الثلاثاء، 25 فبراير 2020

223-قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت


قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت
د/ منى زيتون
الاثنين 24 فبراير 2020
منشور الثلاثاء 25 فبراير 2020

سبق أن ناقشت أمر التعاطف في مقال سابق، ذكرت فيه أن هناك خللًا ما في بوصلة كثيرين من أفراد مجتمعاتنا العربية في توجيه تعاطفهم في كل قضية اجتماعية، وكثيرًا ما نجد من يتعاطفون مع الطرف غير المستحق له؛ ذلك أنه كثيرًا ما يبعد السلوك التعاطفي عن المنطق بل ويجافيه، ويقوم على الهوى وآفة الرأي الهوى!
والتعاطف كما أعنيه هو إظهار التقدير بقول أو فعل لشعور الآخرين؛ فأنا أتعاطف معك عندما أظهر لك أنني أقدر تقديرًا حقيقيًا ما تمر به، وليس بأن أسمعك أو أضع نفسي محلك أو أظهر استجابة انفعالية -حتى لو كانت ودودة- لمشاعرك.

في هذا المقال أحاول تصنيف أحوال البشر فيما يخص التعاطف، فللتعاطف مستويات وحالات عديدة، وأشهرها من خلال خبراتي الميدانية الأصناف الخمسة التالية.

التعاطف الإنساني
هو أول أنواع التعاطف وأعمها وأندرها في الوقت ذاته. إنه نوع التعاطف الذي يكون مع جميع البشر والمخلوقات دون تمييز، ولا يتذكر صاحبه سوى أنه إنسان فلا يتنبه لديانة أو لجنسية أو لأي انتماء كان.
وهذا تعاطف من بلغوا درجة عالية من النمو والسمو الروحي، تجعلهم يتعاطفون مع الخُطاة كما يتعاطفون مع الصالحين، وتبلغ بهم الرحمة بالحيوان وسائر المخلوقات أشدها.

اللا تعاطف
على العكس من النوع الأول للتعاطف الذي يتصف به الرحماء نجد نقيضه الذي يميز قُساة القلوب، وهؤلاء لا يكاد يعنيهم سوى أنفسهم وأقرب الأقربين منهم، وكأن الأرض خُلقت لهم وحدهم.
ولا يتوقف الأمر لدى أغلبهم عند حال اللامبالاة بل قد يتعدى معهم إلى الشنآن والشماتة في المكروبين. هؤلاء هم الشانئون لكل البشر صالحهم وطالحهم، أصحاب نظرية "لا دخان دون نار".
وأمثال هؤلاء لا تاريخ لأحد عندهم، فلو عاشروك سنينًا وأحسنت إليهم فيها أشد الإحسان ثم وجدوا من يطعن فيك لظنوا فيك ما يقول بلا روية ولا دليل! وربما ساهموا في الإشاعة عنك!
واللا تعاطف كسمة يختلف عنه كحال، ففي بعض القضايا لا يلزم أن تتعاطف فيها مع أحد الطرفين في القضية عندما يكون كلاهما مخطئًا ونال عقابه؛ كما في أزمة المدعو محمد رمضان والطيار الذي تم فصله لسماحه له بدخول قُمرة قيادة الطائرة واللعب في أزرارها في استهتار بالغ بأرواح البشر.

التعاطف مع صاحب الحق
وهذا هو صنف التعاطف الوحيد الذي لا ينافي ويجافي العقل بتاتًا، بل يماهيه ويتماشى معه دائمًا. هو تعاطف العقلاء والحكماء، وهو أيضًا التعاطف الذي وصف الله سبحانه وتعالى به المؤمنين ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
وقد كان هذا هو صنف التعاطف السائد بين المسلمين في عصرهم الذهبي، حتى أن الخليفة قد يجد قاضيه يحكم عليه، وابن الوالي يجد الخليفة يقتص منه، ويجعل الحق عليه، ويقف مع ابن واحد من أهل الذمة ضده.
وهؤلاء المتعاطفون مع إقامة الحق يدركون أثر العقاب في استقامة المجتمع وزجر الملتوين ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179]، فلا تأخذهم شفقة بالمخطئ أيًا كان، ويضربون على يده وإن كان ذا قربى. بشر كالسيف لا يخرجهم عن الحق لومة لائم، وإن غضب منهم الجميع. وصدق سيدنا علي بن أبي طالب عندما قال: لم يُبق لي الحق صاحبًا.

