الأربعاء، 9 أكتوبر 2019

217-أسدٌ على الأقوياء، نعامةٌ مع الضعفاء!


أسدٌ على الأقوياء، نعامةٌ مع الضعفاء!
د/ منى زيتون
الأربعاء 9 أكتوبر 2019
وعلى المثقف، الخميس 10 أكتوبر 2019

تعليقًا على ما ذكرته في الجزء الخاص بالإفصاح عن الذات في مقالي "أنماط التواصل اللفظي"، وهو من مقالات كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي"، جاءني السؤال التالي:
ذكرتي في مقالك أن هناك مستوى من المعلومات عن الفرد غير معروفة للفرد نفسه ومعروفة للآخرين، وأن لمعلومات هذا المستوى أهميتها العظمى في ميدان التواصل الاجتماعي؛ حيث يرى الناس صورة للفرد لا يراها لذاته، وربما يعرفون عنه ما يتناقض مع معرفته لنفسه، فقد يرى الفرد نفسه قائدًا بينما يراه الآخرون مسيطرًا! وقد يرى نفسه مراعيًا لحقوق الناس بينما يراه الآخرون عدوانيًا! وقد يرى نفسه حريصًا على التواصل مع الآخرين بينما يراه الآخرون عازفًا ومقصرًا عن التواصل معهم! وقد يرى نفسه معتزًا بكرامته ويراه الآخرون مغرورًا! وقطعًا يصعب أن يتفق الناس على نظرة واحدة للفرد الواحد؛ فمن يرون شخصًا عدوانيًا ربما كان ذلك لوقوفه مع أصحاب الحق ومعاداتهم لأنهم الطرف الظالم في قضية ليس إلا. لكن، مع ذلك يبقى التعرف على منظور الآخرين حول الفرد وكيف يرونه هامًا، ويلفت نظر الفرد إلى مسببات كثيرة لسوء الفهم الذي يتصل بسلوكياته.
وسؤالي لكِ: المثال الذي ضربتيه بشأن رؤية بعض الناس للشخص عدوانيًا لأنه قد وقف مع خصومهم لأنهم من عليهم الحق هو مثال مفهوم، ولكنه لا يكفي؛ وأنا تحديدًا أريد أن أفهم المثال الذي ضربتيه بأن شخصًا قد يرى نفسه معتزًا بكرامته ويراه الآخرون مغرورًا! لأنني فسخت خطبتي قريبًا من شخص شديد التغطرس والتكبر في معاملته معي، بينما يرى نفسه شديد التواضع، وأنه فقط معتز بنفسه وبكرامته، والعجيب أن هناك بالفعل من يراه متواضعًا، أي أن هناك من يتفق معه في نظرته لنفسه، وهناك من يختلف تمامًا!
***
أجبت:
الأخت العزيزة، بدايةً، لا بد من توضيح أن هناك فرقًا كبيرًا بين الكبر والاعتزاز بالنفس؛ فالاعتزاز بالنفس هو شعور موجه نحو الذات لا دخل للآخرين فيه، أما الكبر فهو انفعال موجه نحو الآخرين، فلم يُوصف إبليس اللعين بالكبر ويُطرد من رحمة الله إلا عندما بدأ يقارن نفسه بآدم عليه السلام ويُصر على النظر إليه بدونية ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].
وقد يكون هناك شخص شديد الاعتزاز بنفسه والثقة فيها وفي قدراته، ولا يظهر ذلك أمام الناس بتاتًا، بغض النظر إن كان هناك ما يبرر تلك الدرجة المرتفعة من الثقة في الذات والاعتزاز بها أم لا، فهذا ليس موضوع النقاش الآن. كما أنه وعلى عكس ما قد يتصور كثير من الناس فإن كثيرين ممن يظهرون الكبر يفتقدون الثقة بالنفس، وغالبًا يدارون نقصًا ما في نفوسهم بإظهار التكبر على الآخرين أو تحديدًا على فئة خاصة من الآخرين!
