الخميس، 28 أكتوبر 2021

265-الحاجة إلى علم نفس تاريخي

 

الحاجة إلى علم نفس تاريخي

د/ منى زيتون

الثلاثاء 26 أكتوبر 2021

وعلى المثقف، الجمعة 29 أكتوبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959159

 

يستحيل أن تفهم حوادث التاريخ ما لم تكن لك قدرة على سبر أغوار النفوس، لتفهم ما يمكن وما لا يمكن أن يصدر عنها؛ فعندما تقرأ في التاريخ مع خلفية معرفية في علم النفس تختلف قراءتك للحوادث، فتحليل ملامح ‏الشخصيات يلعب دورًا كبيرًا في فهمك دوافع وسلوك كل شخصية محورية، فتعي كيف يمكن أن تكون قد تحركت الحوادث، وربما يجعلك هذا ترى ‏ما لا يمكن أن يراه غيرك ممن نظر إلى الحوادث نظرة آلية وفقًا للمرويات، كما تصبح لغتك التعبيرية ‏أفضل نتيجة درجة الفهم الأكثر عمقًا التي وصلت إليها.‏

وأنا أزعم أن كثيرًا من حوادث التاريخ لو كان من تناولوها قد فهموا ملامح شخصيات شخوصها والدوافع النفسية لهم التي أثرت في استجاباتهم لكانت لهم قراءة أكثر وعيًا لها. وليته يكون هناك تقرير لدراسة علم النفس لدى طلبة جميع أقسام التاريخ في جامعاتنا، بل ليتنا نستحدث فرعًا جديدًا في علم النفس؛ وهو علم النفس التاريخي.

وفي هذا المقال نناقش بعضًا من النقاط التي ينبغي وضعها في الاعتبار من المنظور النفسي عند قراءة حوادث التاريخ والحكم على رجاله. 

ما بين التعظيم والتدمير!

دومًا أقول إن العربي يمسك في يديه مرآتين إحداهما مقعرة تكبر الصورة، والأخرى محدبة تصغرها، فإن كان الحديث عمن يحب فالمقعرة لسرد وتضخيم الحسنات والمحدبة لتصغير السيئات، والعكس يفعل عندما ينقلب الحديث ليكون عمن لا يحبه، فكأن التوسط ورؤية الأمور من خلال مرآة واحدة مستوية حرام عند العرب، ولا يفلت من هذا الفخ إلا أكابر العلماء وعقلاء الأمة.

والملاحظ عند قراءة تحليل بعض مؤرخينا المعاصرين للحوادث المختلف بشأنها في التاريخ الإسلامي والمتعلقة ‏بالصحابة أو كبار الأئمة أو الأبطال إنهم لا يقرأونها قراءة منصفة تخرج بتفسيرات منطقية مثلما ينبغي أن يكون شأن العلماء والعقلاء بل يفعلون فعل العوام في القرون الأولى؛ فنجد قراءتهم –غالبًا- مغرقة في التقديس والبعد عن النزعة الإنسانية في تفسير الحوادث التاريخية؛ فيجعلونهم ‏آلهة، رغم أن هذا ليس منهجًا إسلاميًا، وقد حكى لنا الله تعالى من خطايا الأنبياء أو ‏همتهم بالخطايا ما يجعل العقلاء يفهمون أن لا معصوم من الخطأ من بني آدم، ‏والعبرة بما أنت عليه وليس بما كان منك ورجعت عنه، فالحق سبحانه أثبت قول ‏إبراهيم عليه السلام عن غير الله ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ ولم يمنعه قوله بعد أن تاب واجتباه ربه أن ‏يصبح خليل الرحمن، ولم يقف القتل الخطأ الذي اقترفه موسى عليه السلام حائلًا أمام ‏توبته التي صار بعدها كليم الله.‏

فإذا كان بطل كخالد بن الوليد قد تعرض للوم الشديد على عظم ما أبلى في حروب الردة والفتوح -وقد ناقشنا هذا الطرح في مقال "سيكولوجية البطولة"- فقد كان هذا لأنه عاش في القرون الأولى التي كان للمسلمين فيها عقول ينقدون بها، وربما كانت هذه الرغبة في التشنيع على الكبراء منتشرة في القرون الأولى لأسباب سياسية؛ ‏فالفرقاء السياسيون كانوا يشيعون عن خصومهم ما يقلل من شأنهم أمام العامة.

وفي مقالي عن "نكبة بغداد" أعدت تقييم الأدلة التي أشارت بأصابع الاتهام إلى الوزير الشيعي ابن العلقمي، فكانت شهادة أهم المؤرخين المعاصرين للحدث؛ وهما ابن الفوطي الحنبلي البغدادي، ورشيد الدين الهمذاني وزير هولاكو، في صالح ابن العلقمي، ولكنه كان الشيعي الوحيد في بلاط الخليفة، فتجنى عليه مؤرخونا السنة، وحملوه طائلة الكارثة التي حلت.

لكن إن كان تدمير صورة كبار الأمة يحدث قديمًا لأسباب سياسية، فهو ولا شك ليس كتلك الرغبة المحدثة الجهولة في تدمير الكبار بتصديق كل ما قيل فيهم زورًا، وعدم تحقيق الروايات، والتي عصفت ببعض العرب في العصر الحديث.‏

ولأن لكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه، فلعل هذا الهوس بالخوض في سير الكبار جاء ردًا على ما فعله مكبلو العقول في عصرنا من إغلاق ملكة النقد البناء لحوادث التاريخ؛ فساووا بين من يطرح رأيًا ‏متعقلًا وبين من لا غرض له سوى السب والشتم. وأي تشنيع طرحه القدماء يردون عليه ‏متعقلين بطرح الأدلة، على العكس من نقود االمعاصرين التي يكيلون لأصحابها سيلًا من التهم.‏

ولعل من أكثر من يلقى تقديسًا ويُعامل معاملة الأنبياء لدى هؤلاء هو السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وللأمانة فإن كثيرًا ممن ينقدونه في العصر الحديث يجافون الحق ويتطرفون ضده وكأنه قتل والديهم، حتى أن بعضهم ينكر أنه استعاد القدس!

وما لا خلاف عليه أن صلاح الدين جاهد وتصدى للحملة الصليبية الثالثة، ولكنه سعى -وأبيه وعمه من قبله- لأن يكون له نفوذ وسطوة، واستقل بما كان تحت يديه من بلاد ما أمكنه، وقد نقده أهم مؤرخي عصره، وأهم مؤرخ لتاريخ الحروب الصليبية، وهو ابن الأثير الجزري صاحب "الكامل في التاريخ"، بسبب مواقفه من الأمير نور الدين محمود زنكي، والذي كان ولي نعمته، والذي دخل مصر في الأساس ليكون نائبًا له، ثم مواقفه من ابنه الصالح إسماعيل زنكي. وأجمع المؤرخون على أن صلاح الدين لم يقدم أي دليل حقيقي على استمرار تبعيته لزنكي منذ مكَّن لنفسه في مصر، وأنه سارع إلى إعلان استقلاله رسميًا بمصر ثم ضمه بلاد الشام إلى سلطانه بعد وفاة نور الدين زنكي.

وكذا سعى إلى توسيع ملكه ما استطاع في مناطق أخرى، فأدخل الحجاز واليمن تحت سلطانه، واستطاع ضم أجزاء واسعة من شمال أفريقيا، فهو لم يحارب الصليبيين فقطـ مثلما يريد من يعظموه أن يوهموا من لم يقرأ التاريخ، وإنما حارب المسلمين أيضًا ليدخل بلادهم تحت نفوذه وسلطانه.

ورغم أنه هو من كان قد أعاد مصر إلى تبعية الخلافة العباسية وأسقط الخلافة الفاطمية في بداية أمره، عندما دخل مصر وصار وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد، إلا أن المؤرخين ذكروا حوادث ومواقف تظهر فتورًا بينه وبين الخليفة العباسي الناصر لدين الله، ووصلت حد عدم الطاعة عندما طلب منه الخليفة العباسي إرسال القاضي الفاضل للتباحث بشأن توضيح بعض القضايا، فرفض صلاح الدين واعتذر بمرض القاضي ولم يرسل غيره!

وفي العصر الحديث وُجهت سهام النقد إلى صلاح الدين الأيوبي لأسباب أخرى لم تكن ذات شأن فيما مضى ليُتهم بسببها؛ من أمثال هدمه للكثير من الأهرامات ومحاولته هدم الأهرامات الثلاثة الكبار، وبيعه محتويات مكتبة دار الحكمة بالقاهرة التي أودع فيها الفاطميون نفائس الكتب، والتي من بعدها نشأ في مصر ما يُعرف بتجارة الكتب القديمة، ولم تُعرف قبلها.

ولست هنا مهتمة بسرد القصص التي تلقى صلاح الدين الأيوبي سهام النقد بسببها، فهي بحاجة إلى تفصيل كثير، والغرض ليس الطعن فيه والتقليل من شأن جهاده، فهو بطل وأنا ممن يقر بذلك، كما أنه كان على قدر طلبه التوسع والنفوذ وضم البلاد تحت سلطانه زاهدًا في المال؛ فكان لا يجتمع عنده من المال ما يبلغ نصاب الزكاة، ولم يترك مالًا ولا دورًا لورثته، والقصد أنه بشر كالبشر، يخطئ ويصيب، ولكن الجماعة التي عدمت العقول المسماة بالسلفية ترفض تمامًا أن يُشار إلى أي من أسباب النقود التي ألمح إليها المؤرخون الثقات في حقه، حتى إنهم طعنوا في ابن الأثير ووصفوه بالتشيع، رغم أن الرجل لم يزد عن أن روى صادقًا ما كان.

