الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

165-مشكلات منهجية


مشكلات منهجية
د/منى زيتون
الأربعاء 28 نوفمبر 2018
السبت أول ديسمبر 2018


تواجه الباحثين في حقل البحث العلمي في مصر والدول العربية العديد من المشكلات المتعلقة بمنهجية البحث العلمي، تعبر عن فشل واضح في تحويل ما تمت دراسته نظريًا في هذا الميدان إلى تطبيق عملي، أثناء كتابة الرسائل والدراسات العلمية.
بعض هذه المشكلات شكلية –إن جاز أن نصفها بذلك-، تتعلق بترتيب أجزاء الدراسة أو صياغة أجزاء منها، بينما يكون بعضها الآخر أكثر أهمية، وقد تؤثر على صحة نتائج الدراسة، أو قد تؤثر في عدم ترشيح الموضوع للبحث، أو تضع معوقات أمام اختيار فرضيات بعينها.

ما الذي ينبغي بحثه؟ (موضوع البحث)
تُعنى العلوم المختلفة بوجه عام بتفسير الظواهر الواقعة في نطاقها، وقد يرتفع سقف أهدافها للوصول إلى تنبؤات أو ضبط الظواهر من خلال هذا التفسير.
من أولى المشاكل التي قد تواجه الباحثين أن هناك من يعتقد أن الظاهرة المتسعة التكرار والأكثر انتشارًا هي التي تستحق الدراسة فقط، أما الظواهر الأكثر محدودية فأهمية دراستها ضئيلة، وربما لا يلزم دراستها!
حقيقةً أن هذا التصور أقرب إلى تصور العوام، وهو أكثر انتشارًا لديهم فيما يخص مجالات العلوم الإنسانية. على سبيل المثال فإن المعتاد من العامة عند طرح نتائج أي دراسة اجتماعية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أن نجد كثيرين منهم ينقدون الدراسة، بدعوى أن من قام بها يُعمم، ولِم يبحث تلك الظاهرة وكأن المجتمع كله يعاني منها؟! والحقيقة أنه لا توجد مشكلة اجتماعية مهما شاعت يمكن أن يعاني منها جميع أفراد أي مجتمع! وهل علينا أن ننتظر أن يتم طلاق جميع الأزواج في المجتمع حتى نعامل الطلاق كظاهرة تستحق البحث في أسبابها وتفسيرها، سعيًا إلى الحد منها وضبطها؟ بل إنه وحتى المشكلات التي تكون لحالات فردية، ولا ترقى لمحدوديتها أن تكون ظاهرة، قد يكون بعضها هامًا، وينبغي البحث فيها، ومحاولة تفسيرها.
ولأجل تلك النظرة فإنه كثيرًا ما تُهمل كثير من الظواهر والحالات الهامة التي تستحق البحث في بداياتها، ولا تُبحث حتى تتفاقم وتتسع الرقعة.