أما بخصوص أسباب اختلاف نظرة الناس للفرد الواحد، واختلاف تقييمهم الموضوعي له في صفة بعينها، رغم استناد هذا التقييم إلى  التفكير المنطقي وليس العاطفي، فلنتفق أولًا على أن هناك مواقف يُكوِّن الناس فيها رأيًا عن الشخص بسبب رد فعله تجاه أفعالهم، وقد يكون رد الفعل هذا متناسبًا تمامًا مع ما فعلوه أو قالوه مهما بدا سيئًا، ولكن أيضًا توجد مواقف عديدة يُكوِّن الناس فيها رأيًا عن الشخص بسبب أفعال بدرت منه وليس ردود أفعال، وفعله تجاه فئة من الناس قد يختلف تمامًا مع فعله تجاه فئة أخرى أو أفراد آخرين! ومن ثم فعند تقييم رأي كلا الفئتين فيه أجد كل منهما محقة في الرأي الذي كونته رغم تناقض الرأيين!
ولكن لماذا قد يحدث هذا؟ لماذا قد يتصف الإنسان بالصفة ونقيضها في تعامله مع فريقين من الناس؟!
والإجابة تنجلي بشرح المثال الذي طلبتي إيضاحه. ووفقًا لما فهمت من نقاشي معكِ عن أحوال خطيبك السابق فقد كان مديرك في عملك السابق الذي تركتيه بعد فسخ الخطبة، وفارق العمر بينكما كبير، وهو شخص ناجح ومسئول، يتعامل مع أغلب الناس بتواضع شديد، ولكن العجيب أنه لا يكاد يتكبر ويتعامل باعتزاز زائد في النفس إلا مع ذوي النفوذ والسلطة وذوي الأهمية. وأنه طيلة الوقت الذي كنتِ فيه موظفة عادية قبل خطبته لكِ كان يعاملك برفق مثل بقية العاملين، ولكن تغيرت معاملته للسوء بعد الخطبة، وصار يتجاهلك ولا يظهر اهتمامه بكِ باعتبارك خطيبته، رغم أنكِ تطلبين الاهتمام خارج نطاق العمل، ورغم تمسكه الظاهر بخطبتك، وشعورك بحبه الدفين لكِ، فقد اضطرك لفسخ الخطبة وترك العمل!
وفقًا للميثولوجيا القديمة فإن لكل إنسان منا طاقة حيوانية تسيطر عليه، ويبدو أن الطاقة الحيوانية التي تكمن داخل خطيبك السابق هي طاقة الأسد، فهو يرى نفسه ملكًا، ولا يرى بأسًا في التودد والتواضع للضعفاء الذين لا يناظرونه قيمة، والأسود –لمن لا يعرف- من أرق وأحنى الوحوش على صغارها وصغار غيرها من الحيوانات، فتترفع عن أن تفترسها مهما بلغ بها الجوع، ولكن هذا الشخص الأسدي ذاته في المقابل ينتفخ ويتغطرس أمام من يراهم في مثل قدره، وكأنه صراع بسط نفوذ مثل الذي يحدث في الغابة بين الوحوش، وهو ليس واعيًا بأنه يفعل ذلك معكِ ومع غيرك ممن لهم أهمية، فهو أسدٌ عليكم، نعامةٌ مع الضعفاء. بل ولا يفهم أن تواضعه مع الضعفاء والبسطاء هو جزء من غطرسته وشعوره المرتفع بقيمة ذاته، وأن ما ظاهره التواضع ليس في الحقيقة سوى التعامل مع هذه الفئة من علٍ باعتباره الملك وباعتبارهم الرعية الذين يرغب في حبهم له لأجل مزيد من شعوره بسطوة المُلك ولذة القيادة.
وأنتِ بانتقال رتبتك عنده من واحدة من العاملين تحت قيادته إلى خطيبته تحول مركزكِ لديه، ودخلتي دون وعي منه في دائرة من يريد بسط نفوذه عليهم وليس من يتواضع لهم! وربما كان لنجاحاتك وتميزك في عملك الفترة الماضية أثرها في إثارة غيرته، ومن ثم دخولك هذه الدائرة عنده.
وعلى كلٍ فإن هذا النموذج من البشر أفضل كثيرًا من النموذج المعاكس الأكثر انحطاطًا وانتشارًا الذين يتكبرون على الضعفاء، بينما يتعاملون برقي وذوق مع من هم في مستواهم وينتمون لطبقتهم الاجتماعية.
ولكن في النهاية فإن الإنسان الناضج هو من يعرف كيف يتوازن في تعامله مع غيره من الناس؛ فلا يتذلل لفئة ليستأسد على فئة أخرى منهم، ليبدو أحيانًا هابيل وأحيانًا قابيل، أو دكتور جيكل ومستر هايد، وكأنه الخير والشر مجتمعين في جنبات نفس واحدة!

الأحد، 6 أكتوبر 2019

216-صور من التطرف داخل البيت السُني


صور من التطرف داخل البيت السُني
د/ منى زيتون
الاثنين 7 أكتوبر 2019

لم تدر الصراعات الطائفية في تاريخ الإسلام فقط بين أصحاب العقائد المختلفة، بل كانت هناك احترابات وصراعات داخلية، وقد عرضت في مقال "لعبة الدين والسياسة" لأمثلة من تحارب فرق الشيعة فيما بينهم سياسيًا، وكذا كان هناك تطرف بين مذاهب أهل السُنة (الحنفية- الشافعية- المالكية)؛ بسبب قضايا اعتقادية فرعية بين الأشاعرة والماتريدية -على عظم التقارب بين العقيدتين حتى اُعتبرتا أقرب أن تكونا عقيدة واحدة- كمسألة الاستثناء في الإيمان، وبعض الأحكام الفقهية المختلف فيها بين الأئمة، كالبسملة ورفع اليدين في الصلاة عند الركوع عند الشافعية، والنبيذ غير المسكر عند الأحناف، وأحكام الكلاب عند المالكية.
في مقال سابق أيضًا رأينا كيف أفنى الشافعية الحنفية في الريّ، سنة 617هـ، على ما روى ياقوت الحموي في معجمه. وكانت هناك حساسيات بين أهل المذهبين في بلاد فارس بوجه عام؛ كونهما أكثر مذاهب أهل السُنة انتشارًا بها، ووصف ابن الأثير في "الكامل" (ج7، ص400) القاضي أبي علي المحسن التنوخي أنه "كان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. قاتله الله". وفي غير بلاد فارس، وخاصة الشام، كان التعصب ماثلًا أيضًا بين المذهبين. يروي الذهبي في "ميزان الاعتدال" (ج4، ص52) عن قاضي دمشق محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي، المتوفي سنة 506هـ، قوله: "لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية"!! وربما كان مما أسهم في تقليل التعصب ظاهريًا بين المذهبين أن ملوك السلاجقة كانوا سُنة أحناف، بينما كان وزراؤهم شافعية، وكان الزنكيون عمال السلاجقة في الشام أيضًا سُنة أحناف، وتابعوهم من البيت الأيوبي شافعية؛ فامتنع المتعصبون من كلا الفريقين عن إظهار تعصبهم حرصًا على رءوسهم، ثم عندما ساد الأيوبيون ومن بعدهم المماليك انتشرت الشافعية، وبعد دخول مصر والشام تحت سلطان العثمانيين سادت الحنفية مع عقيدة السُنة –وليس المعتزلة-.
وكانت مسألة الاستثناء في الإيمان من أكثر المسائل التي تثير الفتن بين أهل المذاهب السُنية، خاصة الحنفية والشافعية، مع كون الخلاف فيها يكاد يكون لفظيًا! ولم يتكلم فيه ويعظمه إلا ضعيفيّ الفهم والعلم. يقول الجويني في "الإرشاد" (ص400) "الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك ‏فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة؛ فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ‏ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"أهـ. فالشافعية الأشاعرة يجوزون أن يقول المسلم "أنا مؤمن إن شاء الله". وكان بعض الأحناف الماتريدية خاصة يكثرون من التشنيع على الشافعية لأجل تلك المسألة، ويصفونهم بالشكوكيين. يقول السيد سابق في "فقه السُنة" (ج1، ص9): ‏"اختلفت الأمة شيعًا وأحزابًا، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي –خطأ واضح، والصحيح الحنفي بالشافعية-، فقال بعضهم: لا يصح؛ لأنها تشك في إيمانها، وقال آخرون: يصح قياسًا على الذمية"أهـ.
