الأربعاء، 14 سبتمبر 2022

295-نظرية القهوة باللبن في وراثة لون البشرة!

 

نظرية القهوة باللبن في وراثة لون البشرة!

د. منى زيتون

السبت 10 سبتمبر 2022

على المثقف، الخميس 15 سبتمبر 2022

https://www.almothaqaf.com/qadaya/965073

 

يُنسب للشيخ الرئيس ابن سينا مقولة "الفطانة البتراء أضر على صاحبها من الجهل"؛ ذلك أن الجاهل تمامًا ربما يصمت فيريح البلاد والعباد، لكن من يظن في نفسه العلم بشيء هو في حقيقة الأمر يجهله، أو ربما لديه فقط معلومات قشورية عنه، فإنه قد يتكلم فيسيء إلى نفسه وإلى الآخرين.

وما دفعني لكتابة هذا المقال أنه ترامى إلى سمعي كلام متهافت وصل حد الخوض في الأعراض والتشكيك في الأنساب، حدث من بعض المراهقين ممن تتوقف معلوماتهم عن علم الوراثة حد ما درسوه في كتاب "العلوم" بالصف الثالث الثانوي، وكان ضحيتهم أحد مشاهير المجتمع المصري من ذوي البشرة السمراء، والذي أنجب طفلًا أبيض البشرة من زوجته بيضاء البشرة، وهو ما لا يتفق ونظرية خلط القهوة باللبن في علم الوراثة التي يعتقد فيها هؤلاء المراهقين، شأنهم شأن أغلب العوام!

ما هو سبب تلون بشرة الجلد؟

مبدئيًا فإن تصبغ بشرة الجلد ينتج عن إفراز الخلايا الصباغية في البشرة صبغ الميلانين، ولأن الميلانين يختلف نوعاه (يوميلانين &  فيوميلانين)، وتختلف كميته المفرزة من فرد لآخر، ويختلف حجم وتوزيع الأجسام الصباغية، فإن درجة تصبغ لون الجلد تختلف بين البشر.

وتوجد علاقة واضحة بين أشعة الشمس وتصبغ البشرة. وعلى وجه الدقة فإن علاقة درجة تصبغ بشرة الجلد بأشعة الشمس هي علاقة تأثير وتأثر؛ فقدرة الأشعة فوق البنفسجية على اختراق خلايا بشرة الجلد تتأثر سلبًا بزيادة درجة تصبغ الجلد، كما يستشعر البشر أثر التعرض لأشعة الشمس الحارقة، فنراه في زيادة تلون البشرة.

وعمومًا فإنه كلما اقتربنا من خط الاستواء كانت كميات الأشعة فوق البنفسجية في الجو أكبر وزادت درجة تصبغ الجلد والتي تسهم في حماية الجلد من تلك الأشعة، بينما كلما اقتربنا من القطبين وقلت كميات وتأثيرات الأشعة فوق البنفسجية لا يحتاج الجلد لتكوين صبغ الميلانين، فيكون لون جلد سكان هذه المناطق فاتح بوجه عام.

وعليه فقدرة خلايا بشرة جلد الإنسان على إفراز صبغة الميلانين، وهو ما يسبب اسمرار البشرة، تمثل خط الحماية الأول للجلد من أثر أشعة الشمس ‏الضارة، كون الميلانين يمتص أشعة الشمس، بينما كلما قل إفراز صبغ الميلانين في خلايا البشرة سهلت اختراق أشعة الشمس للجلد، ومن ثم زاد تكون فيتامين د. ولأن النساء البالغات بحاجة إلى تكون فيتامين د للمساعدة على زيادة امتصاص الكالسيوم الذي ينتقل للأطفال من الأمهات أثناء الحمل فإن متوسط درجة تصبغ لون البشرة في النساء يكون أقل مقارنة بالرجال في التجمع السكاني ذاته.

ولدي صديقة بشرتها تكاد لا تكون الميلانين مهما تعرضت لأشعة الشمس الحارقة، فهي تحمر وتلتهب فقط. وهذا خطر للغاية، لأن البشرة الحساسة التي تفشل في إفراز صبغة الميلانين لحماية الجلد من أثر أشعة الشمس الضارة تكون أكثر عرضة للإصابة بسرطان الجلد، بينما من المؤكد أن البشرة الفاتحة التي لا تفرز الميلانين أكثر قدرة على تكوين فيتامين د.