التعاطف الفئوي
وهذا النوع كسابقه يكون لجماعة دون أخرى، لكن مع الفارق الكبير، فالتعاطف مع الحق تعاطف الحكماء العادلين، الذي يدور مع الحق ولا يثبت على طائفة محددة دومًا سواء كان الحق معها أو عليها، وأما التعاطف الفئوي فتعاطف المتعصبين المتطرفين. وسبق أن تحدثت عن التعصب تفصيلًا في مقالات عديدة، والأمر أوضح من أن يحتاج لتكرار.
ولا يختلف الأمر كثيرًا باختلاف موضوع التعصب؛ فالتعصب اتجاه عام في الشخصية يظهر لدى الشخص ويطبقه في شتى الميادين سواء كان الحق مع طائفته أو عليها؛ فليست النقطة المحورية هي محتوى اعتقاده؛ فنجده يتعصب رياضيًا لناديه، ويتعصب لدينه أو لطائفته الدينية، ويتعصب للجماعة التي ينتمي إليها سياسيًا، وكل منهم يفرح في مصاب من ينتمي لفئة أخرى بينما يذوب إنسانية زائفة عندما يتعلق الأمر بأفراد جماعته، ولا يمانع في الكذب لتبرير تعصبه الأعور ذاك عندما تكون طائفته وجماعته على باطل.
ينظر الواحد منهم إلى انتماء صاحب الرأي قبل أن ينظر في الرأي ذاته، ويفرق تمامًا معه بين إن كان من يُقيّمه أهلاويًا أم زملكاويًا، مسلمًا أم مسيحيًا، سنيًا أم شيعيًا، إخوانيًا أم سيساويًا أم ثوريًا.

التعاطف المرآوي
وهذا هو الصنف الذي يَخفى أمره على كثيرين، والذي دفعني لكتابة المقال، ويختلف عن الصنف السابق الفئوي، فهنا يكون التعاطف مع من يشبهك كفرد وليس من ينتمي لجماعتك.
ولنفهم هذا الصنف من التعاطف أكثر لا بد من وضع بعض المسلمات عن اقتراف الخطأ والاعتذار عنه أمام أعيننا، وأولها أن كل البشر يرتكبون أخطاء ولكن ليس كلهم يرتكبون خطايا.
ومن يخطئ خطأ كبيرًا في حق نفسه وحق مجتمعه، ويرغب في إعادة الانخراط في المجتمع، وأن يتقبله المجتمع دون إعادة تذكير بما اقترفه عليه أن يعلن اعترافه بخطئه، ويعد بأنه سيكون إنسانًا نظيفًا، وسيغير من نفسه.
لكن المشكلة إننا شعب لم يعتد أفراده الاعتذار، وإن اعتذروا فغالبًا يكون اعتذارهم مشروطًا؛ فيقدمونه عندما يتأكدون أنه سيُقبل! بمعنى تفضل أو تفضلي بالاعتذار فقد سامحناكم!
وقد يصدر الاعتذار عن المخطئين عندما تضيق في وجوههم ويكتشفون أن مرور الزمان لم يجعل ما اقترفوه يمر مرور الكرام وإنهم مضطرون للاعتذار!
وأحيانًا يكون الاعتذار مقرونًا بإسقاط؛ فمن يظهر التأسف يرفض الإقرار أنه هو المخطئ الوحيد، ويحاول أن يرمي الخطأ على غيره أو يقول إن الجميع يخطئون لكن ستر الله يغطيهم؛ والمعنى الدفين الموجه لباقي أفراد المجتمع أنكم أنتم أيضًا غالطون، وهي حالة من التبجح عالية بدلًا من إبداء الندم.
وكل ما سبق هي أشكال من الاعتذار الزائف عديم القيمة! فالاعتذار هو اعتراف بالذنب، ويجب أن يتم كمبادرة من المخطئ وإلا فقد معناه، كما يجب ألا يتم التلكؤ في تقديمه، ولصاحب الحق قبوله أو عدم قبوله، وإن كان أصحاب النفوس الكريمة لا يتأخرون عن العفو في حال صدق الاعتذار والمبادرة به وعدم التلكؤ أو محاولة جعله مشروطًا.
وعودة إلى التعاطف مع الخُطاة والمعتذرين، لنجد انتشارًا مزعجًا وكثيفًا لفئة ينتهزون أي إشاعة تُطلق عن شخصية محترمة بالمجتمع للسخرية منه وإطلاق النكات والفكاهات الماسخة عنه؛ وكأن ما قيل عن هذا الشخص حقيقة رغم عدم وجود أي دليل على صحة ما أُطلق من إشاعات، ورغم وضوح كيديتها في أحايين كثيرة. والعكس تمامًا يكون حالهم إن كان التطاول على خاطئين متلبسين بالجُرم، خاصة إن قدموا اعتذارًا من نوعية الاعتذارات الزائفة أعلاه!
وكثيرًا ما تساءلت لماذا يتلقى الخاطئون خطأ واضحًا غير قابل للبس، تعاطفًا كبيرًا من تلك الفئة ذاتها التي تسارع في جلد من لا يستحقون الجلد؟! ولا يكتفون بالسكوت عن الإشاعات التي تطلق على أي أحد كما المحترمون من أبناء المجتمع؟!
إنه التعاطف المرآوي، تعاطفك مع من يشبهك، مقترنًا بحسد من يختلف عنك ويعلوك قيمة.
وهنا أوضح أن التعاطف مع صاحب الحق الذي لا يصدر إلا عن العادلين، هو أيضًا شكل من التعاطف المرآوي، فكأن الحق بداخلهم مرآتهم التي يرون فيها. دمتم عادلين.

الثلاثاء، 11 فبراير 2020

222-تأملات في الفقر والغنى

تأملات في الفقر والغنى
د/ منى زيتون
الاثنين 10 فبراير 2020
منشور الثلاثاء 11 فبراير 2020
مُستل من كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"

ناقشت أثر تفشي الفقر في المجتمع في مقالات سابقة مثل "شح الموارد وأثره في تغير السلوكيات" و "التواء المنحنى الجرسي وهلاك الأمم". وهذا المقال هو مزيد من التأملات في أحوال ومشكلات المجتمع التي تنشأ من تباين المستوى الاقتصادي لأفراده، وتجاور ذوي الثراء وذوي الفاقة.

العزل الطبقي؛ لماذا يرتاح الأغنياء في أحياء خاصة بهم؟!

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 135].

كلما قرأت هذه الآية الكريمة استوقفني قوله تعالى: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا، فكأنه تعالى يلفتنا إلى أنه ليس الغني فقط من يمكن أن يجد من يحيد عن الحق لأجله، بل قد يوجد بيننا من يتعاطف مع الفقير حتى وإن كان الحق عليه! رغم أننا مأمورون بمخالفة الهوى وإتباع الحق وأن ندور معه حيثما دار. ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26].

ذلك أن الأغنياء صنفان، فمنهم أبناء الأصول ومنهم محدثو النعمة ناهبو المال العام، وكذلك الفقراء صنفان فمنهم أصحاب الأصل الطيب رغم ضيق ذات اليد ومنهم طبقة قليلة الأصل يملؤها حقد طبقي على الأغنياء، ولا يُستثنى من ذلك أصحاب الأيادي البيضاء عليهم؛ لذا فالمشكلات التي تنشأ بين شخصين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين قد يختلف الطرف صاحب الحق فيها.

ومنذ حوالي عقدين من الزمان انتشرت فكرة إنشاء أحياء الأغنياء الجديدة في مصر كالتجمع الخامس ومدينتي والرحاب كبديل لأحياء الأغنياء المعروفة في القرن الماضي؛ وذلك بعدما اتسعت رقعة أحياء الأغنياء القديمة في العاصمة والمحافظات، فزال الفاصل بينها وبين أحياء شعبية أو عشوائية كانت تجاورها، فالتغت خصوصيتها وسابق عزلها عنها، فسعى الأغنياء إلى عزل طبقي جديد متطرف في أقاصي القاهرة والمدن.

وانتشرت إعلانات هذه الأحياء الجديدة في الوقت ذاته الذي كان يتم الترويج لحملات تبرع للمرضى والمحتاجين، وصار كثيرون من أبناء الطبقة المتوسطة يتندرون على من يتبرعون للفقراء ولا يريدون أن يجاوروهم! فهل الأمر حقًا يستحق التندر؟!

وفقًا لنسبية أينشتين فالكون هو نسيج مترابط، ويقول قانون الجذب العام لنيوتن ‏إن التجاذب والتأثير عام في الكون، وهو بين أي جسمين ماديين يتناسب طرديًا مع ‏كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما، ولطالما كنت أرى ذلك من منظور اجتماعي، ‏ولكن ليست الكتلة الاجتماعية هي تلك التي تحددها الأرقام التي يظهرها الميزان، فتلك ‏الكتلة المادية، وإنما قيمة الشخص هي التي تحدد كتلته التأثيرية فيمن حوله، كما أن ‏تقارب المسافة يزيد التأثير الاجتماعي، والعكس، فكلما ابتعد الناس عنا قل تأثيرهم، وإن ‏نظر أي منا للأشخاص الأكثر تأثيرًا في حياته سيجد أنهم ذوو القيمة العامة الذين يعتبرهم ‏قدوة له، وذوو القيمة الاجتماعية كالأب والأم والإخوة والأبناء والأقرباء والأصدقاء والزملاء، ‏وكذلك سيجد الجيران من بين الفئات الأكثر تأثيرًا كونهم في الدائرة القريبة منه.‏

إن تجمع الأغنياء في أحياء منفصلة في المدن -تتغير كل بضعة عقود وربما قرون- ليس وليد المجتمع المصري، بل هو نمط وتقسيم معماري معروف عبر العالم، والمحافظة عليه لا يكون فقط لأجل الاستثمار العقاري ولا للمباهاة الطبقية، بل لأن الأغنياء يكونون أكثر راحة في تلك الأحياء بمعزل عن الفقراء، وحتى أولئك الذين لا تقتلهم المغالاة ولديهم حس إنساني عالٍ ويساهمون في الجمعيات الخيرية ويجمعون التبرعات لأجل المحتاجين لا يشذون عن هذه القاعدة، ويحدث هذا لنشوء نوعيات من المشاكل الاجتماعية عند تجاور فئتين من الأفراد بينهما بون اجتماعي واسع.

وغني عن الذكر أن المجتمع الواحد يتكون من ثقافات فرعية مختلفة؛ والأغنياء بصورة عامة -وعلى العكس من الطبقات الشعبية- أكثر انعزالًا وأقل اختلاطًا وانشغالًا بأحوال الجيران، لا ينشغلون بقيل وقال، وفلان دخل وفلان خرج، وهذا سافر وهذا عاد من السفر، وهذه تمت خطبتها، وتلك لا. ورغم أن المستوى الثقافي يسهم في الانتماء إلى ثقافة فرعية ما لكن يبقى للمستوى الاجتماعي الاقتصادي تأثيره، فما يراه الأغنياء يصح من منظورهم قد يختلف الحكم عليه تمامًا من منظور من ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الشعبية.

حُكي لي قريبًا عن أزمة حدثت في حي من أحياء القاهرة الراقية القديمة؛ حيث احتاجت إحدى الشقق لإصلاح أمر طارئ يتعلق بالسباكة والصرف، ولما كان رب الأسرة مديرًا كبيرًا في أحد البنوك، وليس من السهل أن يأخذ إجازة طارئة وقتما يشاء، والأبناء يلزمهم الذهاب إلى مدارسهم، فقد اتفق رب الأسرة مع عمال على أن يقوموا بإتمام مهمتهم في إصلاح السباكة في وجود زوجته، ولم تستغرق عملية الإصلاح تلك سوى سويعات من نهار أحد الأيام، وكان باب الشقة مفتوحًا أثناء اشتغال العمال. وما حدث يعد في عُرف أي فرد ينتمي لطبقة راقية في المجتمع أمرًا عاديًا، لكن بالنسبة لزوجة صاحب كُشك بالمنطقة لم يكن عاديًا على الإطلاق؛ إذ أخذت تتحدث مع كل من يشتري منها -وعلى مدار أسبوع- عن كيف تسمح السيدة فلانة لنفسها بأن تبقى وحدها في الشقة مع العمال أثناء عملهم؟ ولماذا لم تطلب من إحدى جاراتها أو منها هي أن تبقى معها طيلة اليوم؟! واستمر ذلك اللت حتى وصل إلى أسماع زوج السيدة، وكاد أن يتأذى صاحب الكشك من ورائه وينقطع رزقه من المنطقة، لولا أن تأسف واعتذر نيابة عن زوجته طويلة اللسان.

والمشكلة الفائتة ربما لم تنشأ عن حقد طبقي، ولكن من اختلاف مفاهيمي واضح، ‏ومحاولة السيدة الشعبية إلزام من ليسوا من طبقتها الاجتماعية بمفاهيمها. وإن كنا نلحظ أن ‏أسلوب بعض الفقراء في تحقيق تقدير الذات هو الانتقاص من الأغنياء، وقيمهم وأخلاقهم، ‏وإن كانت هذه القيم لا علة حقيقية فيها!  ما يعني أنه تقدير للذات قائم على خداع النفس!‏

لكن مشكلة أخرى كرمي القمامة أمام منازل وفلل الأغنياء تعد أحد أشهر الأساليب المصرية لتنفيس الحقد الطبقي! وذات مرة أثناء قيام عامل النظافة بحمل كيس قمامة مُلقى بجوار منزلي وقع من الكيس إيصال سداد كهرباء، وتعجبت لبعد المسافة بين منزلي ومنزل السيدة صاحبة الكيس، وهو ما يظهره عنوان منزلها المكتوب على إيصال الكهرباء، وكأنها قد حملته كل هذه المسافة لتلقيه أمام منزلي، أو بعثت من يلقيه من أبنائها، رغم وجود صناديق جمع للقمامة أقرب إلى منزلها! ورغم أن هذه المعاملة ليست خاصة بمنزلي، فكذلك يفعلون مع باقي البيوت والفِلل بالمنطقة! فأنا أقر وأعترف أن تجاور منطقتي السكنية مع منطقة أخرى تقطنها طبقة اجتماعية أقل في المستوى الاجتماعي جعلني أكره المنطقة برُمتها.

وهذه الأمور الدالة بوضوح على أحقاد طبقية ليست مستجدة في المجتمع المصري على كل حال؛ حدثتني مرة سيدة كريمة عن أيام تأميم المصانع والشركات في بداية الستينات من القرن الماضي، وكيف فوجئوا بشماتة من كانوا يحسنون إليهم، وأخرى قالت لي: أحد الفلاحين الذين كانوا يعملون لدينا ظل يركب حماره رائحًا غاديًا أمام منزلنا الريفي، حاملًا بيديه الجريدة التي جاء بها قرار ما سُمي بالإصلاح الزراعي، مُشرِّعًا إياها. وهؤلاء ينطبق عليهم قول الشاعر: إن أنت أكرمت اللئيم تمردَا، وأمثال هؤلاء من قليلي الأصل قد يدفعون بعض الأغنياء الطيبين إلى إخراج زكاة أموالهم لمن لا يكادون يعرفونهم أبدًا من الفقراء أو إلى مؤسسات وجهات متخصصة لأن نفوسهم لا تطيب بإخراجها إلى من يزيدهم الكرم معهم لؤمًا!