كما كان الصراع بين الحنفية والمالكية على أشده في بعض الفترات في المغرب العربي، ولعله بدأ منذ محنة خلق القرآن لأن كثيرًا من الأحناف بالمغرب معتزلة أو مائلين للاعتزال، وليسوا ماتريدية، ووصل الصراع إلى حد أن بيت القضاء المالكي الذي كان الإمام سحنون قد بناه، هدمه قضاة الأحناف، وكان قضاة المالكية يعيدون بناءه عندما يلون القضاء. بل وكان الصراع أحيانًا ينشب داخل المذهب الواحد؛ مثلما حدث بين فرقتيّ المالكية بالقيروان، أتباع سحنون وأتباع ابن عبدوس، منتصف القرن الثالث، بسبب الاعتقاد بالاستثناء في الإيمان وربط الإيمان بالمشيئة، أو نفي ذلك، وكان عامي من أتباع سحنون قد تجرأ وبصق في وجه ابن عبدوس لأنه قال إنه "مؤمن، لكنه لا يقطع بذلك عند الله". وقد روى الذهبي القصة في "السير" في ترجمة ابن عبدوس.
وكذا كثيرًا ما حدث تطرف بين بعض المالكية والحنفية من جهة والشافعية من جهة أخرى؛ بسبب مسألة فقهية فرعية، وهي رفع اليدين عند الركوع في الصلاة، وعند الرفع منه، وهو من سنن الصلاة عند الشافعية. ومن أشهر ما يُروى في هذا ما نقله الذهبي في "السير" (ج13، ص202) في ترجمة الفقيه المالكي أصبغ بن خليل القرطبي، أنه وضع حديثًا على رسول الله في عدم رفع اليدين! أضاف الذهبي "وقد اتُّهم في النقل، ووضع في عدم رفع اليدين –فيما قيل-". وقد فصّل الذهبي في الاتهام في ترجمة أصبغ في "ميزان الاعتدال" (ج1، ص269-270)، فذكر الحديث الموضوع بالإسناد المزعوم الذي لا يستقيم، بسبب ما عُرِف عن أحوال الرواة، وكذا بسبب متن الحديث المليء بالأخطاء التاريخية، ثم قرر الذهبي "فهذا من وضع أصبغ". ويبدو أنه كان شديد التعصب، يقول الذهبي في ترجمته في "السير": "قال قاسم بن أصبغ: هو منعني السماع من بقيّ –بقيّ بن مخلّد-. وسمعته يقول: أحب أن يكون في تابوتي خنزير، ولا يكون فيه مصنف ابن أبي شيبة"أهـ.
ولقد بلغ التعصب ليس فقط درجة وضع أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعداه إلى واقعة ذُكِر فيها محاولة لتحريف القرآن كي ينتصر صاحبها الفاسق لنفسه، رواها الإمام ابن حزم في "الإحكام" "قال نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع بعيدًا عن الصلاح. قال: فخطبنا يوم الجمعة، فتلا في خطبته ‏﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾‏‏ [التوبة: 128]، فقرأها بنونين (عننتم). قال: فلما انصرف أتيناه، وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها وهكذا هي، فلجّ، فحاكمناه إلى المصحف، فقام ليخرج المصحف، ففتحه في بيته وتأمله، فلمّا وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه، أنِف الفاسق من رجوعه إلى الحق، فأخذ القلم وألحق ضرسًا زائدًا –أي أضاف نونًا للكلمة-. قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا، والنون لم يتم بعد جفوف مدادها"أهـ.
هدانا الله جميعًا سواء السبيل.