وتغير لون الجلد بتأثير البيئة لا يقتصر على الإنسان، فالحرباء على سبيل المثال قادرة على تغيير لون جلدها في ثوانٍ معدودات لتتوافق مع لون البيئة، وهناك تجارب أجريت على نوع من الأسماك يُعرف بسمك الغوبي له بقع على جلده تمت تربيته في أحواض تحتوي حصى بأحجام مختلفة، ووُجد أن أعداد ومساحات البقع على جلد السمك يتغير بتغير البيئة.

لكن صفة لون البشرة في الإنسان ليست صفة بيئية وحسب مثلما هو الحال في الحرباء، بل تلعب الوراثة الدور الأكبر فيها، وإن كان هذا الدور يبدو غامضًا في كثير من الحالات!

ووفقًا لعوامل الوراثة والبيئة مجتمعين، ينتج تباين واسع في لون الجلد بين البشر، إذ يمكن القول إن هناك ما يسمى بطيف لون الجلد.

التباين الواسع لأثر الوراثة في صفة لون البشرة

تنتقل الصفات الوراثية في الأنواع الحية من الأم والأب إلى أبنائهما عبر ما يُسمى بالجينات، حيث يحصل الإنسان على نصف جيناته التي تحمل معلوماته الوراثية من أمه، ويحصل على نصفها الآخر من أبيه. ولا يعني هذا أن الإنسان يرث الصفات الظاهرة على آبائه فقط، فقد يحمل الأبوان صفات على جيناتهما من الأجداد ولا تظهر عليهما كونها متنحية، ويمكن أن تنتقل منهما إلى الأحفاد وتظهر عليهم.

والتصور المنتشر عن وراثة لون الجلد في الإنسان أنها تحكمها جينات تراكمية (متعددة الجينات)، مسئولة عن إفراز صبغ الميلانين، في عملية تُعرف بتوليف الميلانين؛ فالجينات السائدة تفرز الميلانين بنسبة كبيرة، بينما الجينات المتنحية تفرزه بنسبة بسيطة، وعدد ما ورثه الإنسان منها يُفترض أن يحدد درجة لون بشرته، والأمر وفقًا لهذا التصور أشبه بمن يمسك كوبين أحدهما يحتوي مغلي القهوة والآخر يحتوي اللبن الحليب، وبمقدار النسبة التي توضع من كل منهما يتشكل لون المزيج. وهذا تصور شديد التبسيط.

إذ ينبغي التأكيد على عدة أمور؛ أولها أن الجينات العديدة التي تحكم وراثة لون بشرة الإنسان ذات سيادة (هيمنة) غير كاملة، وثانيها أن كل جين منها له أليلات كثيرة (أشكال بديلة من الجين)، علمًا بأن الجينوم الإنساني تتضمن شفرته أكثر من ثلاثة مليار رمز، أغلبها مناطق تنظيمية، ومن ثم فإنه توجد عوامل عديدة تحدد نوع وكمية وتوزيع الميلانين في البشرة، وكثير منها لم يُكتشف حتى اليوم، وإن لم يكن لدى العلماء شك في وجودها.

وكما أن تأثير البيئة الواحدة يتفاوت على بشرة فردين، فكذلك الحال بالنسبة لأثر الجينات التراكمية؛ أي أنه يمكن أن يكون التركيب الجيني للجينات المسئولة عن لون البشرة واحدًا لدى فردين، ولكن درجة لون بشرتيهما يختلف بدرجة كبيرة، فالفرق هنا يرجع إلى عوامل وراثية أخرى تتحكم في التعبير الجيني؛ أي تتحكم في نوع وكمية الصبغ الذي تفرزه الخلايا وتوزيعه، بغض النظر عن تركيب الجينات التراكمية، ونسبة الأليلات السائدة من بينها.

ومنذ منتصف القرن العشرين والعلماء يعكفون على دراسة العوامل المؤثرة في التثبيط والتنشيط الجيني، وهي العوامل التي تجعل جينًا يتوقف عن التعبير الجيني رغم أن تركيبه لا زال كما هو لم يتغير، والعكس عند تنشيط الجينات. وسبق أن شرحت بعض نتائج هذه الدراسات في سلسلة مقالات "علم فوق الوراثة".

