الخميس، 30 سبتمبر 2021

257-مُلَح من التاريخ

 

مُلَح من التاريخ

د/منى زيتون

الخميس 30 سبتمبر 2021

وعلى المثقف، الجمعة أول أكتوبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/memoir02/958599

 

من أكثر ما يسيئني أن أجد عزوفًا بين المسلمين عن قراءة كتب التاريخ؛ ذلك أن خوارج آخر الزمان قد صوروا لفئة كبيرة منهم أن علينا ألا نقرأ كثيرًا مما فيها؛ كونها أمورًا قد شجرت بين من قبلنا فلنكف ألسنتنا عن الحديث عنها، والسؤال الذي لا يسألهم إياه من يتبعونهم وعلى عيونهم غشاوة: وهل وصلت إلينا هذه الأخبار إلا لأن سلف الأمة لم يسكتوا عنها وأخبروا بها؟ ولولا أنهم رووها ودوّنوها ما عرفناها!

ولأنني من عُشاق التاريخ، وأحب قراءته من أمهات الكتب، فقد أحببت أن أشارك قرائي الأعزاء اليوم ببعض المُلح والنوادر والفوائد التي صادفتني أثناء قراءاتي في بعض أمهات كتب التاريخ والتراجم الإسلامية، والتي لا يُعتني بذكرها أو ذكر أمثالها مع أنها تعطي صورة أوضح عن الحياة في العصور الإسلامية الأولى، وأراها لا تقل أهمية عن روايات الحروب والصراعات، ولم أقرأ أو أسمع أن أحد المحدثين قد ذكر أيًا منها يومًا، بينما أراها تستحق الذكر والإشارة إليها.

 

هؤلاء الثلاثة

في ترجمة الإمام الذهبي للحبر والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في الجزء الأول من كتابه الشهير "سير أعلام النبلاء" وفي (ص 463) يروي زيد بن وهب عن ابن مسعود إنه قال إن أول معرفته بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عندما قدم مكة مع بعض عمومته وأناس من قومه وأرادوا شراء عطر، فأرشدوهم إلى العباس عم النبي، فتوجهوا إليه وهو جالس إلى زمزم –وكانت للعباس السقاية في مكة منذ الجاهلية-، وأنهم رأوا أثناء جلوسهم مع العباس رسول الله وأم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد، وابن عمه علي بن أبي طالب –وكان لا زال غلامًا- قد قدموا إلى الكعبة استلموا الحجر وطافوا بالبيت سبعًا ثم استقبلوا الركن، ثم صلى رسول الله صلاة المسلمين بما فيها من تكبير وقيام ثم ركوع وسجود ثم قيام، فأنكر ابن مسعود ومن معه ما رأوه من دينهم، فعرفهم العباس بمن يكون الثلاثة الذين رأوهم، ثم قال: "أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة"أهـ.

ولا شك عندي ولا عند أي عاقل أن الأدلة متوفرة على أن أول من تلقّى نبينا وهو عائد من الغار بعد أن نزل عليه الوحي كانت زوجه السيدة خديجة، وليس أي أحد غيرها، فهي أول من آمن به.

ولكن هناك من السفهاء من يفتعل جدلًا سخيفًا عن أول من آمن، وهل هو علي أم أبي بكر؟! وهذا لأن نفاقهم غالب وكراهيتهم لسيدنا علي ظاهرة طافحة، ولكنهم يدارونها بادعاء مناكفة الشيعة.

وقد لفت نظري أن قصة كهذه ليست كافية لحسم هذا الجدل غير المبرر، والرواية توضح أن ابن عمه وربيبه علي كان ثاني من آمن به، وذلك بعد أن ذكرت روايات كثيرة أنه رآه يصلي، وسأله عما يفعل، ثم لحق بأم المؤمنين وسيدنا علي صاحبه الصدِّيق أبي بكر، ولا أرى في الاعتراف بهذا أي انتقاص من الصديق ولا من قدره.

وهناك استدلال أهم نأخذه من رواية ابن مسعود، وهي أن رسولنا عليه الصلاة والسلام كان يصلي صلاة المسلمين منذ بداية بعثته، ولكنها كانت صلاة غير معينة الوقت أو العدد، فكلما أراد أن يصلي صلى، وليس –كما يُشاع- من أنه بقي يصلي ويتعبد على طريقة أبيه إبراهيم الخليل حتى حادثة الإسراء والمعراج، وأن فرض الصلاة على الأمة بأوقاتها وعددها كل يوم وعدد ركعاتها هو ما استجد في رحلة المعراج.

 

جحد الزواج!

كثيرًا ما أصبحنا نسمع عن قضايا إثبات زواج ترفعها نساء ناقصات عقل لم يحرصن على توثيق زيجاتهن، ونتصور أن هذا من مساوئ العصر الذي نحياه وقد كثرت فيه الخبائث، بينما كانت العصور السابقة علينا خالية منه. ولكن للأسف الشديد أن عصرنا يشبه ما سبقه من عصور، وما أشبه اليوم بالبارحة، وجحد الزواج لا يعدو أن يكون آفة اجتماعية تنتشر بين بعض أبناء الطبقات الاجتماعية دنيئة الأصول.

وما كنتُ أعلمه حتى قريب أن الدولة المصرية قد أصدرت عام 1941م -ولحقتها باقي الدول العربية- قانونًا يلزم بتوثيق الزواج وعدم الاكتفاء باستيفاء الشروط وإشهاد شاهدي عدل ثم الإشهار، وأن هذا القانون قد استحدث بسبب كثرة ما كان يُعرض على المحاكم الشرعية -وقتها- من قضايا تُرفع من قبل النساء لإثبات الزواج، وقد قرأت يومًا في مقال قديم للغاية في صحيفة الأهرام المصرية أن بعض أشباه الرجال كانوا قد صاروا إلى حال أنهم عندما تطعن زوجاتهم في السن وبعد أن ينجبوا منهن من البنين والبنات ما يزيد أحيانًا عن العشرة، يستغلون أن شهود الزوجة على الزواج وجميع أقربائها وأقربائه الذين حضروا يوم زواجهم قد ماتوا، فيجحدون زواجهم من الزوجة، وعندما يشهد الجيران على أحدهم أنه يسكن وزوجته وأبنائه إلى جوارهم منذ عقود، يرد على الشهود أمام القاضي بأنه لم يكن متزوجًا منها بل كانت مجرد رِفقة غير شرعية!

لكن قراءة أمهات كتب التاريخ تعلمني دومًا أن لمصائبنا ذيولًا وجذورًا أعمق مما تبدو! فأثناء قراءتي لكتاب "المنتظم" للإمام العلامة ابن الجوزي قرأت في حوادث سنة سبع وخمسين وخمسمائة من الهجرة أن امرأة ادَّعت أن ابن النظام الفقيه المدرس بمدرسة نظامية بغداد قد تزوجها، ولكن الرجل جحد وأنكر وحلف على ذلك، ثم أقر فافتضح وعُزل من التدريس ونُكَل به، ونُكِّل أيضًا بالفقيه الذي كان قد عقد بينهما. وربما تقابلني يومًا ما أثناء مطالعتي حوادث مماثلة أقدم من هذه!

 

زيارة قبر النبي

من الأكاذيب المعتادة للجماعة الذين يسمون أنفسهم بالسلفية أن السلف -الذين ينتسبون إليهم زورًا- لم يكونوا يخصون قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيارة، بينما من يقرأ أمهات الكتب يجد عكس ذلك تمامًا.

أثناء بحثي في كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي، وجدته يذكر خبرًا في حوادث سنة 542هـ عن عدم استطاعة الحجيج في تلك السنة زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تخوفًا من قلة الماء؛ وهو ما يعني أنه ما منعهم عنه إلا الضرورة ومخافة الهلكة، وأن عدم زيارة الحجيج لقبره عليه الصلاة والسلام ليس معتادًا، حتى اعتبروه حدثًا في هذه السنة يستحق التدوين في كتب التاريخ.

وقد ذكر الخبر في كتابه الإمام ابن الجوزي، وهو أعظم أئمة الحنابلة عبر تاريخهم، فلم يأتهم –وإلى يومنا هذا- أحدًا يقاربه ويدانيه، فلم يجد بأسًا في ذكر ما يفيد اعتياد زيارة الحجيج للقبر. بينما يؤكد السلفية على أتباعهم أن زيارة قبره عليه الصلاة والسلام بدعة لم يعرفها السلف، وأنهم إنما كانوا يشدون الرحال تحديدًا لزيارة المسجد وليس القبر، ومنهم من يعيش ويموت ولا يزور قبره ولا مسجده عليه الصلاة والسلام، زاد الله قلوبهم مرضًا.

 

أول مائدة إفطار رمضانية للفقراء

كثيرًا ما كانت تقابلني أثناء مطالعاتي لتاريخ العباسيين أخبارًا عن أسمطة وموائد طعام يقيمها الخلفاء والوزراء في مناسبات خاصة بهم، مثل ذلك السماط الكبير الذي ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" أن الخليفة صنعه سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة ودعا إليه الأمراء والأتراك احتفالًا بختان ولده، أو السماط الذي صنعه سيف الدولة للسلطان جلال الدولة سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وكان أحسن شيء، وذُبح فيه ألف كبش ومائة رأس دواب وجمال، وآلاف مسبوكات السكر. أو ما ذُكر من اغترام الوزير ابن هبيرة مالًا يُقارب ثلاثة آلاف درهم على إعداد طبق الإفطار الذي اعتاد أن يقيمه الوزراء من قبله، وذلك طوال شهر رمضان سنة 552هـ.

لكن الخبر الذي لم يصادفني مثيله أثناء مراجعتي لحوادث أي من السنين قبله هو ما رواه ابن الجوزي أيضًا عن ترتيب الخليفة الناصر لدين الله في رمضان سنة 604هـ عشرين دارًا للضيافة لإفطار الصائمين من الفقراء، وكان يُقدم فيها من الطعام والخبز والحلوى الكثير.

