الجمعة، 4 أكتوبر 2019

215- فقد باء بها أحدهما!


فقد باء بها أحدهما!
د. منى زيتون
الخميس 3 أكتوبر 2019
منشور على المثقف، الجمعة 4 أكتوبر 2019

مما يؤثر عن المسيح عليه السلام أنه كان جالسًا مع حوارييه، فمرت به جماعة من اليهود فسبّوه، فسلّم عليهم، فتعجب حواريوه أيما تعجب، وقالوا: يا كلمة الله، أيسبونك وتسلم عليهم؟! فرد عليه وعلى نبينا السلام قائلًا: "كل إناء بما فيه ينضح".
والمسيح عليه السلام هنا يحدثنا عما يقوم به فضلاء الناس عندما يبثون ما بداخلهم من خير إلى العالم، ولهذا ارتباطه الواضح ببحوث الطاقة المعاصرة، والتي تؤكد على أن كل ما يخرج منك وتبثه في الكون يتفق مع ما في داخلك إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وهو في النهاية مردود إليك وعليك!
ولكن لما ذكره عليه السلام أيضًا تعلقًا واضحًا بحيلة نفسية شهيرة، يستخدمها الآثمون من الناس للدفاع عن النفس، تُسمى الإسقاط، فما بداخلهم سيجد طريقه إلى الكون، فإن لم يكن خيرًا فهو الشر وتوهم الإثم لدى الآخرين، وإن كانت الحقيقة أنه يوجد داخل أنفسهم.

ما هو الإسقاط؟
في نظريته الشهيرة عن التحليل النفسي، وضع سيجموند فرويد حجر الأساس لمصطلح من أشهر المصطلحات النفسية، وهو مصطلح الحيل الدفاعية.
والحيل الدفاعية هي استراتيجيات نفسية لا واعية، يستخدمها العقل الباطن للإنسان لحمايته من التوتر الذي يصاحب أفكاره ومشاعره المرفوضة، والتي تسبب الضغط النفسي والتهديد للذات. من ثم فأغلب هذه الحيل ليست علاجًا لمشاكل الفرد الحقيقية وإنما مسكن يساعد الفرد على التخلص من التوتر بطرق بسيطة مع بقاء العلة.
وكي يحدث ذلك فإن العقل الباطن يعمد إلى تشويه الواقع أو إنكاره وإقناع الإنسان بواقع مشوه يرضيه ويقلل التوتر الذي يمكن أن يحدثه الاعتراف أمام النفس ومواجهتها بالأفكار والمشاعر الحقيقية المنكرة المرفوضة، ومن ثم يحافظ الفرد الذي يستخدم هذه الحيل على ذاته من ذلك التهديد الداخلي.
ويُعد الإسقاط أحد أشهر تلك الحيل الدفاعية، ويُصنف ضمن أحد مستويين من الحيل النفسية؛ إما المستوى المرضي أو المستوى غير الناضج، وفقًا لدرجة خطورته؛ حيث يقوم فيه اللاوعي لدى الإنسان بالتهرب من مواجهة الواقع، بنسبة الأفكار والمشاعر غير المقبولة الموجودة داخله إلى غيره!
لكن هذا لا يمنع من وجود حيل دفاعية يستخدمها الأفراد الأسوياء نفسيًا، تمثل دفاعات ناضجة، وتساعدهم على التحكم في ذواتهم بصورة إيجابية، ومن أمثلتها الكبح والتسامي والعفو والفكاهة وغيرها مما لا مجال للحديث عنه الآن.