الخلط بين الطريقة الاستقرائية والطريقة الاستنباطية في فرض الفروض
ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط، ومعلوم أن تحديد المشكلات الجديرة بالبحث العلمي يمكن أن يأتي من خلال ملاحظة ما يحتاج إلى تفسير، ويصيغ الباحث على أساس تلك الملاحظات فروضًا استقرائية، أو يكون مصدر المشكلة النظريات ونتائج البحوث السابقة، وفي هذه الحال تُشتق فروضًا استنباطية منها.
تبدأ خطوات المنهج الاستقرائي بالملاحظة –والتجربة أحيانًا-، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميمًا استقرائيًا أوليًا، وللتيقن منه يتم وضع الفروض الاستقرائية، ثم التحقق من صدقها، وصولًا لإثباتها أو نفيها، ومن ثم يخلص الباحث إلى معرفة مُتحقق منها.
بينما المنهج الاستنباطي، يشتق فروضه من مُسلَّمات النظريات العلمية أو نتائج توصلت إليها دراسات سابقة. لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، بل هما وسيلتان مساعدتان فقط في اختبار الفروض الاستنباطية، وتكذيب وتفنيد غير الجيد منها واستبعاده. وصياغة الفروض الاستنباطية تكون هي البداية، فهي تسبق الملاحظة والتجريب وليس العكس.
أحيانًا قد تصل الجرأة العلمية عند كبار العلماء أن يحْدِس بالفرض الاستنباطي دون أن تكون لديه نظرية ذات مُسلَّمات واضحة، اشتقه من خلالها. ويوجد على الانترنت مقطع فيديو شهير وقديم للغاية من زمن الأبيض والأسود للعالم الكبير ريتشارد فاينمان عن الطريقة العلمية  The Scientific Method، والتي تبدأ عنده بالافتراض، ثم يحسب ما يترتب على افتراضه، ثم مقارنة ذلك بالواقع، وتحديد ما إن كانت الفرضية صحيحة أو خاطئة بتوافقها أو عدم توافقها مع التجربة. وأيًا كان من وضع الفرضية فإن عدم توافقها يقتضي رفضها مباشرة. وطبعًا هذا يقتضي المحاولة مرة أخرى وافتراض فرضية جديدة.
لكن يبدو أن بعض كبار الأساتذة الباحثين في عالمنا العربي لديهم إشكالية في التمييز بين المنهجين الاستقرائي والاستنباطي.
منذ سنوات، حضرت سيمينارًا (حلقة بحث) في قسم علم النفس التربوي بإحدى أعرق كليات التربية في الوطن العربي. كانت هناك طالبة ماجستير تعرض أمامنا خطة بحث وضعتها في موضوع ما. كان واضحًا من عرضها أنها حددت مشكلة الدراسة من خلال الملاحظات المتجمعة لديها، وراجعت البحوث السابقة في المجال لمساعدتها على جمع مزيد من الملاحظات، وبناءً عليه حددت المتغيرات التي تصورت أنها السبب في المشكلة موضع الدراسة، ثم صاغت فروضًا استقرائية. والحقيقة أنني رأيتها فروضًا منطقية تستحق البحث في صحتها.
 فوجئتُ بالأساتذة الأفاضل في مجلس القسم ينقدونها نقدًا حادًا، تركز على اختيارها للمتغيرات، ورأوا أن الفروض التي وضعتها الباحثة تعسفية! لا علاقة واضحة بينها وبين المشكلة؛ لأنها تقوم أساسًا على ملاحظاتها الشخصية، واستقراء بعض البحوث السابقة، وليس على أدلة كافية من دراسات سابقة تدعمها!
وهذا خلط واضح بين المنهجين الاستقرائي والاستنباطي؛ لأن صلب المنهج الاستقرائي هو الملاحظات وليس مراجعة البحوث السابقة، وإنما تكون مراجعة البحوث لأجل جمع مزيد من الملاحظات وليس الأدلة! لمساعدة الباحث في الخروج بتعميم استقرائي، وصياغة فروضه الاستقرائية، التي سيختبرها بعد ذلك، أما المنهج الاستنباطي فهو الذي تنطلق فرضياته من مُسلَّمات نظريات أو نتائج واستدلالات بحوث سابقة.
ولذا لا عجب أن يبقى البحث العلمي لدينا متأخرًا طالما نضع العراقيل أمام الباحثين، ونرفض إعطاءهم الحرية في مطاوعة حدسهم أثناء عملية فرض الفروض، ورفض بحث المشكلات التي يلاحظونها في الواقع العملي، والتي يمكن أن تضيف معرفة جديدة غير مسبوقة، لنبقى فقط ندور في دائرة فحص المعرفة النظرية التي توصل إليها الغرب.