 

غلبة العاطفة عند النساء

لا خلاف على أن إسهام النساء في كتابة تاريخ البشر شديد الضآلة إذا ما قورن بإسهام الرجال، ولأن المؤرخين عادة رجال فهم في المواقف القليلة التي كان للمرأة دورها القوي في الحوادث غالبًا ما يفشلون في تفسير تلك المواقف، أو لا يظهر مما كتبوه فهم عميق لدوافعها، وذلك بسبب عدم درايتهم الكافية بسيكولوجية المرأة.

وفي مقالي "ناقصات عقل ودين.. بأي معنى؟!"، وهو أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل الاجتماعي" كنت قد تعرضت إلى موقفين من مواقف التاريخ لم يفسرهما المؤرخون على الوجه الأمثل بسبب عدم وضع التكوين النفسي للمرأة في الاعتبار؛ وهما ما وقع بين السيدة عائشة والإمام علي، ثم الجفوة التي حدثت ‏بين السيدة فاطمة والصدّيق أبي بكر، وذكرت أن من درس سيكولوجية المرأة يدرك أنه حتى أفاضل النساء وأكملهن قد تغلبهن العاطفة، وعندما يتعلق الأمر بإبعاد المرأة عمن تحب أو أخذ ما بقي لها منه ‏تغلبها العاطفة وتبقى على موقفها غير المنطقي مهما طالت الأيام والسنون، ‏وهذا ما لم ينتبه إليه مفسرونا، فنجدهم عند ذكرهم مطالبة السيدة فاطمة الصديق بميراثها يغفلون عنه، وينظرون للأمر ويفسرونه من جانب الحقوق المادية، وهل كان حقًا لها أو لم يكن!

 

الاضطرابات النفسية؛ التلاعب بالعقول نموذجًا

أحيانًا ما يظهر لي من قراءة بعض حوادث التاريخ وجود علل نفسية لدى بعض محركيها، أدت إلى ما آلت إليه الأمور وما وقع، ومع ذلك أجد غفلةً من المؤرخين عنها أو لنقل نقصًا في فهم تلك العلة ودورها في تحريك الحوادث.

على سبيل المثال، فهناك شكل من أشكال الإساءة النرجسية والخداع العقلي يُعرف باسم "التلاعب بالعقولGaslighting"، في هذا النوع من الاضطرابات يلجأ الطرف النرجسي المتلاعب الخبيث إلى تضليل الطرف الآخر الذي وقع ضحية له، حتى يفقده هويته والثقة في ذاته، ويفقده القدرة على التفريق بين الصواب والخطأ، ويتمكن من السيطرة التامة عليه، ويبدأ يتخذ القرارات بدلًا عنه، ودون أن يشعر الضحية بذلك، إلى درجة أنه يشكك الضحية أنه هو من طلب اتخاذ هذا القرار، وقد ينكر أن حوارًا ما قد دار بينهما، أو يتظاهر بنسيان شيء أمره به، أو يتظاهر بعدم فهم ما يسأله عنه الضحية. وما بين الإنكار والاختلاق يشك الضحية في واقعه وذاكرته وإدراكه.

وأكثر من يقع ضحية لهذه الخدعة هم كبار السن، وخاصة في إطار العلاقات الأسرية، نلاحظها خاصة عند وجود ابن/ابنة نرجسي ‏شديد التعلق بالأب/الأم كبير السن، ويمارس على الوالد ألاعيبه ويضلله فكريًا لتحقيق مصالح النرجسي مهما تعارضت ‏مع مصلحة الوالد. ويبعد هذا النرجسي المتلاعب عن الضحية جميع أصدقائه وأحبائه ممن يمكن أن يفشلوا خططه، أو يعمد إلى تدمير صورة الضحية في نظرهم. إنه يحاول عزل الضحية عن العالم الخارجي ليسهل التحكم فيه. ولأن الضحية يصبح شديد التعلق بالمتلاعب ولا يشعر بالأمان دونه، فهو لا يتقبل أي نقد يوجه إلى المتلاعب من أي شخص يشعر بحقيقة ما يحدث له ويحاول مساعدته، ما يساعد على انفضاض أحبته عنه وتركه فريسة للمتلاعب.

ولكن التلاعب بالعقول لا يقف عند حد الأبناء الخبثاء، ويمكن أن يحدث من القرابات. وفي التاريخ الإسلامي كارثة كبرى حلت علينا، ولا زالت تداعياتها لم تنقضِ، ألا وهي "الفتنة الكبرى"، والتي كان رأس البلاء فيها ومحركها هو ذلك النرجسي الحقير المتلاعب مروان بن الحكم، والذي –لقرابته من سيدنا عثمان بن عفان- تسلل كالحية رويدًا رويدًا، حتى تمكن منه في كبر سنه، وأبعده عن جميع الصحابة الناصحين له، وأصبح مستشاره الأوحد، وما كان إلا مستشار سوء، أفضينا بسببه إلى أسوأ حال. ومثله مثل أي متلاعب كان يتخذ كثيرًا من القرارات بدلًا عنه، ودون أن يشعره بذلك، ويختم الكتب إلى العمال باسمه، وآخرها ذلك الكتاب الذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير.

يثبت الإمام الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" دور مروان الذي يشبه دور الحية المختبئة في تحريك وتأجيج الفتن المتتالية، فقال: "كان كاتب ابن عمه عثمان، وإليه الخاتم، فخانه، وأجلبوا بسببه على عثمان، ثم نجا هو، وسار مع طلحة والزبير للطلب بدم عثمان، فقَتل طلحة يوم الجمل، ونجا –لا نُجِّي-"، ووصف في موضع آخر كيف قتل طلحة؛ فذكر أنه رماه يوم الجمل بسهم فقتله، وقطعًا فإنه ما قتل طلحة إلا ليزيد الوقعة اشتعالًا ويظنوا أن معسكر سيدنا علي هم من قتلوه، ولكن الله فضحه. وذكر الذهبي أيضًا أن مروان في زمن اللعين يزيد "كان يوم الحرة مع مسرف بن عقبة يحرضه على قتال أهل المدينة".

وبينما يتفق المؤرخون العقلاء الثقات على دور هذا المأفون النرجسي المتلاعب مروان بن الحكم في تحريك حوادث الفتنة الكبرى وما تلاها، نجد بعض أمويي الهوى يدافعون ويعتذرون عنه ويبررون له، ويختلقون ما يبرئه، حتى لقد آثر المحتال الزنديق سيف بن عمر التميمي أن يختلق لنا شخصية أخرى ليحملها نتيجة ما آلت إليه الحوادث، ويجعلها سببَ الفتنة؛ وهي شخصية عبد الله بن سبأ، فاختلقه وجعله هو المؤلب على عثمان وسبب معركة الجمل! وأجزم أن كل من صدَّقه لا يعرفون شيئًا عن علل النفوس.

*************

تعليق مهم على المقال

لدي ملاحظة حول هذه الفقرة: ((وقد حكى لنا الله تعالى من خطايا الأنبياء أو ‏همتهم بالخطايا ما يجعل العقلاء يفهمون أن لا معصوم من الخطأ من بني آدم، ‏والعبرة بما أنت عليه وليس بما كان منك ورجعت عنه، فالحق سبحانه أثبت قول ‏إبراهيم عليه السلام عن غير الله ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ ولم يمنعه قوله بعد أن تاب واجتباه ربه أن ‏يصبح خليل الرحمن، ولم يقف القتل الخطأ الذي اقترفه موسى عليه السلام حائلًا أمام ‏توبته التي صار بعدها كليم الله)).

إن الأنبياء منزهون عن الخطايا والآثام، وهم معصومون، ومع هذا قد يصدر منهم خطأ بسيط بلا تعمد، أو يرتكبون خلاف الأولى. وهم مُنزَّهون عن الكفر والشرك. وقول النبي إبراهيم: ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ في زعم قومه. قال الواحدي في الوجيز: ((في زعمكم أيها القائلون بحكم النجم وذلك أنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها)). وقال البيضاوي في تفسيره (1/ 423): ((وقوله: ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد)).

ردي على التعليق

بخصوص ما ذكر بعض المفسرين في قول أبينا إبراهيم ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ فهو مضاد لصريح معنى الآيات؛ ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 76: 79].

فمن الواضح أنه كان في رحلة بحثه عن الله، فأخذ يراقب وأخطأ أولًا واعتقد في صحة عقيدة قومه، لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، ويصنعون لها تماثيل لتجسيدها على الأرض، وكانوا يخصون أكبر الكواكب المشتري ﴿كبيرهم﴾ بتعظيم أكبر، ولكن أفول المشتري في تلك الليلة كان دليلًا عنده أنه ليس إلهًا، فالإله لا يتحول ولا ينتقل، وفي اليوم الثاني عندما راقب القمر وأفل عرف أنه هو الآخر ليس إلهًا، فطلب الهداية من الرب الحقيقي الذي لم يكن عرفه؛ أي طلب من الله أن يدله عليه، وفي الصباح رأى الشمس وكان أفولها دليلًا عنده أن الرب هو الذي خلق هذه الأجرام كلها، وتبرأ أن يكون من المشركين به. وبهذا الرأي رأى ابن عباس فيما رواه عنه الطبري، وليس فيه انتقاص من مقام الخليل إبراهيم، فقد كان فتى يطلب الهداية ويقين الإيمان.

وأود أن أوضح أن ما ذكرته أنت من عصمة الأنبياء من الخطايا أبدًا إنما هو رأي رآه مفسرون، ولا أراه موافقًا لما ذكره الله تعالى من قصص بعضهم في القرآن، وإنما العصمة تقرر في حقهم بعد نيلهم مقام النبوة، وهذا مما لا خلاف عليه؛ فهم جميعًا بعد نبوتهم معصومون. وهذا الرأي أقرب لتحقق الفائدة من كونهم بشرًا، لإمكان الاقتداء بهم، وليعلم المذنب منا أن ذنبه غير حائل بينه وبين أن يصل إلى درجة عالية من الإيمان إن تاب ورجع عنه. ولكن مما لا خلاف عليه أيضًا أنهم جميعًا منذ نشأتهم أتقياء، وأن أي خطأ وقع فيه أحدهم قبل نبوته لم يكن مقصودًا.


الأربعاء، 27 أكتوبر 2021

264-سيكولوجية البطولة

 

سيكولوجية البطولة

د/ منى زيتون

الثلاثاء 26 أكتوبر 2021

وعلى المثقف، الخميس 28 أكتوبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959139

لأن علم النفس هو العلم المسئول عن تفسير سلوكيات البشر، وسلوكيات البشر لا تقف عند حد الحاضر فقط، فهناك ضرورة لفحص حوادث التاريخ ومحاولة تفسيرها أخذًا في الاعتبار المنظور النفسي ودراسة الشخصيات التي تلعب دورًا في هذه الحوادث.

وهذا ليس بالجديد تمامًا، فما من مؤرخ قديم أو حديث إلا وبدأ بسرد صفات الشخصية التي يُترجم لها، فهو مدعاة لفهم ما كان من صاحبها وما لقي في حياته.

وفي هذا المقال نناقش حدثًا من حوادث التاريخ الإسلامي، ربما كان من أكثر ما أثير حوله اللغط والاختلاف، خاصة وقد اقترن بشخصية أسطورية قل أن يكون لها نظير في التاريخ. 

خالد بن الوليد ومالك بن نويرة

كثيرون يتكلمون عن ضرورة غربلة التاريخ لكن عندما يتعلق الأمر بحادثة قتل مالك بن نويرة ‏نجدهم يصدقون عجائب المرويات تلقائيًا. ‏والقصة تنقسم إلى ثلاثة أجزاء، فالجزء الأول منها هو أن بني يربوع من بني تميم كانوا قد منعوا أداء الزكاة إلى الخليفة الصدِّيق، وذلك ضمن من رفضت أدائها من قبائل العرب بعد وفاة الرسول، فجاءهم جيش بقيادة خالد بن الوليد، وقبض عسكر خالد على رئيسهم مالك بن نويرة، فلم يأمر خالد بقتله من فوره، وإنما حاوره، فأعلن مالك أنه مسلم مقيم الصلاة لكن مع تحريضه ومنعه قومه من أداء الصدقة التي كان عاملًا عليها من قبل الرسول، وشك خالد في إسلامه من حواره معه؛ عندما قال مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبًا خالد: "صاحبك"، فبدا من ظاهر كلامه إنكاره أنه له صاحب هو الآخر شأن كل مسلم، وكانت روايات قد أشارت لمراسلات دارت بين مالك وبين سجاح بنت الحارث التميمية التي ادعت النبوة، وهي من قومه بني يربوع، ولكن تلك الأخبار نفسها قالت إنه هو من كفَّها عن غزوها، وانتهى هذا الجزء من القصة بأن قُتل مالك بن نويرة.

أما الجزء الثاني منها فهي أن خالدًا بعد قتله مالك تزوج ليلى بنت سنان –أو أم تميم ابنة المنهال- وكانت امرأة لمالك، مع اتهامات لخالد بأنه ما قتل زوجها إلا ليتزوجها.

وأما الجزء الأسطوري الذي ألحق بالقصة، وهو من قبيل إلباس الحق بالباطل ودس الأكاذيب وسط الحقائق لتشيع معها، فهو أن خالدًا قد ذبح مالك بن نويرة وأوقد برأسه نيران القدر الذي أعد فيه طعام العشاء!

وكان ما حدث بين خالد ومالك بن نويرة حلقة من حلقات الحركات الاحتجاجية التي حدثت بعد وفاة الرسول من القبائل التي كانت حديثة عهد بالإسلام، فتحركت إنفة العربي فيهم، وبدا من أغلب القبائل أنهم حسدوا قريشًا على أن بعث الله فيهم نبيًا، فأرادوا أن يكون منهم نبي، فادعى بعض الكذبة النبوة، وكانت أكبر الحركات الاحتجاجية في نجد.

فكان تمردًا دينيًا بدأ قبل وفاة الرسول وانتهى سريعًا بعد وفاته، وتم كبحه سريعًا، ولأن الإسلام دينًا أقام دولة، فقد صاحب التمرد الديني تمرد سياسي؛ إذ رفضت قبائل العرب أن ينقادوا إلى حاكم من قريش، وكان أقسى ما أشعرهم بالذل هو أداؤهم المال له. فإن لم يستطع أحد ممن ادعى النبوة أن ينال ما ناله النبي القرشي وظل العرب مرغمين على الولاء إلى خليفته، فإن إنفتهم لم تجعل أنفسهم تطيب بدفع أموال إلى الخليفة الجديد، وظنوا أن بإمكانهم الاحتجاج، والامتناع عن أداء الزكاة، والتي كان يسميها المرتدون جزية!

ورغم أن قريشًا أيضًا قد آمنوا متأخرين يوم فتح مكة، إلا أن العناد كان ما منعهم من الإيمان قبلها، وإلا فصغيرهم وكبيرهم يعرف محمدًا وصدقه، أما الأعراب فكانوا منافقين أظهروا الإيمان ولما يدخل قلوبهم. وربما لو لم يسرع أبو بكر ببدء الفتوحات بعد قضائه على الردة مباشرة لعادوا وارتدوا، ولكنه فهم نفسياتهم، فقد نقموا على قريش أن يعلو شأنها عليهم ويصيروا تابعين لحكامها، فلما بدأت الفتوحات توحدوا معًا كعرب ضد الفرس وضد الروم فالتأم شملهم، وأشعرهم الإسلام بالعزة، وكان هذا مدعاة لتأليف قلوبهم.

ولنقرر إن ما ظهر من الخليفة أبي بكر في حرب الردة وابتداء الفتوحات من حنكة لو اجتمع أكابر علماء النفس السياسي في العالم ما نجحوا في أن يصلوا لما هو أعظم منه. وهذا غريب عجيب، فسيرته مع النبي صلى الله عليه وسلم كانت طاعة خالصة، لم يصدر منه يومًا اعتراض عليه أو بدرأه برأي، فلم نعرف عنه إلا قوة إيمانه، ولم يظهر من مواقفه أثناء صحبته للرسول ذكاؤه وحذقه، فكانت فترة خلافته القصيرة اكتشافًا حقيقيًا لملامح غائبة عنا من شخصيته.

ولفهم قصة خالد مع مالك، فعلينا أولًا أن نفهم ملامح شخصية الرجلين طرفي القصة الرئيسيين؛ فهذا خالد بن الوليد، وهو الشجاع الصارم الباطش، والذي شهد له رسول الله بالعقل فوق شهادته له بالشجاعة، وقومه بنو مخزوم كانوا أصحاب الرأي في قريش في الجاهلية، وفوق ذلك هو مجازف متحمس متعجل، ومجازفة أصحاب العقل والرأي وإن كانت تختلف عن مجازفة الطائشين إلا إنها تبقى مجازفة، وكشأن كل المجازفات والأفعال غير الاعتيادية تجلب على من يقوم بها كثيرًا من النقد، حتى وإن كان النجاح حليفه إجمالًا ويفوق أي إخفاقات أو سلبيات قد صاحبته، كما أن خالدًا شديد الاعتداد برأيه إلى درجة أن يسعد بالإمارة وبالانفراد بالرأي، فإن تلقى أمرًا وافق رأيه كان النعم به، وإن كانت الطاعة المطلوبة منه فيما لا يوافق رأيه ولا يقره فالأقرب أن يرى برأيه. وأيضًا هو شديد العناد لا يتقبل النقد، ويسعى إلى تكرار نوعية الأفعال التي سبق وأن وقع عليه اللوم بسببها، مع علمه بأن الحق ليس في صفه، وهذه من أكبر سلبيات شخصيته. ولكنها في مجملها صفات تسم صاحبها بالتفرد، فهو ليس فردًا في قطيع بل رأسٌ وأي رأس.

وهذا مالك بن نويرة وكان فارسًا شجاعًا، مطاعًا وسيدًا وشريفًا في قومه بني يربوع من بني تميم، وكان فصيحًا شاعرًا غزير الشعر، كريمًا متلافًا كثير الهبات، وكان كغيره من أعراب الجزيرة حديث عهد وقومه بالإسلام، وكان هو أول من أسلم منهم، ودعاهم إلى الإسلام فطاوعوه وأسلموا لم يتخلف منهم أحد، ووكله النبي في تولي صدقات قومه، وكان يؤديها في حياة النبي، لكن نفسه لم تطب بأداء الزكاة لخليفته.

ومن الواضح من مجمل الروايات التي حكت قصته مع خالد أن مالكًا لم يُرد الحرب، ولم يُعد لها، وربما أيضًا لم يقو عليها، فلا شك أنه قد استشعر أن أكثر قومه قد انفضوا عنه، ولم ير منهم مساندة ومعاضدة، بل سارع بعضهم إلى تأدية الزكاة، وفي الوقت ذاته بقي على استكباره وعز عليه أن يرجع عما سبق وأن أعلنه من منع الزكاة وعدم أدائها للخليفة، وأغلب الظن أنه خاف أن تُعيره العرب إن تراجع أمام الخيل والركب أو لاين خالد الحديث، فلما أسره جند خالد وأخذ الأخير يحاوره بغلظة رد عليه بغلظة موازية، وربما كان يضمر أن يعود إن لاينه خالد الحديث وأطال في حواره أو عاود محاورته في اليوم التالي، أو كان يطمع أن يرسله خالد إلى الخليفة الصديق فيكون له حوار معه، ويظهر فيه اقتناعه له، فيكون انصياعه لدفع الصدقة انقيادًا للخليفة، فلا تحكي العرب أنه جبن أمام سيف خالد بن الوليد، وهو ما يظهر من الروايات التي سأل فيها مالك بن نويرة خالدًا أن يرسله لأبي بكر.

وإلا فهل يعقل أن مالكًا حين طلب أن يُرسل إلى الخليفة أبي بكر كان يظن أن لأبي بكر رأيًا آخر، وهل جاءته خيول خالد إلا بأمر من أبي بكر! إن قراءتي للحادثة ترجح أنه أراد أن يتراجع عن منع الزكاة بكرامة، وربما إن صح أنه كان قد وزع إبل الصدقة فيما وزع من هباته التي كان يتلف فيها المال، فإنه قد أراد أن يكسب الوقت الذي يمكنه من جمع المال الذي يلزمه أداؤه للخليفة. ثم إنه لو أراد أن ينخلع من ربقة الإسلام لأعلن ذلك، ولكنه أعلنها صراحة أنه مسلم ويقيم الصلاة، وهو ما شهد له بعض الجند الذين أسروه.

ولكن من الثابت أيضًا –فيما رواه ابن كثير وغيره- أن خالدا حين حاوره قال له مؤنبًا عن منعه الزكاة: "ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار، اضرب عنقه، فضرب عنقه". وزادت بعض الروايات أن خالدَ بعد أن قال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! تجادل معه في الكلام، فقال خالد: "إني قاتلك. فقال له: أو بذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: هذه بعد تلك!". وقول خالد: "هذه بعد تلك!" لأن مالكًا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ "صاحبك" ثم بعدها قالها في حق الصديق أبي بكر، وهو طعن في إيمان مالك يخالف ما أظهره واستعلنه من إسلام، ولا شك أنه ما أراد أن يظهر من كلامه فلتات تطعن في صحة إيمانه، سواء كانت إساءة منه في انتقاء ألفاظه أو كاشفة عما في نفسه. وقد اتخذ كل من دافع عن موقف خالد بن الوليد هذه الكلمات لتبرر لخالد الأمر بقتله؛ إذ رأوا إنها لم تبقِ في نفسه شكًا من أن الرجل في حقيقة الأمر مرتد لا يدين بالإسلام، وهو ما حمله على البت في أمره بالقتل، وعدم إرساله إلى الصديق.

لكنه تبرير ضعيف، فقد سبق وأن أرسل خالد غيره إلى المدينة كأمثال عُيينة بن حصن وقُرة بن هُبيرة وزعماء بني فزارة وقد كانوا فارقوا الإسلام وأقرب المقربين إلى المتنبي طليحة الأسدي، وقد استتابهم الصديق وعادوا إلى الإسلام، بينما مالك بن نويرة كان قد بقي على إسلامه، ولم يُتابع أي من مدعي النبوة؛ لا سجاح ولا مسيلمة ولا طليحة، وإنما وادع سجاح لما راسلته ولم يثبت عنه ما هو أكثر، وكان أولاهم بأن يُرسل إلى الصديق في المدينة.

فالتعويل على هذه الكلمات فقط واتخاذها حجة لقتل مالك ليس صحيحًا إن أخذنا في الاعتبار الحالة الانفعالية التي كان عليها مالك بن نويرة. إنها سورة الغضب التي تجعل الإنسان لا يحسن انتقاء كلماته، حتى إنها قد تشي بما لا يبطن صاحبها حقيقة، فليس بالضرورة أن يُحكم على مالك بن نويرة بالنفاق لأنه نطق هذه الكلمات، لأنه نطقها مغضبًا وقد فارقته فصاحته وبلاغته، وكرامته عند حافة أنفه بعد أن سيق مصفدًا في الأغلال أمام قومه وهو سيدهم إلى خيمة خالد، وبعد أن تخلى قومه عنه وتركوه لمصيره فلم يأت أحد منهم ليشفع له ويكلم فيه خالد، وأمامه قائد عسكري يهدده ويتوعده ولا يحاول أن يرده إلى قبول أداء الزكاة باللين.

والموقف كما أراه، إن إصرار مالك على منع الزكاة وعدم تأديتها لخالد كان معاندة وشكل استفزازًا لخالد، وكلاهما فارس معتد بنفسه، وكأي شخصين يتسمان بقوة النفس فقد تعاندا وتناقرا كديكين، فكان ما كان. فظاهريًا يبدو ما دار بينهما حوارًا، لكنه في حقيقته كان فيه استقواء من خالد ألجأ مالكًا إلى أن يختار المنية على الدنية. وكان يمكن إن أخذه خالد باللين في مسألة الزكاة أن تنحل القضية، فإن أصر مالك على موقفه فيكون خالد قد أبرأ ذمته أمام الله، ولنا في رسول الله إسوة حسنة، فعندما جاءه رجل يطلب منه أن يبايعه على كل شيء إلا أنه اشترط عدم تحريم الزنا عليه، حاوره رسول الله باللين حتى طابت نفسه بتحريم الزنا وأقر به.

فإن كان هناك سبب حقيقي لعتاب الصديق المستحق ولومه لخالد فهو أنه لم يراجع الرجل مراجعة كافية ولم يمهله مزيد إمهال، ولم يُلن له القول بما يسمح له بأن يعود عن سابق رأيه بكرامة.

ثم إن الروايات اختلفت حول كيف ومتى أمر خالد بقتل مالك، فروايات تذكر أنه قد أمر بقتله بعد الحوار معه مباشرة، فلم يمهله مطلقًا، ووفقًا لفهمي لشخصية خالد بن الوليد أراها الأقرب للصحة، فخالد عجول ولا يتوقع منه أن يصبر على مالك بعد هذا الحوار المشحون.

بينما تذكر الرواية التي اشتهرت لأن الإمام الطبري رواها في تاريخه أن خالدًا أمر بأسره مع من معه، وكانت الليلة شديدة البرودة، فخرج خالد وصاح في الجند "أدفئوا أسراكم"، وهذا أمر بالقتل في لغة كنانة، فظنوا أن الأمير قد انتهى رأيه إلى قتلهم، فقتلوهم وفيهم مالك.

وهنا لا بد أن يثور سؤال، فهل قرر خالد قتل مالك فجأة بعد انتصاف الليل في هذه الليلة شديدة البرودة فلم يصبر حتى يأتي الصباح؟! لو كانت رواية الطبري هذه صحيحة فالقتل ولا شك نشب لسوء فهم لغوي لأن خالدًا لو كان قد أجل قتله ثم قرر قتله بعد أن اختلى بنفسه في خيمته وفكر في الأمر لكان انتظر إلى الصباح. ولكنها محاولة بعض دنييء النفوس إظهار الأمر وكأنه احتيال من خالد كي يُقتل الرجل ولا يُلام على قتله، وهي ادعاءات تقدح في المروءة والرجولة.

وكان عمر بن الخطاب ممن أساء الظن بخالد وقال عنه: "عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته". وقد كانت عادة عند العرب أنه عندما يقتل خصم خصمه أن يتزوج امرأته بعده، ولكن ليس في الحرب، فقد كان الزواج في الحرب مكروهًا، بل ومما يُعير به. كما شاع بين المُحدَثين أنه تزوجها من فوره لجمالها، بينما يذكر الطبري نصًا أنه تزوجها وتركها لينقضي طهرها، وكذلك ذكر غيره من قدامى المؤرخين. والعجيب أنه رغم ما لقي خالد من لوم بسبب زواجه منها سريعًا بعد انقضاء الوقعة مع قومها، فإنه قد عاند وكرر فعلته وتزوج دون تمهل بعد انتهاء حربه مع مسيلمة!

وأدهى جزء في الرواية التي حكاها الإمام الطبري هو تلك الجزئية عن ذبح مالك وذبح من معه، وجعل رءوسهم أثافي مع الحجارة يشعلون بها القدور! من ثم فالحادثة تحمل في تفاصيلها الكثير من الحقائق التي تثير الشبهات وتستدعي على خالد اللوم، ثم إنها فوق ذلك تعرضت لمزيد تشويه.

وهذه الرواية الأسطورية رواها الإمام الطبري في تاريخه، عن "السري بن يحيى، عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن خزيمة بن شجرة العُقفاني، عن عثمان بن سويد، عن ثويد بن المثعبة"، وشعيب بن إبراهيم الكوفي ضعيف الحديث، وسيف بن عمر التميمي رتبته ما بين ضعيف أو متروك الحديث، ومتهم بالوضع واتهم أيضًا بالزندقة.

وقد كان سيف بن عمر التميمي يروي فيُعلي من تميم، ويجعل لهم شأنًا في الفتوحات تهون من أمر ردتهم، وهو فوق ذلك متهم باختلاق شخصية بطولية وهمية لم يرو عنها من سبقه، ولم يورد ابن سعد لها ترجمة في طبقاته -وابن سعد من ثقات الإخباريين الأولين- وهي شخصية القعقاع بن عمرو التميمي، ولم يكتفِ باختلاقه بل ألبس سيف بين بطله الأسطوري المختلق وبين الصحابي القعقاع بن معبد التميمي فادعى لابن عمرو الصُحبة! ولو كانت شخصية البطل القعقاع حقيقية فلماذا لم يبعثه الخليفة أبو بكر إلى قومه فيردهم ويحقن به دماءهم؟ وفي كثير من الروايات التي اختلقها سيف بن عمر عن القعقاع بن عمرو نجده يجعله ندًا لخالد بن الوليد في القيادة، وربما أعلى شأنًا، وينصح خالدًا بخلاف رأيه، فيسمع خالد لرأيه وينصاع له! فهل كان خالد بن الوليد يسمع أو يرى رأيًا غير رأيه؟! وهل مثل سيف يُقبل منه روايات كتلك التي رواها عن بطل حقيقي كخالد بن الوليد؟! خاصة وقد دارت حوادثها في قومه بني تميم، وقد خرجوا من الدين وارتدوا، فأراد سيف أن يهون من أمر ردتهم ويجعل لهم عذرًا! كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أشار إلى أبي خويصرة التميمي وقال إنه رأس الخوارج، وصدق فكان أغلب الخوارج الأول منهم. وبعد أن انتشر الإسلام بين العرب وسكنت به نفوسهم صارت العزة في الإسلام تُقاس بالبلاء فيه، فإن كان قومه لم يبلوا خيرًا فقد اختلق واخترع ما يعلي من شأنهم.

ومؤرخونا تساهلوا في نقل روايات الأخبار –على العكس من روايات الحديث-، فنقلوا كل رواية بلغتهم عن حادثة، وليس معنى أن الإمام الطبري قد روى هذه الرواية أنه قد حققها، بل الطبري نفسه ذكر في مقدمة تاريخه أن "ما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا، وإنما أُتى من قِبل بعض ناقليه إلينا؛ وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا"أهـ. فالطبري ثقة، وإنما تُرد بعض رواياته بسبب ضعف رجال إسناده. وقد انتشرت الرواية الأسطورية على الرغم من وجود علل في روايتها.

ولكن المحقق والمتفق عليه أن هناك خطأ وقع من خالد بن الوليد في قصة مالك بن نويرة، والاختلاف فقط في تقدير درجته، وقد كنت حتى سنوات قريبة لا أقر بذلك، وأرى أن عمر بن الخطاب أخطأ وتحامل عليه، ولكني بعد دراسة شخصية خالد اتضح لي أن عمر لم يجانبه الصواب في أمره، وأن استئثار من له سمات شخصيته بالقيادة في ساحة الحرب يمكن أن يتسبب في إراقة كثير من الدماء الزكية، ولولا أنه ما كان الأمير وحده في فتوح الشام فلربما كانت قد حدثت مآسي أخرى. ولكن للإنصاف لا بد أيضًا أن نذكر أن بطشه ورهق سيفه كان يشيع الرعب في نفوس أعدائه، وكفى المسلمين الكثير، وأنهى حالة التمرد التي عُرفت بالردة سريعًا، وبالتعبيرات المعاصرة يمكن وصف ما كان يفعله بالحرب النفسية؛ فخالد ليس القائد المتحاور اللين الذي يمكن أن تتجرأ فتخطئ ثم تأمن عاقبة خطئك، ولا يمكن لمن كانت الغلبة له عليهم أن يأمنوا بعدها على أرواحهم. وكانت لهذه السمعة أثرها على الحالة النفسية للمرتدين أو لمن فكروا في التمرد، وجعلته من القادة العسكريين المعدودين عبر تاريخ جميع الأمم الذين لم يهزموا في أي معركة طيلة حياتهم. إن مجمل صفاته بإيجابياتها وسلبياتها هي التي صنعت منه أسطورة.

ولكن فرق بين إقرار العقلاء بوقوع خطأ وتفسيرهم لأسبابه وبين تفسير السفهاء؛ فمشكلة السفهاء أنهم لا يعرفون من هرم الحاجات الإنسانية إلا الحاجات الفسيولوجية التي لا تميزهم عن الحيوانات ويحسبون أكابر الناس ذوي الهمم مثلهم. ومن لبس ثوب الرجال عرف أن الأبطال لا يفعلون هذه الدنايا التي نسبها سيف بن عمر إلى خالد بن الوليد.

أمر آخر لا بد من الإشارة إليه من المنظور النفسي، وهو أنه مهما بلغت شجاعة وجسارة القائد العسكري فهو بشر كالبشر، تؤلمه وتؤثر فيه مشاهد القتلى والدماء، وتمثل ضغطًا نفسيًا هائلًا عليه، ومن ثم يحتاج إلى أن يروح عن نفسه –ولو قليلًا- بعد كل معركة، وما حدث أثناء حروب الردة المتعاقبة التي كان ينتهي فيها جيش من معركة فيلحق بجيش آخر ليكون مددًا له، أو يتوجه وجهة أخرى جديدة، كان شديد الضغط على كل من شارك فيها، خاصة القادة، ولو قدروا جميعًا على أن تكون لهم فسحة لفعلوا ولكنها هيبة الخليفة، والتي لم تكن لدى خالد بالدرجة ذاتها، ودعك من أن خالدًا كان يدعي أنه لا يحب الركون للراحة، فقد كان الأكثر احتياجًا من باقي القادة لمتنفس يخرجه من جو المعركة؛ لشدة شراسته في المعارك، وكانت المرأة له بمثابة هذا المتنفس، فلما ضيَّق عليه الخليفة في الزواج بعد أن فعلها مرتين في حروب الردة، لجأ إلى الحج السريع الخاطف مرة بعد فتح العراق؛ فتأخر عن جنده بعد أن أمرهم بالعودة إلى الحيرة، وتوجه إلى مكة سرًا، فأدى مناسك الحج، ثم لحق بهم، ولم يستشعروا غيبته عنهم لأيام، وكان هذا دون استئذان الخليفة أبي بكر!

والأرجح إن التشنيع على خالد بن الوليد للسياسة قاسمٌ كبير فيه، وأنه قد بدأ من منتصف القرن الأول الهجري، أي قبل ظهور هذه الرواية المعتلة لسيف بن عمر التميمي التي تضيف أجزاءً إلى القصة من شأنها أن تشين خالدًا وتطعن في مروءته، ومعلوم أن خالد بن الوليد كان كثير الولد، ولكن مات أربعون من أولاده في طاعون عمواس، ولم يبق له سوى ولدين؛ المهاجر بن خالد، وكان أحد قواد جيش سيدنا علي في صفين، ومات فيها، وعبد الرحمن بن خالد وكان معه لواء معاوية يوم صفين، كما كان يستعمله معاوية على غزو الروم. وكان عبد الرحمن قد أحب سكنى حمص كأبيه، وكان رفيع الشأن عند أهل الشام، وهذا هو مربط الفرس.

ويروي الرواة أن معاوية قبل أن يأخذ البيعة ليزيد اللعين سأل أهل الشام ‏يستطلعهم عمن يرونه كفؤًا بالخلافة؛ لعلمه أن ابنه الفاسد الفاسق لو لم ينصره أهل الشام فلن ينصره أحد، فجاءه رد أهل الشام أنهم يحبون عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ‏ويرونه جديرًا بالخلافة، فما هي إلا مدة يسيرة ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسمومًا، رغم أن ‏القتيل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من كبار قادة معاوية، ولكن لم يشفع له هذا بسبب ما رآه معاوية من مزاحمته للسفيه ‏يزيد في أمر الخلافة.‏ وقد روى الخبر كثيرون.

روى الإمام الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج5، ص 227) في حوادث سنة ست وأربعين من الهجرة خبر انصراف عبد الرحمن بن خالد إلى حمص وهلاكه، قال: "وفيها انصرف عبد الرحمن بن خالد بن الوليد من بلاد الروم إلى حمص، فدس ابن أثال النصراني إليه شربة مسمومة –فيما قيل- فشربها فقتلته. وكان السبب في ذلك ما حدثني عمر، قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب؛ أن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظُم شأنه بالشأم، ومال إليه أهلها، لما كان عندهم من آثار أبيه خالد بن الوليد، ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسه، حتى خافه معاوية، وخشي على نفسه منه، لميل الناس إليه، فأمر ابن أثال أن يحتال في قتله، وضمن له إن هو فعل ذلك أن يضع عنه خراجه ما عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد حمص منصرفًا من بلاد الروم دس إليه ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفَّى له معاوية بما ضمن له، وولّاه حمص، ووضع عنه خراجه"أهـ.

وفي كتاب "المنمق في أخبار قريش" لابن حبيب البغدادي ورد نصًا في هذا الشأن "ذكر ابن الكلبي عن خالد بن سعيد عن أبيه أن معاوية لما أراد أن يبايع ليزيد قال لأهل الشام‏:‏ إن أمير ‏المؤمنين قد كبرت سنه ودنا من أجله، وقد أردت أن أولي الأمر رجلاً بعدي فما ترون فقالوا‏:‏ عليك بعبد ‏الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة، وكان فاضلاً. فسكت معاوية وأضمرها في نفسه، ثم إن عبد الرحمن ‏اشتكى فدعا معاوية ابن أثال وكان من عظماء الروم، وكان متطببًا يختلف إلى معاوية فقال‏:‏ ائت عبد ‏الرحمن فاحتل له، فأتى عبد الرحمن فسقاه شربة، فانخرق عبد الرحمن ومات"أهـ. وقد روت كتب السير كيف اقتص لعبد الرحمن ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد؛ فقتل من قتل عمه. والرواية شديدة الوضوح، وغير مطعون فيها.

ومما يزيد الطين بلة أن عبد الرحمن بن خالد ولّاه سيدنا عثمان بن عفان ثم ولّاه معاوية بن أبي سفيان على حمص، وساند معاوية ضد سيدنا علي، بل وكان حامل راية معاوية في صفين، وأول من دعا ‏بمعاوية خليفة بعد مقتل سيدنا علي، ومن ثم فإن بعض الشيعة هم أيضًا قد أحبوا تلك الأكاذيب التي شانت ‏سيف الله المسلول فلم يكذبوها، بل ربما ساعدوا في رواجها خاصة وفي القصة فرصة للطعن في الصديق ‏رضي الله عنه، علمًا بأن أخا عبد الرحمن بن خالد -المهاجر بن خالد بن الوليد- كان مع علي كرم الله ‏وجهه وقُتل يوم صفين، ويعدونه وابنه خالد بن المهاجر من أعيان الشيعة.

إن سيكولوجية البطولة والعظمة لا تتعلق بك وبامتلاكك صفات القيادة والسيادة وحدها، ولكنها تتعلق أيضًا بالنظرة التي ينظرها الناس إليك، وبحسدهم إياك، ورميك بسهامهم في حياتك، وربما حتى بعد أن ينتهي دورك على مسرح الحياة، فنجد كل ذلك التشنيع في حق سيف الله المسلول المتوفى عام 21 هـ أي قبل حدوث ‏الفتنة الكبرى التي لج فيها المسلمون، ولا ناقة له فيها ولا جمل.‏ لم يستطع الأمويون أن يشينوا ابنه عبد الرحمن لأنه كان من قادة معاوية، وربما لأن أهل الشام أحبوا عبد ‏الرحمن بن خالد لبطولته وبطولة والده، فعملوا على تشويه تلك البطولة، وأكمل سيف بن عمر التميمي النهش في سيرته. وصدق من قال: إذا كنت كبيرًا صرت مرمى للسهام.

الجمعة، 22 أكتوبر 2021

263-قطوف تربوية

 

قطوف تربوية

د/منى زيتون

الثلاثاء 19 أكتوبر 2021

وعلى المثقف، الجمعة 22 أكتوبر 2021

http://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959016

جمعت في هذا المقال أشتات متفرقات من آرائي وخبراتي في ميادين العلوم الاجتماعية.

 

علاقة التمييز بالذكاء

في مقالات سابقة تحدثت عن التعميم والتمييز، وذكرت أن التمييز على عكس التعميم، هو القدرة على التفريق بين المثيرات المختلفة في البيئة، ومن ثم إصدار الاستجابة لمثير دون آخر.‏

وإن دققنا لاكتشفنا أن التعلم في حقيقته قائم على عمليات تمييز متتالية، وأن هذا ينطبق على عمليات وأشكال التعلم كافة، بدءًا من تعلم الأطفال حروف الهجاء والأرقام، فيميز الطفل أشكال كل حرف عن الآخر، ويميز نطقه، ويميز إن كان الحرف يوصل بما قبله أو بما بعده عند الكتابة. والعامل في المصنع يتعلم كيف يصدر استجابات مختلفة مميزة لكل خطوة من خطوات التصنيع، ولكل صوت يصدر عن الماكينة، وطبيب القلب يستمع إلى دقات قلب المريض، ويميز بين تلك الأصوات، ويعطي تشخيصه الأولي للحالة وفقًا لما سمع. فكل ما نتعلمه هو نتاج لتمييزنا بين المثيرات واستجاباتنا المختلفة تجاهها.

وهذا لا يلغي أهمية التعميم؛ فالتعميم هو أساس تكون المفاهيم، لأن كل مفهوم في حد ذاته هو تعميم لجنس دون تمييز بين أفراده، فالكتاب (أ) والكتاب (ب) والكتاب (ج) كلها تندرج تحت تعميم لمفهوم كتاب، والشجرة (أ) والشجرة (ب) والشجرة (ج) كلها تدخل تحت مفهوم شجرة، ولكن التعلم الحقيقي يتعدى مرحلة تعميمية تكوين المفاهيم، ويقتضي التمييز بين المفاهيم ومعرفة أوجه ‏الشبه والاختلاف بينها، كما يقتضي التمييز بين نوع ونوع آخر يندرج تحت المفهوم ذاته؛ ومن ثم فالتمييز هو الذي سيجعلك تدرك الفرق بين شجرة التفاح وشجرة الموز وشجرة الزيتون.

وقلنا إن تعلم التعميم يسبق تعلم التمييز، فالإنسان لا يميز بدقة بين المثيرات إلا في مرحلة متقدمة من نموه ‏العقلي، وعليه فإنني أرى أن القدرة العقلية العامة المرتفعة للإنسان هي التي تمكنه من التمييز بتحديد أوجه التشابه والاختلاف بين موقفين قد يراهما من هم أقل ذكاءً وأقل قدرة على التمييز متشابهين ولا فارق بينهما، فيميلون ‏إلى إطلاق استجابة متشابهة لموقفين مختلفين! وتقول العامة عندنا في مصر عن الغبي إنه ‏لا يميز!‏

وكانت من ألعابنا ونحن صغار أن نتدرب على اكتشاف الاختلافات بين صورتين تبدوان متطابقتين، أو المقارنة بين كذا وكذا من كل الأوجه الممكنة، أو ذكر الفرق بين كذا وكذا في أحد الوجوه تحديدًا، وغيرها من ألعاب التمييز التي تنمي الذكاء وتساعد الإنسان على رؤية المواقف بصورة أكثر دقة، وليتنا نكثر منها مع الجيل الجديد.

 

هل يكذب الأطفال؟

يُقال إن للكذب ركنان رئيسيان وهما أن تقول ما يخالف الحقيقة، وأن تعلم أن هذا القول مخالف للحقيقة بالفعل ومع ذلك فأنت تدّعيه، فإن فُقد الركن الثاني لم يُعد ما قيل كذبًا.

وللتوضيح فإن أحدًا يمكن أن يسألني عن فلانة، وأنا أحسب إنها في مصر، ولكني أخبره عامدة إنها مسافرة خارج البلاد، فهذا القول يعد كذبًا مني على السائل، حتى وإن اتضح لي بعد ذلك إنها بالفعل مسافرة، لأن اعتقادي في عدم صحة ما أخبرت به أهم من كون القول يوافق الحقيقة ولا يخالفها.

ولأن النية كثيرًا ما تنبني على الوعي والإدراك، والطفل ليس واعيًا ومدركًا لما حوله درجة وعي وإدراك البالغين فإن كثيرًا من السلوكيات السيئة التي يأتيها الأطفال من الصحيح أن نصفها بأنها سلوك يشبه سلوك كذا عند الكبار؛ فإن أخذ الطفل شيئًا ليس له فهذا سلوك يشبه سلوك السرقة عند الكبار، ولكنه ليس سرقة ولا يؤاخذ عليها، وكذلك فإن إخبار الطفل بشيء يخالف الحقيقة لا يعد في أحايين كثيرة كذبًا لأن الطفل –خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة- لا يميز بين الواقع والخيال، وتمييزه ضعيف بين المثيرات البيئية، وعليه فلا تُعتبر شهادتهم ذات قيمة أمام القضاء.

وبالرغم من ذلك فالأطفال أحيانًا ما يكونون واعين بأنهم يكذبون، وأكاذيب الأطفال تتنوع بتنوع الدوافع التي دعتهم إليها، فأحيانًا يكذبون تهربًا من العقاب، وكثيرًا ما يكذبون رغبة في الحصول على إثابة لا يستحقونها.

 

كم افتقدنا ثقافة الأتراك

لكل شيء يختص بالإنسان محاسن مهما كثرت وتعددت مساوئه، والحكم العثماني بقدر ما أضر بالبلاد والشعوب العربية اقتصاديًا وتعليميًا، وأدى لتخلفها حضاريًا، فقد أكسب شعوبنا عادات اجتماعية رائعة لا زال من يتمسك بها –وأغلبهم في الريف- يشعرون أنهم يمسكون بالذهب.

ولا بد من الإقرار أنه لا يوجد مجتمع ملائكي، وجميع المجتمعات الإنسانية لها وعليها؛ وفي كل مجتمع هناك مهذبون كما أن كل مجتمع به سفلة، ولكننا عندما نتحدث عن ثقافة مجتمع فنحن نعني الطريقة التي يُربى بها المحترمون من أبنائه وليس الرعاع.

وثقافة الأتراك الاجتماعية ولا شك تحمل الكثير من الإيجابيات التي كنا قد أخذناها عنهم فترة تأثرنا الثقافي بهم، وأبرزها احترام المرأة واحترام الكبير؛ كما أن عادات دخول المنازل سواء لأهلها أو زوارها وعادات الضيافة قد ارتبطت بالثقافة التركية، فكانت الأحذية تُخلع على باب المنزل، وهناك حجرة مخصصة للضيوف في المنزل، وغيرها.