 فلسفة الزكاة

يقودنا الحديث عن العزل الطبقي بين الأغنياء والفقراء إلى حديث آخر متعلق بالمال؛ عن الزكاة وإخراج الصدقات، فربما لو أخرج كل من وجبت عليه الزكاة حصته لاختفى كثير من الحنق الذي نلمسه من الفقراء في المجتمع والناتج عن ضيق معيشتهم.

وفلسفة الزكاة هي جزء من فلسفة الكون، فكل ما في الكون طبيعته التبدل والتغير، ولا باقي إلا الله، ومحاولة البخلاء الإمساك على المال لأجل جمع الثروة –وهو الحال نقيض الزكاة- مناقض للتغير الذي من المفترض أن يطرأ على المال، فإمساكه الزائد يجعله يعاكس الطاقة الكونية؛ فيقل ولا يزيد! على العكس من ضخه في الكون ما يجعله يدور ويعود إلى صاحبه مرة أخرى، ولعلني لست بحاجة للتذكير بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال عبدٍ من صدقة".

ومن يبخل بجزء من ماله على الفقراء يفعل ذلك في العادة إما لبخله أو لكثرة إنفاقه وشهوته الزائدة تجاه متاع الدنيا، فكأنه يبقيه لأنه يريده كله لنفسه، إما كــــمالٍ مخزون أو لامتلاك كل ما يريد، وما أكثر ما يريد! بينما الإنسان هو روح وعقل وقلب وجسد مادي، والاعتناء بالحاجات المادية فقط هو تغذية للجانب المادي منا كبشر، ما يفقد الإنسان توازنه الداخلي ويزيد معاناته ولا يسعده، ولن يجد إنسان سعادته إلا عندما يغذي روحه وعقله وعواطفه أيضًا، وليس كما يفهم من له هذا الفكر بأن السعادة أن تمتلك ثم تمتلك ثم تعاود فتمتلك، وأن يكون لديك من المال ما يجعلك تنفق وتبذخ ثم تنفق وتنفق، ولا تجد داعيًا للتوقف!

والزكاة هي الطريقة الربانية لضبط ميزان العدالة الاجتماعية فلا يعيش بعض الأفراد في حال ترف زائد بينما تعيش فئة أخرى في فقر مدقع، وتحقيق هذا التوازن وإلغاء التفاوت الشنيع بين كفتي الميزان كفيل بألا يطيح الميزان! أي بقاء المجتمع وعدم انهياره، كما أنه يحقق السعادة لكلا الطرفين، لأنه لا الوفرة المادية في الإنفاق على النفس ولا القلة يمكن أن تحققا السعادة لإنسان.

وما لا يفهمه كثيرون أن الوفرة الزائدة والفائضة عن الحد تفقد الإنسان متعته وبهجته، وكما قالوا فإن "للعبير اختناق"؛ فالوفرة تناسب حياة الإنسان في الجنان وليس على الأرض، وإصرار بعض الناس على تحقيقها لأنفسهم على الأرض لا يسعدهم، كما يقتطع من الموارد التي كان من المفترض أن يعيش عليها غيرهم من البشر، فلا هم سعدوا ولا أسعدوا غيرهم!


الأحد، 2 فبراير 2020

221-مهارات التواصل الاجتماعي


مهارات التواصل الاجتماعي
د/ منى أبو بكر زيتون
الأحد 2 فبراير 2020

صدرت الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة من كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي.. تأملات في تأثير التواصل على العلاقات الاجتماعية". وقد أحببت أن أطلع قرائي الأعزاء على مقدمة الكتاب التي تعطي تصورًا إجماليًا عن محتواه.


