الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

239-التصويت البريدي.. هل سيكون مفتاح فوز ترامب أم خسارته؟

 

التصويت البريدي.. هل سيكون مفتاح فوز ترامب أم خسارته؟

د/ منى زيتون

الثلاثاء 27 أكتوبر 2020

وعلى المثقف الأربعاء 28 أكتوبر 2020

http://www.almothaqaf.com/a/araa2019/950711


في 13 أغسطس الماضي صرَّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للصحفيين بأنه رفض التوقيع على تمويل طارئ لخدمة البريد الأمريكية قيمته 25 مليار دولار، بحجة ارتفاع الأسعار!

جاء هذا الرفض متزامنًا مع استمرار انتشار فيرس كورونا المستجد، والذي على إثره يُتوقع أن ترتفع أعداد الناخبين الأمريكيين الذين سيرغبون اختيار التصويت عبر البريد في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى كالعادة في الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر، والذي سيوافق هذا العام الثالث من نوفمبر!

وكان ترامب منذ أشهر قد عيّن واحدًا من أقرب المقربين له ومن كبار المتبرعين لحملته الانتخابية -ويُدعى لويس ديجوي- مديرًا جديدًا لخدمة البريد في الولايات المتحدة. ومن فوره بدأ ديجوي ما يدعي أنه إصلاحات تهدف إلى تحقيق خدمة البريد أرباحًا، وقد شملت هذه الإصلاحات إزالة صناديق البريد من عدد كبير من الشوارع في عدد كبير من الولايات، منها نيويورك وأوريجون ومونتانا وإنديانا! وتقليل عدد ساعات عمل عمال البريد في 3 ولايات على الأقل، وِست فرجينيا وفلوريدا وميسوري. وكثرت شكاوى المواطنين الأمريكيين من تأخر وصول بريدهم الخاص، كما سحبت هيئة خدمة البريد من مراكز فرز الأصوات أجهزة فرز بادعاء أنها قديمة!

 

لماذا يُشنِّع ترامب على التصويت البريدي في الانتخابات الرئاسية؟

في تصريحات سابقة عديدة، أقر ترامب بأنه يعلم أن التصويت البريدي سيكون لصالح منافسه المرشح الديمقراطي جو بايدن؛ ويتفق هذا الرأي مع نتائج استطلاع رأي أجرته صحيفة USA Today الأكثر انتشارًا في الولايات المتحدة، وجامعة سوفولكSuffolk University بأن 56% من الناخبين الجمهوريين ممن شملهم الاستطلاع قالوا إنهم سيتوجهون بأنفسهم إلى مراكز الاقتراع، مقابل 26% من الناخبين الديمقراطيين الذين ينوون الاقتراع بشخوصهم.

والسبب في تفاوت نسبة الراغبين في التصويت عن طريق البريد بين أنصار الحزبين يرجع إلى أن أغلب الديمقراطيين يخشون التصويت بالحضور إلى مراكز الاقتراع خوفًا من عدوى فيرس كورونا المستجد، وذلك على العكس من الجمهوريين الذين يحرص ترامب منذ بداية انتشار الفيرس على تخفيض درجة شعورهم بالخطر من الإصابة بالفيرس، ودعاهم في مؤتمراته الانتخابية مرارًا إلى التوجه للتصويت له بأنفسهم في اللجان الانتخابية.

وقد ردد ترامب عدة مرات في مؤتمراته الانتخابية مع الجمهوريين مزاعمًا تتعلق برفضه للتصويت البريدي لأنه عرضة للغش والتزوير! والعجيب أن ترامب نفسه –ورغم مزاعمه تلك- يستخدم التصويت عن طريق البريد للإدلاء بصوته في ولاية فلوريدا المقيد اسمه فيها! وفي أحد المؤتمرات اقترح ترامب على أنصاره الجمهوريين أن يحاولوا اختبار إمكانية الاقتراع مرتين! وأثار هذا التصريح ردود فعل غاضبة، لأنه دعوى صريحة إلى التزوير والغش الذي يدعيهما على خصومه، ومحاولة منه هو للتلاعب بالنتيجة ستعرض من يطيعه ويجرب وينكشف أمره للمساءلة القانونية.

