الثلاثاء، 11 فبراير 2020

222-تأملات في الفقر والغنى

تأملات في الفقر والغنى
د/ منى زيتون
الاثنين 10 فبراير 2020
منشور الثلاثاء 11 فبراير 2020
مُستل من كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"

ناقشت أثر تفشي الفقر في المجتمع في مقالات سابقة مثل "شح الموارد وأثره في تغير السلوكيات" و "التواء المنحنى الجرسي وهلاك الأمم". وهذا المقال هو مزيد من التأملات في أحوال ومشكلات المجتمع التي تنشأ من تباين المستوى الاقتصادي لأفراده، وتجاور ذوي الثراء وذوي الفاقة.

العزل الطبقي؛ لماذا يرتاح الأغنياء في أحياء خاصة بهم؟!

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 135].

كلما قرأت هذه الآية الكريمة استوقفني قوله تعالى: ﴿إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا، فكأنه تعالى يلفتنا إلى أنه ليس الغني فقط من يمكن أن يجد من يحيد عن الحق لأجله، بل قد يوجد بيننا من يتعاطف مع الفقير حتى وإن كان الحق عليه! رغم أننا مأمورون بمخالفة الهوى وإتباع الحق وأن ندور معه حيثما دار. ﴿فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ[ص:26].

ذلك أن الأغنياء صنفان، فمنهم أبناء الأصول ومنهم محدثو النعمة ناهبو المال العام، وكذلك الفقراء صنفان فمنهم أصحاب الأصل الطيب رغم ضيق ذات اليد ومنهم طبقة قليلة الأصل يملؤها حقد طبقي على الأغنياء، ولا يُستثنى من ذلك أصحاب الأيادي البيضاء عليهم؛ لذا فالمشكلات التي تنشأ بين شخصين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين قد يختلف الطرف صاحب الحق فيها.

ومنذ حوالي عقدين من الزمان انتشرت فكرة إنشاء أحياء الأغنياء الجديدة في مصر كالتجمع الخامس ومدينتي والرحاب كبديل لأحياء الأغنياء المعروفة في القرن الماضي؛ وذلك بعدما اتسعت رقعة أحياء الأغنياء القديمة في العاصمة والمحافظات، فزال الفاصل بينها وبين أحياء شعبية أو عشوائية كانت تجاورها، فالتغت خصوصيتها وسابق عزلها عنها، فسعى الأغنياء إلى عزل طبقي جديد متطرف في أقاصي القاهرة والمدن.

وانتشرت إعلانات هذه الأحياء الجديدة في الوقت ذاته الذي كان يتم الترويج لحملات تبرع للمرضى والمحتاجين، وصار كثيرون من أبناء الطبقة المتوسطة يتندرون على من يتبرعون للفقراء ولا يريدون أن يجاوروهم! فهل الأمر حقًا يستحق التندر؟!

وفقًا لنسبية أينشتين فالكون هو نسيج مترابط، ويقول قانون الجذب العام لنيوتن ‏إن التجاذب والتأثير عام في الكون، وهو بين أي جسمين ماديين يتناسب طرديًا مع ‏كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بينهما، ولطالما كنت أرى ذلك من منظور اجتماعي، ‏ولكن ليست الكتلة الاجتماعية هي تلك التي تحددها الأرقام التي يظهرها الميزان، فتلك ‏الكتلة المادية، وإنما قيمة الشخص هي التي تحدد كتلته التأثيرية فيمن حوله، كما أن ‏تقارب المسافة يزيد التأثير الاجتماعي، والعكس، فكلما ابتعد الناس عنا قل تأثيرهم، وإن ‏نظر أي منا للأشخاص الأكثر تأثيرًا في حياته سيجد أنهم ذوو القيمة العامة الذين يعتبرهم ‏قدوة له، وذوو القيمة الاجتماعية كالأب والأم والإخوة والأبناء والأقرباء والأصدقاء والزملاء، ‏وكذلك سيجد الجيران من بين الفئات الأكثر تأثيرًا كونهم في الدائرة القريبة منه.‏

إن تجمع الأغنياء في أحياء منفصلة في المدن -تتغير كل بضعة عقود وربما قرون- ليس وليد المجتمع المصري، بل هو نمط وتقسيم معماري معروف عبر العالم، والمحافظة عليه لا يكون فقط لأجل الاستثمار العقاري ولا للمباهاة الطبقية، بل لأن الأغنياء يكونون أكثر راحة في تلك الأحياء بمعزل عن الفقراء، وحتى أولئك الذين لا تقتلهم المغالاة ولديهم حس إنساني عالٍ ويساهمون في الجمعيات الخيرية ويجمعون التبرعات لأجل المحتاجين لا يشذون عن هذه القاعدة، ويحدث هذا لنشوء نوعيات من المشاكل الاجتماعية عند تجاور فئتين من الأفراد بينهما بون اجتماعي واسع.