اضطرابات تصبغ الجلد

ومما يزيد حيرة العلماء عن وراثة لون البشرة في الإنسان الحالات العديدة لاضطرابات تصبغ لون البشرة في الإنسان الواحد!

بعض الناس يولدون ببشرة غير موحدة اللون، فهناك مناطق من أجسامهم تفرز خلاياها صبغ الميلانين بدرجة أكثر من باقي الجسم، وليس لهذا علاقة بالتعرض لأشعة الشمس، بل توجد هذه المناطق –التي تُعرف غالبًا بالوحمات- في أجسامهم منذ الميلاد.

وأغلبنا يعرف مرض البهاق أو البهق، وهو مرض غير معدٍ يصيب بعض البشر، يؤثر على جمال البشرة، لأن لونها لا يكون موحدًا، بسبب أن بعض مناطق منها تفقد خلاياها القدرة على تكوين صبغ الميلانين، فتكون بيضاء، بينما باقي البشرة ملونة، ولا يُعلم على وجه الدقة السبب في ذلك.

وهذا الاضطراب في تصبغ الجلد وإن كان غير شائع في البشر إلا أنه شائع في أنواع حية أخرى، فكثيرًا ما نرى خيولًا ممتزجة اللون، وقد توجد مناطق بيضاء في بشرتها ومناطق أخرى ملونة بلون وربما لونين! وفي النمور والحُمر الوحشية توجد مناطق فاتحة وأخرى غامقة من الجلد متجاورة تشكل المناطق الغامقة منها الخطوط المميزة على الجلد.

وبعض الناس تتكتل لديهم الخلايا الصباغية التي تنتج الميلانين، ولا تتوزع بشكل متساوٍ في الجلد، فيؤدي ذلك لتكون النمش، بينما تكون البشرة فاتحة اللون.

استحالة التنبؤ بلون البشرة في الأزواج المختلطة

وبعد هذه المقدمة الطويلة أختم بكلمة آمل أن تصحح المفاهيم المغلوطة لدى بعض الناس عن وراثة لون البشرة في الإنسان، وهي أنه أمر ملحوظ للعلماء منذ سنوات بعيدة أن ناتج تزاوج فردين متباينين في صفة لون بشرة الجلد لا يتماشى بشكل مثالي مع نسب خلط الجينات التراكمية السائدة والمتنحية المفترضة، بل وكثيرًا ما يرث الطفل لون أحد أبويه دون الآخر، وكأن الجينات السائدة التي يُفترض أن تُفرز الميلانين -التي ورثها من أحد الوالدين- مُعطَّلة، فيُولد ببشرة بيضاء تمامًا! أو كأن الجينات المتنحية التي يفترض أنه ورثها من أحد الأبوين هي التي عُطلت، ولا أثر لها في تفتيح بشرته نوعًا!

ولعل هذا ملحوظًا لكثير منا من خلال ملاحظة ألوان بشرة معارفنا. عائلة أعرفها تزوجت الجدة بيضاء البشرة -ومن أبوين من ذوي البشرة البيضاء- من شخص ذي بشرة داكنة، وأنجبت منه ابنة، ورثت الابنة جمال أمها ودرجة بشرة أبيها، ثم تزوجت هذه الابنة ذات لون البشرة الداكن من رجل أبيض أشقر الشعر وعينه ذات لون بني فاتح، فأنجبا ولدًا وبنتًا نسخة من أبيهما في لون البشرة والشعر والعين، ثم أنجبا ولدًا يشبه أمه تمامًا وله درجة بشرتها. فسبحان الخالق المصور.

الجمعة، 2 سبتمبر 2022

294-الذكورة والأنوثة البيولوجية والنفسية

 

الذكورة والأنوثة البيولوجية والنفسية

د. منى زيتون

الجمعة 2 سبتمبر 2022

وعلى المثقف، السبت 3 سبتمبر 2022

https://www.almothaqaf.com/qadaya/964834

 

لأننا في عصر يشيع فيه استخدام مصطلحات الذكورة والأنوثة النفسية، كما صار يشيع الحديث عما يُسمى بالنوع الثالث! ثم إنني لاحظت أن أغلب الناس لا يفهمون المقصود بهذه المصطلحات، ويكثرون الخلط بينها، رأيت أنه يلزم الإيضاح.