الجمعة، 4 أكتوبر 2019

215- فقد باء بها أحدهما!


فقد باء بها أحدهما!
د. منى زيتون
الخميس 3 أكتوبر 2019
منشور على المثقف، الجمعة 4 أكتوبر 2019

مما يؤثر عن المسيح عليه السلام أنه كان جالسًا مع حوارييه، فمرت به جماعة من اليهود فسبّوه، فسلّم عليهم، فتعجب حواريوه أيما تعجب، وقالوا: يا كلمة الله، أيسبونك وتسلم عليهم؟! فرد عليه وعلى نبينا السلام قائلًا: "كل إناء بما فيه ينضح".
والمسيح عليه السلام هنا يحدثنا عما يقوم به فضلاء الناس عندما يبثون ما بداخلهم من خير إلى العالم، ولهذا ارتباطه الواضح ببحوث الطاقة المعاصرة، والتي تؤكد على أن كل ما يخرج منك وتبثه في الكون يتفق مع ما في داخلك إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وهو في النهاية مردود إليك وعليك!
ولكن لما ذكره عليه السلام أيضًا تعلقًا واضحًا بحيلة نفسية شهيرة، يستخدمها الآثمون من الناس للدفاع عن النفس، تُسمى الإسقاط، فما بداخلهم سيجد طريقه إلى الكون، فإن لم يكن خيرًا فهو الشر وتوهم الإثم لدى الآخرين، وإن كانت الحقيقة أنه يوجد داخل أنفسهم.

ما هو الإسقاط؟
في نظريته الشهيرة عن التحليل النفسي، وضع سيجموند فرويد حجر الأساس لمصطلح من أشهر المصطلحات النفسية، وهو مصطلح الحيل الدفاعية.
والحيل الدفاعية هي استراتيجيات نفسية لا واعية، يستخدمها العقل الباطن للإنسان لحمايته من التوتر الذي يصاحب أفكاره ومشاعره المرفوضة، والتي تسبب الضغط النفسي والتهديد للذات. من ثم فأغلب هذه الحيل ليست علاجًا لمشاكل الفرد الحقيقية وإنما مسكن يساعد الفرد على التخلص من التوتر بطرق بسيطة مع بقاء العلة.
وكي يحدث ذلك فإن العقل الباطن يعمد إلى تشويه الواقع أو إنكاره وإقناع الإنسان بواقع مشوه يرضيه ويقلل التوتر الذي يمكن أن يحدثه الاعتراف أمام النفس ومواجهتها بالأفكار والمشاعر الحقيقية المنكرة المرفوضة، ومن ثم يحافظ الفرد الذي يستخدم هذه الحيل على ذاته من ذلك التهديد الداخلي.
ويُعد الإسقاط أحد أشهر تلك الحيل الدفاعية، ويُصنف ضمن أحد مستويين من الحيل النفسية؛ إما المستوى المرضي أو المستوى غير الناضج، وفقًا لدرجة خطورته؛ حيث يقوم فيه اللاوعي لدى الإنسان بالتهرب من مواجهة الواقع، بنسبة الأفكار والمشاعر غير المقبولة الموجودة داخله إلى غيره!
لكن هذا لا يمنع من وجود حيل دفاعية يستخدمها الأفراد الأسوياء نفسيًا، تمثل دفاعات ناضجة، وتساعدهم على التحكم في ذواتهم بصورة إيجابية، ومن أمثلتها الكبح والتسامي والعفو والفكاهة وغيرها مما لا مجال للحديث عنه الآن.