لماذا يسقط الخُطاة آثامهم على غيرهم من الخلق؟!
يقول الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]. ولأن الإنسان مفطور على تعرف الخير والشر، فكل منا يعرف الخير ويرغب في نسبته إليه، وينكر ويكره الشر حتى وإن كان فيه، حتى لنجد أشد الناس ظلمًا يكره أن يُوصف بأنه ظالم! والكذاب الأشر ينفعل وتحمر أوداجه رافضًا أن يوصف بالكذب بينما هو متلبس به!
ورسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: "الإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ". ولأنه يحيك في الصدر، وتأنفه النفس، لا يرتاح المذنب إلا بإلقائه خارج نفسه، وإقناع نفسه زورًا أن غيره هو الذي أثم، ويوهم نفسه بالبراءة، أو على الأقل فإنه يقنع نفسه أن كل الناس مثله وإنما يستخفون بذنبهم مثلما يستخفي، وهو ما يُعرف بالتماهي الإسقاطي.
ذات مرة شاهدت مقطع فيديو لعالم عراقي كبير كان يستخفي بإلحاده، قبل أن يهديه الله، كان يحكي فيه قصة هدايته، ولكن كان أكثر ما شدني حين قال إنه كان يظن أن كل الناس مثله لا يقتنعون بوجود الإله، وإنما يسايرون المجتمع مثلما كان يفعل! وكان يُسقط ذلك الإحساس حتى على أشد الناس تدينًا ممن يعرفهم، ويظن بهم أنهم يتقنون دورهم ويمثلون جيدًا!
ومنذ شهور وقعت جريمة قتل في أحد أرقى أحياء القاهرة، كانت القتيلة شابة جميلة مطلقة ومحجبة -على عكس الشائع في طبقتها الاجتماعية-، وتم الكشف عن الجاني بسرعة، ليتضح أنه سائس سيارات بالمنطقة التي تسكن فيها القتيلة، ظن أنها تريد أن تقيم علاقة محرمة معه، فاستغل فرصة وجودها في بيتها بمفردها في أحد الأيام، حيث ذهب أطفالها إلى بيت طليقها لقضاء اليوم معه، وصعد هذا القاتل لشقة القتيلة وأخذ يحدثها بطريقة لا تليق من أمام الباب، فسبته وحاولت إغلاق الباب، فدفعها إلى الداخل وأغلق الباب عليهما، وحاول اغتصابها وقاومته بشدة، حتى اضطر للإجهاز على حياتها وخنقها كي لا تكشف أمره.
وعندما سُئل القاتل عن الأسباب التي جعلته يظن خطأ أن القتيلة تتودد إليه، رد بأنها كانت تمنحه بقشيشًا سخيًا كلما مسح لها سيارتها، وأحيانًا كانت تبعث له بطعام جيد، ولأنه هو لا يمكن أن يعطي محتاجًا مما في يده أسقط ما في داخله عليها، فلا بد أنها تعطيه لغرض، وبما أنها مطلقة وهو شاب، فلا بد أنها تريد إقامة علاقة محرمة معه! كان هذا رده وفقًا لما أدلى به في التحقيقات ونقلته عنه الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي.
ومن اللافت بالنسبة لي أن القاتل رفض مواجهة نفسه بأن ظنه في القتيلة خاطئ، عندما سبته ونهرته وحاولت إغلاق الباب، ومحاولته اغتصابها -في تفسيري- كانت رغبة منه في استمرار التهرب من مواجهة الواقع، ومحاولة إثبات ما في ذهنه زورًا، ولو كان قد تمكن منها لأقنع نفسه أنها كانت تتمنع عليه لا أكثر، وأنها خاطئة مثله تبالغ في ادعاء الشرف.
وبعد جلسة جمعتني مع بعض الصديقات والمعارف تحدثنا فيها عن هذه الحادثة المؤسفة فوجئت بإحداهن تحكي لي –على انفراد- حادثة تكاد تكون مشابهة لحادثة الشابة القتيلة من حيث دوافع إساءة الظن غير المبررة. وصاحبتنا هذه المرة هي امرأة ثرية طيبة وكبيرة في السن، فهي أم لشباب وبنات بعضهم في الجامعة، وبعضهم تخرج فيها، ولأن وزنها زائد، ولأنها قضت أغلب عمرها مغتربة في الخليج، فهي تلبس عباءات واسعة محتشمة مثل عباءات الخليجيات، ومن ثم فهي من وجهة نظري أبعد ما تكون عن أن يُساء بها الظن، سواء باعتبار المخبر أو المظهر. فضفضت معي هذه المرأة يومها بأن هناك نوعية من البشر جعلتها تحذر من فعل الخير مع من تعرفهم، فبعضهم دومًا يبحثون عن دوافع أخرى سيئة وراء عطائها وكرمها.
كان أشد موقف أحزن هذه المرأة الطيبة أنها في أوائل شهر رمضان منذ سنوات قريبة صرفت من حسابها البنكي عشرة آلاف جنيه مصري، وقررت أن توزع مائتي جنيه منها على من تقابله من الفقراء حتى ينتهي المبلغ. وأخذت تلف بسيارتها وتتوقف لتعطي من تقابله من عمال النظافة وبوابي العمائر وصاحبي الأكشاك البسيطة وبائعي المناديل ومن شابههم، ولم تخبر أحدًا لا زوجها ولا أبنائها بما فعلت لتكون صدقة سرية عنها وعنهم في الشهر الفضيل، وإذا بها بعد أيام تجد معاملة عجيبة من واحد ممن أعطتهم المال! فما كان منها إلا أن منعت عنه صدقتها، وقللت من إعطاء الصدقة لمن تعرف، فصارت تخرجها في أماكن بعيدة عن مسكنها، كما صارت تصطحب أحد أبنائها معها في سيارتها أثناء توزيعها النقود أو الأطعمة.
ومن الواضح في المثالين الحقيقيين الأخيرين الذين ضربتهما أن هناك خسيسًا في كل حالة رأى في كرم كلا المرأتين سببًا للتشكيك في عفتيهما! والحقيقة أن من يشكك في عفة الناس دون بينة ربما كان هو الزاني، أو على الأقل فإنه لو توافرت له الظروف التي يحيون فيها لفعل هذه النوعية من الذنب، وكان ممن لو اختلى بمحارم الله انتهكها.
بالمثل يمكن أن نرى حالات لفقراء قد يتهمون كل من تظهر عليه نعائم الله بالسرقة والفساد، والحقيقة أن من يتهم الأغنياء دون تمييز بينهم ودون بينة، فعلى الأغلب إن أتيحت له الفرصة سيكون أفسد الناس.
ويمكننا أن نرى الإسقاط في أبسط مواقف حياتنا. إحدى صديقاتي كانت تتحدث معي قريبًا عن امرأة كانت زميلتها في العمل قبل أن تنتقل كل منهما للعمل في مكان مختلف، وأنها كلما اتصلت بها في مناسبة لتعايدها أو لتسأل عنها، سألتها المرأة إن كانت تريد منها شيئًا؟! فلأنها لا تتصل بأحد سوى لمنفعة لا يتقبل عقلها أن غيرها يفعل!
ولا نريد أن نبالغ ليفهم بعض الناس أن كل من اتهم أحدًا بشيء فهو لا شك المذنب وأنه يتهمه لأنه يحيك في صدره فيسقطه على الآخر! وإنما الحقيقة أنه ما لم يكن صاحبه المذنب وتوجد بينات حقيقية على صحة اتهامه بما نُسب إليه، فعندها فإن من اتهم أحدًا بلا بينة هو صاحب الإثم، والبعرة تدل على البعير.
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه (6045) عن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لا يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالْفُسُوقِ، وَلا يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ".
وروى الإمام مسلم في صحيحه (60) عن عبد الله بن عمر أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ".
والقصد أنه إما أنه توجد بينات حقيقية على صحة ما وصفت صاحبك به، من الكفر أو الفسوق أو أي من التهم، والتي جعلت أصابع الاتهام توجه إليه، وإما أنه برئ وقد رميته بالاتهامات الباطلة دون دليل، وربما كانت نوعية الأدلة التي تراها عليه من أمثال بقشيش صاحبتنا القتيلة عليها رحمة الله، فهذا دليل فقط عند من يأكل الإثم قلبه، فيلقيه على غيره من الناس، وعندها فمن رمى التهمة كان هو المستحق للوصف المذكور.
أسأل الله أن ينظف قلوبنا وينقي سرائرنا ويبيض وجوهنا يوم تُبلى السرائر.