فلعل هذه أول مائدة إفطار رمضانية تقام للفقراء احتسابًا لوجه الله وطلبًا للأجر والثواب، وليست للوجاهة الاجتماعية، وما أكد لي هذا الاستنتاج أن ابن الجوزي لم يُشبِّه صنيع الخليفة هذا بصنيع أي من الخلفاء أو الوزراء السابقين، بل شبَّهه برفادة قريش للحجيج التي كان يتولاها أبو طالب، والسقاية التي كان يتولاها العباس بن عبد المطلب.

 

مات عنقود وما درينا!

يحكي ابن الفوطي الحنبلي في كتابه الماتع "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة" في حوادث سنة ست وأربعين وستمائة أي قبل نكبة بغداد بعشر سنوات حكاية ظريفة توضح إلى أي مدى بلغ جهل العوام في عصره، في بغداد عاصمة الخلافة العباسية وحاضرة الدنيا وقتها، فتُراه كيف كان الحال في غيرها!

يقول إنه قد انتشر بين أهل بغداد مرض سد حلوقهم مما صعّب على الناس التنفس وشعروا بالاختناق، ويبدو أنه كان وباءً تنفسيًا صعبًا كثر الموت بين الناس بسببه. وإلى هنا والكلام لا شيء فيه، ولكن المهزلة كانت في بقية ما رواه؛ إذ روى أن امرأة جاهلة ذكرت إنها رأت في منامها امرأة من الجن كنيتها "أم عنقود" وأخبرتها أن ابنها عنقود مات في بئر في أحد أسواق بغداد، ولم يُعزها أي من أهل بغداد، فلهذا حقدت عليهم وقررت أن تخنقهم!

وعلى الفور أقام الجهلة عزاءً للجني عنقود بجوار البئر، وأشعلوا الشموع، وألقوا الحلي والدراهم ولذيذ الأطعمة في البئر، وناحت النساء أيامًا بجواره، منشدات:

أي أم عنقود اعذرينا *** مات عنقود وما درينا

لمّا درينا كلنا قد جينا *** لا تحردين منّا فتخنقينا

ولما أكثر الجهلة من تلك الأفعال أنكره أكابر البلد، وبلغ الخبر الخليفة المستعصم بالله فأمر بمنع هذا الخبل، وأخبروهم بأن أم عنقود قد توقفت عن تقبل العزاء بأمر من الديوان، وسدوا البئر.

 

الشرطة والجرائم لم تتغير!

كما يقولون فإنه لا جديد تحت الشمس، ونوعيات الجرائم التي يقوم بها البشر تكاد لا تتغير عبر العصور، وقد رأينا في مقال "جدود وأحفاد ريّا وسكينة" أن جرائم الباطنية المحدثين لا زالت هي هي لم تتغير عما كان يرتكبه أجدادهم. وحديثنا الآن عن آحاد المجرمين وليس الباطنية.

يحكي ابن الجوزي في "المنتظم" في حوادث سنة خمس وثلاثين وخمسمائة عن نصّاب مخادع وصل بغداد في تلك السنة، وكعادة النصابين في كل العصور فقد أظهر الزهد والنسك الزائف، ثم ادّعى للعامة أنه رأى عمر بن الخطاب ومعه علي بن أبي طالب –ليجتذب كلًا من عوام السُنة والشيعة- وأنهما دلّاه على موضع قبر صبي من أولاد سيدنا علي، وكان قد استبق ونبش قبر صبي مات حديثًا وأخذ جثته ودفنها في الموضع الذي أخبر به الناس أنه قبر ابن أمير المؤمنين علي. فلما توجه الناس إلى الموضع وحفروا واستخرجوا الجثة صدقوه، وانقلبت بغداد وطرح العامة البخور وماء الورد على تراب القبر، وأخذوا من التراب للتبرك به، وظنوا بالنصاب الكرامة، وبقي الحال على ذلك أيامًا، حتى قرر بعض العقلاء فحص القبر والكفن، وتأكدوا من أن الصبي مدفون حديثًا، وأن كلام النصاب لا يُعقل، ثم تصادف أن رأى أبو الصبي جثة ابنه، فأخبر الناس أنه ابنه وأنه دفنه منذ أيام في قبر في موضع آخر، فنبش الناس ذلك القبر الآخر ووجدوه خاليًا، ففطنوا إلى حيلة النصاب، ولم يتمكن من الهرب، وتم تجريسه على حمار على عادة الناس في تلك الأزمان.

وكما يُزوِّر المجرمون في عصرنا العملات الورقية فقد عُرفت جريمة ضرب الدراهم الزيوف منذ القدم. من ذلك ما أورده ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" في حوادث سنة ثمان وسبعين وستمائة من اتهام جماعة من أهل بغداد بنقش السكة، فصُربوا حتى أقروا على رءوس القوم، وقُطعت أيدي جماعة، وفُرضت غرامة على أحد أعيان المتصرفين، ويبدو أنه كان يتولى تصريف تلك الدراهم للعصابة. كما أورد ابن الفوطي في حوادث سنة ثمان وتسعين وستمائة أمر السلطان غازان سلطان التتار وحاكم العراق أن يُصفى الذهب والفضة من الغش، وأن تُضرب الدراهم على أوزان مختلفة المثاقيل بحيث تكون الفئة الواحدة متساوية الوزن.

وأما ما يُعرف في عصرنا من ادعاء المتسولين الفقر طلبًا لعطاء الناس، وما يكتنزونه من خلال جمع أموال التسول، فقد عُرف مثيله منذ القدم. وقد صادفني خبرًا في "المنتظم" في حوادث سنة 479هـ جاء فيه أن رجلًا كان يلبس ملابسًا مرقعة ويدّعي الفقر ويسأل الناس بجوار جامع المنصور ببغداد قد توفي في تلك السنة، فوجد الناس في مرقعته ستمائة دينار مغربية!

وأما أحوال الشرطة وتسلطها فتكاد لا تختلف، وإنما القضاء وإقامة العدل هو ما اختلف بيننا وبينهم. وقد روى ابن كثير في "البداية والنهاية" عن أحد الولاة في منتصف القرن الخامس الهجري، اسمه أبو محمد النَّسوي، أنه قد قتَل مرة واحدًا ضُرب بين يديه، وحكم عليه القاضي أبو الطيب الطبري بالقتل قصاصًا، ولكنه أفلت من القتل بافتداء نفسه بمال جزيل.

وعن استغلال النفوذ لأجل أخذ أموال الناس، ذُكر في "المنتظم" في حوادث سنة 531هـ أن أحد الولاة قد قُبض عليه، بعد أن فرض جبايات على الناس بعنف وشدة ظلم وذلك للمرة الخامسة، وأنه قد تاب وحلق شعره، وأعلن أنه لن يعود إلى الظلم، ثم أعيد إلى عمله.

 

قلعة ابن عطاش الباطني

ولنحكي نادرة عن قلعة ابن عطاش الباطني في بلاد فارس، رواها ابن الجوزي في "المنتظم" فيُحكى أن من بناها كان السلطان السلجوقي ملكشاه، حيث خرج يومًا للصيد مع رجل رومي ادعى الإسلام، فهرب أحد كلاب الصيد منه إلى الجبل الذي بُنيت عليه القلعة بعد ذلك، ولما وجدوا الكلب أشار الرومي على السلطان ببناء القلعة على رأس الجبل، ففعل السلطان وأنفق على بنائها ألف ألف ومائتي ألف دينار -مليون ومائتي ألف بلغة عصرنا- ثم دار الزمان واستولى عليها ابن عطاش، وصار أهل أصبهان سنوات طوال في أسوأ حال بسبب غزوه لهم، فكانوا يقولون: "انظروا إلى هذه القلعة كان الدليل على موضعها كلب، والمشير ببنائها كافر، وخاتمة أمرها هذا الملحد"أهـ.

 

نشأة الفتونة

إن كنت قد قرأت إحدى روايات الأديب الكبير نجيب محفوظ أو شاهدت فيلمًا سينمائيًا مأخوذًا عنها فأنت ولا شك تعرف شخصية الفتوة جيدًا، ولكن ما لا يكاد يعرفه أحد هو كيف ومتى نشأت حركة الفتونة؟

أثناء قراءتي في كتاب "المنتظم" استوقفني خبرًا أورده ابن الجوزي في حوادث سنة 473هـ يذكر فيه أنهم قبضوا ببغداد على رجل يُعرف بابن الرسولي الخباز وآخر يُعرف بعبد القادر الهاشمي البزاز ومعهما جماعة انتسبوا إلى الفتوة. وكانت تهمة ابن الرسولي أنه وضع كتابًا يتضمن معنى الفتوة وفضائلها وقوانينها، وأما عبد القادر فقد كان المعلم لمن أراد التتلمذ على يديه ليكون فتوة. وكان ابن الرسولي قد استغل أن جامع براثا كان مهجورًا مسدودًا ففتح الباب واتخذه مكانًا لاجتماع المشاركين في الحركة، وجعل هناك من يراعيه. وجامع براثا هو جامع للشيعة في بغداد كان يُغلق بالسنين، وكم حدثت فيه وبسببه فتن بين الحنابلة والشيعة، وكانت هناك جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تُعرف بأصحاب عبد الصمد تراقب الجامع دومًا منعًا لاجتماع أي جماعة من الشيعة فيه، فعلموا باجتماع الفتوات في الجامع فأبلغوا عنهم ديوان الخلافة فقُبض عليهم.

ولكن –ووفقًا لما أورد ابن الجوزي- فإن هذا الرجل ابن الرسولي ومن معه كانوا رءوس حركة الفتونة في بغداد، ولكن الحركة ذاتها كانت قد نشأت بمصر، ولمّا كان الفاطميون في الفترة من منتصف القرن الرابع وحتى منتصف القرن السادس من يتولون شئون الحرمين، فقد كان للخليفة الفاطمي رجالًا يوفدهم إلى الحرمين ويبقون بهما، وكان أحد هؤلاء المستخدمين لدى الخليفة الفاطمي في المدينة المنورة يُدعى خالصة الملك ريحان الإسكندراني، وكان هو رئيس حركة الفتونة الناشئة والذي يصدر مكاتبات الحركة من وإلى سائر البلدان.

وينبغي التأكيد على أن الفتونة تختلف اختلافًا جذريًا عن الحركة الباطنية التي كانت نشأتها أيضًا في مصر في القرن الخامس الهجري، والتي تحدثنا عنها في مقال "جدود وأحفاد ريّا وسكينة"، فالفتونة نشأت لحماية ونجدة الضعفاء بالأساس وإظهار الشجاعة، والفتوة قوي شجاع مهاجم في وضح النهار يتصارع مع خصمه رجلًا لرجل، وليس باطنيًا جبانًا مخدرًا يتربص ويختبئ ليطعن غريمه بخنجر ويفر أو يتحايل لخطف إنسان وسرقته وقتله غيلة.

وقد روى ابن الطقطقا في كتابه ذائع الصيت "الفخري في الآداب السلطانية" (ص 322) عن الخليفة الناصر لدين الله العباسي "ولبس لباس الفتوة، وألبسه، وتفتَّى له خلق كثيرون من شرق الأرض وغربها، ورمى بالبندق ورمى له ناس كثيرون"أهـ. فكان أول من استخدم الفتونة كنوع من الرياضة، ويبدو أنه كان لها إسهامها في تنفيس الطاقة الزائدة لدى عامة الناس والتي كانت تتسبب في كثرة وقوع الفتن ببغداد، وكانت الفتن فيها بين العوام لا تهدأ، ولأجل ذلك فقد حكم 47 عامًا امتنعت فيها الفتن، وإن كان السبب الرئيسي لقلة الفتن هو عدل الخليفة وتسويته بين فئات الرعية، وحتى أهل الذمة كانوا في أحسن حال.

ويمكن القول إن حركة الفتونة قد نشأت في مصر في عهد الفاطميين، ولكنها لم تتوسع وتنتشر في البلدان إلا بعد أن صار الخليفة العباسي نفسه كبير الفتوات، وكان عهد الناصر لدين الله العباسي قد عاصر الدولة الأيوبية في مصر والشام بعد أن دالت دولة الفاطميين من مصر، ثم زادت الحركة انتشارًا في مصر في ظل دولة المماليك لأن الشجعان من المصريين لم يكن مسموح لهم الالتحاق بالجيش فأرادوا أن يشعروا بقوتهم من خلال إظهار الفتونة.

 

أسماء أعلام الذكور والإناث عبر العصور وبين الثقافات

أي مراجع لتاريخ العصر العباسي لا بد وأنه قد صادفه يومًا اسمًا غريبًا تقتصر تسميته في عصرنا على النساء ولا يُسمى به رجل، ولكنه يُذكر في الكتب كاسم رجل أو من أسماء أبيه أو جدوده؛ من ذلك مثلًا المحدث أحمد بن المظفر بن حسين بن عبد الله بن سُوْسَن التمار المولود سنة 411هـ والمتوفى سنة 503هـ، فجده الثالث -الذي على الأغلب- كان من مواليد القرن الثالث الهجري اسمه سوسن، ولا أعلم من أين جاء الشكل بالضم على حرف السين الأول في ترجمته في طبعة "سير أعلام النبلاء"؟ وهل هي هكذا في المخطوط أم هي محاولة لتغيير نطق الاسم الذي هو بالأساس اسم لزهرة وتُسمى به البنات فقط في عصرنا!

ولنأخذ اسمًا آخر أكثر انتشارًا في العصور القديمة كاسم للذكور وهو (هبة الله)، فسنجد ممن يوجد في اسمه الإمام والعلامة الدمشقي علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، المولود سنة 499هـ، والطبيب والفيلسوف هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي المولود سنة 560هـ، وغيرهما الكثير ممن يكون هذا الاسم اسمهم الأول أو يظهر في تسلسل نسبهم. ولكن هذا لا يمنع أن يوجد الاسم ذاته في أسماء الذكور في العصر الحديث في بعض الثقافات من أقصى الشرق أو الغرب، كالمجاهد أحمد هبة الله بن الشيخ ماء العينين المولود سنة 1877م في المغرب العربي الأقصى، والزعيم الأعلى الجديد لحركة طالبان الإرهابية، هبة الله أخوند زادة.

وأرجو ألا يتعجل أحد القراء ويظن بي أنني أسخر من الناس لأجل أسمائهم، فما قصدت إليه أن الأسماء المقبولة اللائقة للذكور والإناث تتغير عبر العصور وبين الثقافات، وقد نجد أسماء في التركية تتخذ للبنات كاسم "هلال" والعرب لا يسمون به سوى البنين، والعكس في اسم كـ "حكمت" الذي يشيع استخدامه في تسمية البنات في مصر بينما هو اسم يُتخذ للرجال في تركيا.

وربما كان لهذا الاختلاف الثقافي أثره في تصورنا انتشار الشذوذ الجنسي في العصر العباسي الأول بين أوساط الأكابر، بينما الأمر لم يكن إلى هذه الدرجة؛ فنظن الظنون بخليفة يُقال إنه كان يحب (كوثر) ويُشاع بين العرب وقتها أن كوثر هذا كان ذكرًا! وربما ظنوه اسمًا يصلح للذكور! أو تنشد فتاة شعرًا في (سعاد) فنظن أنها تقصد امرأة! متناسين أن العرب في العصر العباسي الأول كانوا قد بدأوا في تقليد العجم في وضع أغاوات أتراك مخصيين كمشرفين على الحريم، وربما أسموهم بأسماء النساء، أو ربما كانت لهم أسماء منذ الميلاد نعرفها نحن كعرب كأسماء للنساء.

 

طوفان

ربما يغيب عن علم كثير منا أن العرب في العصر العباسي الأول هم من وضعوا أسس علم الهيئة (هيئة السماء) بعد أن بدأوا بترجمة كتب بطليموس السكندري والفلك الهندي، ثم بدأوا في تأليف الكتب الخاصة بهذا العلم من خلال ما تجمع لديهم من الأمم السابقة ومن خبراتهم في الرصد والحسابات وصناعة واستخدام الآلات المناسبة. وما عرف العالم قبلهم معنى وتقسيم البيوت الفلكية الاثنا عشر، ولا عرفوا الزوايا بين الكواكب من اقتران وتسديس وتثليث وتقابل، ولا دلالاتها.

والعرب هم من اعتبروا أن كرة العالم هي دائرة الأفق كاملة –ما يظهر منها وما يغيب- والتي تظهر فيها ما يُعرف بالنجوم الثابتة التي تشكل البروج المعروفة، وتدور فيها الشمس والقمر والكواكب في حركتها الظاهرية اليومية حول الأرض، وقسموها إلى 360°، وقرروا إننا لا نرى سوى نصفها، أي نصف الكرة التي تظهر في الأفق، وكلما طلعت مجموعة نجمية من الشرق سقطت مجموعة من الغرب. وكانوا أول من اهتم بالنجوم في الطالع وفي وسط السماء، واعتبروهما أهم ما في الهيئة الفلكية.

ولكننا نجد في العصر الحديث تنفيرًا ورفضًا تامًا من المتطرفين لعلم الهيئة، وعدم فهم لأهميته في حياة البشر مثله في ذلك مثل التنبؤات العامة بالطقس، والتي لا يلزم أن تصدق ولكنها تجعلنا نأخذ الحذر.

وأثناء مطالعتي لحوادث سنة 489هـ في "المنتظم" وجدت خبرًا أورده ابن الجوزي عن أن المنجمين قد تنبأوا بحدوث طوفان كبير، فأمر الخليفة المستظهر بالله بإحضار ابن عيشون –وكان من أشهر فلكيي عصره- فطمأن الخليفة بأن طوفان نوح قد حدث عندما اجتمعت الطوالع السبعة (الشمس والقمر وعطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل) في برج الحوت، ولكن زحل ليس في الحوت مع باقي الكواكب، ومن ثم فالأمر أخف من أن يكون طوفانًا كطوفان نوح، وتنبأ بأنه في مدينة ما من المدن يجتمع فيها بشر من بلاد كثيرة مختلفة سيحدث غرق، فأمر الخليفة بإصلاح أي مواضع على الأنهار يُخشى منها الانفجار، وظن أهل بغداد أنهم مغرقون، ولكن وصل الخبر بأن سيلًا عظيمًا قد أصاب الحجاج في وادي نخلة، وهو أحد أودية مكة المكرمة، يفصلها عن الطائف من جهة السيل الكبير، وغرق كثير من الحُجاج!

وعندما قمت بمراجعة الخريطة الفلكية ليوم 26 فبراير 1096م وهو يوم ميلاد الهلال واجتماع الشمس والقمر في برج الحوت في ذلك العام 489هـ وجدت أن كلام ابن عيشون لم يكن صحيحًا باجتماع السبعة عدا زحل في الحوت، بل كانت الشمس مقترنة بالقمر –الذي كان متأخرًا عن الشمس بدرجة، وهي أحلك درجات المحاق قبل ميلاد الهلال- وكان عطارد مقترنُا بهما إلى درجة التلاصق في الحوت، ولكن الزوايا الفلكية الموجودة بالفعل تنبئ باحتمال حدوث أمطار غزيرة أو غرق؛ لأن اجتماع ثلاثة طوالع أو أكثر في الحوت نذير مطر غزير، وزحل كان في برج العذراء يقابل هؤلاء الثلاثة المقترنين في الحوت مما يزيد التنافر، وكانت هناك زوايا أخرى لا أعتقد أن فلكيي العصر العباسي كان باستطاعتهم التنبؤ على أساسها لأن كوكبي نبتون وأورانوس لم يكونا قد اكتشفا بعد، والخريطة الفلكية أظهرت أن نبتون (كوكب الماء) كان في السرطان وهو برج مائي، وكان في الطالع في الساعة الثانية والثلث ظهرًا، وكان يشكل تربيعًا مع كوكب أورانوس كوكب المفاجآت في وسط السماء، ووجود تربيع بين نبتون في الطالع وأورانوس أو زحل في وسط السماء من علامات الغرق، وفي لحظة غرق الفنانة أسمهان كان نبتون في الطالع وزحل في وسط السماء.

والأهم من كل هذا أنه لا الخليفة ولا كبار رجال الدولة أو رجال الدين أخذوا هذه النبوءة بالحساسية التي يمكن أن يأخذها بها متطرفو عصرنا، بل نجد إمامًا مستنيرًا كابن الجوزي -وهو أحد أكبر أئمة عصره- يروي القصة ببساطة ولا يعلق عليها أي تعليق مشين، لأن الأمر لا يعدو أن يكون تنبؤًا عامًا كتنبؤات الطقس، ويستحيل أن يدعي أي إنسان معرفته بأي مدينة يمكن أن تصدق فيها هذه النبوءة ولا من الذين يمكن أن يُكتب عليهم الغرق.

 

قطع نسل معاوية

في عام 40 هـ اتفق ثلاثة من الخوارج الحرورية على قتل الإمام علي ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وتعاهدوا على أن ‏يكون ذلك بعد مرور 17 يومًا من رمضان -على الأرجح-، وتفرقوا ما بين العراق والشام ومصر لينفذوا ما اتفقوا عليه، وكان ما كان ‏من أمرهم.

لكن ما يدسه ولا يذكره أحد من المعاصرين أن معاوية قد انقطع نسله يوم مات سيدنا علي. ذكر الإمام الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" (ج5، ص149) في حوادث سنة 40هـ ما فعله معاوية بعد أن أمر بقتل الخارجي الذي أخطأ ضربته لما أراد قتله، فوقع السيف في ألـْيَته، قال الطبري: "وبعث معاوية إلى الساعدي –وكان طبيبًا- فلما نظر إليه قال: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد، وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني. فسقاه تلك الشربة فبرأ، ولم يولد له بعدها"أهـ.

وأقول: إن هذه علامة أنه ما قاتل إلا لملك ‏يدوم فيه وفي ولده، فكان العقاب بالمنع، فلم يلي من عقبه الملك إلا اللعين يزيد، وليته ما ولي، والجزاء من جنس العمل. وسبحان من له التدبير.

وقد روى الإمام الطبري في حوادث سنة 60هـ ما عهد به معاوية لابنه يزيد، وكيف وطأ له الأشياء وذلّل له الأعداء، وأنه كان يتخوف عليه من أربعة: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأوصاه بوصايا في التعامل مع كل منهم، لعلمه أن أيًا منهم سيراه الناس أفضل وأحق من ابنه الفاسق، وسيتأخرون عن بيعته.

وذكر سبط ابن الجوزي في "تذكرة الخواص" (ص286) "كان معاوية يقول: لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي"أهـ.

 

الخلفاء والملوك

كثيرًا ما نقرأ لمن يتباكون على ما يسمونه الخلافة، ويظنون أن في عودتها عودة لأمجاد الإسلام؛ كونهم يعتبرون دولة آل عثمان في تركيا -التي انتهت منذ ما يقارب قرنًا من الزمان- خلافة إسلامية، حتى أن أحد هؤلاء المتباكين كان أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة من قصائده العصماء، التي قال فيها راثيًا ما أسموه الخلافة العثمانية:

ضَجَّت عليكِ مآذِنٌ ومَنابِرٌ *** وبكت عليكِ ممالكٌ ونَواحٍ

الهِندُ والِهةٌ ومِصرُ حزينةٌ *** تَبكي عليكِ بمدمعِ سحاحِ

والشَّامُ تَسأَلُ والعِراقُ وفارسٌ *** أَمَحى من الأَرضِ الخِلافةَ ماحٍ

وأتت لكِ الجُمعُ الجلائلُ مَأتَماً *** فقعدنَ فيه مقاعدَ الأَنواحِ

ياللرِّجالِ لَحُرَّةٌ موؤودَةٌ *** قُتلت بِغير جَريرةٍ وجناحِ

وعندما نُذِّكر هؤلاء المتباكين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة ثلاثين سنة وبعدها المُلك، وأن رسول الله قسَّم من سيحكمون المسلمين بعده إلى خلفاء وملوك، وليس إلى خلفاء راشدين وخلفاء، وأنكم من أهل الكهف إذ تبكون على أمر قد انتهى في ربيع الأول من عام 41هـ؛ أي منذ ما يزيد عن الألف وأربعمائة عام، يدَّعون علينا أن هذا من مستحدثات الدعاوى وأكذبها، وأن أئمة المسلمين لم يشذوا عن الاعتقاد بأن الأمويين والعباسيين وغيرهم خلفاء! وربما زادوا بأن أحدًا منهم لم يعتبر خلافة سبط رسول الله سيدنا الحسن بن علي ضمن الخلافة الراشدة!

وأثناء قراءتي في كتاب "البداية والنهاية" لابن كثير القرشي وهو شافعي المذهب حنبلي العقيدة ومن أئمة القرن الثامن الهجري، راجعت ترجمته لآخر خلفاء العباسيين والتي أوردها ضمن حوادث سنة 656هـ، وهي السنة التي نُكبت فيها بغداد بالتتار وقُتل فيها المستعصم، وجدته قد كتب ضمن تلك الترجمة عن دولة الفاطميين "وكانت عِدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكًا مُتَخَلِّفًا، ومدة ملكهم تحريرًا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى أن تُوفَّى العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة". فوصف كل منهم بأنه "ملكٌ مُتَخَلِّفٌ" أي ملك يتخذ الخلافة لقبًا.

ثم أضاف ما نصه: "والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثين سنة، كما نطق بها الحديث الصحيح، فكان فيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم ابنه الحسن بن علي ستة أشهر حتى كملت بها الثلاثون، كما قررنا ذلك في دلائل النبوة، ثم كانت ملكًا، فكان أول ملوك الإسلام من بني أبي سُفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية، ثم ابنه يزيد، ثم ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية، وانقرض هذا البطن المُفتتح بمعاوية المُختتم بمعاوية، ثم ملك مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، ثم ابنه عبد الملك، ثم الوليد بن عبد الملك، ثم أخوه سليمان، ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك، ثم هشام بن عبد الملك، ثم الوليد بن يزيد، ثم يزيد بن الوليد، ثم أخوه إبراهيم الناقص، وهو ابن الوليد أيضًا، ثم مروان بن محمد الملقب بالحِمار، وكان آخرهم، فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان، وكان أول خلفاء بني العباس السفَّاح واسمه عبد الله، وكان آخرهم المستعصم واسمه عبد الله، كذلك أول خلفاء الفاطميين اسمه عبد الله المهدي، وآخرهم عبد الله العاضد، وهذا اتفاق غريب جدًا، قل من يتنبه له. والله سبحانه أعلم". وكلام ابن كثير غاية في الوضوح بأن كل من عدّهم بعد تنازل الحسن عن الخلافة هم ملوك وإن أخذوا من الخلافة اسمها.

ويكفي أن نعرف أن دولة المماليك في مصر والشام قد اكتسبت شرعيتها بسبب دعاوى الخلافة هذه؛ فآل الأمر إلى أن حكمنا لقرون رجال ليسوا بعرب وليسوا أحرارًا، وذلك بعد أن استقبلوا وافدًا من بغداد قيل إنه من نسل العباسيين أفلت من سيوف التتار فأعلنوه خليفة إلى جانب السلطان المملوكي، وكان هذا الخليفة يجلس في قصر الخلافة لا يهش ولا ينش، وليس أكثر من شيء يتبركون بوجوده، ويموت خليفة ويخلفه غيره، وليس له من الخلافة إلا اسمها!

ومن عجائب ما اتفق من أحوال من ولوا أمر المسلمين، ما حكى ابن الجوزي عن أبي بكر الصولي من أنه قال: "الناس يقولون: كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لا بد أن يُخلَع". قال ابن الجوزي: "فتأملت ذلك فرأيته عجبًا؛ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم الحسن فخُلع، ثم معاوية ويزيد، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وعبد الملك، ثم عبد الله بن الزبير، فخُلع وقُتل، ثم الوليد، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد، وهشام، ثم الوليد بن يزيد، فخُلع وقُتل، ولم ينتظم لبني أمية بعده أمر حتى قام السفاح العباسي، ثم أخوه المنصور، ثم المهدي، والهادي، والرشيد، ثم الأمين، فخُلع وقُتل، ثم المأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل، والمنتصر، ثم المستعين فخُلع وقُتل، ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي، ثم المقتدر فخُلع، ثم أعيد فقُتل، ثم القاهر، والراضي، والمتقي، والمستكفي، والمطيع، ثم الطائع فخُلع، ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد، ثم الراشد، فخُلع وقُتل"أهـ.

ورغم أن هناك أخطاء قليلة فيما ذكر ابن الجوزي؛ منها أنه ذكر خلافة ابن الزبير بعد عبد الملك، والعكس هو الصحيح، كما أن المسترشد أيضًا قد قُتل إلا أن الوضع إجمالًا لا يخلو من انتظام عجيب.

وذكر ابن كثير فائدة أخرى بعد ذكر خلافة المقتفي سنة 530هـ قال: "ولي المقتفي والمسترشد الخلافة وكانا أخوين، وكذلك السفاح والمنصور، وكذلك الهادي والرشيد، ابنا المهدي، وكذلك الواثق والمتوكل ابنا المعتصم أخوان، وأما ثلاثة إخوة فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد، والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل، والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد، والراضي والمقتفي والمطيع بنو المقتدر، وأما أربعة إخوة فلم يكن إلا في بني أمية، وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك بن مروان"أهـ.

ومن الفوائد أيضًا ما أورده ابن كثير في "البداية والنهاية" عن السُهيلي قال: "وكانت العرب تُسمي من ملك الشام مع الجزيرة كافرًا قيصر، ومن ملك الفرس يُسمى كِسرى، ومن ملك اليمن يُسمى تُبعًا، ومن ملك الحبشة يُسمى النجاشي، ومن ملك الهند يُسمى بطليموس، ومن ملك مصر كافرًا يُسمى فرعون، ومن ملك إسكندرية يُسمى المقوقس، وذكر غير ذلك"أهـ.

وذكر ابن الأثير في "الكامل" في حوادث سنة 495هـ حوادثًا تدل على أن الدنيا تدور لا على الفقراء فقط، بل وعلى الوزراء أيضًا؛ ففي ثلاث سنوات متلاحقة انتقلت أموال من وزير إلى يد الذي يليه إلى الثالث ثم إلى السلطان، فبيعت دور وممتلكات الوزراء من بني جهير سنة 493هـ، ووصل الثمن إلى الوزير مؤيد الملك، والذي قُتل سنة 494هـ، وبيعت تركته وأخذها الوزير الأعز، والذي قُتل سنة 495هـ، وبيعت تركته واقتسمت، وأخذ السلطان أكثرها. ويعلق ابن الأثير "وهذه عاقبة خدمة الملوك".

وختامًا، يوضح ابن الأثير سبب كتابته لتاريخ الملوك قائلًا: "وإنما ذكرنا هذا؛ ليعلم الظلمة أن أخبارهم تُنقل وتبقى بعدهم على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله عز وجل"أهـ.

 

 

الاثنين، 27 سبتمبر 2021

256-جدود وأحفاد ريّا وسكينة!

 

جدود وأحفاد ريّا وسكينة!

د/ منى زيتون

الأحد 26 سبتمبر 2021

وعلى المثقف، الاثنين 27 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/memoir02/958510

 

من أشهر الشخصيات الإجرامية في العالم العربي السفاحتان ريّا وسكينة، وهما شقيقتان قدمتا من صعيد مصر إلى مدينة الإسكندرية، وعملتا بالعديد من الأعمال غير الشريفة، كان آخرها –والتي كانت القاضية- أن كونتا وترأستا عصابة إجرامية تخصصت في خطف وقتل وسرقة النساء، وكان ذلك منذ قرن كامل من الزمان، وفي أواخر ديسمبر 2021 ستحل الذكرى المئوية لحادثة إعدامهما الشهيرة والتي كانت أول حادثة إعدام للنساء تشهدها مصلحة السجون المصرية.

وقد حاولت العديد من الأعمال الفنية تبييض صورتيهما؛ ربما لأن الكُتاب وكثير من الناس لم يستوعبوا أن تُقدم امرأتان على هذه الأفعال الإجرامية طواعية، فمنهم من صورهما ضحيتين لظروف اجتماعية قادتهما للإجرام، ومنهم من تصور أن هناك تهويلًا قد حدث وأن حسب الله زوج ريّا وعبد العال (رفيق) سكينة ومن معهما من الرجال هم من كانوا يقودون العصابة، وأن ريّا وسكينة كانتا فقط شريكتين باعتبار أن العصابة قررت أن تكون الضحايا جميعهن من النساء لسهولة اجتذاب وقتل النساء مقارنة بالرجال. لكن المؤكد وفقًا لما وثقته سجلات تحقيقات الشرطة والنيابة العامة أن هاتين المرأتين لم تجتذبا الضحايا وحسب، بل وهما من كانتا تقمن بكتم أنفاس الضحية بمنديل مبلل بالماء بعد أن تُسقى الضحية خمرًا أو مشروبًا مخدرًا، وكان الرجال يشاركونهما في شل حركة الضحية ثم القيام بالمهام المتبقية وهي مهمة حفر التربة ودفن الضحية، ثم تقوم السفاحتان بتصريف المشغولات الذهبية التي تكونا قد سرقنها من الضحية، ولذا كانتا أول امرأتين استحقتا أن يُنفذ فيهما حكم الإعدام في تاريخ مصر.

وأحد المتفذلكين كان قد نشر منشورًا ذاع صيته لفترة على موقع الفيسبوك، تعاطف فيه معهما حد ادعاء إنهما كانتا مناضلتين تقتلان النساء المتعاونات مع الإنجليز أو اللاتي يقمن علاقات غير شرعية مع الجنود! وذلك دون أن يكلف خاطره قراءة مقالات فكري باشا أباظة عن تلك الجرائم التي عاصرها، أو التحقيق الموسع الذي قام به قسم الحوادث في جريدة الأهرام وقتها، أو يقرأ قصيدة بيرم التونسي التي تصف ما حدث، أو أن يطلع على قائمة أسماء الضحايا التي يمكن إيجادها بسهولة على شبكة الانترنت، وليس فيهن من كانت لها علاقة بجندي إنجليزي إلا واحدة.

ولعل من أغرب ما ذكرته تحقيقات الشرطة والنيابة -ما دفع كثيرين إلى التشكيك فيها- هو ما عُرف عن سكينة من إنها كانت تعيش مع رجل ليس زوجًا لها، وهو عبد العال أحد أفراد العصابة الرئيسيين، كما كانت تعمل في شبابها في الدعارة، وهو غريب كونها امرأة صعيدية، والوضع بالكامل يبدو حقًا غريبًا مريبًا لمن لا يعرف إلى أي جماعة تنتمي هاتين المرأتين.

 

نشأة الباطنية

لمن لا يعرف فإن ريّا وسكينة وحسب الله وعبد العال ومن معهم من باقي أفراد العصابة جميعهم من الخوارج الباطنية، والذين بدأت قصتهم ودعوتهم المبتدعة في مطلع القرن الخامس الهجري بمقدم ثلاثة ممن يحملون أفكارًا ثنوية من بلاد فارس إلى مصر، وكان ذلك في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وهو أحد مجانين التاريخ –كما نعلم- ولكنه ازداد جنونًا عندما أدخل هؤلاء الثلاثة في رأسه إنه إله، فادعى الألوهية، ولم يعجب هذا المصريون، سنتهم وشيعتهم ومسيحيوهم.

ينقل محمد جمال الدين سرور في كتابه "تاريخ الدولة الفاطمية" (ص89-90) ‏عن أبي المحاسن في "النجوم الزاهرة" ما فعله دعاة الحاكم الذين قدموا إلى مصر من بلاد ‏فارس، حمزة بن علي الزورني، والفرغاني المعروف بالأخرم، والبخاري الدُرزي، في أواخر ‏عهد الحاكم، من المغالاة فيه، والدعوة إلى تأليهه، والتي استمرت سرًا من سنة 405هـ، وحتى ‏‏408هـ، حيث كان حمزة بن علي أول من جهر بها سنة 408هـ، واجتمع إليه طائفة من ‏متطرفي الشيعة، ولم تلق تلك الدعوة ترحيب السُنيين والمعتدلين من الشيعة، وأنهم استطاعوا ‏قتل الأخرم، وكادوا يقتلون الدُرزي، ولكن الحاكم دبّر له الفرار، وأمره بالمسير إلى الشام، ‏ونشر دعوته في الجبال، وأتباعه بها هم الدُرزية. وتبع ذلك اختفاء مريب للحاكم، يعتبر ‏سرًا من أسرار التاريخ، لكن بعد أن انتشرت تلك الحركة من مصر إلى بلاد ‏فارس وبلاد الشام.‏

وعلى هذا فالباطنية أو الحشاشون ‏ASSASINs‏ أو الإسماعيلية النزارية –أحيانًا يُقال الإسماعيلية فقط من باب ‏التخفيف- هي طائفة من الخوارج انفصلت عن الشيعة الإسماعيلية الفاطميين في القرن الخامس الهجري، ويُقال إن الهوة بينهم وبين الفاطميين قد وسعت بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. ‏وتمركزهم الأكبر وأشد البلاء منهم وبهم كان في بلاد فارس. وبالرغم من عدائهم مع الخلافة العباسية والدول والسلطنات الكبرى التابعة لها في ‏الشرق كالسلاجقة والخوارزميين، وكذا الزنكيين والأيوبيين في بلاد الشام، وعدائهم العقائدي والسياسي مع ‏الفاطميين، إلا أن أحدًا من هؤلاء الملوك والسلاطين لم يستطع استئصالهم بسهولة لأنهم غالبًا ما اتخذوا من الجبال ‏حصونًا لهم. ‏

ويذكر ابن الجوزي عن متقدم أول قلعة تملكها الباطنية في بلاد فارس الحسن بن الصباح أنه كان قد سار إلى مصر، وتلقى من دعاتهم المذهب، وعاد داعية للقوم، ورأسًا فيهم. وكانت أشهر قلاعهم في بلاد فارس قلعة حسن الصباح وقلعة ابن عطاش، وقد نقض هولاكو قلاعهم في بلاد فارس حجرًا حجرًا سنة 655ه، قبل نكبة بغداد بشهور.

وأما في بلاد الشام فكانوا ولا زالوا يُعرفون بشيوخ الجبل، وكان صلاح الدين الأيوبي قد سيّر عسكره سنة 572هـ إلى بلاد الإسماعيلية بجانب حلب، ردًا على محاولتهم قتله مرتين عاميّ 570هـ و 571هـ، فنهب بلدهم، وخرَّبه وأحرقه، وحصر قلعة مصيات، وهي أعظم وأحصن قلاعهم، فنصب عليها المنجنيقات، وضيَّق على من بها. ثم اصطلح مع هؤلاء الباطنية بواسطة الحارمي صاحب حماة، وهو خال صلاح الدين. كما قاتلهم الظاهر بيبرس ورحّل وفرّق أغلب المقيمين منهم بجانب مدينة حلب تحديدًا، وذلك في الفترة التي حارب فيها التتار بعد معركة عين جالوت في النصف الثاني من القرن السابع الهجري.

 

أشهر ما عُرف عن أحوال الباطنية

عُرف عن رجال جماعات الباطنية الحشاشين في بلاد فارس وبلاد الشام استئجارهم في أعمال الاغتيالات السياسية بالخناجر، فيترصدون ويكمنون للضحية ثم يغرزون خنجرهم في ‏جنبه، فيهربون أو يُقتلون‏، ومن أساطير التاريخ غير المؤكدة أن قادتهم كانوا يُعطونهم مخدر الحشيش بكميات ‏كبيرة حتى يدمنوه، ويكون من السهل التأثير عليهم والانقياد لهم لتنفيذ ما يؤمرون به من ‏عمليات. ويمكن لمن أراد الإطلاع على ملخص واسع لأكبر عمليات الاغتيال التي نُسبت لرجال الباطنية في بلاد فارس وبلاد الشام العودة لمقالي "الخوارج".

