الجمعة، 24 يونيو 2022

288-لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم

 

لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

يقول الحق سبحانه في سورة النور، في معرض حديثه عن حادثة الإفك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].

والحديث في الآية –كما نعلم- يدور عمن افتروا وتكلموا في حق السيدة عائشة أم المؤمنين، وقد أورد الإمام الطبري عن ابن عباس أنهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، وقيل أيضًا المنافق عبد الله بن أُبيّ، مع أن الآية تنص على أنهم ﴿عُصْبَةٌ مِّنكُمْ﴾ فهم مؤمنون لكنهم أذنبوا ذنبًا عظيمًا، وقد اختلف في الذي تولى كبره والأغلب أنه حسان بن ثابت؛ أي أنه هو من ابتدأ الكلام وكبّر القصة ودار يتكلم بها في المجالس وبين الجموع، وفي ترجمة صفوان بن المعطل في "المنتظم" لابن الجوزي (ج5، ص 330) ذكر خبر ضربه حسان بن ثابت بالسيف على كتفه بعد أن ظهرت براءته وبراءة السيدة عائشة مما أشيع في الإفك. وأيًا من كان فهو –وإن كان ذكرًا من المنظور البيولوجي- فكأن الجانب الأنثوي في شخصيته أكبر وأوضح من الجانب الذكوري.

وأكثر ما كان يستوقفني في الآيات هو قوله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، فكم تساءلت عن أين الخير في هذه الحادثة؟ ليس ردًا لكلام الحق سبحانه وتعالى ولكن لأن المصاب جلل، فأين تراه الخير في أن تُتهم واحدة من أطهر النساء في عفتها!

وبقي تعجبي حتى بدأ عملي في مجال الاستشارات المهنية والزوجية، فاكتشفت أن كلام الزوجة في حق زوجها، وكلام الزوج في حق زوجته هو أهم شهادة، وقد يبرئ الخائن في أعين الناس، ويخون الأمين.

والأمر سواء في الشرق والغرب، ولو رجعنا –على سبيل المثال- إلى الاتهام الذي واجهه الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون بأنه أقام علاقة مع إحدى المتدربات في البيت الأبيض، فلا يحتاج الأمر إلى درجة مرتفعة من الذكاء لنعرف أن تلك الحادثة لم تكن لتمر لو لم تقف هيلاري كلينتون إلى جانب زوجها ولآل به الحال إلى أحقر شأن، لأن الناس اقتنعوا أنها لو لم تكن حادثة بسيطة –وفقًا لأعرافهم- وليست علاقة جنسية كاملة لطلبت زوجته الطلاق.

أما في أعرافنا فإن وقوف أحد الزوجين في صف الآخر دليل على أن الأمر برمته افتراءً، خاصة عندما يقف الزوج إلى جانب زوجته. فإن حدث العكس فسوء السمعة ولا شك واقع، وهو سواء أيضًا بين النساء الرجال، وأعرف صديقة ظنت بزوجها السوء –وهو على الأغلب بريء- وقامت بخلعه، وقد ساءت سمعة الزوج من يومها وتدمرت تمامًا.

وبالعودة إلى حادثة الإفك سنجد أن ما رُوي لا يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدّق في عائشة ما قاله الأفاكون، وإنما استشار عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد في فراقها لما لحقها من سوء السمعة، وأن سيدنا علي لم يشر عليه بفراقها إلا لذلك السبب لا غير، وكما قال له فإن الله لم يضيق عليه في النساء، ولو كان رسول الله طلقها لكانت سُنة من بعده، وكم من نساء شريفات عفيفات كُن سيتطلقن لأن الكائدين والكائدات كادوا لهن وشنعوا عليهن. فهل هناك خير لنا من أن صار التثبت من شرف الزوجة كافيًا للإبقاء عليها وعدم طلاقها ورد كيد الكائدين؟

والغريب أن موقفها من علي الذي أشار على النبي بطلاقها كان أصعب من موقفها من حسان بن ثابت الذي شنع عليها! فقد غفرت لحسان وكانت تسمح له بالدخول عليها بعد أن فقد بصره ونال العذاب الأليم الذي توعده به الله سبحانه، واعتذر لها بأبيات تمدحها.  فكأن العقاب الذي طاله قد شفى صدرها مما قال في حقها، ولكنها مع ذلك لم تغفر لسيدنا علي إشارته على الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاقها رغم أنه لم يشنع عليها، بل أراد فقط أن يُنقي عرض ابن عمه مما طالته من أقاويل.

السيدة عائشة وقولها في الولاية

في مقالي "الجميلة والوحش" ذكرت أنه تعجبني كثيرًا دقة الوصف الذي استخدمه الحق سبحانه وتعالى في الحديث عن حادثة الإفك في سورة ‏النور، فهو يصف النساء البريئات اللاتي تُحاك القصص عنهن من الفُساق بـ ﴿الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ﴾، ‏فهي لم تقترف إثمًا، ويستحيل أن يدور في خلدها أن فاسقًا لعينًا يتقول عليها ويدعي عليها ‏سوءًا، وأن هناك من يلوك ذلك الإفك بلسانه عنها غيرة أو حسدًا أو سفاهة، وهي حقًا غافلة عن كل ذلك!

وكم أتذكر هذا الوصف عن السيدة عائشة كلما دار الحديث عن الولاية في فقه الأحوال الشخصية، وحديثها الشهير بأن ما من امرأة تزوجت بغير ولي إلا ونكاحها باطل، وهو رأي يناسب حسن ظنها بالناس وشخصيتها البريئة تمامًا التي لا تتخيل حجم الشر الذي يوجد في نفوس بعض البشر، فهي لفرط طيبتها تتوهم أن الأولياء جميعًا يستحيل أن يتفقوا على رفض رجل صالح تقدم لفتاة تقع تحت ولايتهم، ومن ثم فهي ترى –وبلا أدنى شك من جانبها- أن من تخالفهم وتزوج نفسها نكاحها باطل! ومعروف أن الإمام أبا حنيفة قد خالف هذا الرأي إن كان الرجل كفؤًا للفتاة لأن هذا يعني أنهم يتعنتون ولا يراعون مصلحتها، وهو الرأي الأولى بالصواب، وقد يصلح في حالات نادرة، وهناك قرية تقع بجانب مدينتي كانوا يكثرون فيها من زواج الأقارب منعًا لخروج أرض العائلة لأيدي أغراب، ففشت بينهم الأمراض الوراثية، وأشار عليهم الأطباء بالتوقف عن زواج الأقارب، فصار الرجال يتزوجون ويمنعون البنات من الزواج ويرفضون كل من يتقدم إليهن، خاصة إن كن متعلمات ويعملن ولهن دخل، وهناك حالة تعاملتُ معها لفتاة متعلمة منهن وتعمل ولها دخل معقول تزوجت رغمًا عن عائلتها ممن هو دونها في المستوى التعليمي لأنه قوي بما يكفي ليقف أمام عائلتها الرافضين لزواجها منه أو من غيره.

ليست هناك تعليقات: