الأحد، 27 فبراير 2022

280-وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى

 

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى

د. منى أبو بكر زيتون

الـخميس 16 سبتمبر 2021‏

مزيد ومنشور في كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف، الخميس 3 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961623


يقول تعالى في مطلع سورة النجم: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم:1-4].

والقسم هنا في أول السورة قد يُحمل على جنس النجم فيشمل جميع النجوم لأن النجم أحد أعظم مخلوقات الله، ولكن أغلب المفسرين حملوا القسم على عنقود الثريا، والعرب إذا قالت: "النجم" إنما تعني –على الأغلب- الثريا. والثريا وإن كانت مجموعة نجمية وليست نجمًا واحدًا إلا أن تقارب نجومها وتجمعها على ارتفاع كبير في السماء يجعلها تضيئ كوحدة واحدة، ومن هنا سمى العرب كل وحدات إضاءة مجتمعة مرتفعة تضيء معًا بالثريا.

والثريا هي منزلة قمرية ممتزجة الطاقة (نار وتراب) تقع بين الحمل والثور؛ إذ تشغل 4.3 درجات الأخيرة من الحمل وأول ‏‏8.55 درجات من بداية الثور. وفي الميثولوجيا القديمة، ووفقًا لنظرية الطباع الأربعة، فإن امتزاج طاقة النار التي تمثل القوة مع طاقة التراب التي تمثل الثبات والاستقرار هي أفضل طاقة لتأسيس كيان قوي وثابت، فالخيمة تُقام على أربعة عصي –والعصا هي القوة وهي رمز طاقة النار- وهذه العصي تثبت في التراب، وهذه تحديدًا هي طاقة الثريا. وهي المنزلة القمرية الثالثة التي ينزل عليها القمر ضيفًا في دورته حول الأرض من بين ثمان وعشرين منزلة. فما هي علاقة هذه المجموعة النجمية بصاحبنا ورسولنا عليه الصلاة والسلام؟

الثريا لارتفاعها وإشعاعها هي أبين وأوضح نجوم السماء الساطعة، ونبينا عليه الصلاة والسلام ليس مثله بشر، وهذه المجموعة النجمية لارتفاعها في السماء هي أقرب مجموعات النجوم الثابتة في دائرة الأفق إلى المدار الظاهري للشمس، وكانت الثريا في الطالع مقترنة بالشمس يوم ميلاد ‏سيدنا ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ إذ إن المعروف عند الفلكيين العرب أن طالعه صلى الله عليه وسلم كان في أواخر درجات الحمل، وشمسه كانت في أول درجة من الثور، وكلاهما مقترنان ضمن درجات الثريا لأنه وُلد قبل طلوع الشمس بدقائق، معلنًا أن شمسًا جديدة قاربت أن تُشرف على الدنيا.‏

ومنزلة الإكليل –وتُعرف أيضًا بالطريق المحترق- هي المنزلة الرقيب للثريا؛ أي المنزلة المواجهة للثريا تمامًا في دائرة الأفق، وهي منزلة ممتزجة الطاقة (هواء وماء) تقع بين الميزان والعقرب؛ إذ تشغل 4.3 درجات الأخيرة من الميزان وأول 8.55 ‏درجات من بداية العقرب، ومفهوم أن المنزلة الرقيب هي التي تطلع من الشرق فتهوي الأخرى من الغرب، وعندما تهوي الثريا تطلع الإكليل. وقد روى الإمام الطبري في تفسيره عن مجاهد بن جبر قوله في الآية: "سقوط الثريا".

وفي تاريخ الطبري (ج2، ص 157) عن عثمان بن أبي العاص، قال: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم –وكان ذلك ليل ولدته- قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نور، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني لأقول: لتقعن علي.

وفي الليلة السابقة لميلاده عليه الصلاة والسلام ظهرت (الدرجات الأولى من العقرب في منزلة الإكليل في الطالع من جهة الشرق مقترنة بالمشتري وزحل والعقدة الجنوبية لتقاطع مسار الشمس مع مسار القمر -والتي تمثل النهايات-) منذ غروب الشمس وغروب النجم (الثريا)، وبعدها بدقائق طلع نجم قلب العقرب الأحمر الذي يقترب من الأرض ليلة ميلاد الأنبياء، أي أنه بمجرد أن هوت الثريا مع مغيب الشمس في الليلة السابقة على ميلاده عليه الصلاة والسلام حدث ما يُعرف بالاقتران العظيم، واستمر هذا الاقتران طوال الليل حتى هوى الإكليل وأشرقت الشمس مقترنة بعنقود الثريا والعقدة الشمالية لتقاطع مسار الشمس مع مسار القمر -التي تمثل البدايات- ‏بعد ميلاده عليه الصلاة والسلام بدقائق، والقمر أحدب متزايد غارب يُثلث الطالع في الدرجة 20 من برج الأسد، وذلك يوم الاثنين الموافق 20 من أبريل عام 571 بالتقويم الجولياني، الموافق العاشر من ربيع الأول من عام الفيل.

واليوم العاشر من الشهر العربي له خصوصية عند العرب، وذلك في كل شهر. ومولده قبل شروق الشمس والقمر الأحدب المتزايد دلالتان على قرب اكتمال النور الذي تم بمبعثه، وبإمكاني القول إن كل ما في خريطته الفلكية عليه الصلاة والسلام من مواقع للكواكب وزوايا بينها يشير إلى ميلاد شخصية عظيمة يكون لها بصمة وأثر ودور كبير في تغيير وإصلاح نفوس البشر.

*تنبيه: قمت باستخدام موقع فلكي باستخراج الخريطة الفلكية للحظة ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما ذكرته من تحليل الخريطة مجرد قشور، ولكنها تستوفي الغرض في هذه المقالة.

ونعرف جميعًا ما رُوي عن استطلاع الفلكي اليهودي في يثرب (المدينة المنورة) للسماء في تلك الليلة، وما شاهده من اقتراب النجم الأحمر (قلب العقرب) من الأرض، والذي لا يقترب إلى هذه الدرجة إلا ليلة ميلاد الرسل والأنبياء في إشارة لهدم الباطل ليُبنى الحق، وما روي عن تهدم إيوان كسرى وانطفاء نيرانه المقدسة وتهاوي الأصنام حول الكعبة في تلك الليلة العظيمة في تاريخ البشرية. 

قال ابن إسحاق‏‏‏:‏‏‏ وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف، عن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري‏‏‏.‏‏‏ قال‏‏‏:‏‏‏ حدثني من شئت من رجال قومي عن حسان بن ثابت، قال‏‏‏:‏‏‏ والله إني لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان، أعقل كل ما سمعت، إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب‏‏‏:‏‏‏ يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه، قالوا له‏‏‏:‏‏‏ ويلك ما لك‏‏‏؟‏‏‏ قال ‏‏‏:‏‏‏ طلع الليلة نجم أحمد الذي وُلد به‏‏‏.‏‏‏ قال محمد بن إسحاق‏‏‏:‏‏‏ فسألت سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت، فقلت‏‏‏:‏‏‏ ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏المدينة‏‏‏؟‏‏‏ فقال‏‏‏:‏‏‏ ابن ستين سنة، وقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبع سنين‏‏‏.‏‏‏

وللعلم فإن رقم سورة النجم في القرآن الكريم هو 53، وتوجد في ‏الحزب 53، وحساب الجُمل لاسم أحمد= 1+ 8+ 40+ 4= 53!‏

ورغم اقتناعي أن القسم في أول سورة النجم ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا ‏هَوَى﴾ بسقوط الثُريا تحديدًا كان إشارة منه تعالى لما حدث في السماء منذ لحظة الغروب في الليلة السابقة على ميلاده عليه الصلاة والسلام، وحتى أشرقت الدنيا بمولده، فإنه ربما كان القسم إخبارًا منه تعالى أيضًا بأن حدثًا سيحدث من علامات القيامة يتعلق بتلك المجموعة ‏النجمية التي تضرب بها العرب المثل في العلو والارتفاع، أو لعل ظالمًا سيهوي، ولذلك صلة بسقوط الثريا. وقد قال تعالى في موضع آخر: ‏﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم﴾ ‏[الواقعة: ‏‏75-76].‏ وقال المفسرون: "إن القسم بمواقعها أي: مساقطها في مغاربها، وما يحدث الله في تلك الأوقات، من ‏الحوادث الدالة على عظمته وكبريائه وتوحيده".

والملاحظ أن عام 549م قد شهد اجتماعًا في برج الجدي لمدة شهر ونصف للعقدة الجنوبية والمشتري وزحل وبلوتو (الذي يحمل طاقة قلب العقرب). بدأ هذا الاجتماع في أول نوفمبر عندما انتقل المشتري من القوس إلى الجدي فاقترن بالعقدة الجنوبية في أول الجدي، بينما كان هناك اقتران تام بين زحل وبلوتو في الدرجة 26 في آخر الجدي، بعد ذلك استمر المشتري في التقدم في الجدي حتى بلغ ثلثه، فصار في منتصف المسافة تقريبًا بين العقدة الجنوبية أول الجدي وزحل وبلوتو في آخر الجدي، وفي 15 ديسمبر 549م انتقل زحل إلى الدلو، وترك البقية في الجدي، وانفك الاجتماع بينهم.

وطاقة هذا الاجتماع تشبه الاقتران العظيم الذي حدث عام الفيل 571م، لكنها أضعف بسبب تباعد الدرجات بين الكواكب عن الحد اللازم للاقتران، ومع ذلك فهو إشارة عظيمة، لأن اقتران المشتري وزحل يحدث مرة كل حوالي عشرين سنة، ولكن اقترانهما مع العقدة الجنوبية ونجم قلب العقرب أو بلوتو –الذي لم يكن القدماء قد اكتشفوه- يسمى بالاقتران العظيم، وهو يحدث مرة كل ما يزيد عن 700 عام، وحدوثه مرتين متتاليتين (549- 571) إشارة قوية، وربما وُلد في هذه الفترة من سنة 549 عبد الله والد النبي أو أمه آمنة.

وآخر مرة حدث فيها الاقتران العظيم كان في ديسمبر 2019م، فنحن نعيش تمهيدًا لحقبة جديدة في تاريخ العالم، ولعلها ستكون آخر حقبة.

نبذة عن أبرهة وحادثة الفيل

مبدأ قصة أبرهة قبل عام الفيل بحوالي خمسين سنة، في عهد الملك اليهودي يوسف ذو ‏نُواس ملك مملكة حِمْيَر باليمن، وهي المملكة التي خلفت مملكة سبأ. والنُواس هو المصباح الضعيف المضطرب نوره، ويُقال إنه سُمي بذي نُواس لأنه كان يخرج ليلًا ومعه خادم يحمل النُواس ليضيء الطريق أمامه.

تحكم ذو نواس في طريق التجارة بجوار اليمن، وضيَّق على التجار البيزنطيين والأحباش والغساسنة، والأخيرون هم مسيحيون عرب سبأيون ممن هاجروا من اليمن إلى الشام وكونوا بها مملكة وتحالفوا مع الرومان، وبعد المقتلة التي قام بها ذو ‏نواس في نصارى نجران في سنة 523م على التقريب، والمعروفة بحادثة الأخدود، بلغ الخبر ملك ‏الحبشة، وكان نصرانيًا، وأمده إمبراطور الروم جستنيان ببعض السفن والعتاد لغزو اليمن؛ نصرة للمسيحيين بها وللسيطرة على طريق التجارة، فأرسل حملة عسكرية ‏من الأحباش لغزو اليمن، تصدى لها ذو نواس ومعه كبرى قبائل اليمن همدان ومذحج وكندة ومراد وبيت ‏ذي يزن، وهزموهم، وفي عام 527م تولى حكم مملكة حِمير أحد أبناء أسرة ذي يزن، وربما كان هو من عُرف عند العرب باسم عائلته، و "يزن" اسم وادٍ باليمن، ويُنسب إليه من يملكه ويملك ما حوله فيُقال "ذي يزن".‏

وفي عام 531م، وهو العام الذي ملك فيه الفرس كسرى الأول أنوشيروان ووقع معاهدة سلام مع ‏إمبراطور الروم جستنيان، وكانت قد مرت أربع سنوات على دخول مملكة حِمْيَر تحت حكم أسرة ذي يزن، أرسل ‏ملك الحبشة إلى اليمن حملة عسكرية ثانية كبيرة بقيادة قائده آبراهيموس الذي عرفه العرب باسم أبرهة الأشرم، فملكها بعد ‏معارك طويلة مع أسرة ذي يزن وسيد قبيلة كندة وقائد حبشي آخر، وخلصت اليمن لأبرهة بعد سنين، ومن أشهر أعماله بها ترميمه لسد مأرب حوالي عام 542م، وكان قد تصدع وتفرقت قبائل سبأ وتمزقوا في البلاد قبلها بقرون. واستمر السد قائمًا حتى انهار أغلبه عام 575م، وهو العام الذي انتهى فيه حكم الأحباش في اليمن.

وبنى أبرهة بصنعاء ‏كنيسًا سماه القُليس أراد أن يحج إليه العرب، ولكن العرب رغبوا عنه ونجسوه وبقوا يحجون إلى كعبة أبيهم ‏إبراهيم، ويُقال إن الذي نجسه هو أحد النسأة ممن ينسأون للعرب السنين بعد موسم الحج –ولنا عودة مع النسيء وكيف كان يُحسب في مقال آخر-  فقرر أبرهة غزو مكة لهدم الكعبة، وسيّر جيشًا كبيرًا تقدمه فيل ضخم، ويُقال إن العرب على ‏الطريق أرادوا أن يضللوه عن مكة ويرسلوه إلى الطائف؛ فيهدم بيت صنمهم اللات وتسلم الكعبة، ولكن ‏ثقيفَ أخبروه أن البيت الذي يريد هدمه ليس عندهم، وأرسلوا معه دليلًا يوصله إلى مكة، وفي مكة لقي ‏عبد المطلب بن هاشم سيد قريش أبرهة الحبشي وطلب رد إبله التي أخذها بعض جند أبرهة، وقال قولته ‏الشهيرة: "أما الإبل فهي لي، وأما البيت فله رب يحميه"، وبعدها سار أبرهة بجيشه إلى الكعبة ليهدمها، ‏فجعل الله كيدهم في تضليل، وكان ذلك عام 571م، وبعد هذه الحادثة بحوالي خمسين يومًا ولد سيد الخلق.‏ وفي السنة نفسها مات أبرهة بعد عودته إلى اليمن.

وأراد الله سبحانه وتعالى أن يتم هزيمة الأحباش الذين تجرأوا على بيته الحرام واستحيوا الحرمات في ‏اليمن لعقود، فعاد الحكم في أسرة ذي يزن. وكان سيف بن ذي يزن قد اتصل بملك الفرس كسرى الأول ‏‏(كسرى أنوشروان) سنة 570م بعد أن رفض إمبراطور الروم مساعدته لاسترداد ملك آبائه، وبعد محاولات ‏وإلحاح على كسرى أن يمده بقوة لمحاربة الأحباش وافق كسرى وأمده بجيش صغير من المساجين من أسرى الديلم في سجنه مع قائد يسمى خُرزاد بن نرسي، وهو أحد أمراء الديلم، وكانت رتبته فاهريز (وَهْرِز)، وقيل إن (وَهْرِز) رتبة عسكرية صغيرة عند الفرس تعني القائد لألف فارس، وبعد غرق سفينتين ووصول ست سفن عليها 600 فرد إلى ميناء مثوب على ساحل اليمن انضمت إليهم بعض قبائل العرب، فاستطاعوا غلبة الأحباش في موقعة حضرموت قرب مدينة عدن، وكان قائد الأحباش مسروق بن أبرهة، والذي كان قد تولى الحكم بعد ‏هلاك أبرهة بعد عودته مغلوبًا من مكة، وهلاك ابنه الأكبر –فيما قيل-. ‏وانتهى الاحتلال الحبشي لليمن عام 575م، مع عودة الحكم لأسرة ذي يزن، واستمر سيف في الحكم حتى قُتل بعدها بأربع سنوات، وبقي نفوذ الفرس في اليمن حتى أسلم باذان بن ساسان حاكم اليمن، ومن معه من أبناء الفرس عام 628م الموافق 6هـ.