لماذا يسقط الخُطاة آثامهم على غيرهم من الخلق؟!
يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]. ولأن الإنسان مفطور على تعرف الخير والشر، فكل منا يعرف الخير ويرغب في نسبته إليه، وينكر ويكره الشر حتى وإن كان فيه، حتى لنجد أشد الناس ظلمًا يكره أن يُوصف بأنه ظالم! والكذاب الأشر ينفعل وتحمر أوداجه رافضًا أن يوصف بالكذب بينما هو متلبس به!
ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: "الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ". ولأنه يحيك في الصدر، وتأنفه النفس، لا يرتاح المذنب إلا بإلقائه خارج نفسه، وإقناع نفسه زورًا أن غيره هو الذي أثم، ويوهم نفسه بالبراءة، أو على الأقل فإنه يقنع نفسه أن كل الناس مثله وإنما يستخفون بذنبهم مثلما يستخفي، وهو ما يُعرف بالتماهي الإسقاطي.
ذات مرة شاهدت مقطع فيديو لعالم عراقي كبير كان يستخفي بإلحاده، قبل أن يهديه الله، كان يحكي فيه قصة هدايته، ولكن كان أكثر ما شدني حين قال إنه كان يظن أن كل الناس مثله لا يقتنعون بوجود الإله، وإنما يسايرون المجتمع مثلما كان يفعل! وكان يُسقط ذلك الإحساس حتى على أشد الناس تدينًا ممن يعرفهم، ويظن بهم أنهم يتقنون دورهم ويمثلون جيدًا!
ومنذ شهور وقعت جريمة قتل في أحد أرقى أحياء القاهرة، كانت القتيلة شابة جميلة مطلقة ومحجبة -على عكس الشائع في طبقتها الاجتماعية-، وتم الكشف عن الجاني بسرعة، ليتضح أنه سائس سيارات بالمنطقة التي تسكن فيها القتيلة، ظن أنها تريد أن تقيم علاقة محرمة معه، فاستغل فرصة وجودها في بيتها بمفردها في أحد الأيام، حيث ذهب أطفالها إلى بيت طليقها لقضاء اليوم معه، وصعد هذا القاتل لشقة القتيلة وأخذ يحدثها بطريقة لا تليق من أمام الباب، فسبته وحاولت إغلاق الباب، فدفعها إلى الداخل وأغلق الباب عليهما، وحاول اغتصابها وقاومته بشدة، حتى اضطر للإجهاز على حياتها وخنقها كي لا تكشف أمره.
وعندما سُئل القاتل عن الأسباب التي جعلته يظن خطأ أن القتيلة تتودد إليه، رد بأنها كانت تمنحه بقشيشًا سخيًا كلما مسح لها سيارتها، وأحيانًا كانت تبعث له بطعام جيد، ولأنه هو لا يمكن أن يعطي محتاجًا مما في يده أسقط ما في داخله عليها، فلا بد أنها تعطيه لغرض، وبما أنها مطلقة وهو شاب، فلا بد أنها تريد إقامة علاقة محرمة معه! كان هذا رده وفقًا لما أدلى به في التحقيقات ونقلته عنه الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي.
ومن اللافت بالنسبة لي أن القاتل رفض مواجهة نفسه بأن ظنه في القتيلة خاطئ، عندما سبته ونهرته وحاولت إغلاق الباب، ومحاولته اغتصابها -في تفسيري- كانت رغبة منه في استمرار التهرب من مواجهة الواقع، ومحاولة إثبات ما في ذهنه زورًا، ولو كان قد تمكن منها لأقنع نفسه أنها كانت تتمنع عليه لا أكثر، وأنها خاطئة مثله تبالغ في ادعاء الشرف.
وبعد جلسة جمعتني مع بعض الصديقات والمعارف تحدثنا فيها عن هذه الحادثة المؤسفة فوجئت بإحداهن تحكي لي –على انفراد- حادثة تكاد تكون مشابهة لحادثة الشابة القتيلة من حيث دوافع إساءة الظن غير المبررة. وصاحبتنا هذه المرة هي امرأة ثرية طيبة وكبيرة في السن، فهي أم لشباب وبنات بعضهم في الجامعة، وبعضهم تخرج فيها، ولأن وزنها زائد، ولأنها قضت أغلب عمرها مغتربة في الخليج، فهي تلبس عباءات واسعة محتشمة مثل عباءات الخليجيات، ومن ثم فهي من وجهة نظري أبعد ما تكون عن أن يُساء بها الظن، سواء باعتبار المخبر أو المظهر. فضفضت معي هذه المرأة يومها بأن هناك نوعية من البشر جعلتها تحذر من فعل الخير مع من تعرفهم، فبعضهم دومًا يبحثون عن دوافع أخرى سيئة وراء عطائها وكرمها.