ولكن البلاء بهم لم يقتصر على اغتيال الكبراء. يصف ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص168) حال عامة الناس بسبب الباطنية، ‏يقول: "كان في أيام السلطان محمد، المقدم عليهم –أي على الباطنية-، والقيِّم بأمرهم، الحسن بن ‏الصباح الرازي، صاحب قلعة الموت، وكانت أيامه قد طالت، وله منذ ملك قلعة الموت ما ‏يُقارب ستًا وعشرين سنة، وكان المجاورون له في أقبح صورة من كثرة غزواته عليهم، وقتله ‏وأسره رجالهم، وسبي نسائهم"أهـ.‏

ويحكي ابن الجوزي في "المنتظم" (ج17، ص63) أول ما عُرف من أحوال الباطنية في بلاد فارس في أيام السلطان ملك شاه، ثم استفحال أمرهم بأصبهان بعد قتلهم الوزير نظام الملك وملك شاه في أواخر القرن الخامس الهجري، قال: "فآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان فيقتلونه ويلقونه في البئر، فكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله يئسوا منه، وفتش الناس المواضع، فوجدوا امرأة في دار الأزج فوق حصير، فأزالوها فوجدوا تحت الحصير أربعين قتيلًا، فقتلوا المرأة، وأخربوا الدار والمحلة، وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه الدار، فإذا مرّ به إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق، فإذا حصل هناك جذبه من في الدار واستولوا عليه"أهـ.

ولا خلاف بين كل من وثقوا لحوادث عصابة ريّا وسكينة في مصر على أنها عصابة تخصصت في الخطف والقتل –خطف وقتل النساء تحديدًا- وأنهم كانوا يدفنون ضحاياهم بالحفر في أرضيات المنازل التي كانوا يسكنون فيها، وهي إحدى طرق تخلص الباطنية من ضحاياهم منذ القدم، ولم تُعرف عن غيرهم. وما حكاه ابن الجوزي من حيلة لاجتذاب الضحايا ظل ‏معروفًا عن الباطنية إلى أوائل القرن العشرين، وفي سجلات الشرطة المصرية تحديدًا كثير من الجرائم التي ‏تمت بالأسلوب نفسه، وقد حكت لي عنها جدتي –والتي قضت طفولتها في القاهرة- وأعني هنا حيلة الأعمى والزقاق.

 

الباطنية في مصر

كانت للهجمات العديدة التي تلقاها الباطنية في بلاد الشام أثرها في هجرة جماعة كبيرة منهم إلى مصر، واتجه أغلبهم إلى صعيد مصر حيث توجد الجبال التي اعتادوا الحياة عليها بعيدًا عن باقي الخلائق، ويسميهم أهل الصعيد بـ "الحلبة" نسبة إلى حلب التي قدموا منها، وفي مصر لم يستطيعوا تكوين قلاع وغزو جيرانهم كما كان حالهم في بلاد فارس، فتحول أغلبهم إلى امتهان غيرها من الأعمال القذرة كالدعارة ورقص الغوازي في الموالد والسرقة وخطف النساء وقتلهن بغرض السرقة وخطف الأطفال بغرض التسول بهم، ثم إن جماعة كبيرة من الحلبة توجهوا إلى الإسكندرية تحديدًا في أوائل القرن العشرين، ولأن ما يمتهنون من أعمال عموده النساء، فقد اعتادوا أن تتزعم عصاباتهم النساء. وبعض رجالهم كانوا ولا زالوا كما كان جدودهم يُستأجرون للقتل ويعيشون في جبال الصعيد ويُعرفون بـ "المطاريد".

وفيلم "تمر حنة" يروي في إطار كوميدي قصة حقيقية حدثت في منتصف القرن العشرين في أحد الموالد في محافظة الشرقية في مصر، حيث نرى فيه الراقصة الغزِّية التي تتزعمهم ويريدون استعادتها بالقوة لأنها مصدر دخلهم الرئيسي، ونرى الشاب الباطني الغجري الذي يحبها وهو يترصد محاولًا اغتيال غريمه بالخنجر. وإن كان الفيلم قد أظهر هذه الغزية في صورة امرأة شريفة، وهو ما لا يمت للواقع بأدنى صلة.

وفيلم "العفاريت" من الأفلام التي استحضرت شخصية المعلمة المتخصصة في خطف الأطفال بغرض استخدامهم في التسول.

كما امتهن رجالهم في مصر تجارة الحشيش منذ بدء نشأة جماعتهم في القرون القديمة، والتي تطورت إلى الأنواع المحدثة من المخدرات في النصف الثاني من القرن العشرين. ولا زال بعضهم يعيشون في القاهرة في حي يُعرف بحي الباطنية، والذي كانت نشأته كحي يتمركزون فيه ويبيعون فيه المخدرات. وعُرف عنهم امتلاكهم الكثير من المقاهي الشعبية التي كانت لا تخلو واحدة منها من الحشيش والحشاشين، وبعض نسائهم عُرف عنهن أيضًا الإتجار في المخدرات، وأشهرهن امرأة كانت تُعرف باسم "أم الكِني" لأنها كانت صاحبة مقهى ملحق به وكر (كُن) لتدخين الحشيش لمن يسرف في تعاطيه ولا يستطيع العودة إلى منزله.

ويُقال إن الخديو إسماعيل لما بنى مدينة الإسماعيلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي عزف المصريون أول الأمر عن سكناها كحالهم مع أي تجمع سكني جديد، ثم كان من أول من انتقل إليها جماعة صغيرة من الباطنية، بعضهم سكن في قلب المدينة، وبعضهم على أطرافها، وبعضهم في قراها. وبالمناسبة فإن اسم مدينة الإسماعيلية المصرية لا علاقة له مطلقًا بالشيعة الإسماعيلية أو الخوارج الباطنية الإسماعيلية النزارية المنشقين عنهم، فقد تسمت المدينة على اسم منشئها الخديو إسماعيل حفيد محمد علي باشا وحسب. وبقايا الباطنية بها حالهم اليوم كحال سائر أفراد الباطنية في باقي المدن المصرية، فمنهم من لا زالوا يسكنون مناطق جدودهم لم يبرحوها ومنهم من فارقوها، ومنهم من لا زاولوا يزاولون أعمال جدودهم الإجرامية القذرة، ومنهم من تاب واحترف أعمالًا شريفة.

فأما من سكنوا منهم مدينة الإسماعيلية فقد احترفوا السرقة، ولا زالت منهم شرذمة على درب جدودهم في السرقة، ويسكنون في منطقتهم القديمة ذاتها، وعندما حل الاستعمار الإنجليزي على مصر وكان معسكرهم على أطراف مدينة الإسماعيلية انتقلت جماعة من الباطنية للسُكنى بجوار معسكر الإنجليز، فرجالهم تعاونوا مع الإنجليز فكانوا يمونونهم بالسلع الغذائية ويدلون على أفراد المقاومة الشعبية، وبناتهم كن يرقصن للجنود، وبعضهن احترفن ضرب الودع، وبقيتهم لا زالت تقطن بجوار المنطقة التي كان فيها معسكر الإنجليز القديم في المنطقة المعروفة باسم "نُفيشة No Feash"، والتي كان الإنجليز لا يسمحون لأصحاب التصاريح من المصريين بالدخول إليها ويقصرونها عليهم، وأغلب الباطنية الباقين فيها اليوم يحترفون التسول، وهم مميزون عن باقي السكان في المنطقة الذين لا ينتمون إليهم.

وأما من تاب الله عليهم، وقطعوا صلاتهم بالماضي التعيس، فبعضهم تفرقوا في البلاد وبين العباد أو اندمجوا مع باقي فئات الشعب عندما تغيرت التركيبة السكانية للمناطق التي يعيشون فيها أو بجوارها، لكن بعض خصالهم السيئة لا زالت لم تنمحي، وتظهر في تعاملهم لمن يعرف عادات وسلوكيات الباطنية، ومنهم جماعة كانت تسكن في منطقة على طرف مدينة الإسماعيلية الآخر ليست ببعيد عن منطقة فلل هيئة قناة السويس، وقد أصبحت هذه المنطقة اليوم في وسط المدينة وتلاصقهم منطقة سكنية من أرقى الأحياء بالإسماعيلية، ولا يفتأ بقايا الباطنية يزعجون سكانها بإلقاء القمامة أمام منازلهم ويضايقونهم بأشكال متنوعة، وإن كان أغلب هؤلاء القوم في تلك المنطقة اليوم يمتهنون مهنًا شريفة بسيطة ومنها فرز وجمع النفايات القابلة للتدوير. وإحدى قرى محافظة الإسماعيلية التي كان الباطنية قد انتقلوا إليها تاب الله عليهم منذ زمن بعيد ووجدوا لأنفسهم مصدرًا حلالًا للرزق فامتلكوا أراضٍ زراعية وصاروا مزارعين، ويتعلمون ويسمحون لبناتهم أن يتعلمن ويعملن أعمالًا حلالًا، لكن لا زالت فيهم عادة الاعتماد على عمل ومال النساء! ورجال هذه الجماعة في الإسماعيلية وغيرها من المدن لا يمتهنون من الأعمال الشريفة –على الأغلب- سوى تلك التي لا يلزمها كد ولا تعب، فيعملون في الغفر وحراسة المساكن، أو يعملون في بعض الحرف يومًا ويرتاحون يومين!

ونظرًا لتضييق السلفية في مصر على إقامة موالد الأولياء وآل البيت، فلم تعد هناك راقصات من الغوازي ينشلن الكُحل من العين، وصار هذا من حكايا الماضي، لذا فقد اقتصر أغلب نشاط الباطنية الإجرامي في العقود الأخيرة على التسول والسرقة والخطف، إضافة إلى الإتجار بالمخدرات. وكنت ولا زلت أعتقد أن بقايا هذه الجماعة الحقيرة هي المسئولة عن أغلب حوادث خطف النساء والأطفال، والتي تنتشر في مصر بأكثر من مثيلاتها في غيرها من البلدان، وأحيانًا ما تنشأ فتنًا طائفية عند اختفاء النساء في الصعيد وغير الصعيد، ويظن أهلهن أنهن هربن مع رجل ليس من دينهن، أو تم خطفهن، بينما غالبًا يكون الحلبة الباطنية هم من قاموا بخطفهن لسرقتهن مثلما كانت تفعل عصابة ريّا وسكينة. ولا أعلم أين أفراد الشرطة من كل هذا!

الخميس، 16 سبتمبر 2021

255-يَا أُخْتَ هَارُونَ

يَا أُخْتَ هَارُونَ

د. منى زيتون

الـخميس 16 سبتمبر 2021

وعلى المثقف ضمن مقال مطول، الجمعة 17 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/b6/958267

 

في مقال قريب نُشر منذ شهور بعنوان "القصص القرآني بين العرض المنطقي والعرض السيكولوجي" وعدت بأن تكون لنا عودة مع خواطر عن قصص قرآنية أخرى في مقال آخر.