وبعد أن عاد لأسرة ذي يزن الحكم في اليمن، وانتهى الاحتلال الحبشي عام 575م ذهبت وفود العرب تهنيء سيفًا باسترداد ملكه، وكان عبد ‏المطلب بن هاشم على رأس وفد قريش، ويحكي المؤرخون أن سيف بن ذي يزن استقبله بالبشر والترحاب ‏قائلًا: "أهلًا بابن أختنا" لأن أم عبد المطلب هي السيدة سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج في يثرب، وهي من القبائل السبئية التي تفرقت بعد تهدم سد مأرب، والعرب تعد ابن الأخت منهم. ويُقال إن سيفًا كان عنده علم من أحبار اليهود باقتراب ميلاد نبي في بلاد العرب، وأخبر بها عبد المطلب، فقال له إنه قد وُلد.

الخميس، 24 فبراير 2022

279-أهل الكهف

 

أهل الكهف

د. منى أبو بكر زيتون

الأربعاء 26 يناير 2022

وعلى المثقف الثلاثاء أول مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961564

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله" 

يقول تعالى في سورة الكهف: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)﴾.

وقصتهم من أكثر قصص القرآن التي نالت عناية من المفسرين، فلم يكادوا يتركوا كلمة مما قصه الحق سبحانه وتعالى عن حالهم إلا ودققوا فيها. لكني تأملت في القصة، ولدي القليل مما يمكن أن أضيفه.

ومما يستوقفني من حالهم أن أصحاب الكهف كانوا فتية صغار السن، أنار الله بصيرتهم فعرفوه على صغر سنهم، ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[الكهف: 13]، وربط على قلوبهم فثبتهم على الإيمان ﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14]،  فكانوا أهلًا لأن يتولى الله أمرهم، ولأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقد حفظهم الله من الكافرين وملكهم الغشوم فلم يصلوا إليهم، كما حفظ أجسادهم من الموت على طول الفترة التي قضوها في الكهف، وكان نومهم في الكهف أكبر رحمة بهم.

كانوا فتية صغارًا لا تدبير لهم ولا حيلة بأيديهم. لم يستطيعوا مغادرة البلد والهجرة منه كما قد يفعل من هم أكبر منهم سنًا، وربما لم يعرفوا بلدًا مؤمنًا ليهاجروا إليه، فاختاروا أن يعتزلوا قومهم ويأووا إلى الكهف ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]. ولم يفكروا ماذا يمكن أن يحدث لهم إن عثروا عليهم أو نفذت نقودهم القليلة، وكيف كانوا سيعيشون فيه ويدبرون أمور معيشتهم، وربهم كان أعلم بهم، ونومتهم كانت أفضل حل لهم، فقد أخذوا بالأسباب على قدرهم، وكافأهم الله ونجاهم على قدره.

وأذكر ذات مرة أن سألنا أستاذنا الدكتور سعيد إسماعيل علي عن التدرج الذي وصفه الحق سبحانه وتعالى لمن يمكن أن يطلع على أهل الكهف. قال: درجنا أن نسمع من علماء النفس عن المراحل الثلاث الشهيرة: معرفة، ثم وجدان، فنزوع، لكن عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 18]، هنا نجد اتفاقًا في الخطوة الأولى ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾  معرفة، يتبعها نزوع ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، ثم وجدان ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾. فهل ثمة تعارض هنا؟

قلت: في الجزء الأول من الآية ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾ الحديث عن عملية الإحساس وهي ليست عملية عقلية، بل تقوم فيها أعضاء الحس بالتقاط المثيرات البيئية لتغذية المخ بالمعلومات. والانتباه والإدراك عمليتان عقليتان متلازمتان، وهما تليان عملية الإحساس. والانتباه للمثيرات يحدث أولًا –وبفارق أجزاء من الثانية- بعد انتقال المعلومات من أعضاء الحس إلى المخ، وهو في حالة أصحاب الكهف مع التغير المريع في هيئتهم نتيجة تطاول السنين كافٍ لخلق انفعال أولي ولإحداث رد الفعل النزوعي السريع ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، ثم بعده يأتي الإدراك الحقيقي للمثيرات والذي يترتب عليه تكوين الانفعال ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾.

وقد يكون ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ تعليلًا للفرار لذا جاء بعده، ولكن لا تظهر صيغة التعليل، بل هو معطوف على ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، لأن كلًا منهما مشمول كرد فعل لحال من يطلع عليهم. ومثله –فيما أرى- قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: 90]، فاستجابة الله لزكريا عليه السلام كانت بإعطائه الولد الذي طلب، ولم يكن ذلك ممكنًا دون إصلاح الزوجة العقيمة بأن جعلها الله ولودًا فحملت بالولد، فإصلاح الزوجة سبب للولد، وجاء بعده في الآية كعلة له، ولكن لأن كليهما يدخلان في استجابة الله لزكريا عليه السلام عُطفا ولم تستخدم صيغة التعليل، والله أعلم.

 

 

 

الأربعاء، 23 فبراير 2022

278-أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ

 

أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ ‏

د. منى زيتون

السبت 22 يناير 2022

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

على المثقف الخميس 24 فبراير 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961538

عند استفتاح الحق تبارك وتعالى الحديث عن قصة خلق الإنسان في سورة البقرة، دار حوار بينه وبين الملائكة، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].

وحديث الله تعالى لملائكته في الآية هو إخبار لهم عما قرره عز وجل بشأن خلق أبينا آدم واستخلافه، فمن المعلوم أن آدم عليه السلام هو الخليفة الأول لله في الأرض، وهو الذي كرمه تعالى بأن خلقه خلقًا مباشرًا، وأنه كان نبيًا وحاشاه أن يكون من المفسدين في الأرض، وأن الإفساد الذي علمت الملائكة أنه كائن بعد استخلافه إنما سيأتي من بعض ذريته، وإن كان الخلاف بين مفسرينا في هذه النقطة قد دار حول هل ذريته من غير الصالحين يعتبرون خلفاء أم لا يصح اعتبارهم؟ كما روى مفسرونا روايات كثيرة لتفسير سبب تعجب الملائكة عند إخبارها باستخلاف آدم وذريته، وكيف عرفت الملائكة أن فسادًا وسفكًا للدماء لا بد حادث في الأرض؟ وهل يعني هذا أن الأرض كانت عامرة قبله؟

وبالنسبة للنقطة الأولى نكاد نجد ما يشبه الإجماع بين مفسرينا على أن الصالحين الذين يحكمون بين الناس بالعدل من ذرية آدم عليه السلام وحدهم من يستحقون أن يكونوا خلفاء لله في الأرض بعده، ونفي صفة الخليفة عن الجائرين المفسدين سافكي الدماء! وكأن الحياة لم تُرنا كم بيننا من مفسدين وكم حكم وتحكم حكام الجور في البشر عبر العصور!

وأرى أن هذا التفسير خاطئ لغويًا ولكنه صحيح اصطلاحًا وفق ماحدّه رسول الله لنا؛ فمن حيث اللغة يُقال: خلف فلان فلانًا إذا قام مقامه في الأمر، ولا فرق في هذا بين المصلح والمسيء فرغم أن بلاء كل منهما فيما قام فيه يختلف إلا أن كليهما قد استخلف، وكلنا خلفاء الله في الأرض، وإن كان الأخيار يأملون أن يكون الجميع مصلحين إلا أنه فرق بين ما هو كائن وما كان ينبغي أن يكون! وهؤلاء ممن لم يأخذوا عهد الله واستخلافه لهم بقوة وخلفوه بالسوء من ذرية آدم مثلما نحن من ذريته، والاستخلاف هو اختبار لنا جميعًا، وأستدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [يُونُسَ: ١٤]، وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165]. فعندما تذهب طائفة يقيم الله مكانهم أقوامًا آخرين، والآيتان دالتان على أن الاستخلاف يشمل الجميع، ولكن بلاءنا فيه هو ما يميزنا ويفرقنا فريقين.