التصميم التجريبي
في الأبحاث التجريبية، يُعتبر أشهر تصميمين يمكن للباحث استخدامهما للتحقق من صحة فروضه هما تصميم المجموعة الواحدة مع اختبار قبلي وبعدي، وتصميم المجموعتين (تصميم المجموعة الضابطة مع اختبار قبلي وبعدي).
في حال إن كانت أعداد العينة المتاحة أمام الباحث قليلة فإنه يقوم بتحديد درجاتهم القبلية في المتغير التابع موضع الدراسة، وبعدها يبدأ تطبيق المعالجة التجريبية، ثم يعود ليقيس درجات أفراد العينة البعدية، ومقارنة الدرجات القبلية بالدرجات البعدية هي التي تحدد إن كانت المعالجة التجريبية فعّالة ومؤثرة.
أما إن توفرت أعداد كافية فأغلب الباحثين يستخدمون تصميم المجموعتين اللتين يتم تعيينهما عشوائيًا، وإحدى المجموعتين يتم تقديم المعالجة التجريبية لها، بينما الأخرى تكون مجموعة ضابطة أو مقارنة، تُستخدم نتائجها لمقارنة نتائج المجموعة التجريبية، فالدرجات القبلية للمجموعتين تكون بغرض التأكد أن المجموعتين متكافئتان قبل التجريب، بينما المفترض إن كانت المعالجة التجريبية فعّالة أن تكون هناك فروق دالة في الدرجات البعدية بين المجموعتين لصالح المجموعة التجريبية.
وللأسف فقد قرأت رسائل علمية كثيرة يستخدم الباحث فيها تصميم المجموعتين، ولكنه بعد ذلك يعتمد في تحديد النتائج على مقارنة الدرجات القبلية والدرجات البعدية للمجموعة التجريبية! لِم استخدمت المجموعة الضابطة إذًا؟! هل كان لديك فائضًا من الوقت والجهد؟!

مشكلات منهجية شكلية
إضافة إلى ما سبق تُوجد بعض المشكلات التي تتعلق بترتيب أجزاء البحث أو صياغة أجزاء منه. لعل أشهرها، عدم التمييز بين خطة البحث والفصل الأول، وإشكالية موضع الفروض من الدراسة، وعدم التمييز بين صياغة فرض البحث والفرض الإحصائي.
إن أول ما يشرع الباحث في إعداده هو خطة بحث متكاملة تعتبر مخططًا أوليًا لدراسته كلها، لا ينقصها سوى أدوات البحث والنتائج، أي أنها تتضمن مقدمة الدراسة، وتحديد المشكلة وتساؤلات الدراسة، وكذا تحديد أهدافها وأهميتها، وإطار نظري بسيط لها، وبعض الدراسات السابقة في الموضوع، ثم فروض البحث، ثم تصور عن منهج الدراسة والعينة والأدوات التي سيتم استخدامها. وتُعتبر موافقة مجلس القسم على خطة الباحث إذنًا له بالبدء في بحثه.
المفترض بعد ذلك أن يبدأ الباحث في إعداد دراسته، وأول ما ينبغي أن يفعله الباحث الجيد أن يقوم بتوزيع جهده السابق في الخطة على فصول دراسته، على أن يضيف إليها بعد ذلك؛ فيستبقي المقدمة ومشكلة الدراسة وتساؤلاتها وأهميتها وأهدافها فقط في الفصل الأول، ثم ينقل الجزء الخاص بالإطار النظري في الخطة إلى الفصل الثاني من الدراسة الخاص بالإطار النظري، والجزء الخاص بالدراسات السابقة في الخطة إلى موضعه من الدراسة، ويليه الفروض، وينقل كل الأجزاء المتعلقة بالمنهج إلى فصل المنهج.
لكن بعض الباحثين للأسف يتصور أن خطة البحث هي الفصل الأول من الدراسة، فيضعها كاملة فيه! وعندما نفتح رسالته نجد أجزاءً موضوعة –في غير موضعها- في الفصل الأول، ثم نجدها مكررة بعد ذلك في مواضعها الصحيحة من الفصول اللاحقة! وأحيانًا لا ينقلون أجزاء إلى مواضعها الصحيحة، وأشهر تلك الأجزاء هي فروض البحث، التي يكتفي بعض الباحثين بإبقائها في الفصل الأول -خطأ-، ولا يضعونها بعد ذلك في موضعها الصحيح في نهاية الفصل الخاص بالإطار النظري والدراسات السابقة.
أيضًا يُلاحظ أن كثيرًا من الباحثين يصيغون فروض البحث صياغة إحصائية، والمفترض أن تكون صياغتها لغوية بسيطة، بينما تلك الصياغة الإحصائية تكون في الفصل الأخير الخاص بنتائج الدراسة فقط.
وبعد، فقد كانت هذه محاولة بسيطة لتصحيح بعض الأخطاء المنهجية المتداولة في البحث العلمي في الدول العربية. آمل أن يستفيد منها الباحثون الجُدد.

الاثنين، 26 نوفمبر 2018

164-أحكام المواريث وقيم الرجولة


أحكام المواريث وقيم الرجولة
د/ منى زيتون
الاثنين 26 نوفمبر 2018
الثلاثاء 27 نوفمبر 2018
الأحد 7 يوليو 2019



فعلتها تونس! كما فعلتها تركيا من قرن مضى!

منذ فترة طويلة ونحن نقرأ عن نية واضحة في تونس لتعديل أحكام المواريث؛ بإقرار المساواة بين النساء والرجال في الميراث، لتتناسب مع التوجه العلماني للدولة التونسية. ومن الواضح أن أغلب نساء ورجال تونس راضون بهذا التعديل الذي تم مؤخرًا، ولم يشكل لهم أزمة، ولكن الأزمة أبت إلا أن تحدث في مكان آخر!
في مصر، صرّح الدكتور الأزهري سعد الدين الهلالي بأن تعديل آيات المواريث لا يناقض الشريعة الإسلامية، وأننا يومًا ما سنسير على درب تونس ونطبقه في مصر، ليسارع الأزهر بإصدار بيان يناقض فيه تصريح الهلالي.
الأهم، كان رد فعل الرجال في مصر، من كل التيارات، تجاه الأمر، وكأن أحكام المواريث هي صلب الإسلام الذي يكادون ينتهكون ثوابته عيانًا جهارًا، في كل سلوك، قولًا وفعلًا. أما النساء فقد اختلفت نظرتهن، وانقسمت رؤيتهن حول الموضوع، وقد لمست ذلك بنفسي، وإن لم تصرح سوى قلة قليلة منهن بذلك، تجنبًا للتسافه المؤكد الذي يمكن أن يرد به الرجال.
أتذكر يوم عزاء والدي أن عمتي –رحمة الله عليهما- قالت لي: لم يكن هناك أحن منه، لم يزرني يومًا إلا وأخذني في آخر الزيارة إلى جانب، ومد يده، وأعطاني مالًا.
وحتى عهد قريب، كانت هدايا المواسم والأعياد تُعد للأخوات من بيوت الإخوة، محملة بكل ما لذ وطاب من الطيور واللحوم وغوالي أصناف الأطعمة.
لم تكن أي امرأة تستشعر ضيقًا لأن أخاها أخذ ضعف نصيبها في الميراث، ليس فقط لأن الشرع قد قرر ذلك بوضوح، ولكن لأن الرجل بالفعل كان هو من يتولى مسئوليات الإنفاق وحده على بيته، ويبر بأخواته البنات لأعوام طوال حتى مماته. من ثم، كانت أحكام المواريث متناسبة مع قوامة الرجل على المرأة، وداعية لبر وصلة الرحم.
أما الآن، فأسر كثيرة تعيش على إعالة المرأة، وحرفيًا يمكننا القول إنه لولا عمل الأم لتضور أبناء تلك الأسر جوعًا، بينما الأب ينفق أمواله على نفسه، ما بين جلسات مقاهٍ، وتعاطي مخدرات، وبعضهم ينفقها على مظهره، وقد يعطي القليل لأبنائه، وقد لا يعطي! فإن كان أشباه رجال لا ينفقون على أولادهم، هل يُنتظر منهم أن يبروا بأخواتهم؟!  
حُكي لي عن إخوة ذكور –رغم غِناهم- رفضوا شراء تجهيزات زفاف أختهم الصغرى من مالهم، وقاموا بشراء جزء من نصيبها في الميراث في أرض زراعية كي تشتري ما يلزمها لبيتها، ورضيت صاغرة، لكن لم يفتها أن تسألهم: ولماذا أعطاكم الله إذًا ضعف نصيبي في الميراث إن لم تدفعوا لأمر كهذا؟!
في المقابل، أعرف نموذجًا مخالفًا تمامًا لأخ وحيد، أشرف على تربية أخواته البنات بعد ممات والده، وزوجهن من ماله، وأعطى كل منهن نصيبها في الميراث كاملًا غير منقوص، فهل شعرت إحداهن للحظة أن شرع الله قد ظلمها؟!
أعلم أن المتنطعين ليسوا إلا فئة من رجال المجتمع المصري والعربي، ولكن أعدادهم في تزايد، ومسئوليات المرأة عن إعالة نفسها وأولادها تتزايد هي الأخرى، وكان طبيعيًا أن تشعر هؤلاء النساء بالغُبن، لأن المقصد الشرعي لتقرير نصيب الرجل المضاعف لنصيب أخته قد انتفى فعليًا على أرض الواقع، بينما بقي الحكم، والرجال يدافعون تحديدًا وبشراسة عن بقاء أحكام المواريث لأنها في مصلحتهم، وليس حبًا في العمل بالشرع المعطلة أحكامه في مواطن عديدة، دون أن نجد أي مواقف عنترية مماثلة للدفاع عنها.
يمكنني القول أيضًا إن دفاع الرجال عن بقاء أحكام المواريث دون مساس، هو جزء من نظرة الرجل المصري الدونية للمرأة، التي تتزايد كلما زادت الحياة في إلقاء ضغوطها عليه؛ فالرجل المصري الذي تشعره كثير من مواقف الحياة غير الكريمة بالإهانة، يرى في نظرته للمرأة ككائن أقل منه في الحقوق، ويشعر أمامه بالقوة والتميز، تنفيسًا عن أزمته النفسية الخانقة. إنه دفاع عن النفس، وليس عن الشرع.
قد تكون الأزمة الاقتصادية سببًا رئيسيًا من أسباب الإشكالية، وهي التي تقف وراء تغير كثير من مفاهيم الرجولة في المجتمع، ولكن الحقيقة أنها أزمة أخلاق في المرتبة الأولى، وليس كل من يتنطع فقيرًا، ولا كل من يجود بغني، وليس كل من يسيء إلى المرأة مضغوطًا اجتماعيًا، ولا كل من يحسن إليها بمُرفهٍ.
وما قصدت قوله إن هناك نظامين؛ نظام إسلامي ونظام علماني. النظام الإسلامي الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لا تنطوي تحته أحكام المواريث وحسب، هناك القوامة وهناك بر وصلة الرحم. وأشباه الرجال يأخذون من النظام الإسلامي أحكام المواريث لأنها في صالحهم، وأحيانًا في بعض المناطق في دول العرب كصعيد مصر، يمنعون البنات من الميراث كليًا -وعندها لا نجد أحدًا من المتباكين على الشرع يفتح فمه-، كما يأخذ أشباه الرجال من النظام العلماني إسقاط القوامة والبر بالأخوات!
فإما النظام الإسلامي كله أو النظام العلماني كله، وعن نفسي فأنا مع النظام الإسلامي؛ فلأن الله سبحانه وتعالى هو من شرع أحكام المواريث، أرى أن تغيير أحكام المواريث ليس هو الحل، بل الحل أن يعود الرجال رجالًا.

السبت، 10 نوفمبر 2018

163-العلمانيون وزي المرأة


العلمانيون وزي المرأة
د/منى زيتون


في مصر، تابعنا لفترة حوارًا مجتمعيًا حول النقاب، أثاره مشروع قانون تقدمت به نائبة في البرلمان المصري لحظر النقاب في الأماكن العامة.
وبالرغم من عدم اقتناعي بوجوب تغطية المرأة وجهها، والمعروف بالنقاب، ويقيني أنه عادة بدوية لا أكثر، ويقيني الأشد أن 99% ممن ترتدينه في مصر لم تقرأن وجهتي النظر الفقهيتين حوله، وجهلهن تام بأصول الفقه والعقائد، وإنما لبسنه من باب التحوط لدينهن أو مجاراة لأفكار السلفية، إلا أنني تضايقت للغاية من كلام العلمانيين حول النقاب، ثم حول الحجاب، فمن المعتاد منهم أن تزيد حقارتهم لتطاله هو الآخر، كلما سنحت لهم الفرصة، وما هم أكثر من سفلة لا يعرفون معنى الحريات التي يتشدقون بها، والثقافة عند كثير منهم تساوي العُري كالحيوانات.
صحيح أن هناك منقبات تبدر منهن تصرفات في محال أعمالهن تجعله عائقًا عن أداء العمل، كمن يغلقن على أنفسهن المكتب نصف ساعة يوميًا ليُفطرن، بينما أصحاب المصالح ينتظرون انتهاء الهوانم من فطورهن لتُقضى مصالحهم! وصحيح أن هناك أعمالًا كالتدريس لا يصح أن تقوم بها منقبة، والدراسات العلمية تؤكد أن 55% على الأقل من رسائلنا للآخرين تحملها تعبيرات الوجه، وصحيح أيضًا أن هناك جرائم في المجتمع يُستخدم النقاب كأداة لتخفي المجرمين القائمين بها، لكن، كل هذا لا يصح منطقيًا استخدامه كعلل لمنع النقاب بوجه عام، ثم للتطاول على الحجاب والمحجبات، وكأن للمتطاول الحق في أن يحدد للنساء ما يلزمهن أن يلبسن!
المنظور الإسلامي والمنظور المسيحي للحجاب
من المعروف أن غطاء الوجه معروف في الإسلام، كونه كان عادة عند العرب من الجاهلية، كما أن نساء طائفة اليهود الشرقيين الحريدم يلبسن النقاب أيضًا، بينما هو غير معروف مطلقًا في المسيحية. على العكس من ذلك نجد أن الحجاب، الذي يلزم المرأة بتغطية شعرها وسائر بدنها عدا الوجه والكفين، معروف في الديانات الإبراهيمية الثلاث.
وفقًا للمنظور المسيحي المعاصر للحجاب، فهو مجرد عادة شعبية قديمة أو زي خاص (يونيفورم) للراهبات، ولا يوجد إلزام به لغير الراهبات والمُكرسات، والإلزام به للنساء العاديات خارج سلك الرهبنة يكون فقط عند أداء العبادات؛ أي أثناء الصلاة أو في التناول أو في الحج. بالرغم من أن هذا هو الزي الذي كانت ترتديه السيدة العذراء وجميع المسيحيات في العصور الأولى للمسيحية، وأعرف مسيحيات متدينات حريصات على تغطية شعورهن، وفي قرى الصعيد تكاد لا توجد امرأة مسيحية حاسرة الرأس.
المشكلة الخلافية هنا هي أن للكنيسة في المسيحية سلطة تشريعية، والمسيحيون يعتبرون أن الشرع ما أقره آباء الكنيسة، ولأنهم لا يطالبون النساء بتغطية شعورهن في الشارع فهو ليس من الشرع! والكنيسة تؤكد لهم أن السيدة مريم والراهبات عبر العصور كن يغطين شعورهن كعادة لا أكثر؛ أي أنهم اعتبروا استخدام الحجاب خارج نظام الرهبنة قديمًا مرتبطًا بعادات زمنية ومكانية انتهت، وليس مرتبطًا بالدين، فهو ليس من تعاليم المسيحية.
أما من المنظور الإسلامي فنعتبر أن القول بعدم التزام عامة النساء بالحجاب في المسيحية هو رأي، ولا نتعامل معه على أنه حقيقة، والمسيحيون أحرار فيما يعتقدون، لكننا لا نوافقهم عليه؛ فكون أن العلمانية قد أثرت في أغلب مسيحيي الشرق والغرب فخلعت النساء عامة الحجاب لا يعني أنه ليس زي المتدينات المسيحيات، أو أن هذا بالأحرى ما كان ينبغي أن يكون.
ونحن عندما نقول إن الحجاب -من منظور إسلامي- هو زي المتدينات في الديانات الإبراهيمية لا نقصد بتاتًا الإساءة إلى عقيدة المسيحيين، ولا إلزامهم به. نحن فقط نوضح مفهوم الحجاب من منظورنا؛ لأن مكمن الإشكالية أن هناك من العلمانيين من يحاول نقل المنظور المسيحي للحجاب إلينا، وإقناعنا زورًا بأنه المنظور الإسلامي، وأن الحجاب ليس أكثر من رداء نرتديه في الإسلام أثناء الصلاة والحج، وأننا لسن ملزمات به في الشارع وأمام الغرباء!