مقدمة الكتاب
التفاعل الاجتماعي في مضمونه ليس سوى تبادل منظم للرسائل اللفظية وغير اللفظية بين الناس، أي إنه يحدث عن طريق وسيلتين من وسائل الاتصال هما اللغة المتحدثة (الاتصال اللفظي) Verbal Communication والاتصال غير اللفظي Non-verbal Communication، فإذا كان الاتصال اللفظي هو الكلمات الحقيقية المتحدث بها، فإن الاتصال غير اللفظي يشتمل كل السلوكيات بين الأشخاص عدا الكلمات.
ومن هنا جاء اهتمام علم النفس الاجتماعي بدراسة المهارات الاجتماعية التي تُعتبر المطية التي يمتطيها الأفراد للتواصل. تلك المهارات قد عُرّفت وصُنِّفت من قِبل علماء النفس الاجتماعي تعريفات وتصنيفات كثيرة لن أفيض فيها، ويعد أشهر تصنيف للمهارات الاجتماعية هو تصنيف رونالد ريجيو، والذي يرى فيه أن المهارات الاجتماعية هي مهارات اتصال اجتماعي وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-   مهارات في الإرسال Skills in Sending أو ما يعرف بالتعبيرية Expressivity
وهي المهارة التي يعبر بها الأفراد عن أنفسهم، وتظهر في الجانبين اللفظي وغير اللفظي (الانفعالي)، فهناك نوعان من مهارتيّ التعبير هما:
أ-التعبير اللفظي (إجادة لغة الكلام) Verbal Expressivity
ب-التعبير غير اللفظي (الانفعالي) Nonverbal (Emotional) Expressivity
والفرد الذي يمتلك مهارة التعبير اللفظي هو الذي يجيد التعبير بالكلام عما يريد. يعرف كيف يبدأ محادثة ويستمر فيها وصولًا إلى إنهائها بعد تحقيق الغرض منها، أما الفرد الذي يمتلك مهارة التعبير الانفعالي فهو الذي يكون قادرًا على إرسال الرسائل غير اللفظية كتعبيرات الوجه ولغة الجسد وغيرها للتعبير عن نفسه من خلالها.
2- مهارات في الاستقبال Skills in Receiving أو ما يعرف بالحساسية Sensitivity
وهي المهارة التي يفسر بها الفرد الرسائل التي يبعثها الآخرون، وتظهر أيضًا في الجانبين اللفظي وغير اللفظي (الانفعالي)، فيكون هناك نوعان من مهارتيّ الحساسية هما:
أ-الحساسية اللفظيةVerbal Sensitivity ، وتعني فهم مغزى ما يقول الآخرون، وكذلك فهم ما وراء سلوكهم اللفظي.
ب-الحساسية غير اللفظية (الانفعالية) Nonverbal (Emotional) Sensitivity، وتعني القدرة على فهم وتفسير الانفعالات والمشاعر المُضمّنة في الرسائل غير اللفظية التي تُرسل للفرد من الآخرين.
3-  مهارات في التحكم والضبط والتنظيم Skills in Regulating or Controlling أو ما يعرف بالضبط Control
وهو المهارة التي بها يصبح الأفراد قادرين على تنظيم عملية التواصل في المواقف الاجتماعية، وتظهر كذلك في الجانبين اللفظي وغير اللفظي (الانفعالي)، فيكون هناك نوعان من مهارتيّ الضبط هما:
أ-الضبط اللفظيVerbal Control ، ويعني لعب الدور الاجتماعي المناسب، وضبط الاتجاه والمحتوى خلال الحديث.
ب-الضبط غير اللفظي (الانفعالي) Nonverbal (Emotional) Control، وهو الكفاءة في ضبط الانفعالات.
ودائمًا وأبدًا فإن كل الناس يشتكون من كل الناس! فمن تراهم السيئين ومن الجيدين بيننا؟! علمتني الحياة أن مشاكل البشر أغلبها اجتماعية وليست نفسية؛ فنحن في كثير من الأحيان لا نفهم الآخر ولا يفهمنا الآخر، وهذا سبب أغلب مشاكلنا. ولا بد أن نعترف بوجود المشكلة أولًا كي نواجهها ونكون قادرين على حلها. وليتذكر كل منا أن ما في داخله سيبقى في داخله؛ فالناس تتعامل مع سلوكياته الظاهرة سواء كانت أفعالًا أو أقوالًا.