كان أشد موقف أحزن هذه المرأة الطيبة أنها في أوائل شهر رمضان منذ سنوات قريبة صرفت من حسابها البنكي عشرة آلاف جنيه مصري، وقررت أن توزع مائتي جنيه منها على من تقابله من الفقراء حتى ينتهي المبلغ. وأخذت تلف بسيارتها وتتوقف لتعطي من تقابله من عمال النظافة وبوابي العمائر وصاحبي الأكشاك البسيطة وبائعي المناديل ومن شابههم، ولم تخبر أحدًا لا زوجها ولا أبنائها بما فعلت لتكون صدقة سرية عنها وعنهم في الشهر الفضيل، وإذا بها بعد أيام تجد معاملة عجيبة من واحد ممن أعطتهم المال! فما كان منها إلا أن منعت عنه صدقتها، وقللت من إعطاء الصدقة لمن تعرف، فصارت تخرجها في أماكن بعيدة عن مسكنها، كما صارت تصطحب أحد أبنائها معها في سيارتها أثناء توزيعها النقود أو الأطعمة.
ومن الواضح في المثالين الحقيقيين الأخيرين الذين ضربتهما أن هناك خسيسًا في كل حالة رأى في كرم كلا المرأتين سببًا للتشكيك في عفتيهما! والحقيقة أن من يشكك في عفة الناس دون بينة ربما كان هو الزاني، أو على الأقل فإنه لو توافرت له الظروف التي يحيون فيها لفعل هذه النوعية من الذنب، وكان ممن لو اختلى بمحارم الله انتهكها.
بالمثل يمكن أن نرى حالات لفقراء قد يتهمون كل من تظهر عليه نعائم الله بالسرقة والفساد، والحقيقة أن من يتهم الأغنياء دون تمييز بينهم ودون بينة، فعلى الأغلب إن أتيحت له الفرصة سيكون أفسد الناس.
ويمكننا أن نرى الإسقاط في أبسط مواقف حياتنا. إحدى صديقاتي كانت تتحدث معي قريبًا عن امرأة كانت زميلتها في العمل قبل أن تنتقل كل منهما للعمل في مكان مختلف، وأنها كلما اتصلت بها في مناسبة لتعايدها أو لتسأل عنها، سألتها المرأة إن كانت تريد منها شيئًا؟! فلأنها لا تتصل بأحد سوى لمنفعة لا يتقبل عقلها أن غيرها يفعل!
ولا نريد أن نبالغ ليفهم بعض الناس أن كل من اتهم أحدًا بشيء فهو لا شك المذنب وأنه يتهمه لأنه يحيك في صدره فيسقطه على الآخر! وإنما الحقيقة أنه ما لم يكن صاحبه المذنب وتوجد بينات حقيقية على صحة اتهامه بما نُسب إليه، فعندها فإن من اتهم أحدًا بلا بينة هو صاحب الإثم، والبعرة تدل على البعير.
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه (6045) عن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ".
وروى الإمام مسلم في صحيحه (60) عن عبد الله بن عمر أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ".
والقصد أنه إما أنه توجد بينات حقيقية على صحة ما وصفت صاحبك به، من الكفر أو الفسوق أو أي من التهم، والتي جعلت أصابع الاتهام توجه إليه، وإما أنه برئ وقد رميته بالاتهامات الباطلة دون دليل، وربما كانت نوعية الأدلة التي تراها عليه من أمثال بقشيش صاحبتنا القتيلة عليها رحمة الله، فهذا دليل فقط عند من يأكل الإثم قلبه، فيلقيه على غيره من الناس، وعندها فمن رمى التهمة كان هو المستحق للوصف المذكور.
أسأل الله أن ينظف قلوبنا وينقي سرائرنا ويبيض وجوهنا يوم تُبلى السرائر.