إضافة لذلك فمع بدء تقدم الناخبين بطلبات التصويت البريدي في الثالث من سبتمبر الماضي، حذرت وزارة العدل التابعة لإدارة ترامب الناخبين الأمريكيين من التصويت البريدي في الانتخابات الرئاسية، زاعمة أن دولًا وأطرافًا خارجية يمكنها التلاعب في نتيجة الانتخابات عن طريقه!

وتخوف ترامب وإدارته من التصويت البريدي يتعدى الديمقراطيين، فالتصويت عن طريق البريد غالبًا سيشجع الأمريكيين المهمشين من أصل أفريقي ولاتيني للتصويت، وهذه الفئات من الناخبين غالبًا تمتنع عن التصويت في الانتخابات الرئاسية، ولكنهم هذه المرة سيكونون أكثر حرصًا على المشاركة والتصويت ضد ترامب لرفضهم موقف وتعامل إدارة ترامب مع أزمة مقتل جورج فلويد الأمريكي الأفريقي على يد الشرطة الصيف الماضي، ولنقمة الأمريكان اللاتينيين على ترامب بعد أزمة بناء السور على طول الحدود بين أمريكا والمكسيك.

 

إصلاح أم إفساد لخدمة البريد!

لم يمر رفض ترامب التمويل الإضافي لخدمة البريد مرور الكرام، وانتقده الديمقراطيون متهمين إياه بمحاولة منع الديمقراطيين من التصويت لمنافسه الديمقراطي جو بايدن، كما أبدوا تخوفهم من الإجراءات الجديدة التي استهدفت خدمة البريد الأمريكية.

وفي أغسطس الماضي، أقر مجلس النواب الأمريكي الذي يسيطر عليه الديمقراطيون مشروع قانون لدعم خدمة البريد، بسبب تخوفهم من الإصلاحات –التي تضمنت خفض النفقات- التي بدأها رئيس هيئة البريد الأمريكي الجديد الجمهوري لويس ديجوي.

التخوف الرئيسي المطروح الآن هو أن احتمالية تأخر تسليم بطاقات اقتراع الناخبين عبر البريد تتزايد، مما سيجعل ملايين البطاقات لا تدخل في الفرز، ولا تدخل في عداد الأصوات الصحيحة المشاركة في الانتخابات؛ أي وكأنها لم تكن! ويبدو الأمر وكأن الألعوبان يريد أن يحول ذلك التصويت من سبب رئيسي في خسارته إلى أداة لفوزه!

 

التصويت المبكر بالحضور شخصيًا إلى مراكز الاقتراع

إن واقع الحال يقول إن نسبة كبيرة من الأمريكيين قد حسموا أمرهم بالتصويت ضد ترامب، وأغلبهم من الديمقراطيين والأمريكيين الملونين واللاتينيين. وبعض من هؤلاء قد قرروا اختيار بديل آمن من الإدلاء بأصواتهم في زحام موعد الانتخابات الرسمي في الثالث من نوفمبر القادم، فبدأوا بالإدلاء بأصواتهم في التصويت المبكر الذي بدأ في 13 أكتوبر الحالي، وقبل ثلاثة أسابيع من الموعد الرسمي للانتخابات الرئاسية، وذلك بالاقتراع شخصيًا في مراكز الاقتراع غير المزدحمة نسبيًا مقارنة بالمتوقع في يوم الانتخاب الرسمي. وقد بلغ تعدادهم في الأسبوع الأول من التصويت المبكر نحو 28 مليون مواطن، وهو ما ظهر من الطوابير الطويلة أمام اللجان، والتي ليس لها مثيل في أي تصويت مبكر في انتخابات رئاسية سابقة.

ويبدو أن هذه الأعداد الكبيرة من الأمريكيين الذين اختاروا التصويت المبكر في لجان الاقتراع رغم زحامها نسبيًا، تعكس تشكك هؤلاء المواطنين في وصول بطاقات اقتراعهم عبر البريد في وقت مناسب، ومع ذلك فقد تواصل طلب الناخبين الأمريكيين على بطاقات التصويت البريدي، والذي بدأ منذ الثالث من سبتمبر، وبلغت أعداد تلك الطلبات ملايين حتى اللحظة، حتى أن بعض الخبراء يعتقدون أن نصف الناخبين سيدلون بأصواتهم عبر البريد.

ويعترف الجمهوريون بأن نتيجة التصويت المبكر ستكون لصالح المرشح الديمقراطي، ولكنهم يعتزمون التوجه بأنفسهم إلى مراكز الاقتراع في يوم الانتخابات الرسمي لتغيير النتيجة لصالح ترامب.

 

عقبات أخرى أمام التصويت البريدي

ومع وضوح اختيار ملايين من الناخبين الأمريكيين للتصويت البريدي رغم التخوفات من عدم وصول بطاقاتهم لعتبة الفرز، وعدم احتساب الأصوات، فهناك معوقات أخرى تقف أمام التصويت البريدي، تتمثل في آليات التصويت في الولايات المختلفة.

أغلب الولايات تشترط أن يطلب المواطن بطاقة الاقتراع الغيابي الخاصة به ولا تشترط السبب، ولكن بعضها تشترط عذرًا، فقوانين ولاية تكساس –على سبيل المثال- لا تسمح بالتصويت البريدي إلا في حال وجود عذر طبي، فإن لم يوجد فليس أمام الناخبين إلا الذهاب إلى مراكز الاقتراع. ويجب على الناخبين أن يطلبوا بطاقات اقتراعهم قبل 60 يومًا من موعد الانتخابات الرسمي. بالرغم من ذلك فهناك 10 ولايات أرسلت بطاقات الاقتراع الغيابي لجميع الناخبين، وقد فشل ترامب في منعها من ذلك.

وتدور منذ فترة معارك قضائية بين الجمهوريين وبعض الولايات في محاولة لتحديد الإطار الزمني القانوني لفرز البطاقات بعد إعادة الناخبين إرسالها إلى مراكز فرز الأصوات. ويمكن القول إن الجمهوريين قد نجحوا بالفعل في استصدار أحكام قضائية لتقييد التصويت عبر البريد، ومنع احتساب أصوات البطاقات التي تصل متأخرة، ووفقًا لمجلة Politico فقد تم تعطيل خطة لفرز الأصوات التي تصل متأخرة في ولايات ويسكونسن ونيوهامبشير وجورجيا.

In Wisconsin, federal judges halted a plan to count ballots received up to six days after Election Day. In New Hampshire, a lawsuit calling on the state to tally ballots arriving up to five days late was rejected. And in Georgia, an appeals court dropped a three-day deadline extension for ballots.

https://www.politico.com/news/2020/10/15/trump-restricting-mail-in-ballots-429545

فليس التخوف فقط من تأخر وصول البريد الحامل لأصوات أعداد مهولة من الناخبين إلى ما بعد انتهاء فرز الأصوات اليدوية، وانتهاء الإطار الزمني لاستقبال البطاقات، فإضافة إلى ذلك فإن اكتمال فرز جميع أصوات الناخبين المصوتين عبر البريد قد يستغرق أيامًا، وهو ما قد يؤدي للتأخر في إعلان النتائج في عدد من الولايات.

بل إنه بات في حكم المؤكد أن يضغط الديمقراطيون بعد يوم الانتخاب الرسمي لانتظار البطاقات المتأخرة في مكاتب البريد، بينما سيضغط ترامب وحزبه لاستبعاد تلك البطاقات المتأخرة، خاصة مع عدم وضع هيئة خدمة البريد الأمريكي لأختام بريدية يتبين منها موعد إرسال البطاقة ليتأكد أنه تم قبل يوم الانتخابات الرسمي، مما يمكن أن يشكل أساسًا للطعن في النتيجة المعلنة. علمًا بأن تقارب النتائج بين المرشحَين في العديد من الولايات سيجعل أهمية كبرى لهذه البطاقات المتأخرة في تحديد الفائز بينهما.

ويُخشى أن يستغل ترامب هذا اللغط لإعلان فوزه بناءً على نتائج الاقتراع الشخصي، وهي اللعبة التي يمكن أن تغير كثيرًا في هذا السباق الذي يصعب التكهن بنتائجه مع هذا الرئيس السيكوباتي المحتال.

 

خاتمة

هناك اتفاق بين استطلاعات الرأي على تفوق بايدن، وتُنبئ جميعها بخسارة ترامب، والسبب الرئيسي لنقمة الناخبين الأمريكيين عليه هو ملف جائحة كورونا، رغم أن كثيرين لا زالوا يثقون في قدرته على إدارة ملف الاقتصاد الأمريكي، وهو أكثر ما يعني الأمريكيين، وأما ملفات السياسة الخارجية وحقوق الإنسان، ومعاركه الفاشلة مع الصين وانسحابه من الاتفاقيات والمنظمات الدولية كاتفاقية باريس بشأن المناخ والاتفاق النووي الإيراني ومنظمة الصحة العالمية فكالعادة لا تشكل مثل هذه الملفات أهمية لأغلب الناخبين الأمريكيين.

مع ذلك، ومع تردي شعبية ترامب بسبب الوضع الداخلي، فقد جاءت محاولة أخيرة منه الجمعة 23 أكتوبر، لرفع أسهمه لدى الناخبين الأمريكيين، في محادثة عبر الهاتف بينه وبين رئيسي الوزراء السوداني والإسرائيلي وأمام عدسات الصحفيين بشأن سد النهضة الإثيوبي، محاولًا تصوير نفسه كقائد للعالم على الرغم من فشل جهود الوساطة الأمريكية بين مصر والسودان وإثيوبيا. وكأنه لم ينس لإثيوبيا تسببها في إخفاق الاتفاق الذي كان يعول على نجاحه، فبدا كأنه يحرض مصر على تحركات عسكرية نحوها، وبرر ذلك في حديثه بأن مصر لن تستطيع أن تعيش وفق هذه الظروف التي خلقتها إثيوبيا، وقد ينتهي الأمر بتفجيرها السد، ولا أحد يمكن أن يلوم مصر وقتها. وكان ترامب قد أعلن تعليق جزء من المساعدات المالية الأمريكية لإثيوبيا سبتمبر الماضي بعد التعنت الإثيوبي في المفاوضات.

هناك أيضًا تساؤلات مشروعة يتم طرحها منذ أُعلنت إصابة ترامب المفاجئة بفيرس كورونا المستجد ثم تعافيه المفاجئ بعد ثلاثة أيام منها، فكيف لرجل في هذا العمر مصاب بالبدانة أن يتعافى تمامًا بهذه السرعة! ويبدو الأمر لي أن الديمقراطيين يتشككون ويفتشون في هذا الأمر وفي أمور أخرى تتعلق بالرئيس، وهناك تلميحات بأن هناك شيئًا ما، وإن صدق الظن فربما ينتظرون تفجير قنبلة في الأيام القليلة الأخيرة قبل اليوم الرسمي للانتخابات لحسم النتيجة لصالح مرشحهم، فلا تبق لترامب فرصة للتلاعب بعقول الناخبين مرة أخرى.

إن الجو العام المحيط بانتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 أشبه ما يكون بجولة انتخابات الإعادة في انتخابات الرئاسة المصرية عام 2012 بين الفريق دكتور أحمد شفيق والدكتور محمد مرسي، حيث كان الرفض التام من د.مرسي لتقبل احتمالية خسارته للانتخابات رغم نتائج استطلاعات الرأي التي أشارت للتقارب بينه وبين د.شفيق، والإيحاء الدائم منه بأن هذه الخسارة إن حدثت ستكون عن تزوير لصالح شفيق، ثم شاهدناه وجماعته يسارعون بإعلان فوزه بليل قبل انتهاء عملية فرز الأصوات! وهذا المشهد الأخير لإعلان ترامب فوزه على بايدن قبل انتهاء فرز أصوات الناخبين –خاصة المصوتين عبر البريد- هو ما ينقص لمحاكاة المشهد المصري.

ولأن أمريكا ليست مصر، ولأنه من المنتظر أن تلعب نتائج التصويت عبر البريد دورًا أساسيًا في نتيجة السباق الانتخابي، وأن تشكل أيضًا سببًا رئيسيًا للطعن عليها، فمن المنتظر أيضًا أن يتم حسم النتيجة النهائية لهذه الانتخابات في محكمة العدل العليا الأمريكية، في مشهد يشبه ما حدث في انتخابات عام 2000 بين آل جور الديمقراطي وجورج بوش الابن الجمهوري. لكن، وكما احتاط ترامب للتصويت البريدي بتعيين رئيس جديد من أقرب أنصاره لخدمة البريد الأمريكية، فقد صادق مجلس الشيوخ الأمريكي –الذي يسيطر عليه الجمهوريون- وقبل أسبوع واحد من يوم الانتخابات الرسمي، على تعيين القاضية إيمي كوني باريت في المحكمة العليا، وجاءت المصادقة في المجلس بنتيجة 52: 48، بأصوات 52 عضوًا جمهوريًا، ومعارضة صوت جمهوري واحد وهي سوزان كولينز، ومعها 47 عضو ديمقراطي. والقاضية باريت هي مرشحة ترامب، والذي عبر عن سعادته بتعيينها، حتى أنه اعتبره يومًا تاريخيًا للولايات المتحدة –على حد وصفه-، بينما اعتبر بايدن تعيينها إساءة استخدام للسلطة.

فهل سينجح دونالد ترامب بعد كل هذه الألاعيب المكشوفة في الفوز بفترة رئاسة ثانية مثلما فعلها قبله جورج بوش الابن من عشرين سنة، أم أن الوضع الآن أعقد، والرفض له وصل إلى الجمهوريين، الذين قامت جماعة منهم مؤخرًا تُعرف بـ "مشروع لينكولن" بوضع دعايات مناهضة لترامب في الوول ستريت! وإن نجح أو أعلن بنفسه نجاحه قبل اكتمال الفرز مثلما فعلها مرسي منذ ثمان سنوات، فهل سيطعن بايدن وهل ستنتصر المحكمة العليا لقيم الديمقراطية أم ستتحول الانتخابات الأمريكية لانتخابات صورية كالتي تُجري في دول العالم الثالث؟

الجمعة، 9 أكتوبر 2020

238-العدالة الشريدة

 

العدالة الشريدة

د. منى زيتون

الخميس 8 أكتوبر 2020

وعلى المثقف الجمعة 9 أكتوبر 2020

http://www.almothaqaf.com/a/qadaya2019/950226

 

طالما صُورت العدالة بصورة امرأة تحمل ميزانًا معصوبة العينين كي لا تبصر أي من الخصمين ولا يختل الميزان بين يديها، ولكن بقيت هذه الصورة خيالية في عالمنا، لأنه رغم أن العدل هو القيمة العليا التي تنبثق منها جميع القيم إلا أنه بقي شريدًا تائهًا قلَّ أن يجد حاكمًا عادلًا يوفر له مأوى!

والمتتبع لما يدور في مصر يحق له أن يتساءل عن مستوى تدهور العدالة وضياع حقوق وكرامة الإنسان في هذا البلد، فرغم أن الظلم معتاد في مصر منذ فجر التاريخ، لكن مستوى انحداره الأخير صار لافتًا؛ إذ تتنوع أشكال الظلم على هذا الكوكب البائس ولكن يبقى لدى الحكام في مصر قدر عالٍ من الابتكارية لا يتوفر مثيله ولا نصيفه لدى غيرهم! وسنعرض في هذا المقال بعض حالات منه.

 

القبض على الشهود والمدافعين عن حقوق الضحية

في قضية "الاغتصاب الجماعي لفتاة تحت تأثير مخدر" في فندق الفيرمونت بالقاهرة التي جرت وقائعها عام 2014، وكُشف عنها مؤخرًا بعد تدخل المجلس القومي للمرأة، وبعد أن وجد المتهمون فسحة كافية من الوقت مكنتهم من الفرار خارج البلاد، بدأ الأمن المصري يخاطب الانتربول للإمساك بهم!

وبعد أن داهمنا أمل مفاجئ في إمكانية القصاص العادل من هؤلاء الحثالة بعد أن استطاع الانتربول القبض على بعض منهم في لبنان، فوجئ المجتمع المصري بتحول خطير في مسار القضية؛ بانقلاب القضية على الشهود والمدافعين عن حقوق الضحية، وتحويلهم من شهود إلى متهمين!

أحد هؤلاء المدافعين الذين حاولوا التشهير بهم هو ابن معارض شهير وإعلامية كبيرة، ومعروف عنه مساندته لضحايا التحرش والاغتصاب، وبدا أن الأمر يسير في طريق تصفية بعض الخلافات السياسية مع أبيه.

وإحداهم هي ابنة فنانة شبه معتزلة، وكانت قد تقدمت بشهادة ضد أحد المتهمين الهاربين، والذي كان زوجًا لها وانفصلت عنه منذ عام، وطليقها الهارب ظل يبعث لها بالتهديدات بالتشهير ويتوعدها، ورأيناه ينفذ تهديده، فتتحول من شاهدة إلى متهمة، وتُحبس على ذمة القضية في عنبر الآداب في سجن النساء، بينما طليقها المتهم بالاغتصاب الذي تقدمت بالشهادة ضده لا زال يلهو في لندن!

وبعض الشهود هاربون خائفون من المصير ذاته!

وهناك أيضًا محاولات لتحويل القضية من "اغتصاب جماعي تحت تأثير مخدر" إلى "ممارسة جنس جماعي بالتراضي"، وكأنها كانت حفلة للفجور، ما يعني تشويه سمعة منظمي الحفل وجميع من حضروه، والسؤال الذي يطرح نفسه بداهةً: هل كان سيتم التعاقد مع مجلة صحفية متخصصة لتغطية الحفل لو كان مشبوهًا؟ وهل كانت صور الحفل ومقاطع فيديو منه ستبث على مواقع التواصل الاجتماعي لو كانت هذه حقيقة الحفل؟ ومؤخرًا بعد تداول أمر الجريمة تم حذف جميع الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بالحفل، وأصبح أغلب من حضروه من شخصيات محترمة يتبرأون من حضوره منعًا لإثارة الظنون حولهم.

وكل هذا العبث يتم لحماية بعض من الشباب الحثالة محدثي النعمة، من أبناء وضيعي الأصول الذين طفحوا على قمة المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فكل من ساهم في كشف جريمتهم وتحويلها إلى قضية رأي عام، وأرغم أجهزة الأمن على التحقيق فيها صار متهمًا أو مشتبهًا فيه!

 

عقاب الضحية

في بدايات الألفية، وبدء تعرف الناس على جيل التليفونات المحمولة المزودة بكاميرا، كانت هناك قضية شغلت الشارع المصري لفترة، وتتعلق بمقطع فيديو تم تسريبه من داخل أحد أقسام الشرطة لأحد المحتجزين في القسم والذي قام أحد ضباط قسم الشرطة بالاعتداء عليه جنسيًا، ولمّا طالت الفضيحة الضحية تقدم ببلاغ ضد ضابط الشرطة الشاذ، وفُتح التحقيق في القضية.

ولأن ضابط الشرطة ذاك كان ابن لواء شرطة سابق، فقد قيل وقتها أن ضغوطًا مُورست على الضحية لإجباره على تعديل أقواله، وكان أهمها أنه مهما كان عدد من شاهدوا مقطع الفيديو المسرب –ولم يكن عصر اليوتيوب قد بدأ- فلن يقارب بأي حال من الأحوال عدد من يمكن أن يشاهدوك في نشرة الأخبار الرئيسية بالتليفزيون المصري تدلي بشهادتك في القضية، وكان الضحية واعيًا لحقوقه ولم يهدرها، ورفض الإقرار بأي شيء خلاف الحقيقة أمام هيئة المحكمة، ولكن تسجيلًا بالصورة دون الصوت لما دار في المحكمة تمت إذاعته في نشرة الأخبار الرئيسية في التليفزيون المصري يومها، وظهر فيه المجني عليه يقف أمام منصة القضاء، ملتفتًا صوب الكاميرا، وتعبيرات وجهه وجسده نموذج لما يمكن تدريسه عن الرعب، وهو ما أغضب كل من شاهد نشرة الأخبار، ولكن كان منظر الضابط الشاذ في قفص الاتهام والحكم عليه بالسجن والرفد من الخدمة مثلجًا للصدور، وكأنه أراد إذلال الضحية مزيد إذلال فنال من الذل أضعافًا.

ولكن يبقى السؤال: لماذا انتقلت كاميرات التليفزيون لقاعة المحكمة لتصوير الضحية؟ وهل صرنا نعاقب الضحية عوضًا عن الجاني؟!

 

استبدال الأدوار بين الجاني والمجني عليه

وأخيرًا –ولا أظنه آخرًا إلا أن تقوم القيامة لينتهي الظلم من مصر- انتشرت الأخبار من قرية العوامية بالأقصر بمقتل مواطن مصري اسمه عويس الراوي فجر 30 سبتمبر الماضي، على يد أحد ضباط الأمن الوطني الذي جاء إلى منزل العائلة للقبض على ابن عمه ضياء الراوي لمشاركة الأخير في الحراك الشعبي والاحتجاجات السلمية الأخيرة التي حدثت في مصر يوم 20 سبتمبر الماضي.

وهناك روايتان من الأهالي الشهود للحادث إحداهما أن الأمن لمّا لم يجد ابن العم بالمنزل أخذ أخا عويس بدلًا منه، فاحتج عويس ورفض أخذ أخيه كرهينة وتمسك بجلباب أخيه، محاولًا إفلاته من رجل الأمن الذي استمر في شده خارج المنزل، فأطلق عليه ضابط الأمن الوطني أربع رصاصات أردته واحدة منهم أُطلقت نحو رأسه وأصابت رقبته، والرواية الثانية تقول إن الضابط صفع أبا عويس عندما لم يجد المطلوب أمنيًا فرد عويس الصفعة للضابط انتقامًا لأبيه، فأرداه الضابط برصاصة قتلته، وأطلق ثلاث طلقات تحذيرية في الهواء.

وأما الرواية الرسمية التي صرّح بها بيان النيابة فقد خرجت علينا بعد طول انتظار، بعد أسبوع من حادثة القتل وبدء التحقيق، بأن عويسَ كان مطلوبًا أمنيًا، وأُلصقت تهمة الإرهاب به وبذويه، وأنه قاوم الضابط بسلاح ناري كان في حوزته، وأصيب أثناء محاولة الأمن ضبطه. وذكرت النيابة أنها "أذنت بضبط المتوفَّى وآخرين من ذويه لاستجوابهم فيما نُسب إليهم من جرائم إرهابية"!

والاتهام الفضفاض بارتكاب الجرائم الإرهابية غير المعلومة وغير المحددة أصبح شائعًا في مصر في عهد السيسي، ويظهر دومًا للتغطية على نبأ قتل أو القبض على أحد المواطنين، ويتم الإدعاء أن التوجه لضبطهم تم بناءً على تحريات من الأمن الوطني، ودائمًا وأبدًا لا تكون النيابة العامة قد قامت بالتحقيق في هذه التحريات المزعومة قبل حادثة القتل أو الضبط.

والحقيقة أن بيان النيابة الذي تناقلته الصحف، والذي صدر متأخرًا أسبوعًا ليحمل أول رواية رسمية عن الحادث كان في أغلبه مبنيًا للمجهول، وإن كان المؤكد أنه يحمل رواية الأمن الوطني لأن البيان ذاته صرّح بأنه لم يتضمن نتائج التحقيقات التي أُجريت مع أسرة القتيل –والده وأخيه-، ولم يذكر أنه تم التحقيق مع باقي الأسرة أو أي من الأهالي شهود الحادث، والذين نفوا في مداخلات تليفونية أن يكون القتيل قد قاوم الضابط بسلاح.

مقطع الفيديو المتداول للحادث يصور عربات الشرطة أمام منزل القتيل، ويُسمع فيه صوت دوي أربع رصاصات تجاهل بيان النيابة ذكرهم وبيان نوعهم إن كان رصاص (ميري) من الذي تستخدمه قوات الأمن أم صادرة من سلاح شخصي، كما خلا بيان النيابة تمامًا من بيان الصفة التشريحية لجثة القتيل، وإن كان قد قُتل برصاصة أطلقت صوب الرأس أم لا، وهل كانت من مسافة قريبة أم بعيدة؟ بل لم يحدد البيان اسم الذي أطلق الرصاص على القتيل من رجال الأمن!

والمجني عليه المتهم بالإرهاب هذه المرة هو موظف بمستشفى الأقصر الدولي، والتي يرتادها السائحون، ويستحيل أن يكون مشتبهًا به أمنيًا ويُسمح له بالعمل في مثل هذا الموقع، ومع ذلك تم إلقاء الاتهام عليه وعلى ذويه بعد تجرؤ أحدهم على المشاركة في الاحتجاجات على سوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية وحملة هدم المنازل الأخيرة.

في مصر، لم يقف حد الظلم أن تخشى على حياتك أن تُقتل ولا يُقتص لك، بل صرت لا تأمن أن تُقتل فتُصور على أنك إرهابي، فتتبدل الأدوار بينك وبين قاتلك لتكون الجاني ويكون القاتل المجني عليه! ثم تجدهم فوق ذلك يُفرقون من يريدون تشييع جنازتك بقنابل الغاز وطلقات الرصاص.