والتأثير الاجتماعي للشخص يعتمد على قدرته على التآزر بين جميع المهارات اللفظية وغير اللفظية. والدراسات النفسية والاجتماعية تؤكد على الدور الكبير والفعَّال لمهارات الاتصال الجيدة في اكتساب السلوك الاجتماعي المناسب، وتقبل الآخرين والتفاعل معهم، وتكوين الصداقات، والحفاظ على العلاقات، وتحقيق التكيف الاجتماعي، وترتبط كذلك بتكوين مفهوم إيجابي عن الذات وتقدير ذات مرتفع، وهي تؤثر في بيئة التعلم، وتؤدي إلى الكفاءة في العمل، ومن ثم تحقيق النجاح الاجتماعي للصغار والكبار على السواء، وإجادتها تساعد الفرد على تحسين علاقاته المهنية والشخصية إلى حد بعيد.
وعلى العكس من ذلك، فإن نقص مهارات التواصل يرتبط بأشكال عديدة من الأنماط السلوكية غير التوافقية، بدءًا من جُناح الأطفال وتسربهم من المدرسة، وتعرضهم لصعوبات أكاديمية في كافة المراحل الدراسية، وصولًا إلى الفوبيا الاجتماعية والاكتئاب والشعور بالوحدة النفسية وبعض مشاكل الصحة العقلية لدى البالغين. وغالبًا ما يفتقدها ضحايا إساءة المعاملة والانتحار وأطفال الشوارع الهاربين من منازلهم.
إن النجاح في العلاقات الاجتماعية يستلزم زيادة الوعي وقوة الملاحظة لسلوكيات الأفراد الذين نتعامل معهم. ولا شك أن كل منا يشكل تجربته الذاتية في الحياة من خلال خبراته، لكن الإفادة من خبرات الآخرين يثرينا، وتعلم ما يلزمنا عن مهارات التواصل ربما يجنبنا الوقوع في كثير من المشاكل.
وقد أثبتت الدراسات وجود فروق دالة بين الثقافات في مهارات التواصل الاجتماعية، لكن تبقى أقوى الفروق بين البشر فيها تُعزى إلى اختلاف الجنسين؛ فمهما كان حجم الفروق الفردية أو الثقافية بين البشر تبقى للفروق بين الجنسين كلمتها الأعلى فيما يخص إشكاليات التواصل بينهم، وتسبب تلك الاختلافات مشاكل التواصل الشائعة بين النساء والرجال.
ولأن تجاهل الفروق بين الجنسين وإرجاع مصدر مشاكل التواصل إلى الفروق الفردية أو الثقافية فقط يسهم في تعميق المشاكل وزيادة النزاعات بين النساء والرجال في العلاقات المهنية والشخصية، وزيادة الضغوط على الأفراد، وليقيني أن علينا زيادة الوعي بتلك الفروق وفهم الأساليب الذكرية والأنثوية في التواصل، وليقيني أيضًا بأن كثيرين بحاجة لتعلم التعبير عن أنفسهم وفهم الآخرين بنجاح، كي ينجحوا في التعامل مع الآخرين، وأن كثيرين بحاجة لتصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة والمتسببة في مشاكل بالتواصل، لأجل ذلك كله كان هذا الكتاب.
وقد حرصت على عدم صياغة محتوى الكتاب صياغة أكاديمية، فخلا من التنظير غير اللازم؛ فهو تأليف إبداعي، كتبته مستحضرة المعلومات مما تعلمته من دراساتي السابقة وخبراتي دون الرجوع للمراجع والتوثيق إلا في مواضع يسيرة أوردت فيها اسم أصحابها، واستخدمت الأسلوب العلمي المتأدب، لأن هدفي منه رفع درجة الثقافة النفسية لدى القارئ غير المتخصص، وأتمنى أن أكون بالفعل قد أسهمت في هذا.
د/ منى زيتون