وحديثنا اليوم مجرد تأملات وخواطر راودت ذهني أثناء قراءتي لكتاب الله ربطتها مع ما أعرف من حقول معرفية أخرى، ولا تتعلق بطريقة سرد القصص مثلما كان الحال في المقال السابق.

يَا أُخْتَ هَارُونَ

في سورة مريم، وفي سياق ما روى لنا الحق تبارك وتعالى عن موقف بني إسرائيل من السيدة مريم ابنة عمران بعد أن ولدت السيد المسيح ‏و﴿َأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ﴾‏ [مريم: 27]، نجدهم يخاطبونها بقولهم: ‏﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مريم: ‏28].

ونجد مفسرينا قد اختلفوا بينهم فيمن يكون هارون المقصود في الآية، فتارة هو رجل صالح من بني إسرائيل شبهوها به في صلاحه، وتارة أنه رجل من عشيرتها اسمه هارون -ليس بهارون أخي موسى- كان مشتهرًا بالصلاح. فالأمر عندهم ليس أكثر من أن اسمًا واطأ اسمًا.

وأعتقد أن هذا النفي لأن المعني في الآية هارون النبي أخو موسى الكليم غريب لسببين؛ أولهما: أن المسلمين لا يعرفون هارونًا غيره يستحق أن يُذكر اسمه في كتاب الله، حتى يكون تذكير مريم بصلاحه ذي معنى، بينما المفترض أنها هي من يشهد لها القرآن بالصلاح وأنها المصطفاة على نساء العالمين، وثانيهما: أن هذا النفي يخالف ما يدل عليه لسان العرب؛ فأخو القوم هو الواحد منهم، سواء من أنفسهم أو من مواليهم!

يقول تعالى: ‏﴿‏وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف: 65]، [هود: 50]. ‏و ﴿‏وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف: 73]، [هود: 61]. ‏و ﴿‏وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ [الأعراف: 85]، [هود: 84]. وكان العرب يقولون عند تحية بعضهم بعضًا "عمت صباحًا يا أخا العرب"، فالأخ هو الواحد من الجماعة التي ينتمي إليها، وجميع البشر هم إخوة من آدم.

وبذا فإن المعنى البديهي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ لـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أن مريم من نسل هارون النبي عليه السلام، فيكون المقصود إجمالًا بالآية: "يا سليلة النبي هارون ما هذا الذي اقترفتيه؟" عندما ظنوا بها السوء لما جاءتهم حاملة المسيح عليه السلام وليدًا.

ولمن لا يعلم فإن بني إسرائيل هم أبناء يعقوب النبي عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدًا، نال منهم النبوة ابنه يوسف عليه السلام، ثم إن جميع أنبياء بني إسرائيل من بعد يوسف جاءوا من نسل باقي إخوته الأسباط الباقين، ولم يُبعث نبي قط من نسل وسبط يوسف، ولما بعث رب العزة موسى الكليم إلى بني إسرائيل –وموسى من سبط لاوي- انقطعت النبوة في نسل موسى رغم أنه أصل الديانة اليهودية، وجميع أنبياء بني إسرائيل من سبط لاوي من بعد موسى جاءوا من نسل أخيه هارون. أما داود عليه السلام وابنه سليمان فمن سبط يهوذا. ولكن، ما علاقة هذا بالخطاب القرآني للسيدة مريم بـ ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾؟

أرى أن لنفي المعنى البدهي بأن السيدة مريم من نسل هارون النبي سببًا رئيسيًا، وهو ما أورده الإمام الطبري في تفسيره قال: "حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين، قال: نُبئت أن كعبًا –يعني كعب الأحبار- قال: إن قوله ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر، وإلا فإني أجد بينهما ست مائة سنة، قال: فسكتت.".

فكان تفسير كعب الأحبار مصدره الإسرائيليات كما نعلم، وظاهره أنه ينفي أن تكون مريم من نسل هارون فتُنسب إليه لتباعد المدة بين موسى وهارون من جهة وبين مريم والمسيح من الجهة الأخرى، ولكن ما يخفى على كثير من المسلمين أن التوراة –التي بين أيدي الأحبار- تتنبأ أنهم بانتظار الأمير من نسل داود، وليس من نسل هارون.

وقد كان سبط يهوذا دومًا يرون أنهم الأحق بالمُلك والنبوة، من قبل أن يُبعث فيهم داود؛ من ذلك ما رواه الله تعالى عنهم ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ﴾ [البقرة: 247]؛ لأن طالوت كان من سبط بنيامين، ولا مُلك فيهم ولا نبوة. وقد وافقت الأناجيل النبوءة التوراتية فذكرت أن السيدة مريم والسيد المسيح من نسل داود، وذلك لعدم مخالفة ما جاء في التوراة وادعاء أن النبوءة قد تحققت في المسيح عليه السلام.

فكأن الله تعالى أراد في هذا الخطاب القرآني ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ﴾ أن يصحح لنا نسب السيدة مريم، وأنها ليست من نسل داود كما يذكر أهل الكتاب، وإنما هي من نسل هارون، لكن كعب الأحبار أراد أن يوفق بين ما يعرفه من كتب بني إسرائيل وما أُنزل في القرآن، فنفى أن يكون المقصود هارون النبي وهو ما تناقله عنه المسلمون. وزاد على هذا ما رُوي عن المغيرة بن شعبة بأن رسول الله أخبره أنهم كانوا يسمون بأسماء الصالحين منهم، ولكن هذه الرواية لم تكن أساس النفي، ولولا قول كعب الأحبار لكان التشكيك فيها أولى.

وهذا الرأي قد تكون عندي منذ سنوات بعد مراجعتي لما ذكر أهل الكتاب عن نسب السيد المسيح، وسبق لي نشره، وقد وسرني أثناء مراجعة المقالة أنني وجدت له أصلًا يتقوى به –وإن كان ضعيفًا-، ذلك أنني بإعادة مراجعة ما ذكر الإمام الطبري في تفسيره للآية وقعت على كلمة في الختام ذكر فيها الإمام "وقال بعضهم: عنى به هارون أخو موسى، ونُسبت مريم إلى أنها أخته لأنها من ولده، يُقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر.".

 

الاثنين، 6 سبتمبر 2021

254-الخصوصية والحقوق المنتهكة في عالمنا

 

الخصوصية والحقوق المنتهكة في عالمنا

د/ منى زيتون

الاثنين 6 سبتمبر 2021

وعلى المثقف، الثلاثاء 7 سبتمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/958040

 

في مقال سابق عن السرقة لدى الأطفال تحدثت عن مفاهيم الملكية الخاصة والملكية العامة والتشاركية لدى الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة، والتي قد يؤدي عدم تكونها بشكل صحيح لديه إلى سلوك يشبه ظاهريًا سلوك السرقة لدى البالغين؛ ذلك أن أفكارنا ومعتقداتنا هي المحرك الرئيسي لسلوكياتنا.

واليوم رأيت أن أتوسع في الحديث عن أثر عدم تكون المفاهيم المتعلقة بالملكية والحقوق بشكل سليم لدى الفرد؛ ذلك أن هذا الوضع يكون أبعد أثرًا مما يمكن أن يتصوره الآباء.

 

الترتيب الصحيح لتكوين مفاهيم الملكية

يولد الإنسان متمركزًا حول ذاته وحاجاته، ثم تحوله التربية إلى كائن اجتماعي، وتُكون المفاهيم التي تتجسد من خلالها علاقة هذا الفرد بأفراد مجتمعه.

والواجب أن يبدأ الوالدان والمعلمون بإكساب الطفل مفهوم الملكية الخاصة، ثم بعد أن يعي الطفل جيدًا مفهوم ما له ‏وما للغير يحدث التدرج إلى مفهوم المشاركة، فيفهم الطفل أنه يمكن أن يشارك الآخرين اللعب بألعابهم بإذنهم، ويمكنهم هم أيضًا أن يلعبوا بألعابه إن أذن لهم، كما يتم التوضيح له أن هناك أشياء تكون ملكًا للجميع كالبحر والنهر والشارع أو ‏ملكًا لمجموعة من البشر كالمنزل الذي تمتلكه العائلة، وتوجد به ثلاجة واحدة ولكنها للجميع، ومن حقهم جميعًا استخدامها دون استئذان الباقين.‏

ولكن للأسف يشيع في مجتمعاتنا العربية خطأ في ترتيب بناء هذه المفاهيم منذ الصغر؛ فيسعى الآباء إلى تكوين مفهوم الملكية العامة أولًا تحبيبًا للأطفال في التعاون والتشارك، أو يتسرعون في الانتقال إلى بناء مفهوم الملكية العامة قبل ترسخ مفهوم الملكية الخاصة لدى الطفل، وهو ما يترتب عليه إمكانية تعدي بعضهم على ملكيات غيرهم بوعي أو دون وعي، ويكون هذا في الصغر أو حتى إن بلغوا مبلغ الراشدين.

كما أن هناك إشكالية لدى كثيرين في اكتساب مفهوم تغير الملكية وتدوير الموارد، ومنشأه  ومبدأه يكون أيضًا منذ مرحلة الطفولة المبكرة.

ويتصل مفهوم الملكية بشكل مباشر بمفهوم الحق والواجب؛ فالحقوق والواجبات إن لم تترتب على مفهوم الملكية ماديًا ترتبت عليه معنويًا.

ويمكن استخدام الألعاب لتعليم الأطفال مفاهيم الملكية، كما أن لعبة الورق المعروفة في مصر بـ "الشايب" يمكن أن تسهم في تعليمهم مفهوم تغير الملكية، وأن ما هو ملكي الآن يمكن ألا يكون لي بعد لحظات، وهو ما يلزمني تقبله.

 

الآثار النفسية والاجتماعية السيئة لعدم تكون مفاهيم الملكية والحقوق بشكل صحيح

أزعم أن مسببًا رئيسيًا لأغلب المشاكل التي يعانيها البشر هو أن هناك فئة كبيرة منهم لم تتعلم كيف تضع حدودًا واضحة بينها وبين الآخرين، وأن تعي ما لها وما للآخرين؛ ومن ثم فإن سلوكياتهم تأتي معيبة تنتهك حقوق الآخرين، وهذا الانتهاك قد يقع بالقول أو الفعل أو حتى بالتمني.