الذكورة والأنوثة البيولوجية

مبدئيًا ووفقًا للمبادئ الأولية في علم الأحياء، فنوع gender الإنسان يتحدد عن طريق كروموسوماته الجنسية منذ لحظة الإخصاب، إلى ذكر أو أنثى.

فإن كانت المادة الوراثية التي يحملها الإنسان في خلاياه تحتوي كروموسومين جنسيين متماثلين XX فالنوع البيولوجي أنثى.

وإن كانت المادة الوراثية التي يحملها الإنسان في خلاياه تحتوي كروموسومين جنسيين ‏مختلفين XY فالنوع البيولوجي ذكر.

ولا يوجد إنسان على ظهر الأرض تحتوي بعض خلاياه كروموسومين جنسيين متماثلين XX وبعضها كروموسومين متباينين XY ، وعليه فلا يوجد علميًا ما يُسمى بالنوع الثالث.

وحتى من يولدون بكروموسوم جنسي وحيد X، وهي الحالة الطبية المعروفة بمتلازمة تيرنر Turner syndrome، فإنهم ينمون بحيث يصبحن إناثًا، رغم عدم نمو جهاز تناسلي أنثوي مكتمل لهن.

لكن لا بد أن نعي أن جسم الإنسان الطبيعي (ذكرًا كان أم أنثى) يفرز كلا النوعين من الهرمونات (الذكرية والأنثوية).

والمفترض أن يتفق إفراز الغدد في الجسم ومحدده البيولوجي الكروموسومي ليكون نمو الجسم ومظهره سويًا؛ بمعنى أن تكون الهيمنة للهرمونات الذكرية في جسم الذكر الذي تحمل خلاياه كروموسومات جنسية XY، وأن تكون الهيمنة للهرمونات الأنثوية في جسم الأنثى الذي تحمل خلاياه كروموسومات XX.

وأي خلل في التناسب السليم بين الهرمونات وفقًا للمحدد الكروموسومي للنوع ينشأ عنه خلل في الجسم وظهور مظاهر جنسية ثانوية للنوع الآخر؛ كحدوث التثدي لدى بعض الرجال، أو زيادة سماكة شعر الجسم لدى بعض النساء.

وبعض حالات الخلل الهرموني يحدث بسبب تلقي أدوية أثناء الحمل.

والخلل الهرموني بوجه عام يمكن علاجه، ولا يعني بأي حال من الأحوال أن هناك ما يمكن أن يُسمى بالنوع الثالث!

ولكن إن كان الخلل الهرموني وأي عيب جسماني نتيجة له يمكن إصلاحه، فما يتعذر إصلاحه هو إحساس الفرد بهوية جنسية خاطئة، والتي يبدأ تشكلها عن طريق التربية في الأسرة منذ الصغر.

الذكورة والأنوثة النفسية

نأتي لـ مصطلح الذكورة والأنوثة النفسية؛ فهناك صفات نفسية تكون أكثر شيوعًا لدى الرجال، وصفات نفسية مقابلة تكون أكثر شيوعًا في النساء، أو فلنقل أنه هكذا يُفترض أن يكون الحال.

فالاهتمام بالنفس يقابله الاهتمام بالآخرين، والمنافسة تقابل التعاون، والشدة تقابل الرحمة، والحزم والثبات يقابل المرونة، والشجاعة والإقدام تقابل الخجل، واستخدام المنطق والتحليل يقابل الحدس.

وعلماء النفس يعدون الاستقلالية المادية والمعنوية صفة ذكورية، بينما يعتبرون الاعتمادية صفة أنثوية، ولكن هذا لا يعني أن كل الرجال استقلاليون وأن جميع النساء اعتماديات!

وفي عصرنا زادت أعداد النساء المستقلات؛ ربما كرد فعل طبيعي لتزايد أعداد الرجال الاعتماديين! وهذا ملحوظ وظاهر للعيان، فمن المنطقي أن تضطلع المرأة بمسئولية نفسها تمامًا عندما لا تجد رجلًا يُعتمد عليه، حتى وإن لم تكن ترغب في ذلك.

وكما أن جسم الإنسان الطبيعي يفرز كلا مجموعتي الهرمونات الجنسية، ولكن الفرق في التناسب بينهما، فلا يوجد إنسان على ظهر الأرض يتصف بصفات ذكورية فقط أو صفات أنثوية فقط، أيًا كان نوعه البيولوجي؛ فالذكر الطبيعي تتصف شخصيته بمزيج من الصفات الذكورية والصفات الأنثوية، وكذلك الأنثى الطبيعية.

ولكن –وعلى العكس من الهرمونات- فوجود هيمنة شديدة متطرفة للصفات الذكورية أو الأنثوية في الشخصية ليس علامة على الشخصية السوية!

الإنسان السوي نفسيًا لا بد أن يوازن بين الصفات النفسية الذكورية والأنثوية في شخصيته. وهذا التوازن لا علاقة له بما يُشاع عن خشونة المرأة وتخليها عن أنوثتها ولا عن ضعف بعض الرجال في عصرنا.

فكونك ذكرًا لا يعني ألا تعرف التعاطف والحنان وإظهار الود تجاه من تحب، وكونك امرأة لا يعني أن تتعاطفي حتى مع مجرم يتم القصاص منه! أو أن تكوني حنونة لدرجة إفساد أبنائك!

ولعل أقرب حكمة عربية يمكن أن تُقال في هذا الصدد لكل إنسان: "لا تكن قاسيًا فتُكسر، ولا لينًا فتُعصر".

والملاحظ أن الرجل غير المتوازن نفسيًا، والذي تكون صفات شخصيته ذكورية شديدة التطرف يكون لئيمًا في التعامل مع المرأة، ولا يحترم الأنثى ولا الصفات الأنثوية مطلقًا.

تباين صفات الشخصية وفقًا للعوامل الاجتماعية

من خلال خبراتي الميدانية رصدت حالات كثيرة لأشخاص تكاد تختلف صفات شخصيتهم التي تسمهم في حياتهم المهنية اختلافًا كليًا عن الصفات التي يظهرونها كسمات في حياتهم الشخصية.

فيمكن أن نجد رجلًا شديد الصرامة وربما القسوة في حياته المهنية، وهو على النقيض من ذلك زوج وأب حنون، وقد يدلل أبناءه دلالًا مفسدًا. ويظهر هذا التباين أيضًا لدى النساء الناجحات مهنيًا.

ويمكن القول إن هذا التباين في تفعيل الصفات النفسية بحسب مواقف التفاعل الاجتماعي يظهر لدى نسبة كبيرة من البشر، ولكن درجته هي التي تختلف، فأغلب البشر يعتقدون أن تفعيل الصفات النفسية الذكورية يؤدي إلى النجاح المهني، بينما يكون تفعيل الصفات النفسية الأنثوية سببًا رئيسيًا للنجاح في الحياة الشخصية؛ فالرجل أيضًا بحاجة إلى تفعيل الصفات النفسية الأنثوية في علاقاته الشخصية بدرجة ما.

والمرأة التي تُفعِّل الصفات النفسية الذكورية بقوة في علاقتها الشخصية، تدفع الرجل دون وعي منه بأن يُفعِّل صفاته النفسية الأنثوية ربما إلى درجة الهيمنة، فيتعامل معها كطفل مع أمه –خاصة إن كان قد تربى على الاعتمادية-، فيلقي على زوجته جميع أعباء ومهام الأسرة، وعندها تشعر المرأة بعدم التوازن النفسي، وتبدأ في الشكوى والتذمر، وقد يصل الأمر إلى الطلاق. والحل أن تلزميه بلطف أن يكون رجلًا، وألا تسمحي بحدوث تبادل تام في الأدوار الاجتماعية.

وبوجه عام فإن من لا يستطيع خلق التوازن النفسي بين صفات الذكورة والأنوثة، ومعرفة متى تظهر كل صفة، وتجنب الهيمنة الدائمة لإحدى المجموعتين من الصفات، لا ينجحون في الحياة، وتكون لديهم دومًا مشاكل في التواصل الاجتماعي، وصعوبة في تحقيق أهدافهم المهنية أو الشخصية، وأحيانًا كليهما!

لكن الأكثر تعقيدًا أن بعض الصفات النفسية الذكورية قد تعاكس السلوك وفقًا للدور الاجتماعي الذكري! من ذلك أن ارتفاع الإحساس بالأنا (الايجو EGO) هو صفة ذكورية، وغالبًا ما تتسبب في ضعف سلوك المبادرة نحو الأنثى، وهو سلوك ذكري!

وقد رأيت حالات واضحة لذكور، بقدر النجاح الذي يحرزونه في تمثل الدور الذكري في الحياة المهنية، يكون لديهم فشل واضح في القيام بمتطلبات الدور الذكري في الحياة الشخصية، فيفشلون فيها لافتقادهم القدرة على المبادرة بسبب ارتفاع الايجو EGO، فيمكن أن تعجبه فتاة ويخشى التقدم لها حتى تتزوج بآخر!

 

الجمعة، 12 أغسطس 2022

293-مرجان أحمد مرجان في البيت الأبيض!

 

مرجان أحمد مرجان في البيت الأبيض!

د. منى زيتون

السبت 13 أغسطس 2022

وعلى المثقف

https://www.almothaqaf.com/opinions/964387

 

فرق كبير بين أن تدير شركتك الخاصة وبين أن تدير مؤسسة حكومية عامة كبيرة، ففي الحالة الأولى بإمكانك تخطي كل مرءوسيك واللجان المُشَّكلة والاحتفاظ بما شئت من أوراق هامة في خزانتك الخاصة، دون أن يتهمك أحد بالفساد أو التآمر، وكما يقول المثل الشعبي فإن "من حكم في ماله ما ظلم"، لكن في الحالة الثانية –وفي الدول الديمقراطية تحديدًا- ليس بإمكانك أن تحكم وتدير مؤسسة حكومية بمنطق العزبة الخاصة بك.

وحالة رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق دونالد ترامب تعتبر أكبر مثال على الفشل في التمييز الإداري؛ فهو قد حكم أكبر دولة في العالم بالأسلوب ذاته الذي يدير به شركاته، وليته كان رجل أعمال شريف يدير أعماله بأسلوب نزيه راقٍ، بل عُرف عنه أنه من أكبر مروجي الشاي بالياسمين! والاتهامات بالفساد والتحايل في قيمة أصوله المالية بتعليتها عند أخذ القروض من البنوك، وتخفيضها عند عرض الملفات الضريبية، رائحتها تزكم الأنوف، والتحقيقات فيها لا تنقطع.

اقتحام منزل دونالد ترامب في بالم بيتش

منذ أيام فوجئ العالم بأسره بخبر اقتحام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي FBI منزل الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب في شاطئ النخيل (بالم بيتش) في ولاية فلوريدا، أثناء غياب ترامب عنه، حيث اعتاد ترامب أن يقضي هذا الوقت من العام في منزله بنيويورك بسبب ارتفاع درجة الحرارة في ولاية فلوريدا في شهر أغسطس.

وتشير مذكرة تفتيش منزل ترامب أن التفتيش يتم لاستكمال التحقيقات في ثلاث تهم خطيرة موجهة لترامب، بموجب قانون التجسس، وهي (جمع ونقل أو فقد معلومات دفاعية- ملاحقة موظف فيدرالي يقوم عمدًا وبشكل غير قانوني بإخفاء السجلات العامة أو إزالتها أو تشويهها أو محوها أو تزويرها أو إتلافها- إعاقة سير العدالة).

https://abcnews.go.com/Politics/live-updates/trump-investigation/?id=88284249

واستعاد FBI بعد المداهمة 11 مجموعة من المستندات من تصنيفات مختلفة تتراوح من المعلومات السرية إلى المعلومات السرية للغاية والحساسة.

فما هي تلك المعلومات الدفاعية التي يتم البحث عنها في بيت ترامب، مصحوبة بتحقيقات تحت قانون التجسس  under the Espionage Act؟!

قبل مغادرة البيت الأبيض نقل دونالد ترامب صناديق كثيرة من الوثائق (أغلبها من فئة غاية السرية)  إلى منزله في فلوريدا، كما رأى العالم أجمع أحد مساعديه يأخذ الحقيبة النووية الأمريكية أثناء صعوده إلى الطائرة مع السيدة الأولى ميلانيا عند مغادرة البيت الأبيض. وقد تداركت وزارة الدفاع الأمريكية الأمر بتسليم الرئيس الحالي جو بايدن الحقيبة النووية البديلة في تمام الثانية عشرة ظهر يوم تنصيبه، وإبطال شفرة الحقيبة التي حملها ترامب معه، واستطاع موظف فيدرالي كان قد صاحب ترامب على الطائرة من استعادة الحقيبة الأصلية في اللحظة ذاتها التي تم فيها تنصيب بايدن.

