الجمعة، 24 يونيو 2022

286-فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

 

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

استكمالًا للحديث عن الظواهر التي قد تخالف تمامًا حقيقة الأمر، لنا وقفة مع قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص:8].

عندما كنت صغيرة أذكر أنني استمعت إلى تفسير الآية في حديث الشيخ الشعراوي الأسبوعي، وكان الجزء الذي لفتني أن الشيخ الجليل قد رأى أن أخذ فرعون للرضيع الذي وجدوه ملقى في تابوته بجوار شجرة على الترعة المجاورة لقصره علامة على غبائه لأنه –وفقًا لما رأى الشيخ- من سيكون ألقاه إلا هؤلاء القوم الذين تُذبح أبناءهم؟

والحقيقة أنني –وعلى الرغم من حداثة سني وقتها- لم أوافق الشيخ فيما رأى في هذه الجزئية؛ فلم أر الحادثة على أنها علامة على غباء فرعون، وإنما رأيتها كيدًا من الله وتحديًا له، فالله تعالى لم يفجأ فرعون برسول في سن الكهولة يأتيه على حين غفلة، بل قد أراه رؤيا أولوها له بشكل صحيح، وعلى إثرها صار يذبح البنين من بني إسرائيل، ولأنهم كانوا عبيده الذين يكلفهم بمشاق الأعمال سُخرة دون أجر فقد اضطر إلى الرجوع إلى مؤولي الأحلام وكهنته وعرافيه ليكشفوا له عن السنوات التي يمكن أن يولد فيها هذا الصبي الذي سيكون تدمير ملكه على يديه، وكان يمكن أن يحسبوا له خطأ، ولكنهم أصابوا وفقًا للطبائع الأربعة التي تدور على السنين مثلما تدور على البروج (نار ثم تراب ثم هواء ثم ماء)، فعرفوا أن هناك سنة لا يمكن أن يولد فيها الصبي ويمكن استبقاء مواليدها دون ذبح، وبعدها سنة يكون فيها الخطر، وهكذا دواليك، ثم كان التحدي الأكبر بأن هذا الطفل سيولد في سنة من تلك التي تذبح فيها المواليد، ومع ذلك سينجو ويُربى، وأنت يا فرعون من ستربيه!

وإننا إذ نعلم أن هذا الطفل –موسى الرضيع- من بني إسرائيل، وأن أمه قد ألقته في اليم تنفيذًا لما أوحى الله به إليها لينجو، فإن هذا العلم من إخبار الله تعالى لنا وإلا فإن هذا آخر ما ينبغي أن يدور في ذهن فرعون وفي أذهاننا لو لم يخبرنا به الله.

ولنراجع الحدث معًا، إذ يبدو أن جواري وخادمات القصر وجدن تابوتًا صغيرًا بجوار شجرة من تلك التي تنمو على شواطئ الترع في مصر وتوجد بجوار القصر، فذهبن به إلى زوجة فرعون الأثيرة -والتي على الأغلب لم تكن تنجب أو لم تنجب له سوى بنتًا- فأحبت أن تحتفظ بالطفل الذي كان في التابوت وتتبناه، وأسمته موسى أو موشيه كما يُنطق في العبرية، وهو باللغة المصرية ‏القديمة منحوت من شقين "مو" ويعني‎ ‎ماء، و"شيه"‎ ‎ويعني شجر، فيصير‎ ‎الاسم ماء وشجر أو بين الماء ‏والشجر؛ لأنهم‎ ‎وجدوا تابوته في الماء وبجانب الشجرة.‏

وعندما عرضت السيدة آسيا الأمر على زوجها المتكبر فرعون وافق إرضاءً لها، ولأنه –كما أرى ووفقًا لظاهر الأمر- ظن أنه ابن واحدة من جواري أو نساء القصر حملت به سفاحًا وأخفت حملها، ثم ألقت بالطفل بعد ولادته بجانب القصر ليسهل عليها تتبع أثره وتعرف مصيره بعد أن يُلتقط. وإلا فهل يعقل عاقل –سواء فرعون أو غيره- أن هذا الطفل قد حمله هذا التابوت الصغير عبر هذه الترعة الطويلة، والتي أتت به من إحدى القرى التي يسكنها المستعبدون من بني إسرائيل ليلقي به بجوار قصره المشيد المحاط بالأسوار، والذي لا تشق أسواره وبواباته الحصينة سوى هذه الترعة!

وهذا الفعل في حد ذاته بإشفاقه على طفل رضيع لقيط في أشد درجات الضعف، يظهر جانبًا من شخصية فرعون يغفل عنه كثيرون، ففرعون موسى –وكما تظهر ملامح شخصيته من آي القرآن الكريم- لم يكن ديكتاتورًا قويًا ناري الطبع، بل لعل الأقرب أنه كان مائي الطبع، خطابه عاطفي، يتودد أكثر مما يتوعد، ويعرف كيف يستخف بعقول جمع كبير من الناس ويقنعهم بأفكاره ويحشرها في أدمغتهم كأنها أفكارهم، فيجتذبهم في صفه -والذي لم يكن صف الحق أبدًا- ويغذي وهم العظمة لديه. ويظهر خطابه العاطفي في حواره مع قومه وحاشيته فهو لا يأمر ويتجبر، كما يظهر في حواره مع الكليم موسى ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ [الشعراء: 18]. وهذا النموذج النفسي للديكتاتور الشيزوفريني المنفصم معروف، وقد تم تقديمه في السينما المصرية في فيلم "البريء". وكأي منفصم فليست أوهام العظمة وحدها ما تلاحقه، وربما بدأت قصة تذبيحه أبناء بني إسرائيل من جراء أوهام الهوس والاضطهاد التي تسلطت عليه، فأشعرته بأنهم مصدر خطر عليه، فكان أن ابتلاه الله بما خاف منه.

ويصفه الحق سبحانه وتعالى بأنه فرّق الرعية ﴿جَعَل أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ [القصص:4]، فيميز منها طائفة من يدعموه ممن استخفهم فأطاعوه فأهلكهم الله معه، ومنهم من هم دون ذلك، و﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ وهم المستعبدون الذين أظهر لهم وجهًا خشنًا لم يظهره لبقية الرعية، وتسلط عليهم.

إنها قصة مليئة بالتقابلات العجيبة بدأت بالماء الذي حمل الطفل ولم يهلكه، وانتهت بالماء الذي أهلك المتكبر وأغرقه. وإن كان هناك درس ينبغي أن نفطن إليه من تلك القصة يخص اللقطاء فهي وجوب إحسان الظن بهم وألا نظنهم بالضرورة أبناءً غير شرعيين وينعكس هذا في أسلوب معاملتنا لهم؛ إذ لم يكن ظاهر الأمر كباطنه؛ فلم يكن هذا اللقيط ابن سِفاح كما قد يتبادر للأذهان، بل كان نبيًا صُنع على عين الله وألقى عليه محبة حتى أحبه عدوه ورباه، ‏لتكون العاقبة لفرعون حزنًا.

 

ليست هناك تعليقات: