الأربعاء، 28 نوفمبر 2018

165-مشكلات منهجية


مشكلات منهجية
د/منى زيتون
الأربعاء 28 نوفمبر 2018
السبت أول ديسمبر 2018


تواجه الباحثين في حقل البحث العلمي في مصر والدول العربية العديد من المشكلات المتعلقة بمنهجية البحث العلمي، تعبر عن فشل واضح في تحويل ما تمت دراسته نظريًا في هذا الميدان إلى تطبيق عملي، أثناء كتابة الرسائل والدراسات العلمية.
بعض هذه المشكلات شكلية –إن جاز أن نصفها بذلك-، تتعلق بترتيب أجزاء الدراسة أو صياغة أجزاء منها، بينما يكون بعضها الآخر أكثر أهمية، وقد تؤثر على صحة نتائج الدراسة، أو قد تؤثر في عدم ترشيح الموضوع للبحث، أو تضع معوقات أمام اختيار فرضيات بعينها.

ما الذي ينبغي بحثه؟ (موضوع البحث)
تُعنى العلوم المختلفة بوجه عام بتفسير الظواهر الواقعة في نطاقها، وقد يرتفع سقف أهدافها للوصول إلى تنبؤات أو ضبط الظواهر من خلال هذا التفسير.
من أولى المشاكل التي قد تواجه الباحثين أن هناك من يعتقد أن الظاهرة المتسعة التكرار والأكثر انتشارًا هي التي تستحق الدراسة فقط، أما الظواهر الأكثر محدودية فأهمية دراستها ضئيلة، وربما لا يلزم دراستها!
حقيقةً أن هذا التصور أقرب إلى تصور العوام، وهو أكثر انتشارًا لديهم فيما يخص مجالات العلوم الإنسانية. على سبيل المثال فإن المعتاد من العامة عند طرح نتائج أي دراسة اجتماعية على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أن نجد كثيرين منهم ينقدون الدراسة، بدعوى أن من قام بها يُعمم، ولِم يبحث تلك الظاهرة وكأن المجتمع كله يعاني منها؟! والحقيقة أنه لا توجد مشكلة اجتماعية مهما شاعت يمكن أن يعاني منها جميع أفراد أي مجتمع! وهل علينا أن ننتظر أن يتم طلاق جميع الأزواج في المجتمع حتى نعامل الطلاق كظاهرة تستحق البحث في أسبابها وتفسيرها، سعيًا إلى الحد منها وضبطها؟ بل إنه وحتى المشكلات التي تكون لحالات فردية، ولا ترقى لمحدوديتها أن تكون ظاهرة، قد يكون بعضها هامًا، وينبغي البحث فيها، ومحاولة تفسيرها.
ولأجل تلك النظرة فإنه كثيرًا ما تُهمل كثير من الظواهر والحالات الهامة التي تستحق البحث في بداياتها، ولا تُبحث حتى تتفاقم وتتسع الرقعة.

الخلط بين الطريقة الاستقرائية والطريقة الاستنباطية في فرض الفروض
ينقسم الاستدلال العقلي إلى قسمين رئيسيين، هما: الاستقراء والاستنباط، ومعلوم أن تحديد المشكلات الجديرة بالبحث العلمي يمكن أن يأتي من خلال ملاحظة ما يحتاج إلى تفسير، ويصيغ الباحث على أساس تلك الملاحظات فروضًا استقرائية، أو يكون مصدر المشكلة النظريات ونتائج البحوث السابقة، وفي هذه الحال تُشتق فروضًا استنباطية منها.
تبدأ خطوات المنهج الاستقرائي بالملاحظة –والتجربة أحيانًا-، ومن خلالهما يُكوِّن الباحث تعميمًا استقرائيًا أوليًا، وللتيقن منه يتم وضع الفروض الاستقرائية، ثم التحقق من صدقها، وصولًا لإثباتها أو نفيها، ومن ثم يخلص الباحث إلى معرفة مُتحقق منها.
بينما المنهج الاستنباطي، يشتق فروضه من مُسلَّمات النظريات العلمية أو نتائج توصلت إليها دراسات سابقة. لا يبدأ بالملاحظة والتجريب، والاستقراء منهما، بل هما وسيلتان مساعدتان فقط في اختبار الفروض الاستنباطية، وتكذيب وتفنيد غير الجيد منها واستبعاده. وصياغة الفروض الاستنباطية تكون هي البداية، فهي تسبق الملاحظة والتجريب وليس العكس.
أحيانًا قد تصل الجرأة العلمية عند كبار العلماء أن يحْدِس بالفرض الاستنباطي دون أن تكون لديه نظرية ذات مُسلَّمات واضحة، اشتقه من خلالها. ويوجد على الانترنت مقطع فيديو شهير وقديم للغاية من زمن الأبيض والأسود للعالم الكبير ريتشارد فاينمان عن الطريقة العلمية  The Scientific Method، والتي تبدأ عنده بالافتراض، ثم يحسب ما يترتب على افتراضه، ثم مقارنة ذلك بالواقع، وتحديد ما إن كانت الفرضية صحيحة أو خاطئة بتوافقها أو عدم توافقها مع التجربة. وأيًا كان من وضع الفرضية فإن عدم توافقها يقتضي رفضها مباشرة. وطبعًا هذا يقتضي المحاولة مرة أخرى وافتراض فرضية جديدة.
لكن يبدو أن بعض كبار الأساتذة الباحثين في عالمنا العربي لديهم إشكالية في التمييز بين المنهجين الاستقرائي والاستنباطي.
منذ سنوات، حضرت سيمينارًا (حلقة بحث) في قسم علم النفس التربوي بإحدى أعرق كليات التربية في الوطن العربي. كانت هناك طالبة ماجستير تعرض أمامنا خطة بحث وضعتها في موضوع ما. كان واضحًا من عرضها أنها حددت مشكلة الدراسة من خلال الملاحظات المتجمعة لديها، وراجعت البحوث السابقة في المجال لمساعدتها على جمع مزيد من الملاحظات، وبناءً عليه حددت المتغيرات التي تصورت أنها السبب في المشكلة موضع الدراسة، ثم صاغت فروضًا استقرائية. والحقيقة أنني رأيتها فروضًا منطقية تستحق البحث في صحتها.
 فوجئتُ بالأساتذة الأفاضل في مجلس القسم ينقدونها نقدًا حادًا، تركز على اختيارها للمتغيرات، ورأوا أن الفروض التي وضعتها الباحثة تعسفية! لا علاقة واضحة بينها وبين المشكلة؛ لأنها تقوم أساسًا على ملاحظاتها الشخصية، واستقراء بعض البحوث السابقة، وليس على أدلة كافية من دراسات سابقة تدعمها!
وهذا خلط واضح بين المنهجين الاستقرائي والاستنباطي؛ لأن صلب المنهج الاستقرائي هو الملاحظات وليس مراجعة البحوث السابقة، وإنما تكون مراجعة البحوث لأجل جمع مزيد من الملاحظات وليس الأدلة! لمساعدة الباحث في الخروج بتعميم استقرائي، وصياغة فروضه الاستقرائية، التي سيختبرها بعد ذلك، أما المنهج الاستنباطي فهو الذي تنطلق فرضياته من مُسلَّمات نظريات أو نتائج واستدلالات بحوث سابقة.
ولذا لا عجب أن يبقى البحث العلمي لدينا متأخرًا طالما نضع العراقيل أمام الباحثين، ونرفض إعطاءهم الحرية في مطاوعة حدسهم أثناء عملية فرض الفروض، ورفض بحث المشكلات التي يلاحظونها في الواقع العملي، والتي يمكن أن تضيف معرفة جديدة غير مسبوقة، لنبقى فقط ندور في دائرة فحص المعرفة النظرية التي توصل إليها الغرب.

التصميم التجريبي
في الأبحاث التجريبية، يُعتبر أشهر تصميمين يمكن للباحث استخدامهما للتحقق من صحة فروضه هما تصميم المجموعة الواحدة مع اختبار قبلي وبعدي، وتصميم المجموعتين (تصميم المجموعة الضابطة مع اختبار قبلي وبعدي).
في حال إن كانت أعداد العينة المتاحة أمام الباحث قليلة فإنه يقوم بتحديد درجاتهم القبلية في المتغير التابع موضع الدراسة، وبعدها يبدأ تطبيق المعالجة التجريبية، ثم يعود ليقيس درجات أفراد العينة البعدية، ومقارنة الدرجات القبلية بالدرجات البعدية هي التي تحدد إن كانت المعالجة التجريبية فعّالة ومؤثرة.
أما إن توفرت أعداد كافية فأغلب الباحثين يستخدمون تصميم المجموعتين اللتين يتم تعيينهما عشوائيًا، وإحدى المجموعتين يتم تقديم المعالجة التجريبية لها، بينما الأخرى تكون مجموعة ضابطة أو مقارنة، تُستخدم نتائجها لمقارنة نتائج المجموعة التجريبية، فالدرجات القبلية للمجموعتين تكون بغرض التأكد أن المجموعتين متكافئتان قبل التجريب، بينما المفترض إن كانت المعالجة التجريبية فعّالة أن تكون هناك فروق دالة في الدرجات البعدية بين المجموعتين لصالح المجموعة التجريبية.
وللأسف فقد قرأت رسائل علمية كثيرة يستخدم الباحث فيها تصميم المجموعتين، ولكنه بعد ذلك يعتمد في تحديد النتائج على مقارنة الدرجات القبلية والدرجات البعدية للمجموعة التجريبية! لِم استخدمت المجموعة الضابطة إذًا؟! هل كان لديك فائضًا من الوقت والجهد؟!

مشكلات منهجية شكلية
إضافة إلى ما سبق تُوجد بعض المشكلات التي تتعلق بترتيب أجزاء البحث أو صياغة أجزاء منه. لعل أشهرها، عدم التمييز بين خطة البحث والفصل الأول، وإشكالية موضع الفروض من الدراسة، وعدم التمييز بين صياغة فرض البحث والفرض الإحصائي.
إن أول ما يشرع الباحث في إعداده هو خطة بحث متكاملة تعتبر مخططًا أوليًا لدراسته كلها، لا ينقصها سوى أدوات البحث والنتائج، أي أنها تتضمن مقدمة الدراسة، وتحديد المشكلة وتساؤلات الدراسة، وكذا تحديد أهدافها وأهميتها، وإطار نظري بسيط لها، وبعض الدراسات السابقة في الموضوع، ثم فروض البحث، ثم تصور عن منهج الدراسة والعينة والأدوات التي سيتم استخدامها. وتُعتبر موافقة مجلس القسم على خطة الباحث إذنًا له بالبدء في بحثه.
المفترض بعد ذلك أن يبدأ الباحث في إعداد دراسته، وأول ما ينبغي أن يفعله الباحث الجيد أن يقوم بتوزيع جهده السابق في الخطة على فصول دراسته، على أن يضيف إليها بعد ذلك؛ فيستبقي المقدمة ومشكلة الدراسة وتساؤلاتها وأهميتها وأهدافها فقط في الفصل الأول، ثم ينقل الجزء الخاص بالإطار النظري في الخطة إلى الفصل الثاني من الدراسة الخاص بالإطار النظري، والجزء الخاص بالدراسات السابقة في الخطة إلى موضعه من الدراسة، ويليه الفروض، وينقل كل الأجزاء المتعلقة بالمنهج إلى فصل المنهج.
لكن بعض الباحثين للأسف يتصور أن خطة البحث هي الفصل الأول من الدراسة، فيضعها كاملة فيه! وعندما نفتح رسالته نجد أجزاءً موضوعة –في غير موضعها- في الفصل الأول، ثم نجدها مكررة بعد ذلك في مواضعها الصحيحة من الفصول اللاحقة! وأحيانًا لا ينقلون أجزاء إلى مواضعها الصحيحة، وأشهر تلك الأجزاء هي فروض البحث، التي يكتفي بعض الباحثين بإبقائها في الفصل الأول -خطأ-، ولا يضعونها بعد ذلك في موضعها الصحيح في نهاية الفصل الخاص بالإطار النظري والدراسات السابقة.
أيضًا يُلاحظ أن كثيرًا من الباحثين يصيغون فروض البحث صياغة إحصائية، والمفترض أن تكون صياغتها لغوية بسيطة، بينما تلك الصياغة الإحصائية تكون في الفصل الأخير الخاص بنتائج الدراسة فقط.
وبعد، فقد كانت هذه محاولة بسيطة لتصحيح بعض الأخطاء المنهجية المتداولة في البحث العلمي في الدول العربية. آمل أن يستفيد منها الباحثون الجُدد.