ومما رواه أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن الأسود؛ قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء –يعني معاوية- ينازع أصحاب محمد في الخلافة؟ قالت: وما يُعجب؟ هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر.

ولكن بالعودة إلى حديث سفينة مولى رسول الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الخلافة ثلاثون سنة وبعدها الملك، فرسول الله قسَّم من سيحكمون المسلمين بعده إلى خلفاء وملوك، وليس إلى خلفاء ‏راشدين وخلفاء،‏ من ثم فمن قام بحق الاستخلاف الذي أراده الله ممن أتاه الله الملك استحق اصطلاحًا أن يُقال خليفة، ومن لم يقم فيه بحقه فالاصطلاح الصحيح الذي ينبغي أن يوصف به أنه ملك، ولكن هذا قد خالف ما جرى لقرون. فإن كان من العامة ومن المفسدين فلا هو ملك ولا هو خليفة لله في أرضه!

وأما بالنسبة لسبب تعجب الملائكة فمما قاله المفسرون أن الأرض كانت عامرة قبل آدم، واختلفوا فيمن عمرها، بين من قال –وهم الأكثرية- إن الجن هم من عمروها قبله، فأفسدوا وسفكوا الدماء، وبين من ظنوا أنه كان هناك خلق آخر قبل آدم، أي بشر قبل البشر، وهذا التفسير روج له من قال بالتطور منذ القدم، ولهذه النظرية ذيول تاريخية قديمة قبل دارون.

وأقول لو كان الجن قادرين على القتل، وأنهم عمروا الأرض قبل الإنس، فأفسدوا وسفكوا الدماء، وخشيت الملائكة أن تُعاد الكرة بخليفة جديد وإن لم يكن من جنسهم، لظهر هذا من سيرة الجن التي حكاها لنا رب العزة جل شأنه قبل خلق آدم أو بعده، ومن ثم فهذا التفسير هو افتراء على الجن، ولا يستقيم؛ لأن سيرة الجن وإبليس منهم لا يُعلم منها ذلك، وأول فصول قصة الخلق تتحدث عن وسوسة إبليس لآدم وزوجه ليغضب الله عليهما مثلما غضب عليه ويخرجهما من الجنة، ولو كان الجن قادرًا على القتل لقتل إبليس آدم، لكن غاية ما قدر عليه أن وسوس له ليقترف المعصية.

فالقتل لم يكن فعل إبليس، بل كان بيد الإنسان الذي غلب عليه الشر. وحين أخبرنا تعالى عن قتل قابيل لأخيه قال: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ[المائدة: 30]، فأبرأ  تعالى إبليس أن يكون قد وسوس لقابيل أن يقتل أخاه، على عكس ما قال المفسرون بأن لإبليس دورًا في الجريمة وهو من علمه القتل، والحقيقة التي يجب أن نقر بها أن إبليس غير قادر على القتل، وأول جريمة قتل وسفك دماء وقعت على الأرض كانت بيد بني آدم وبوسوسة النفس وليس وسوسة إبليس. بل إنني أرى أن الآية هنا أعم من أن تكون في حق قابيل فقط، بل هي تصف كل إنسان عندما يهم بأن يقتل إنسانًا بوسوسة نفسه.

وبمراجعة الآيات التي جاءت فيها كلمة القتل في القرآن الكريم وجدتها جميعها قد خلت من ذكر وجود وسوسة من إبليس للقيام به، ولا فرق بين قتل الأنبياء أو قتل الأبناء! وليس غير الإنسان من يستطيع القيام بهذه الحماقة فيسفك الدماء، ونفسه هي التي تسول له بهذا عندما يقترف هذا الذنب. ووسوسة النفس أقوى من وسوسة إبليس ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16].

وهناك من المفسرين من ظن أن هذا الخليفة آدم يخلف مخلوقًا غيره من جنسه، فكأن آدم وذريته يقومون مقام خلق آخر أشبه بالبشر كانوا مستخلفين قبلهم في الأرض، فيُستخلفون بعدهم، ولكن ما أفهمه من الآية أن الله تعالى أراد آدم خليفة له هو وليس لخلق عمروا الأرض قبله. ولأجل هذا التشريف كان خلقه له بيده ثم أمره تعالى للملائكة بالسجود لآدم ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]، فأبونا آدم اختصه الله تعالى بكونه خليفته، ونحن خلائفه من بعده.

أما عن كيف عرفت الملائكة بالإفساد الذي سيحدث بعد هذا الاستخلاف لو لم تكن الأرض قد عُمرت قبل آدم بمن سفك الدماء، فهي بلاغة القرآن المعهودة بعدم ذكر ما يُفهم من السياق بعده؛ فهو استغناء بذكر ما ذُكر عما تُرك ذكره؛ ففي الكلام حذف لإخبار الله تعالى الملائكة بما سيكون بين بني آدم من صراع أبدي بين الخير والشر، وهو الصراع الذي بدأ من الجيل الأول من بنيه؛ بين هابيل وقابيل، وما سيحدثه من سيغلب عليهم الشر منهم من إفساد وسفك للدماء، ولهذا تعجبوا من استخلاف الله لآدم وذريته من بعده.

ثم إن الأرض لو كانت عامرة قبل آدم، فإن المنطق يقطع بأن تسأل الملائكة عن صفة الخليفة الجديد الذي سيسكنها ليعلموا إن كان مفسدًا كمن سبقه أم أنه مصلح، لا أن يظنوا فيه السوء بمجرد الإخبار عن إرادة الله خلقه، فلا مناص من أنهم سألوا عن صفته وأن الله أخبرهم أنه سيفسد ويسفك الدماء، ومن ثم فتلك الإضافة التفسيرية بأن الجن أو خلق أشبه بالبشر قد عمروا الأرض قبل آدم وقتلوا وأفسدوا إضافة لا قيمة لها ثم إنها لا دليل عليها.

وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ [الزخرف: 60]  ينفي أن الله تعالى شاء أن يخلفه خلق آخر في الأرض، على غير جبلة آدم، فالملائكة معصومون ويعبدون الله خير عبادة، والله تعالى خصهم في هذه الآية الأخيرة بنفي أن تكون له مشيئة باستخلاف بشر في الأرض على شاكلتهم، ويُستدل بهذا على أن السبب الرئيسي لاستخلاف آدم وذريته من بعده أنهم غير معصومين، وأنه تعالى يريد استخلاف خلق يعبدونه مع أن باستطاعتهم ألا يفعلوا، ذلك أنه تعالى قد جبلهم على ذلك، لذا فإن الأرض يعمرها الثقلان الإنس والجن ممن لهم القدرة على العصيان.

ومعركة ابن آدم الحقيقية في هذه الحياة هي مع نفسه وليس مع إبليس، ووسوسة إبليس الخارجية يسهل دفعها والتحصن منها، ولكن رغبات النفس التي ينبغي تهذيبها والتغلب عليها هي الأصعب.

ولعل أهم الدروس المستفادة من الفصل الأول في قصة خلق الإنسان أن العلم هو ما ميّز الإنسان عن باقي الخلائق، وأن الكبر هو جذر الشرور، وأن الاعتذار عن الخطأ هو أهم صفات المؤمنين، وأن من لا يعتذر ويتمادى في خطئه لا يستحق العفو.

وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ

طالما تحدثنا عن خلق الإنسان فهناك مسألة تتعلق بها من حكايا الجدود، وأحببت الحديث عنها؛ ذلك أنه بالرغم من أن الحق سبحانه وتعالى لم يخبرنا باسم شجرة الخطيئة التي أكل منها آدم وحواء عليهما السلام إلا أنه مما شاع بين الناس منذ القِدم أنها شجرة التين، ولأن إبليس تخفى في صورة حية ليدخل الجنة أو أدخلته الحية واختبأت خلف الشجرة، فقد اعتقد الناس ولا زالوا يعتقدون أن شجرة التين هي مأوى الحيات وحيثما وُجدت كانت الخيانة، فحرصوا على عدم زراعتها بجانب البيوت، فيزرعونها في الصحاري وأعالي الجبال.

لكن ثمرة التين ثمرة مباركة، وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي له طبق من تين فأكل منه، ثم قال لأصحابه: "كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه".

ولأن الله تعالى قال عن آدم وحواء بعد أن أكلا من الشجرة: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ فقد اعتقد القدماء أن آدم عليه السلام لم يصبح قادرًا على التناسل إلا بعدما أكل منها، لذا كان يُقال للعقيم وضعيف النسل من الرجال عليك بالتين.‏ وكانوا يعتقدون أن من أكل منها في المنام رزقه الله ولدًا. ومن ثم يمكن القول إن الأكل من الشجرة كان اختبارًا لآدم وإعدادًا للحياة على الأرض في الآن نفسه.

كما كان يُقال للمرأة التي لديها مشاكل في الإنجاب أن عليها بأن تكثر من أكل الزيتون. والله تعالى يقسم في أول سورة التين فيقول: ﴿وَالتّينِ وَالزّيْتُونِ﴾ ثم يأتي جواب القسم ‏﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيَ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾. مع الأخذ في الاعتبار أن الزيتون ثمرته وشجرته مباركة، والناس منذ القدم تحب زراعتها داخل المدن وفي البيوت لأنها شجرة تجلب السلام، وذلك على العكس من شجرة التين.

الاثنين، 21 فبراير 2022

277-والطور

 

وَاْلطُّورِ

د. منى أبو بكر زيتون

هذا المقال تم اقتطاعه من مقال قديم بعنوان "قصة جبلين وجزيرتين"

وهذه النسخة منه منقحة ومزيدة ومنشورة في كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

الأحد، 20 فبراير 2022

276-طور سيناء والطور الأيمن

 

طور سيناء والطور الأيمن

د. منى أبو بكر زيتون

هذا المقال تم اقتطاعه من مقال قديم بعنوان "قصة جبلين وجزيرتين"

وهذه النسخة منه منقحة ومزيدة ومنشورة في كتابي "تأملات في كتاب الله"

 


275-حادثة الإسراء والمعراج ونسبية الزمن

حادثة الإسراء والمعراج ونسبية الزمن

د/ منى زيتون

كُتب ونُشر المقال لأول مرة في يونيو 2011

وهذه النسخة منه معاد صياغتها مع مزيد من الشرح لضمان إيصال الفكرة

الاثنين 3 يناير 2022

منشور ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف الأحد 20 فبراير 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961465

 

من آياته العظيمة أن خلق لنا الله سبحانه وتعالى الشمس والقمر ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾ [الأنعام: 96] ، ‏﴿‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ [يونس: 5]. فاستخدم البشر منذ القدم الظواهر الفلكية التي تنشأ من حركة الأرض والشمس والقمر لحساب الزمن، مثل تعاقب الليل والنهار، ودورة أوجه القمر (هلال، تربيع أول، أحدب، بدر، .....)، وتعاقب الفصول الأربعة. وعلى هذا الأساس استخدموا العديد من وحدات الزمن مثل اليوم والشهر والسنة الناشئين على التوالي عن: دوران الأرض حول محورها، ودوران القمر في فلكه حول الأرض، ودوران الأرض في فلكها حول الشمس، وقد أسهم ثبات هذه الوحدات  في ثبات مفهوم الزمن بالنسبة للبشر.

ومع ذلك فبإمكاننا أن نجد في القرآن الكريم آيات شديدة الوضوح تشير إلى نسبية الزمن، وأن الزمن الذي يعرفه البشر يختلف عن الزمن عند الله تبارك وتعالى، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [الحج: 47] و ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ [السجدة: 5]. ويختلف كذلك عن الزمن الذي تتعامل به كائنات نورانية كالملائكة والأرواح ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]. والمقصود باليوم في هذه الآيات مراحل لا علم لنا بها.

ومن اللافت بالنسبة لي أن الله سبحانه وتعالى لم يشبه ذاته العلية إلينا إلا من خلال مفهومين، وهما الضوء حين قال تعالى: ‏﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ‏[النور: 35]، والزمن فقال في الحديث القدسي: "أنا الدهر". وسنرى في هذا المقال المبسط كيف يتعلق كلا المفهومين ويترابطا.

المادة والطاقة وسرعة الضوء وعلاقتهم بالزمن

في مقال سابق عن "المادة والطاقة" في كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" تحدثنا عن أنهما وجهان لعملة واحدة، أو ما يُعرف فيزيائيًا بـ "تكافؤ المادة والطاقة"، وأن التحولات ما بينهما مستمرة منذ بدء الكون، ووفقًا للمعادلة الشهيرة التي نتجت عن نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين [ط = ك.س² (بالإنجليزية: ‏E=mc²‏)‏] فإن طاقة المادة تساوي حاصل ضرب كتلة المادة في مربع سرعة الضوء.

ومن ثم فإن زيادة الطاقة التي تحرك الجسم (زيادة سرعة الجسم) يترتب عليها زيادة كتلة مادته، ولكن زيادة الكتلة هذه لا تُلحظ إلا مع السرعات الكبيرة للغاية. وتحرك الجسم بسرعة الضوء يجعل كتلته لا نهائية.

ووفقًا لأينشتاين أيضًا فإن الجاذبية هي انحناء في نسيج عالم الأبعاد الأربعة (الزمكان= أبعاد المكان الثلاثة+ الزمن كبعد رابع)، وهذا الانحناء تحدثه كتلة المادة والطاقة. ومن ثم ولأن هناك انحناءً يحدث في هذا النسيج فإن الزمن نسبي والمكان أيضًا نسبي!

ويقول ألبرت أينشتاين: "التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فقط وهم مستمر"؛ فملخص نظرية أينشتاين فيما يخص الزمن أن الزمن ليس مطلقًا ولا يتدفق دومًا إلى الأمام، وإنما هو نسبي، والمستقبل ليس مجهولًا بل هو موجود لمن يستطيع الوصول إليه! والحادث الواحد في هذا الكون قد يكون في الماضي بالنسبة إلى شخص، وفي الحاضر بالنسبة إلى شخص آخر، وفي المستقبل بالنسبة إلى شخص ثالث!

ومعلوم أن سرعة الضوء هي أعلى سرعة في الطبيعة، وهي أعلى سرعة يمكن أن تتحرك بها المادة أو الطاقة، وهي ثابتة في الفراغ لا تتغير بالزيادة أو النقصان تبعًا لسرعة مصدره وهو يبتعد أو يقترب من الراصد، فهي ثابت مستقل عن حركة الراصد.

            وقد استنتج العلماء أنه في أي جهاز متحرك بالسرعة (v) يكون فيه الزمن (T’) بالنسبة إلى الزمن (T0) الذي يحدده الجهاز الذي يرجع إليه في قياس الزمن هو:



حيث c هي سرعة الضوء. ومعنى ذلك أن الزمن يتوقف على السرعة (v).

وعندما تكون v= c ، أي عندما يتحرك الجهاز (أو الراصد) بسرعة الضوء يبلغ الزمن اللانهاية.

ووفقًا للنظرية النسبية فإن الزمن يتباطأ حسب السرعة، وكلما زادت السرعة زاد تباطؤ الزمن (تمدد الزمن)، ونظريًا فإن التمدد يبلغ أقصاه إذا وصل الجسم المتحرك إلى سرعة الضوء الثابتة في الفراغ.

وتلك الحالة المعروفة في النظرية النسبية والتي يمكن أن نسميها بحالة (اللا زمن) (no time) تحدث للجسم إذا تحرك بسرعة الضوء، وهي حالة افتراضية لا يمكن تحقيقها عمليًا لأن البشر عاجزون عن اختراع آلة تسير بسرعة الضوء والتي تبلغ حوالي 300000كم/ث.

وهذا فرق آخر بين منظور نيوتن للزمن المطلق ومنظور الزمن النسبي عند أينشتاين، فوفقًا لنيوتن يمكن نظريًا الوصول لسرعة الضوء، ولكن وفقًا لنسبية أينشتاين فإن الوصول لسرعة الضوء أمر مستحيل؛ لعدم توفر طاقة يمكن أن توصل لهذه السرعة.

الإسراء والمعراج؛ رحلة دائرية بسرعة الضوء

إذا كان البشر عاجزون عن إيجاد آلة تسبح بهم في الكون بسرعة الضوء فربهم قادر على كل شيء، ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة عام حدثت حادثة الإسراء والمعراج التي أُسري فيها بخير الأنام إلى المسجد الأقصى حيث صلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماء، ثم عاد إلى النقطة التي بدأ منها رحلته.

في تلك الليلة -ليلة الإسراء والمعراج- جاء جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاه للركوب على دابة تُسمى (البُراق)، فركبا عليها، ومن ثم أصبح كلاهما –النبي وجبريل- يسيران بسرعتها، ولنضرب مثلًا بأنك ركبت أنت وابنك الصغير سيارة وتحركت بكما، فكلاكما تتحركان بسرعة السيارة، ونلاحظ أن لفظ البُراق مشتق من البرق، والبرق ضوء، وفي هذا إشارة إلى أن الدابة التي كانت تحمل النبي وجبريل (البُراق) كانت تتحرك بسرعة الضوء، ما أدخل النبي في حالة تمدد الزمن وصولًا إلى اللازمن، والتي وصفتها الصحابية الجليلة التي كان النبي صلوات ربي وسلامه عليه نائمًا في بيتها في تلك الليلة بأنها "لم تفتقده قط"؛ أي أنها ما نظرت نحوه وهو نائم في أي لحظة ولم تجده؛ ذلك أنه كان يتحرك نحو المستقبل بسرعة الضوء، حتى أنه شاهد أقوامًا يعذبون في جهنم. وعندما انتهت رحلته صلى الله عليه وسلم عاد من مداره الدائري الذي تحرك فيه بسرعة الضوء، ودخل ثانية في مسار الزمن الخاص بنا عندما عاد إلى سرعته الأرضية الأصلية، ولم يكن قد فاته منه شيء.

وأرى أن هذا هو التفسير الأدق فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحرك بسرعة الضوء وليس أن طبيعته المادية قد تحولت إلى طبيعة نورانية كما قال بعض العارفين بالله؛ فحادثة الإسراء والمعراج كانت نقطة تقارب بين العبد وربه، وهي التي فُرضت فيها الصلاة، وكأن الله يخبرك أنك متى أطعتني حتى وأنت على طبيعتك المادية ستكون قريبًا مني، وستعرج روحك إلي، ثم إن الرسول الكريم أخبرنا أنه دُعي له بدابة اسمها البراق ركبها هو والأمين جبريل، ومن ثم فقد كانا يتحركان بسرعة الدابة، فإذا كانت طبيعة جسم الرسول ستتغير حتى يصبح نورانيًا فلم كانت الدابة؟!

وكما أن الزمن نسبي فالمكان أيضًا نسبي، ووفقًا لأينشتين فلا مكان مطلق، وكل ما في الكون يتحرك بالنسبة إلى الكون، فنحن في الحقيقة مسافرون في الكون على متن كوكبنا الأرض. ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [النمل: 88].

اقتربت الساعة

ختامًا أذكر بما سبق أن تحدثت فيه مرارًا من رصد العلماء منذ سبعينات القرن الماضي لتحرك مجرتنا بالكامل وكذلك باقي المجرات التي تنتمي ‏إليها مجرتنا في اتجاه مركز المجرة التي تقع خلف المجموعة النجمية لكوكبة القوس، وقدروا هذه ‏الحركة بسرعة 600 كم في الثانية، ولا يعلمون يقينًا مصدر هذا الجذب، فهو مجهول الهوية، وإن كانوا ‏يسمونه بالجاذب العظيم!‏ ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 37 ].

فإذا كان العلماء يعرفون أن لهذا الكون بداية وأنه اتسع وتمدد بعدها، وفقًا لما يُعرف بنظرية الانفجار العظيم، فهناك تصور يتأكد يومًا بعد يوم بالدلائل أنه سينكمش وينطوي وينسحق. وهو ما تؤكده آيات القرآن الكريم.

ومعلوم أن القمر هو ترس الأرض، وأنه يتحرك مقتربًا منها إلى حضيضه في أوقات كي لا تسرع في دورانها حول محورها في فلكها حول الشمس، ومن ثم يثبت طول اليوم عند 24 ساعة مهما اختلف موضع الأرض بالنسبة إلى الشمس، ومهما اختلفت ساعات النهار والليل، والتي تحدد الفصول الأربعة، ونظريًا فإنه يمكن أن يختل هذا النظام المقفل بين الأرض والقمر بسبب زيادة قوى التجاذب، وعليه فإن القمر سوف يقترب منها إلى الحد الذي قد يؤدي إلى انشقاق القمر بانفصال الجزء الذي يواجه الأرض على الدوام، وهذا يتفق مع أحد تفسيرات قوله تعالى: ‏﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1].

وربما كان لوصول مجموعتنا الشمسية إلى نقطة معينة من هذا الجاذب العظيم أثره في اختلال قوى الجذب التي تحكمها، ويذكرني هذا بقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾ [الانفطار: 1-2].

وسبحان من له الدوام.


الجمعة، 18 فبراير 2022

274-صفات الشياطين

 

صفات الشياطين

د. منى زيتون

جزء صفات الشياطين، الأحد 26 ديسمبر 2021

جزء من هم الشياطين؟ الثلاثاء 25 يناير 2022‏

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"‏

على المثقف السبت 19 فبراير 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961429

 

في الحديث الشريف أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات المنافقين، وفي هذا المقال سنناقش صفات الشياطين كما يُستدل عليها من آيات القرآن الكريم.

من هم الشياطين؟

عندما يُذكر الشياطين يأتي على بالنا مباشرة إبليس؛ ذلك الجني الذي فسق عن أمر ربه واستكبر عن أن يسجد لما صنع بيديه ‏﴿إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ ‏‏[الكهف: 50].

والجن اسم جمع لكلمة ‏"الجَانّ"، ومفردها "جِنِّيّ"، أو "جِنِّيَّة". والكلمة مشتقة من "جَنَّ" بمعنى استتر، ومنه اشتقت تسمية الجنة أيضًا لأنها مخفية عن عيون العباد.

والجن هي مخلوقات تشاركنا في عالمنا، ولكنها تخفى عنا لأن حواسنا غير قادرة على إدراكها. يقول تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]. ويتشارك معنا الجن في أن الله تعالى وهبهم حرية الإرادة والاختيار، ومن ثم فما يجري على الإنس من أحكام يكاد يتطابق مع تلك التي للجن.

والآية الكريمة ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6] تصف الملائكة بأنها كائنات مجبولة على الطاعة، لكننا نعلم أيضًا من قصة خلق آدم أن إبليس كان مع الملائكة إذ أمروا بالسجود لآدم ولم يسجد ﴿إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]؛ فعِلة عدم سجوده أنه من الجن قادر على العصيان.

فالجن ليسوا مجبولين على الطاعة كالملائكة بل هم كما قال رب العزة على لسانهم في القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: 11]. ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ [الجن: 14].

والجن كسائر خلق الله مأمورون ومكلفون بالعبادة، ولكنهم كالإنس وإن كانوا مخلوقين للعبادة إلا أن بإمكانهم ألا يفعلوا، فينحرفون بذلك عن الهدف الذي من أجله خُلقوا. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

والله يبعث للجن الرسل مثلما يبعثهم للإنس. يقول تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 130].

وإن كانت آية الأنعام تقول: ﴿رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ إلا أننا نعلم أيضًا أن الجن كانوا على اتصال بدعوات الأنبياء الذين أرسلوا إلى الإنس، يقول الله تعالى على لسان جماعة منهم استمعت إلى القرآن: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 30]. وأرى في قولهم: ﴿كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ﴾ دليلًا على أن رسالة داود ورسالة المسيح لم تشملهم؛ وأنهما بُعثا إلى الإنس دون الجن، فالجن لا استمعوا إلى الزبور ولا إلى الإنجيل.

وقد سخر الله تعالى الجن لسيدنا سليمان عليه السلام ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ﴾ [النمل: 17]، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل للعالمين من الثقلين الإنس والجن، لذا فالقرآن هو كتابهم مثلما هو كتاب للإنس، ويظهر هذا من الآيات التي تتحدث عن استماعهم للقرآن، ومن قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾؛ فالإسلام دعوة عالمية لأنها ختام الرسالات من رب العزة لعباده.

ولأنهم ذوو إرادة وحرية اختيار سيحاسبون كالإنس ويدخل غير الصالحين منهم النار مثلهم ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: 13]. ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾ [الأعراف: 179]. وإن كنت لم أعثر على آية تجزم بأن الصالحين منهم سيدخلون الجنة.

ولكن أصل الجن يختلف عن أصل الإنس؛ فالجن مخلوقون من نار ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 27]. ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: 15]، فقيل إنهم خُلقوا من نار شديدة الحرارة لا دخان فيها، وهي والحال كذلك أشبه بأن تكون نورًا. بينما بدأ الله تعالى خلق أبينا آدم من طين، ثم اختلط الطين بالماء فصار طينًا لازب، ثم نفخ الله فيه الروح، ثم صار يعقل وقادرًا على التعلم، ما يعني اجتماع العناصر الأربعة في خلقه (الطين والماء والنار والهواء).

ومن ثم فالجن مخلوقون من نار كالملائكة والروح، ولكن لأنهم يختلفون عن الملائكة والروح في القدرة على الاختيار فهم لا يُعطفون عليهم ولا تجري عليهم الأحكام ذاتها، فالملائكة والروح يأتي ذكرهم مقترنين في كتاب الله ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]. و ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبأ: 38]. و ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4]. بينما يقترن الجن بالإنس في القرآن لأنهم مثلهم ذوو إرادة وقدرة على الاختيار، وإن كان الله قد خص البشر بالنعت بأنهم أولو الألباب.

وأستخلص من خلال جمع الآيات أن الجن هم قبيلة من الملائكة، خُلقت من النار مثلهم، لكنها قبيلة ذات إرادة وقدرة على اختيار الخير أو الشر؛ ذلك أن إبليس كان من الجن ﴿إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50].  ولكن لأنه لم يعصِ الله أبدًا جعله الله مع الملائكة الذين لا يعصون أبدًا رفعًا لشأنه، إلى أن ظهرت قدرته على الاختيار في اختبار خلق آدم، فعصى ربه ولم يمتثل لأمره عندما أمره بالسجود لآدم، فنال الخسران المبين.

ولأن الإنس والجن يتشاركون في حرية الاختيار بين سبيل الخير وسبيل الشر، فقد أخبرنا تعالى أن الشياطين ليسوا من الجن فقط، بل يوجد إنس يُعدون شياطين. قال تعالى: ‏﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112].

وقد روى ابن كثير في تفسير الآية روايات عن أبي ذر الغفاري في هذا الباب، منها: عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟" قال: لا يا رسول الله. قال: "قم فاركع ركعتين" قال: ثم جئت فجلست إليه،  فقال: "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ "قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن".

وذكر الحق سبحانه وتعالى أن شياطين الجن أولياء للكافرين من البشر. قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27]. وقال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121].

وفي سورة الناس أمرنا تعالى أن نتعوذ من الفريقين ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾ [الناس: 4-6]؛ ذلك أن الإضلال لا يقتصر على شياطين الجن وحدهم، بل يشمل شياطين الإنس معهم. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾ [فصلت: 29].

صفات الشياطين

لا عجب أن كثيرًا من صفات الشياطين في القرآن الكريم تظهر في سياق سورة البقرة؛ لذا استحقت أن تكون طاردة الشياطين. وأهم صفاتهم:

الكبر

كان الكبر هو الصفة الكاشفة الأولى لإبليس والتي أخرجته من عداد الملائكة؛ لأنه وفقًا لكتاب الله فإن الملائكة لا يستكبرون ﴿وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 49]. فأظهر صفات الأبالسة هي الكبر، ‏﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ‏[البقرة: 34].

وكان سبب استكبار إبليس أنه رأى نفسه أعلى من آدم. وقد سبق أن تكلمنا عن فلسفة العناصر والطباع الأربعة عند القدماء في عدد من مقالات كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"؛ فقلنا إن القدماء افترضوا عناصرَ أربعة أساسية، لكل منها طاقة مختلفة الأثر في الكون وفي طباع البشر وباقي الخلائق.

والعناصر الأربعة التي أعنيها هي: النار والهواء والماء والتراب؛ فالنار هي رمز الشغف والقوة، والهواء هو رمز الفكر والتأمل، والماء هو رمز الانفعالات والمشاعر، والتراب هو رمز الثبات والاستقرار. وتوزعت على تكوين الإنسان؛ فالنار هي الروح والقوة الحقيقية الداخلية، بينما ‏الهواء هو العقل، ومثّل الماء عاطفة الإنسان، وكان التراب لديهم هو الجسد المادي.

ورغم كونها فلسفة إنسانية، ولعلها أقدم الفلسفات التي عرفها الإنسان، فهي تتميز عن غيرها بأن لها أصلًا دينيًا؛ فالله تعالى أخبرنا أنه خلق الدواب جميعها من الماء فهي مجبولة على العاطفة التامة، كما نعلم أن السبب الذي رأى إبليس أنه أشرف من آدم عليه السلام لأجله فتكبر عن أن يسجد له هو أن الله تعالى خلق إبليس من النار، والنار أشرف العناصر وأطهرها وأنقاها، ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ [الأعراف: 12].

وكما كان الكبر أظهر صفات إبليس فهو أظهر صفات شياطين الإنس.

الحسد على النعمة وتصغير الآخرين

قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: 61].

أخبرنا تعالى أنه بدأ خلق الإنسان من طين، ثم امتزج هذا الطين بالماء، فأصبح صلصالًا كالفخار، وهو والحال كذلك لم يحوِ سوى الجزء المادي والجزء العاطفي، ولكن جاء الطور التالي من خلق آدم والذي استحق عنده سجود الملائكة له؛ إذ نُفخت فيه الروح ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 29]. والروح تمثل النار فهي التي تشعل الحياة في الجسد.

ولكن إبليس أصر على أن آدم لا زال طينًا، ورفض الإقرار بالتغير الذي حدث له والنعمة التي طرأت عليه! ودومًا أقول إن كل من يصر على تصغير أحدهم وتذكيره أنه كان سابقًا أقل نعمة مما هو عليه ليس سوى شيطان بشري.

ومن عجب أن هذا الذي خُلق من نار وهي العنصر الأشرف قد أخطأ إلى الدرجة ‏التي وجبت له بها الجحيم، وأن الذي بدأ خلقه من طين ثم امتزج بباقي العناصر، والنار ‏ليست إلا أثرًا فيه، قد يشرف ويعلو قدره حين يعلي قدر الروح فيه.‏

ونلاحظ أنه في أطوار خلق الإنسان الأولى في القرآن لم يُذكر العنصر الرابع وهو الهواء والذي يعبر عن العقل؛ فالإنسان يولد جاهلًا، ثم يعلم من بعد جهل، والعقل الذي يساعده على تحصيل العلم تحديدًا هو ما يميز البشر عن باقي المخلوقات، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا [البقرة: 31]. وخطاب الله للبشر دومًا يكون بوصفهم بأولي الألباب لأن هذا ما خصهم عن باقي المخلوقات، فالجن والملائكة خُلقت من نار، والدواب خُلقت من ماء، والجبال وغيرها من تراب، ولكن بني آدم وحدهم هم أولو الألباب. والهواء –وهو العنصر المعبر عن العقل- من مختصات كوكبنا!

وإن كان مجمل الآيات في القرآن الكريم التي تحدثت عن خلق آدم تؤكد أن نفخ الروح فيه كان سابقًا على اكتساب العلم، وأن الأمر بالسجود جاء بعد نفخ الروح، فسياق الآيات التي ذكرت قصة استخلاف آدم في سورة البقرة تحكي عن اكتساب آدم العلم أولًا، ثم تأتي الآية التي ذُكر فيها أمره تعالى للملائكة بالسجود له، وما تلاها من استكبار إبليس. وقد يكون هذا وضع خاص بآدم عليه السلام كونه لم يُخلق طفلًا، بل خلقه الله راشدًا عالمًا.

الجدل بغير علم؛ وفرض الرأي باسم حرية التعبير عن الرأي!

يقول تعالى في كتابه: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121]، فالشياطين يوسوسون بالشبهات كما يكثرون الجدل في غير محله.

وقد ذكرنا في مقالات سابقة أن هناك فرقًا كبيرًا بين إبداء الرأي والإكراه على الجدل، فمن لا يكتفي بإبداء رأيه بإزاء رأيك ويصر على الجدل العقيم هو في حقيقة الأمر لا يتعامل مع رأيه باعتباره رأيًا، بل باعتباره حقيقة ينبغي إقناع الجميع بها ‏ورفض أي رأي آخر لك أو لغيرك!

فحقيقة الأمر أن الرغبة الملحة في الجدل والنقاش مع المخالفين علامة على عدم احترام حرية الرأي؛ لذا ‏نجد في القرآن الكريم نهي واضح عن الجدل إلا بالتي هي أحسن، ونهي عام عن الجدال مع أهل الكتاب إلا الذين ظلموا منهم. ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏‏﴾ [العنكبوت: 46]. ولكننا نجد أحدهم يبدأ ‏الجدل ثم يدعي أنه اضطر إليه!‏

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا ‏كِبْرٌ مَا هُمْ ‏بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 56]‏. وقد اتفق علماء المسلمين على تفسير الآية على أنها أمر من الله تعالى لنبيه بالاستجارة بالله ‏من ‏شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة. ولطالما قلت وأقول: ‏إن الأمر بالاستعاذة من هؤلاء ‏المجادلين بغير علم دليل على أن من هذه صفتهم هم من شياطين ‏الإنس، فالأمر بالاستعاذة لا يكون إلا من ‏الشياطين، كما أن الكِبر يملأ صدورهم -بنص الآية- وهي أظهر صفات إبليس.

الامتناع عن الاعتذار عن الخطأ والسعي في وقوع غيرهم فيه

لقد كان الفرق الرئيسي بين آدم وإبليس رغم أن كليهما قد أخطأ وعصى أمر الله تعالى أن آدم أعلن الندم وتاب، بينما إبليس لم يفعل، وزاد بأن قرر أن يغوي آدم وذريته من بعده بدلًا عن أن يعتذر عن ذنبه.

هو للإنسان عدو مبين ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يوسف: 5]. ولكن هناك من الحمقى من يتخذه وليًا.

هو الذي وسوس لأبوينا ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 20]، فأزلهما وأخرجهما من الجنة ‏﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ ‏[البقرة: 36].

ولا زال يواصل مع ذريتهما فيعمل على إضلالنا ‏﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ‏[النساء: 60].

ولهذا أمرنا الله بالاستعاذة من نزغه وهمزاته ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: 200] و [فصلت: 36]. ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ [المؤمنون: 97].

وشياطين الإنس لا يختلفون عن إبليس قدر أنملة، يغوون ولا يعتذرون!

تزيين المعصية

وقد يفعل العبد المعصية بسبب نفسه الأمارة بالسوء، فيأتي دور الشيطان بأن يزين له ما يعمل من سوء، وكذلك يفعل شياطين الإنس.

يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43].

﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: 48].

﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النحل: 63].

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ ‏[النمل: 24] و [العنكبوت: 38].

﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25].

الصد عن ذكر الله وعن الصلاة

يمكن القول إن للشياطين من الجن والإنس هدفين رئيسيين وهما الصد عن صنوف البر والنزغ لاقتراف المعاصي.

يقول تعالى: ﴿وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [الزخرف: 62]. و ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 91].

والنسيان قد يأتي بمعنى الترك في لسان العرب. يقول تعالى: ‏‏﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ ‏[المجادلة: 19] بمعنى تركوا ذكر الله، وقد يكون مضادَ التذكر ﴿وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: 63].

ولهذا كان الأمر بذكر الله عند النسيان ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: 24]، والامتناع عن مجالسة الظالمين ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ‏[الأنعام: 68].

التشنيع والإسقاط

إن لم يستطع شياطين الإنس إغواءك لتكون مثلهم شنَّعوا عليك مثلما شنَّع الشياطين على سليمان عليه السلام ونشروا عنه الإفك واتهموه بالأباطيل والتي لم تكن إلا فيهم! ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 102].

السحر

السحر هو محاولة لتغيير قدر الله، ويتشارك فيه شياطين الإنس والجن ﴿وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102].

الوقيعة بالعداوة والبغضاء

قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام:﴿بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: 100].

وقال في آية أخرى عن الشيطان: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: 53].

وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [المائدة: 91].

وفي آية السحر في البقرة دليل أيضًا على الوقيعة التي يتعلمها شياطين الإنس من شياطين الجن فيفرقون بين المرء وأحبته خاصة بين المرء وزوجه ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾[البقرة: 102].

والإنسان السيء كإبليس يمشي بين الناس بالوقيعة وينشر بينهم البغضاء. وعلى العكس منه يكون الإنسان الصالح التقي ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1].

الكيد

الشيطان يكيد، وإن كان كيد شياطين البشر أقوى، فكيد إبليس ضعيف ولكنه يجدي وينفع مع من أرادت له نفسه الأمارة بالسوء أن يزل ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].

الخزلان والوعد الكاذب

ومن صفات الشياطين الخزلان، فلا يفون بوعد، وهي صفة يتشارك فيها شياطين الإنس مع المنافقين.

﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120] و [الإسراء: 64].

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: 22].

﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 29].

الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء والمنكر

يقول تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268].

وكما ذكرنا مرارًا في كثير من المقالات أن الفقر قرين الكفر، وما استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر يومًا إلا واستعاذ معه من الفقر، وشياطين الإنس كإبليس يوحون إلى الناس بأن إخراجهم الزكاة وتصدقهم سينقص مالهم ويورثهم الفقر، فيمتنع الناس عن إخراج الصدقات الواجبة في مالهم.

ونرى ذلك قد انتشر في عصرنا كما لم ينتشر في أي عصر سابق؛ من امتناع فئة غير قليلة من الأغنياء عن تزكية المال حرصًا عليه ليكفي نفقاتهم المتزايدة التي يزينها لهم شياطين الإنس والجن، وكلها في أمور لا علاقة لها بمتطلبات حياتهم الضرورية، بل في سفههم وما يزينه لهم الشيطان من المآثم والمحرمات، ما زاد من أعداد الفقراء ومن انتشار الفاحشة والمنكر في المجتمع. ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [النور: 21].

التبذير

وهذا الشيطان نفسه الذي يحثكم على منع أداء حق الله في المال ويوهمكم أن الفقر سيكون مآلكم إن أنفقتم على مستحقي الصدقة هو من يزين لكم إنفاق المال في المآثم والمعاصي وفيما لا يلزم ولا ينفع لا في دين ولا في دنيا!

ولأن التبذير أشد أشكال كفر النعمة وعدم أداء حقها استحق المبذرون من البشر أن يكونوا إخوان الشياطين. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27].