جواري وخادمات القصر وجدن تابوتًا صغيرًا بجوار شجرة من تلك التي تنمو على شواطئ الترع في مصر وتوجد بجوار القصر، فذهبن به إلى زوجة فرعون الأثيرة -والتي على الأغلب لم تكن تنجب أو لم تنجب له سوى بنتًا- فأحبت أن تحتفظ بالطفل الذي كان في التابوت وتتبناه، وأسمته موسى أو موشيه كما يُنطق في العبرية، وهو باللغة المصرية ‏القديمة منحوت من شقين "مو" ويعني‎ ‎ماء، و"شيه"‎ ‎ويعني شجر، فيصير‎ ‎الاسم ماء وشجر أو بين الماء ‏والشجر؛ لأنهم‎ ‎وجدوا تابوته في الماء وبجانب الشجرة.‏

وعندما عرضت السيدة آسيا الأمر على زوجها المتكبر فرعون وافق إرضاءً لها، ولأنه –كما أرى ووفقًا لظاهر الأمر- ظن أنه ابن واحدة من جواري أو نساء القصر حملت به سفاحًا وأخفت حملها، ثم ألقت بالطفل بعد ولادته بجانب القصر ليسهل عليها تتبع أثره وتعرف مصيره بعد أن يُلتقط. وإلا فهل يعقل عاقل –سواء فرعون أو غيره- أن هذا الطفل قد حمله هذا التابوت الصغير عبر هذه الترعة الطويلة، والتي أتت به من إحدى القرى التي يسكنها المستعبدون من بني إسرائيل ليلقي به بجوار قصره المشيد المحاط بالأسوار، والذي لا تشق أسواره وبواباته الحصينة سوى هذه الترعة!

وهذا الفعل في حد ذاته بإشفاقه على طفل رضيع لقيط في أشد درجات الضعف، يظهر جانبًا من شخصية فرعون يغفل عنه كثيرون، ففرعون موسى –وكما تظهر ملامح شخصيته من آي القرآن الكريم- لم يكن ديكتاتورًا قويًا ناري الطبع، بل لعل الأقرب أنه كان مائي الطبع، خطابه عاطفي، يتودد أكثر مما يتوعد، ويعرف كيف يستخف بعقول جمع كبير من الناس ويقنعهم بأفكاره ويحشرها في أدمغتهم كأنها أفكارهم، فيجتذبهم في صفه -والذي لم يكن صف الحق أبدًا- ويغذي وهم العظمة لديه. ويظهر خطابه العاطفي في حواره مع قومه وحاشيته فهو لا يأمر ويتجبر، كما يظهر في حواره مع الكليم موسى ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: 18]. وهذا النموذج النفسي للديكتاتور الشيزوفريني المنفصم معروف، وقد تم تقديمه في السينما المصرية في فيلم "البريء". وكأي منفصم فليست أوهام العظمة وحدها ما تلاحقه، وربما بدأت قصة تذبيحه أبناء بني إسرائيل من جراء أوهام الهوس والاضطهاد التي تسلطت عليه، فأشعرته بأنهم مصدر خطر عليه، فكان أن ابتلاه الله بما خاف منه.

ويصفه الحق سبحانه وتعالى بأنه فرّق الرعية ﴿جَعَل أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص:4]، فيميز منها طائفة من يدعموه ممن استخفهم فأطاعوه فأهلكهم الله معه، ومنهم من هم دون ذلك، و﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ وهم المستعبدون الذين أظهر لهم وجهًا خشنًا لم يظهره لبقية الرعية، وتسلط عليهم.

إنها قصة مليئة بالتقابلات العجيبة بدأت بالماء الذي حمل الطفل ولم يهلكه، وانتهت بالماء الذي أهلك المتكبر وأغرقه. وإن كان هناك درس ينبغي أن نفطن إليه من تلك القصة يخص اللقطاء فهي وجوب إحسان الظن بهم وألا نظنهم بالضرورة أبناءً غير شرعيين وينعكس هذا في أسلوب معاملتنا لهم؛ إذ لم يكن ظاهر الأمر كباطنه؛ فلم يكن هذا اللقيط ابن سِفاح كما قد يتبادر للأذهان، بل كان نبيًا صُنع على عين الله وألقى عليه محبة حتى أحبه عدوه ورباه، ‏لتكون العاقبة لفرعون حزنًا.