أي أننا نرد على من يلزمنا بالمفهوم المسيحي للحجاب بذكر مفهومنا الإسلامي الصحيح له، وليس أننا نزج بالمسيحيين المتدينين في الحوار. نعلم جيدًا أن الحوار بيننا وبين العلمانيين، وليس للمسيحيين المتدينيين دخل بهلفطتهم ما لم يحذوا حذوهم.
الحجاب والتطرف الديني!
من أكثر ما يقوله العلمانيون لأجل ربط الحجاب بالتطرف هو أن من يدعون أنهم إسلاميون قد وصلوا إلى الحكم في أفغانستان والسعودية وإيران، ويلزمون النساء بالحجاب، بل والنقاب أحيانًا، ووصل من يدعون العلمانية للحكم في فرنسا والسويد والنرويج وسويسرا، والفارق كبير وبائن بين هاتين المجموعتين من الدول.
وبداية فإن من يقول هذا يفترض أن التطرف خاص بالحكام، وهو افتراض غير صحيح. ثم إنه لا يصح جمع إيران مع السعودية وأفغانستان في آنية واحدة. في إيران، وإن ألزموا النساء بالحجاب وعاقبوا من لا ترتديه، وبالرغم أيضًا من اضطهادهم للسُنة، إلا أنها دولة لا تعادي الحضارة والمدنية في المجمل. هي دولة ديمقراطية، ينتخب الشعب رئيسهم وبرلمانهم في انتخابات نزيهة، لديها اقتصاد قوي متنوع الموارد، ولننظر إلى فنونها وعمارتها ونظافة ونظام شوارعها.
بالنسبة لمن يسمون بالإسلاميين في السعودية وأفغانستان، فهؤلاء وهابية خوارج، تعاليمهم وعقائدهم مارقة عن صحيح الإسلام، وللأسف فقد لعبت أموال البترول دورًا في نشر مذهبهم العفن.
وكما أن الإسلاميين يختلفون من بلد لآخر، فكذلك العلمانيون. العلمانيون عندنا يبدو أنهم يفهمون العلمانية على أنها حرية التعري وحرية الشذوذ وإباحة الخمور ومنع الأذان والتضييق على المُصلين والاستهزاء بالمتدينين عامة، وغيرها مما يظهر في دعواتهم التي يطلقونها كل حين! والتي يبدو أنهم يتصورون فيها الحل لمشاكلنا المتراكمة من كل نوع، وأساس لتقدمنا!
التطرف العلماني لا يقل إضرارًا بالمجتمع من التطرف السلفي
واقع الحال يقول إن التطرف الديني له طرفان كأي من أشكال التطرف، ولكننا في بلادنا نركز غالبًا على الإفراط وليس التفريط عند بحث التطرف الديني.
بينما في البلاد المتقدمة، ربما يظهر بشكل أوضح أثر التطرف العلماني ضد المتدينين، كوجه آخر للتطرف. ويمكن للمتابع ملاحظة وجود عدد ملحوظ ومتزايد من حوادث القتل في أوروبا وأمريكا لمتدينين من أديان مختلفة على يد علمانيين متشددين، يكرهون المتدينين كراهية عمياء!
إذن فالتطرف العلماني هو الآخر دنيء وقادر على القتل. لكن العلمانيين عندنا فقط قلة، ولو تمكنوا لفعلوا ما هو أفظع من أفعال الدواعش، ودعوات التحريض والكراهية التي يطلقونها من آنٍ لآخر توضح حقيقة وجههم الشيطاني، وتطاولهم على حق المرأة في الحجاب والنقاب ليس إلا إحدى سفالاتهم.
الحرية ليست حريتي فقط، بل الحرية حق للجميع. وأنا لا أقف في صف النقاب، وإنما أحترم حرية من قررت أن تلبسه. والمنقبة ليست إرهابية لمجرد أنها اختارت ارتداء النقاب، كما أنه ليس من حقنا أن نسلب من المنقبة حقها في ارتدائه لأن هناك من تُخل بمهام عملها كونها ترتديه أو لأن هناك من يرتدينه للتخفي لارتكاب جرائم، وهو السبب الأهم الذي يُطلقه من يريدون منع النقاب.
عندما تنتشر جرائم في مجتمع يُبحث عن جذور المشكلة لعلاجها، ولكن عندنا ينصب البحث في عوامل مصاحبة ليست السبب الرئيسي لها، ومعها أو دونها ستتم الجريمة. عبر التاريخ كان خطف الأطفال ينتشر في مصر في عصور المجاعات، والشدة المستنصرية هي أوضح مثال على ذلك، فالنقاب ليس سبب انتشار الخطف، ولو لم يكن شائعًا لحدث الخطف أيضًا. ومثل هذا يُقال فيما يخص مشكلة الإرهاب.
عالجوا فقر الناس الذي تفاقم، وأعيدوا لهم الأمن، بدلًا من إلهائهم –كالعادة- بتحويل أنظارهم إلى شأن آخر وقضية أخرى.