وغني عن الذكر أن المجتمع الواحد يتكون من ثقافات فرعية مختلفة؛ والأغنياء بصورة عامة -وعلى العكس من الطبقات الشعبية- أكثر انعزالًا وأقل اختلاطًا وانشغالًا بأحوال الجيران، لا ينشغلون بقيل وقال، وفلان دخل وفلان خرج، وهذا سافر وهذا عاد من السفر، وهذه تمت خطبتها، وتلك لا. ورغم أن المستوى الثقافي يسهم في الانتماء إلى ثقافة فرعية ما لكن يبقى للمستوى الاجتماعي الاقتصادي تأثيره، فما يراه الأغنياء يصح من منظورهم قد يختلف الحكم عليه تمامًا من منظور من ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية الشعبية.

حُكي لي قريبًا عن أزمة حدثت في حي من أحياء القاهرة الراقية القديمة؛ حيث احتاجت إحدى الشقق لإصلاح أمر طارئ يتعلق بالسباكة والصرف، ولما كان رب الأسرة مديرًا كبيرًا في أحد البنوك، وليس من السهل أن يأخذ إجازة طارئة وقتما يشاء، والأبناء يلزمهم الذهاب إلى مدارسهم، فقد اتفق رب الأسرة مع عمال على أن يقوموا بإتمام مهمتهم في إصلاح السباكة في وجود زوجته، ولم تستغرق عملية الإصلاح تلك سوى سويعات من نهار أحد الأيام، وكان باب الشقة مفتوحًا أثناء اشتغال العمال. وما حدث يعد في عُرف أي فرد ينتمي لطبقة راقية في المجتمع أمرًا عاديًا، لكن بالنسبة لزوجة صاحب كُشك بالمنطقة لم يكن عاديًا على الإطلاق؛ إذ أخذت تتحدث مع كل من يشتري منها -وعلى مدار أسبوع- عن كيف تسمح السيدة فلانة لنفسها بأن تبقى وحدها في الشقة مع العمال أثناء عملهم؟ ولماذا لم تطلب من إحدى جاراتها أو منها هي أن تبقى معها طيلة اليوم؟! واستمر ذلك اللت حتى وصل إلى أسماع زوج السيدة، وكاد أن يتأذى صاحب الكشك من ورائه وينقطع رزقه من المنطقة، لولا أن تأسف واعتذر نيابة عن زوجته طويلة اللسان.

والمشكلة الفائتة ربما لم تنشأ عن حقد طبقي، ولكن من اختلاف مفاهيمي واضح، ‏ومحاولة السيدة الشعبية إلزام من ليسوا من طبقتها الاجتماعية بمفاهيمها. وإن كنا نلحظ أن ‏أسلوب بعض الفقراء في تحقيق تقدير الذات هو الانتقاص من الأغنياء، وقيمهم وأخلاقهم، ‏وإن كانت هذه القيم لا علة حقيقية فيها!  ما يعني أنه تقدير للذات قائم على خداع النفس!‏

لكن مشكلة أخرى كرمي القمامة أمام منازل وفلل الأغنياء تعد أحد أشهر الأساليب المصرية لتنفيس الحقد الطبقي! وذات مرة أثناء قيام عامل النظافة بحمل كيس قمامة مُلقى بجوار منزلي وقع من الكيس إيصال سداد كهرباء، وتعجبت لبعد المسافة بين منزلي ومنزل السيدة صاحبة الكيس، وهو ما يظهره عنوان منزلها المكتوب على إيصال الكهرباء، وكأنها قد حملته كل هذه المسافة لتلقيه أمام منزلي، أو بعثت من يلقيه من أبنائها، رغم وجود صناديق جمع للقمامة أقرب إلى منزلها! ورغم أن هذه المعاملة ليست خاصة بمنزلي، فكذلك يفعلون مع باقي البيوت والفِلل بالمنطقة! فأنا أقر وأعترف أن تجاور منطقتي السكنية مع منطقة أخرى تقطنها طبقة اجتماعية أقل في المستوى الاجتماعي جعلني أكره المنطقة برُمتها.

وهذه الأمور الدالة بوضوح على أحقاد طبقية ليست مستجدة في المجتمع المصري على كل حال؛ حدثتني مرة سيدة كريمة عن أيام تأميم المصانع والشركات في بداية الستينات من القرن الماضي، وكيف فوجئوا بشماتة من كانوا يحسنون إليهم، وأخرى قالت لي: أحد الفلاحين الذين كانوا يعملون لدينا ظل يركب حماره رائحًا غاديًا أمام منزلنا الريفي، حاملًا بيديه الجريدة التي جاء بها قرار ما سُمي بالإصلاح الزراعي، مُشرِّعًا إياها. وهؤلاء ينطبق عليهم قول الشاعر: إن أنت أكرمت اللئيم تمردَا، وأمثال هؤلاء من قليلي الأصل قد يدفعون بعض الأغنياء الطيبين إلى إخراج زكاة أموالهم لمن لا يكادون يعرفونهم أبدًا من الفقراء أو إلى مؤسسات وجهات متخصصة لأن نفوسهم لا تطيب بإخراجها إلى من يزيدهم الكرم معهم لؤمًا!

 فلسفة الزكاة

يقودنا الحديث عن العزل الطبقي بين الأغنياء والفقراء إلى حديث آخر متعلق بالمال؛ عن الزكاة وإخراج الصدقات، فربما لو أخرج كل من وجبت عليه الزكاة حصته لاختفى كثير من الحنق الذي نلمسه من الفقراء في المجتمع والناتج عن ضيق معيشتهم.

وفلسفة الزكاة هي جزء من فلسفة الكون، فكل ما في الكون طبيعته التبدل والتغير، ولا باقي إلا الله، ومحاولة البخلاء الإمساك على المال لأجل جمع الثروة –وهو الحال نقيض الزكاة- مناقض للتغير الذي من المفترض أن يطرأ على المال، فإمساكه الزائد يجعله يعاكس الطاقة الكونية؛ فيقل ولا يزيد! على العكس من ضخه في الكون ما يجعله يدور ويعود إلى صاحبه مرة أخرى، ولعلني لست بحاجة للتذكير بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال عبدٍ من صدقة".

ومن يبخل بجزء من ماله على الفقراء يفعل ذلك في العادة إما لبخله أو لكثرة إنفاقه وشهوته الزائدة تجاه متاع الدنيا، فكأنه يبقيه لأنه يريده كله لنفسه، إما كــــمالٍ مخزون أو لامتلاك كل ما يريد، وما أكثر ما يريد! بينما الإنسان هو روح وعقل وقلب وجسد مادي، والاعتناء بالحاجات المادية فقط هو تغذية للجانب المادي منا كبشر، ما يفقد الإنسان توازنه الداخلي ويزيد معاناته ولا يسعده، ولن يجد إنسان سعادته إلا عندما يغذي روحه وعقله وعواطفه أيضًا، وليس كما يفهم من له هذا الفكر بأن السعادة أن تمتلك ثم تمتلك ثم تعاود فتمتلك، وأن يكون لديك من المال ما يجعلك تنفق وتبذخ ثم تنفق وتنفق، ولا تجد داعيًا للتوقف!

والزكاة هي الطريقة الربانية لضبط ميزان العدالة الاجتماعية فلا يعيش بعض الأفراد في حال ترف زائد بينما تعيش فئة أخرى في فقر مدقع، وتحقيق هذا التوازن وإلغاء التفاوت الشنيع بين كفتي الميزان كفيل بألا يطيح الميزان! أي بقاء المجتمع وعدم انهياره، كما أنه يحقق السعادة لكلا الطرفين، لأنه لا الوفرة المادية في الإنفاق على النفس ولا القلة يمكن أن تحققا السعادة لإنسان.

وما لا يفهمه كثيرون أن الوفرة الزائدة والفائضة عن الحد تفقد الإنسان متعته وبهجته، وكما قالوا فإن "للعبير اختناق"؛ فالوفرة تناسب حياة الإنسان في الجنان وليس على الأرض، وإصرار بعض الناس على تحقيقها لأنفسهم على الأرض لا يسعدهم، كما يقتطع من الموارد التي كان من المفترض أن يعيش عليها غيرهم من البشر، فلا هم سعدوا ولا أسعدوا غيرهم!