ولعل احترام المرأة الزوجة من أهم ما يميز ثقافة الأتراك؛ فالرجل التركي يُربى على أن الله قد خلقه لحماية زوجته، ولا معنى لرجولته إن أُهينت. هم يفهمون معنى القوامة الحقيقية على المرأة وليس قوامة الغطرسة المعروفة عند العرب، وعندما كانت الثقافة التركية سائدة لدينا إبان الحكم العثماني تنبه المصريون إلى هذا المعنى، وإلى أثر الرجل في تقرير احترام زوجته في المجتمع، فشاع بينهم القول: "اللي زوجها يقول لها يا هانم يتلقوها الناس من على السلالم".

أما عن احترام الكبير، فقد يقول قائل إن احترام الكبير ثقافة شرقية، ولا تجوز نسبتها إلى الأتراك تحديدًا، وليس منا من لم يوقر كبيرنا، وهذا صحيح إجمالًا، ولكن هناك عادات لا زلنا نجدها في الريف المصري ترتبط بالثقافة التركية تحديدًا، مثل تقبيل يد الأب والأم والجد والجدة، ومناداة الأخت الكبرى بـ "أبلة فلانة"، ومناداة الأخ الكبير بـ "أخي فلان"، وغيرها من العادات التي يعتبر من لا يسلك وفقًا لها مفتقدًا للأدب.

وحتى قريب كان ينتشر في المجتمع احترام الآباء والأمهات والجدود والجدات والأعمام والعمات، وأخذ مشورتهم في كل أمر، وهذا على عكس ما آل الحال إليه الآن في كثير من العائلات بعد أن أصبحنا متأثرين بالثقافة الغربية التي تزيد من شعور الفرد بذاتيته وتقلل انتمائه للأسرة.

بل كان لكل عائلة كبيرة لدينا مجلس كبراء، والعائلات التي تفتقده لا تعد من العائلات ذات الوزن في المجتمع، وكانت الثقافة السائدة في مصر إن "اللي مالوش كبير يشتري له كبير"، وهو قول يذكرنا بالموالاة والإجارة عبر التاريخ للغرباء والضعفاء، عندما كان الرجل العربي يقدم إلى أرض غريبة فيوالي بعض أكابر القوم منهم ليجد حماية.

ولا شك أن في وجود كبير يأتمر الناس بأمره ويستمعون لكلمته صلاح حال لهم، ولو راجعنا وجهة النظر الشرعية في المسألة، فسنجد تأكيدًا على ضرورة أن يكون أمير لكل جماعة، ولو كنتم ثلاثة فائتمروا، وقد حفظ المؤرخون لسيدنا علي قوله ردًا على الخوارج: "قالوا لا إمام ولا بد للناس من إمام بر أو فاجر". ومع ذلك فقد اختلف المسلمون سُنة وشيعة حول شروط الإمام وطريقة اختياره، ما بين شورى وتوصية ووراثة، وبعض المعتزلة كأبي بكر الأصم كان له رأي عجيب بعدم ضرورة الإمامة!

والكبير مكانة، ومن يوضع فيها يحسن سلوكه ولو خوفًا من السيرة السيئة، والتاريخ يحكي عن أبي سفيان عندما سأله قيصر الروم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف خاف أن يكذب عليه فتنزل قيمته بين القوم، فاضطر أن يصدقه.

وأن تكون كبيرًا تعني أن تكون مسئولًا؛ أي أن تتحمل المسئولية عن أولئك الذين أنت كبيرهم. ويذكر لنا التاريخ موقف السيدة صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول يوم غزوة الخندق، عندما شعرت باليهودي يحوم حول الحصن وليس فيه رجال، واضطرت لتحمل المسئولية بأن قتلته كي لا يعود إلى قومه ويخبرهم أن الحصن ليس به سوى النساء والأطفال، وربما أغاروا عليه.

وعلى المستوى النفسي، بإمكاننا القول إن الطفل لا يشعر بالأمان إلا في وجود من هو أكبر منه. نكبر في العمر ومع ذلك نبقى نشعر بالأمان في وجود هؤلاء الذين طالما أشعرونا به، وحتى بعد أن يكبروا هم وينعكس الحال ليحتاجوا إلينا، نشعر باليتم والضياع عندما نفقد أحدهم.

لكن ما زاد عن حده ينقلب إلى ضده، ويتعدى إلى نقيضه، ففي بعض الأسر الكبيرة التي لا زالت تتمسك بالعادات والتقاليد القديمة كثيرًا ما يصير الائتمار بأمر الكبير وأخذ مشورته في الأمور الخاصة تعديًا على حرية الفرد في تقرير أمور لا ينبغي لأحد التدخل فيها ويجب أن يقررها بنفسه. وهنا يجب التنبيه على أن الانتماء للجماعة لا ينبغي أن يكون على حساب حقوق وخصوصية الفرد.

 

معنى أن تكوني هانم

ينتشر في الثقافة العربية لقب هانم أو خانوم أو خاتون بمعنى سيدة، ويُطلق دومًا معقبًا على أسماء النساء من علية القوم.

وأثناء سنوات دراستي الجامعية قرأت لأول مرة "حمار الحكيم"؛ وهي ليست رواية بالمعنى التقليدي؛ وإنما واحدًا من كتب توفيق الحكيم الذي يعد ضربًا لطيفًا غريبًا من السيرة الذاتية لا يوجد عند أحد سواه من الكتاب في الشرق أو الغرب، والذي يحكي لنا فيه بعضًا من حوادث حياته مختلطة بأفكاره -عن نفسه وعن المجتمع- التي تتداعى مع تلك الحوادث، والتي فيها -على بساطتها- من صنوف الحكمة والفلسفة ما فيها.

في هذه الرواية يحكي الحكيم –من بين ما يحكي- عن امرأة أجنبية كانت زوجة المصور الأجنبي الذي جاء إلى مصر ضمن فريق لأجل تنفيذ مشروع فيلم عن الريف المصري، كان يتم الإعداد له قبل قيام الحرب العالمية الثانية، وكان المفترض أن يقوم توفيق الحكيم بكتابة السيناريو الخاص به.

ويروي الحكيم عن تلك المرأة كيف اهتمت بتعليم الفلاحين أسس النظافة الشخصية وكانت تداوي المرضى وتواسي الفقراء، وتعمر البيئة التي وجدت فيها؛ فكانت في نظره "سيدة" بالمعنى المستحق للكلمة، ولم تكن كمثيلاتها من الهوانم الشرقيات الأشبه حالًا بالجواري البيض المتخذات للمتعة، واللاتي لا عائد على المجتمع من وجودهن فيه، فوجودهن مثل عدمهن، واللاتي لا زلن الفئة الأكثر انتشارًا من النساء في الطبقة المخملية في مجتمعاتنا الشرقية.

فكان الحكيم يرى أن الهانم أو السيدة هي وظيفة تقوم بها المرأة في المجتمع، وليست لقبًا تتلقب به من لا تعرفن هذا النوع من المسئوليات التي يلزم للسيدة أن تؤديها في مجتمعها، والخلاصة إن قيمتك تتحدد بدرجة تأثيرك في الآخرين؛ فبقدر تأثيرك تكون قيمتك.

 

حضارتنا المادية وتدمير الفطرة

الإنسان مفطور على معرفة الأخلاق وتحديد الخير من الشر، وحتى قريب كان أكثر الناس فسقًا يتخفى عند فعله الشر عن أعين الناس ولا يعترف بارتكابه إلا مرغمًا.

ولعل من أكبر مشكلات العصر الحديث أن هناك من يريدون أن يغيروا القوانين الأخلاقية بداخلنا بحيث تنقلب بعض الأفعال المشينة لتصير أفعالًا عادية لا يأنفها الناس ويتعاملون معها على أنها استجابة لطبيعتهم البشرية، وكما لو كان هذا جزءًا من تطور وترقي البشر؛ فالإنسان البدائي وفقًا لهؤلاء هو من كان يأنف هذه الأشياء الطبيعية بزعمهم ولا يتقبل الاختلاف!

ومن السلوكيات التي يريدون تغيير نظرة الناس إليها الزنا والشذوذ الجنسي، بدعوى أنها سلوكيات توجد حولنا في الطبيعة، وتُعرف في أنواع حية أخرى!

ولو كانت الأمور تُقاس على هذا النحو فإن ذكر حصان البحر هو من يحتضن البيض بعد أن تضعه الإناث، وهذا سلوك طبيعي بالنسبة لهذا النوع، ولكنه ليس طبيعيًا في العموم بالنسبة للأنواع الحية، فهل يُعقل أن يحمل رجل أطفاله بدلًا من زوجته ويدعي أحد أن هذا طبيعي لأنه سلوك يوجد في الطبيعة؟!

إن سلوك أي نوع حي يكون طبيعيًا بالنسبة لنوعه، وليس لأنه موجود في الطبيعة، فالمغالطة إنهم يقيسون سلوكيات نوع حي على نوع آخر، فيحاولون إيهامك أن الشذوذ الجنسي بين البشر شيء عادي وعليك تقبله لأن هناك حيوانات تأتيه!

إن تاريخ الشذوذ البشري بدأ مع قرية سدوم وعمورة قوم لوط، ولم يُعرف قبلهم. والشذوذ في الحيوانات معروف أيضًا من قديم، ولعل أقدم ما حُكي عنه كان في ذلك الفصل الذي كتبه الجاحظ في كتابه "الحيوان" بعنوان "ما شابه الحمام فيه الناس" حيث ذكر فيه –ضمن ما ذكر- أن أفراد نوع طائر الحمام معروف بينهم سلوك الشذوذ الجنسي؛ وقصد أن هذا السلوك المشين يوجد بين الحمام كما يوجد بين البشر، ولم يتخذ هذه المشابهة لتبرير الشذوذ لدى بعض البشر.

 

النمط الاستهلاكي المتزايد

من ينتمي إلى جماعة ينقاد لها كما ينقاد الخروف في القطيع؛ لذا لا يمكن تفسير تصرفاته بدقة في ضوء ‏مبادئ علم النفس الفردي.‏ وللحق فإن مادية البشر في عصرنا وصلت إلى حد مضجر، بسبب شيوع الفساد والنهم وثقافة الاستهلاك البلهاء التي يقيس بها كثير من البشر -خاصة النساء- قدر رفاهيتهم، ومن ثم سعادتهم!

ولا ينكر عاقل إننا كبشر بحاجة للمال لنتقي شظف العيش ونتجنب مرارة الاحتياج، وليس لأن نغرف من المال كما لو كان بحرًا، ناسين أو متناسين أن ماء البحر لا يروي عطشًا!

ومن أسوأ ما انتشرت من ظواهر في المجتمع المصري في السنوات الأخيرة ظاهرة الغارمات اللاتي يُسجن لعدم قدرتهن على أداء الأموال المستحقة عليهن نظير شراء مستلزمات زواج بناتهن، وهي الظاهرة المرتبطة بالنمط الشرائي المتزايد للشعب المصري، والنهم إلى تجريب كل شيء والاستحواذ على كل شيء ولو كان لا يلزم ولا فائدة منه.

إحدى السيدات اللاتي تتولين تجهيز البنات الفقيرات للزواج كتبت ذات مرة على صفحتها على الفيسبوك إنها أثناء مراجعتها لفواتير مشتريات بعض البنات تجد أنواعًا عجيبة من المشتريات وبأسعار أعجب، وآخر فواتير راجعتها كان من بينها فاتورة شراء ورد صناعي بقيمة ثلاثة آلاف جنيه مصري! فهل يُعقل أن تُسجن أم لأن ابنتها ناقصة الأدب والتربية قد اشترت أمثال هذه التوافه ولم يهمها ما يمكن أن يحدث لأمها من عاقبة شراهتها الشرائية؟ وهل لو كانت هي من ستوقع على فاتورة الشراء ووصل الأمانة المرفق بها كانت ستشتري هذا الورد؟!

ويترافق مع هذا السفه من جانب الفتيات الفقيرات وأمهاتهن سفهًا موازيًا من حمواتهن المستقبليات، فأغلب الفتيات تعللن نهمن الشرائي للوازم الجهاز بما يفوق مستوياتهن المعيشية ويشكل ضغطًا على أسرهن بأنهن لو لم يفعلن فإن حمواتهن ستَعِبن عليهن وتنتقصن منهن! لأن هناك مستوى معين من التجهيزات للزواج تقوم الفتيات من الأسر المقتدرة ماديًا بشرائها، وكل أم ترغب أن يتم تجهيز بيت ابنها بالمستوى ذاته!

ومن مظاهر النهم المتزايد في مجتمعنا ما نلاحظه عندما نفحص الصور التي تعرضها بعض الصفحات الالكترونية المختصة باسترجاع الواقع المصري منذ ‏أواخر القرن التاسع عشر فنجد أن أغلب النساء في الريف والحضر نحيفات -رغم وجود تقبل للامتلاء وعدم النفور من المرأة ‏الممتلئة- ولا حديث عن النحافة والتنحيف بالرغم من ذلك؛ بمعنى أنهن وصلن لهذه الأوزان بشكل طبيعي، بينما الفتيات في عصرنا منهن من نراها فنظنها خارجة من مجاعة بينما هي لا تتوقف عن الأكل بشراهة، ولكنها تحافظ على وزنها بالرياضة وشرب المشروبات التي ترفع معدل الحرق في الجسم! والخلاصة أنه من الواضح أن استهلاك الفرد للطعام في مصر قد تزايد، والإحصاءات تؤكد صحة ذلك.

ووصل تزايد الاستهلاك في عصرنا إلى الملابس؛ فحتى عقود كانت الناس تحرص على شراء أقمشة جيدة لتُفصل منها ملابس قيّمة تعيش طويلًا، حتى أن بعضها كان يتوارث، خاصة فساتين الزفاف، وكان هذا ينطبق على جميع طبقات المجتمع مع الفوارق بين كل طبقة اجتماعية وأخرى، ولكن كان الكيف عمومًا أهم من الكم، وسبق أن كتبت مقالًا عن "أميرات الدولار" وهو مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر، يشير إلى الفتيات صاحبات الثروة وضيعات الأصل، واللاتي كن يبالغن في أعداد ‏الأزياء الجديدة اللاتي كن يعددنها في كل موسم، مقارنة بما تعارف عليه الحال بين الأميرات الحقيقيات.

ووصل الحال بنا في العصر الحديث إلى أن صارت أميرات الدولار هن الأغلبية في مجتمعاتنا إلى درجة أن الملابس لم تعد وسيلة للتفريق بين المستويات الاجتماعية، وقد قرأت منشورًا على موقع الفيسبوك عن نادي الجزيرة الأرستقراطي في القاهرة ورد فيه أن موظفي الأمن لم يعودوا يميزون بين عضوات النادي وبين مربيات الأطفال المصاحبات لهم وكثيرًا ما يخطؤون بين الفريقين! ورغم أن المنشور عنصري ومشين لكنه يظهر إلى أي حد بلغ إنفاق بعض من تنتمين إلى الطبقة المتوسطة في المجتمع على مظهرهن!

 

متناقضات

طوال عملي في ميدان التعليم والتربية لم يصدف أن وجدت ذكيًا خبيثًا، فكل ذكي طيب، بل وقد يكون ساذجًا، بينما يكون الخبثاء على الدوام متخلفين دراسيًا حتى لو ذاكروا واجتهدوا، وكأنما قد أُوصد باب العلم أمامهم، وإن نجحوا ووصلوا لمراتب يكون ذلك بأيدي خفية تدعمهم لا عن أحقية وجدارة.

وطوال حياتي كلها وجدت اقترانًا بين التنطع في عدم إتيان المباحات، بتحريمها أو التورع عنها للشك فيها!! وبين إتيان الرُخص التي خصّ الله بها الضعفاء ولا تخصهم، ولا أعني رخصًا مثل قصر الصلاة في السفر، بل ما رأيته بأم رأسي مما يفعله بعضهم في الحج الذي يقضونه استجمامًا في الخيام ويتركون مناسكه وهم أقوياء على أدائها، في حين يحرمون كل طيب تنطعًا دون دليل، ولعلها سمة من سمات خوارج العصر!

*************

سلوكات غريبة تنتشر قد لا ندرك الأفكار التي تستند إليها!

ليست أخطاء التفكير وحسب هي ما يمكن أن تغير البنية المعرفية لأفراد المجتمع، بل يمكن نشر فكرة في المجتمع، والترويج لها، على أن يكون المعروض سطحيًا كقمة جبل الجليد، بينما جذور الفكرة الحقيقية تبقى في العمق، ولا يكون سهلًا على المواطن العادي في أحايين كثيرة إدراكها.

من أمثلة ذلك محاولة إغراق المجتمع المصري مؤخرًا في الفكر الشيوعي شيئًا فشيئًا، وفكرة مثل "من كلٍ حسب ما يملك، ولكلٍ حسب احتياجه" التي توجب التفاوت بين أفراد المجتمع في تقدير الخدمات، عواقبها معروفة يشهد عليها التاريخ، وقد جربناها في مصر وجربنا التأميم ونزع الملكيات الخاصة للأغنياء، لتنشأ طبقة أكثر ثراء وأشد وضاعة، وليزداد المواطن العادي فقرًا.

يجب أن نعي جميعًا أن وجود شرائح لحساب الكهرباء، وتفاوت تقدير الضرائب وفقًا للدخل، وغيرها، هي أفكار شيوعية، فكل سلعة ينبغي أن يكون لها ثمن موحد يُعامل على أساسه الجميع. وسواء كنت من المستفيدين الآن من تطبيق تلك الأفكار على أرض الواقع أو من المتضررين فيجب أن تُنكرها؛ لأن انتشار الفكر الشيوعي خطأ في حد ذاته، وإن لم تظهر عواقبه السيئة الآن فستظهر لاحقًا على المجتمع ككل.

وإغلاق المحال وقت الصلاة هو سلوك ينطلق من فكر سطحي يتمسح بالسلف، والسلف منه براء، وما أُمر الرجال بأن يذروا البيع إلا وقت صلاة الجمعة، ووقت الصلاة متسع. ولكن الجذر الحقيقي للفكرة عند من دعوا إليها في مجتمعنا لا علاقة له بأداء الصلاة في وقتها، ولكنه مجاهرة بالانتماء العقدي، وتشبه بالحال في الدولة التي يعلنون انتماءهم إليها فكريًا.

إن بث فكرة جديدة في المجتمع يعني تقبل سلوكات جديدة ترتبط بها، وانتشار ‏السلوكات دليل على تخلل الأفكار التي تنبني عليها في العقول وتقبلها، حتى وإن كنا لا ندرك ‏ونعي العمق الحقيقي لتلك الأفكار. والحل يكمن لأجل تغيير تلك السلوكات في تفنيد الأفكار ‏التي تقف خلفها وبيان عوارها.‏