وجميع أمراض القلوب من حسد وحقد وعين هي ثمار فاسدة لتكون مفاهيم الملكية بشكل غير سليم، فصاحبها لم يعتد منذ صغره على أن هذه لي وهذه لفلان وهذه لعلان، فيستشعر نعم الله عليه ولا يصوب سهام عينيه إلى ما لغيره. لم تتم تربيتهم على أن ما ليس لي من نعمة وقد أنعم الله بها على غيري يلزمني غض النظر عنها، وأن أفرح لصاحبها، لا أن أنظر له فيها متمنيًا أن تكون لي لا له.

وكثير من المشاكل الزوجية يكون سببها نقص وعي كلا الزوجين أو أحدهما بحقوقه وواجباته أو تطلع أحدهما –خاصة الزوجة- لما في يد غيرها من نساء وكثرة مطالبتها للزوج بما يفوق قدراته المادية.

كما أن الاتكالية والاعتمادية على الآخرين هما التطبيق السلوكي لمفهوم الحقوق والواجبات المشوه في أذهان الاعتماديين.

كذلك فإن بعض الجرائم كالاغتصاب والتحرش والسرقة هي نتاج مفاهيم الملكية والحقوق المشوهة، وحتى بعض الجرائم المستحدثة كالتجسس الالكتروني وسرقة حسابات الأفراد على المواقع الالكترونية هي ثمرة لعدم احترام الخصوصية والملكية.

حتى بلغنا مبلغًا أن نظام الدولة ذاته يتعدى على الملكيات الخاصة للمواطنين في شكل قوانين وإجراءات إدارية من نوعية إجبار المالك على استمرارية عقد الإيجار القديم وتوريثه، وتقسيم موظفي الشهر العقاري حصص وحدات البناء في الأرض للمشتريين بخلاف ما باع لهم المالك! والتأميم ومصادرة الدولة لأموال فئات من الشعب للاختلاف الفكري ودون جناية حقيقية، أو حتى لغيرها من الأسباب بغرض جمع المال منهم، وغيرها من القرارات الحكومية التي يكثر صدورها عن المسئولين في الأنظمة الظالمة عبر التاريخ، والتي كثرت في السنوات الأخيرة في مصر في عهد السيسي.

وجميع هذه القرارات النظامية التي تُنفذ فتتحول إلى سلوكيات تعبر –غالبًا- عن رغبة ذلك المسئول في الاستحواذ على أي شيء يرغبه وبأي وسيلة، توجد عادة لدى من لم يتكون لديه مفهوم الملكية بشكل صحيح منذ الطفولة المبكرة. وأنا هنا لا أعني السيسي شخصيًا بحديثي، فتحليلي لشخصيته أن دافعه لما يفعل من مصادرات وهدم وغيره هو سوء إدارة وعدم ترتيب الأولويات، فهو إنسان فاشل إداريًا كثير الاستخدام للتبرير كحيلة دفاعية.

والأهم -من وجهة نظري- أن أمثال هذه السلوكيات التي تقوم بها الدولة تعديًا على الملكيات الخاصة تجد تعاطفًا من فئة غير قليلة من الشعب –من غير المتضررين منها- ما يدل على أن هؤلاء لم تتكون لديهم مفاهيم الملكية في الصغر بشكل صحيح.

وبإمكاني أيضًا أن أزعم إنه حتى المشاكل بين الدول سببها الرئيسي هو انتهاك الخصوصية وعدم احترام ملكيات الآخرين وافتقاد الإدراك السليم للحقوق والواجبات، والتي تتجسد في سلوكيات طامعة فيما لدى الغير من أراضٍ أو أنهار أو حقول بترول أو غاز وغيرها من الموارد والثروات الطبيعية، أو تدخل في قرارات الدول الأخرى ومحاولة فرض نظم عميلة في تلك الدول.

 

إحراج صاحب الحق عن المطالبة بحقه

من أحقر أنواع البشر؛ الأغنياء الذين يماطلون غيرهم من الأغنياء في سداد حقوقهم، بدعوى إنهم ليسوا بحاجتها، وربما ودوا أن تعاملهم كغارمين!

وأغلب من ينتمون إلى هذه النوعية نراهم مانعين للزكاة؛ بما يعني أنهم يحرمون الفقراء من نصيبهم في مال الله الذي آتاهم، كما يريدون أن يأخذوا حصة من مال زكاة وصدقات غيرهم!

وعن نفسي أشجع أي شخص له مال يستحق الأداء عند هذه النوعية من البشر أن يطلبها ولا يستحي، لأنهم يستغلون حياء الأتقياء.

ومن أكثر ما يسوء وجود خطأ تفكير من نوعية جديدة مبتكرة بتدخل قليلي العقل في النقاش بعبارات يوجهونها إلى صاحب الحق من أمثال "وهل أنت بحاجته؟" أو "لو تريد أعطك من جيبي!" وكأن صاحب الحق يشحذ! وهل الحق يُطلب لأنك بحاجته أم لأنه حقك؟! وهذا الخلل المفاهيمي الواضح يسمح للمحتالين أن يزيدوا أعداد ضحاياهم. وقد انتشر هذا الوباء في السنوات الأخيرة في قُرى محافظة الشرقية من مصر، وقد سمعت به مرة في جلسة توزيع ميراث لبعض أنسابنا انفضت بلا توزيع، ومرة أخرى في حوار حول قضية مرفوعة أمام المحكمة لاسترداد بعض الحقوق.

وتتعدد الحيل التي يستخدمها العرب لعدم أداء الحقوق وتلك التي تُستخدم لإحراج أصحابها عن المطالبة بها. أحد أصدقاء الفيسبوك في بلد عربي روى لي عن ضمانه لأحد أقربائه في تسلف مال كثير، ولم يكن المضمون أهلًا للثقة، فلم يعد المال إلى صاحبه، ما جعل الصديق الضامن يؤدي عنه المال، ثم رأى الضامن المحتال يحمل سجادًا إلى المسجد في رمضان، وكأن صاحب الحق إن طلب حقه سيمنع المنحة عن المسجد!

وكم سمعنا عن صاحب عمل في دولة خليجية لا يعطي العامل عنده أجره رغم علمه بشدة احتياجه إليه هو وأهله في مصر، ونسمع فوق ذلك عمن يسانده ولا يجعله يرعوي.

 

الفضول القاتل!

وهنا أجدني راغبة في الحديث عن شأن شخصي يتعلق بمسألة الخصوصية؛ فبعض من لا يعرفني قد يظن من خلال الحالات التي أعرضها في مقالاتي الاجتماعية أنني شخصية فضولية ولا شك، وإلا من أين أعرف كل هذه الحالات! بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا فأنا لا أسأل حتى أقرب المقربين عن أي شيء خاص بهم، فإن أرادوا هم أن يحكوا لأخذ المشورة أو حتى بغرض الفضفضة فأنا موجودة. وأحمد الله على هذه النعمة لأن هناك صنفًا من البشر من ذوي الأنوف الطويلة، وسأسمح لنفسي أن أروي حكاية عن واحدة منهم.

في السنة النهائية من دراستي الجامعية كان هناك معيد حديث التخرج يحاول التقرب من إحدى صديقاتي، حتى أنه تعرف إلى والدها عمدًا؛ حيث كان والدها يحضر بسيارته إلى الجامعة عصر كل يوم مع موعد إغلاق مكتبة الكلية لاصطحابها إلى المنزل، فتعرف إليه ذات مرة ثم كان كثيرًا ما يأتي ليسلم عليه.

 وذات يوم وجدت صديقتي هذه عابسة ووجهها يوحي بأنها في أشد درجات الضيق، وفاجأتني بأن طالبة لا تكاد تعرفها في قسم آخر سألتها إن كان هذا المعيد –الذي أصبح زوجها فيما بعد- طلبها للزواج من والدها! وربما كنت أنا قد فوجئت أكثر من صديقتي بهذا السؤال الوقح، فقلت لها: من هذه لتسألك إن كنت أنا نفسي لم أسألك؟! هنا وجدت ردًا صادمًا من صديقتي عندما قالت لي: لا، أنتِ كان المفروض أن تسألي. فرددت عليها قائلة: لو كان لديكِ ما تريدين أن تقصيه لقلتيه من تلقاء نفسك دون تطفل مني.

 

هل الوقت متأخر للتصحيح في الكبر؟

في عصر لم يعد يعبأ فيه كثير من الناس بأن تكون لهم خصوصية، فنجد بعضهم يشتركون فيما يسمى برامج تليفزيون الحياة، وكثيرون يفتتحون قنوات على موقع اليوتيوب يسجلون فيها يومياتهم التي تدور في بيوتهم وبين أهليهم متيحين للغرباء أن يطلعوا عليها، أصبح حديث أمثالي عن الخصوصية والحدود اللائقة بين البشر حديثًا غريبًا لدى أمثال هؤلاء، لكن نحمد الله أن هذا ليس وصف الحال بالنسبة للأغلب الأعم من البشر.

وكما أخبرنا رسولنا عليه الصلاة والسلام أنه "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فقد أبلغنا أن "الدين النصيحة"، ولكن الإشكالية هي التمييز بين النصيحة والحشرية.

وقد يكون السبب الرئيسي لنقص التمييز هذا أن هناك من ينحشر في شئون خاصة تتعلق بغيره ظانًا منه أنه يسدي نصيحة لأنه يظن رأيه حقيقة، ويريد حمل صاحبه عليه نصحًا له!

وإن كنا نقول إن التربية تبدأ من الصغر، وأن تكون مفاهيم الملكية والتمييز بين العام والخاص بشكل سليم لدى فرد يعني أنه تلقى تربية جيدة وأننا أمام إنسان صالح، فإنه من الضروري أيضًا أن نقرر أن الوقت ليس متأخرًا أبدًا لتصحيح المفاهيم لدى أي إنسان لم ينل حظه من تلك التربية الجيدة في الصغر، وكما قال نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام: "إنما العلم بالتعلم"، واكتساب المفاهيم علم، واكتساب السلوك عادة، والمجتهد من يستمر في تنمية ذاته طالما فيه قلب ينبض.