الثلاثاء، 25 فبراير 2020

223-قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت


قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت
د/ منى زيتون
الاثنين 24 فبراير 2020
منشور الثلاثاء 25 فبراير 2020

سبق أن ناقشت أمر التعاطف في مقال سابق، ذكرت فيه أن هناك خللًا ما في بوصلة كثيرين من أفراد مجتمعاتنا العربية في توجيه تعاطفهم في كل قضية اجتماعية، وكثيرًا ما نجد من يتعاطفون مع الطرف غير المستحق له؛ ذلك أنه كثيرًا ما يبعد السلوك التعاطفي عن المنطق بل ويجافيه، ويقوم على الهوى وآفة الرأي الهوى!
والتعاطف كما أعنيه هو إظهار التقدير بقول أو فعل لشعور الآخرين؛ فأنا أتعاطف معك عندما أظهر لك أنني أقدر تقديرًا حقيقيًا ما تمر به، وليس بأن أسمعك أو أضع نفسي محلك أو أظهر استجابة انفعالية -حتى لو كانت ودودة- لمشاعرك.

في هذا المقال أحاول تصنيف أحوال البشر فيما يخص التعاطف، فللتعاطف مستويات وحالات عديدة، وأشهرها من خلال خبراتي الميدانية الأصناف الخمسة التالية.

التعاطف الإنساني
هو أول أنواع التعاطف وأعمها وأندرها في الوقت ذاته. إنه نوع التعاطف الذي يكون مع جميع البشر والمخلوقات دون تمييز، ولا يتذكر صاحبه سوى أنه إنسان فلا يتنبه لديانة أو لجنسية أو لأي انتماء كان.
وهذا تعاطف من بلغوا درجة عالية من النمو والسمو الروحي، تجعلهم يتعاطفون مع الخُطاة كما يتعاطفون مع الصالحين، وتبلغ بهم الرحمة بالحيوان وسائر المخلوقات أشدها.

اللا تعاطف
على العكس من النوع الأول للتعاطف الذي يتصف به الرحماء نجد نقيضه الذي يميز قُساة القلوب، وهؤلاء لا يكاد يعنيهم سوى أنفسهم وأقرب الأقربين منهم، وكأن الأرض خُلقت لهم وحدهم.
ولا يتوقف الأمر لدى أغلبهم عند حال اللامبالاة بل قد يتعدى معهم إلى الشنآن والشماتة في المكروبين. هؤلاء هم الشانئون لكل البشر صالحهم وطالحهم، أصحاب نظرية "لا دخان دون نار".
وأمثال هؤلاء لا تاريخ لأحد عندهم، فلو عاشروك سنينًا وأحسنت إليهم فيها أشد الإحسان ثم وجدوا من يطعن فيك لظنوا فيك ما يقول بلا روية ولا دليل! وربما ساهموا في الإشاعة عنك!
واللا تعاطف كسمة يختلف عنه كحال، ففي بعض القضايا لا يلزم أن تتعاطف فيها مع أحد الطرفين في القضية عندما يكون كلاهما مخطئًا ونال عقابه؛ كما في أزمة المدعو محمد رمضان والطيار الذي تم فصله لسماحه له بدخول قُمرة قيادة الطائرة واللعب في أزرارها في استهتار بالغ بأرواح البشر.

التعاطف مع صاحب الحق
وهذا هو صنف التعاطف الوحيد الذي لا ينافي ويجافي العقل بتاتًا، بل يماهيه ويتماشى معه دائمًا. هو تعاطف العقلاء والحكماء، وهو أيضًا التعاطف الذي وصف الله سبحانه وتعالى به المؤمنين ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29].
وقد كان هذا هو صنف التعاطف السائد بين المسلمين في عصرهم الذهبي، حتى أن الخليفة قد يجد قاضيه يحكم عليه، وابن الوالي يجد الخليفة يقتص منه، ويجعل الحق عليه، ويقف مع ابن واحد من أهل الذمة ضده.
وهؤلاء المتعاطفون مع إقامة الحق يدركون أثر العقاب في استقامة المجتمع وزجر الملتوين ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179]، فلا تأخذهم شفقة بالمخطئ أيًا كان، ويضربون على يده وإن كان ذا قربى. بشر كالسيف لا يخرجهم عن الحق لومة لائم، وإن غضب منهم الجميع. وصدق سيدنا علي بن أبي طالب عندما قال: لم يُبق لي الحق صاحبًا.

التعاطف الفئوي
وهذا النوع كسابقه يكون لجماعة دون أخرى، لكن مع الفارق الكبير، فالتعاطف مع الحق تعاطف الحكماء العادلين، الذي يدور مع الحق ولا يثبت على طائفة محددة دومًا سواء كان الحق معها أو عليها، وأما التعاطف الفئوي فتعاطف المتعصبين المتطرفين. وسبق أن تحدثت عن التعصب تفصيلًا في مقالات عديدة، والأمر أوضح من أن يحتاج لتكرار.
ولا يختلف الأمر كثيرًا باختلاف موضوع التعصب؛ فالتعصب اتجاه عام في الشخصية يظهر لدى الشخص ويطبقه في شتى الميادين سواء كان الحق مع طائفته أو عليها؛ فليست النقطة المحورية هي محتوى اعتقاده؛ فنجده يتعصب رياضيًا لناديه، ويتعصب لدينه أو لطائفته الدينية، ويتعصب للجماعة التي ينتمي إليها سياسيًا، وكل منهم يفرح في مصاب من ينتمي لفئة أخرى بينما يذوب إنسانية زائفة عندما يتعلق الأمر بأفراد جماعته، ولا يمانع في الكذب لتبرير تعصبه الأعور ذاك عندما تكون طائفته وجماعته على باطل.
ينظر الواحد منهم إلى انتماء صاحب الرأي قبل أن ينظر في الرأي ذاته، ويفرق تمامًا معه بين إن كان من يُقيّمه أهلاويًا أم زملكاويًا، مسلمًا أم مسيحيًا، سنيًا أم شيعيًا، إخوانيًا أم سيساويًا أم ثوريًا.

التعاطف المرآوي
وهذا هو الصنف الذي يَخفى أمره على كثيرين، والذي دفعني لكتابة المقال، ويختلف عن الصنف السابق الفئوي، فهنا يكون التعاطف مع من يشبهك كفرد وليس من ينتمي لجماعتك.
ولنفهم هذا الصنف من التعاطف أكثر لا بد من وضع بعض المسلمات عن اقتراف الخطأ والاعتذار عنه أمام أعيننا، وأولها أن كل البشر يرتكبون أخطاء ولكن ليس كلهم يرتكبون خطايا.
ومن يخطئ خطأ كبيرًا في حق نفسه وحق مجتمعه، ويرغب في إعادة الانخراط في المجتمع، وأن يتقبله المجتمع دون إعادة تذكير بما اقترفه عليه أن يعلن اعترافه بخطئه، ويعد بأنه سيكون إنسانًا نظيفًا، وسيغير من نفسه.
لكن المشكلة إننا شعب لم يعتد أفراده الاعتذار، وإن اعتذروا فغالبًا يكون اعتذارهم مشروطًا؛ فيقدمونه عندما يتأكدون أنه سيُقبل! بمعنى تفضل أو تفضلي بالاعتذار فقد سامحناكم!
وقد يصدر الاعتذار عن المخطئين عندما تضيق في وجوههم ويكتشفون أن مرور الزمان لم يجعل ما اقترفوه يمر مرور الكرام وإنهم مضطرون للاعتذار!
وأحيانًا يكون الاعتذار مقرونًا بإسقاط؛ فمن يظهر التأسف يرفض الإقرار أنه هو المخطئ الوحيد، ويحاول أن يرمي الخطأ على غيره أو يقول إن الجميع يخطئون لكن ستر الله يغطيهم؛ والمعنى الدفين الموجه لباقي أفراد المجتمع أنكم أنتم أيضًا غالطون، وهي حالة من التبجح عالية بدلًا من إبداء الندم.
وكل ما سبق هي أشكال من الاعتذار الزائف عديم القيمة! فالاعتذار هو اعتراف بالذنب، ويجب أن يتم كمبادرة من المخطئ وإلا فقد معناه، كما يجب ألا يتم التلكؤ في تقديمه، ولصاحب الحق قبوله أو عدم قبوله، وإن كان أصحاب النفوس الكريمة لا يتأخرون عن العفو في حال صدق الاعتذار والمبادرة به وعدم التلكؤ أو محاولة جعله مشروطًا.
وعودة إلى التعاطف مع الخُطاة والمعتذرين، لنجد انتشارًا مزعجًا وكثيفًا لفئة ينتهزون أي إشاعة تُطلق عن شخصية محترمة بالمجتمع للسخرية منه وإطلاق النكات والفكاهات الماسخة عنه؛ وكأن ما قيل عن هذا الشخص حقيقة رغم عدم وجود أي دليل على صحة ما أُطلق من إشاعات، ورغم وضوح كيديتها في أحايين كثيرة. والعكس تمامًا يكون حالهم إن كان التطاول على خاطئين متلبسين بالجُرم، خاصة إن قدموا اعتذارًا من نوعية الاعتذارات الزائفة أعلاه!
وكثيرًا ما تساءلت لماذا يتلقى الخاطئون خطأ واضحًا غير قابل للبس، تعاطفًا كبيرًا من تلك الفئة ذاتها التي تسارع في جلد من لا يستحقون الجلد؟! ولا يكتفون بالسكوت عن الإشاعات التي تطلق على أي أحد كما المحترمون من أبناء المجتمع؟!
إنه التعاطف المرآوي، تعاطفك مع من يشبهك، مقترنًا بحسد من يختلف عنك ويعلوك قيمة.
وهنا أوضح أن التعاطف مع صاحب الحق الذي لا يصدر إلا عن العادلين، هو أيضًا شكل من التعاطف المرآوي، فكأن الحق بداخلهم مرآتهم التي يرون فيها. دمتم عادلين.