وقتها ظن العقلاء عبر العالم أن الأحمق لا زال يرفض أن يصدق أنه لم يعد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وأن ما فعله استكمال لسيناريو رفض الاعتراف بالهزيمة في الانتخابات أمام جو بايدن، والذي لا زال مستمرًا، فترامب لا زال ينفق الأموال لشراء الذمم وتخريب كثير من مساعي الرئيس الأمريكي الحالي بايدن في الإصلاح الداخلي، وهناك تقارير مخابراتية مؤكدة بأنه يدفع للذباب الالكتروني لكتابة التعليقات المسيئة ووضع وجه تعبيري ضاحك تحت المنشورات ومقاطع الفيديو التي تنشرها قناة البيت الأبيض على اليوتيوب، كما حاول العودة إلى منصة تويتر عن طريق الدفع بإيلون ماسك لشراء أسهمًا في المنصة، لكن الصفقة فشلت بعد أن أعلن ماسك نيته إعادة ترامب إلى تويتر، وهو ما قوبل بالرفض.

والأهم أن رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الذي سبق أن عينه ترامب بنفسه تباطأ كثيرًا في استعادة الصناديق والحقائب التي تحوي وثائق أمن قومي مصنفة على أنها في غاية السرية، فماذا حدث فجأة جعله يقرر اقتحام منزل ترامب لاستعادة تلك الوثائق التي كان يتلكأ وكأنه ليس عليه استعادتها؟! فكأن ترامب سيعود قريبًا إلى البيت الأبيض، -وهو ما يتوهمه كثير من أنصاره- فليعيدها حينها هو بنفسه! وبالمناسبة فقد كان هذا ما فعلته الموظفة المسئولة عن التعاون مع إدارة بايدن، وعطّلت انتقال السلطة إلى إدارته على أمل أن تقبل المحاكم تظلمات ترامب التافهة التي لم تزد عن ادعاءات بتزوير الانتخابات لم يقم عليها أدنى دليل!

ووصف المتحدث باسم ترامب تيلور بودويتش الوثائق التي جمعها عملاء FBI بأنها وثائق رُفعت عنها السرية، وهو ما نفاه مكتب التحقيقات الفيدرالي وفقًا للبيانات الرسمية الصادرة عنه، بل وصف المعلومات في الوثائق بأنها تتراوح من المعلومات السرية إلى المعلومات السرية للغاية والحساسة في 27 صندوقًا، ومعلومات عن الرئيس الفرنسي، وبعض الصور والمجلدات الخاصة بترامب.

هل تم إحباط عملية للمخابرات الروسية ؟

لا يخفى على أحد على هذا الكوكب الصراع المشتعل منذ أواخر فبراير هذا العام، بين روسيا وأوكرانيا، ووقوف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب أوكرانيا، ومن ثم إعلانها العداء لإدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

كما لا يخفى أن الحكومة الصينية اعتبرت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي الأخيرة لتايوان إهانة كبرى، والتقارير السياسية والإخبارية تؤكد أن الصين تبحث عن رد يتناسب مع ما فعلته بيلوسي.

ولكن لأنه تم الكشف عن مذكرة استدعاء في الربيع تلقاها ترامب بخصوص وثائق لم يعدها إلى الأرشيف الوطني، وأنه لم يمتثل بإعادة الوثائق، فالأمر يبدو لا يخص زيارة بيلوسي الأخيرة للصين.

ووفقًا لآخر معلومات أعلنت، فمكتب التحقيقات الفيدرالي أشار إلى أن تحركه بمداهمة منزل ترامب كان تخوفًا من احتمالية وقوع هذه المستندات في أيدٍ غير أمينة، وأن ترامب يغيب عن منزله في شاطئ النخيل (بالم بيتش) في ولاية فلوريدا التي تقع في أقصى الجنوب الشرقي من أمريكا القريبة للغاية من كوبا، في هذا الوقت من العام، وأن المستندات التي تم التفتيش لاستعادتها هي مستندات دفاعية (نووية)، الكثير منها في غاية السرية.

وهذه الإشارات للتهديد الأمني الوشيك "imminent security threat" للأمن القومي الأمريكي الذي استند إليه في قرار مداهمة منزل ترامب، وللأيدي الخفية التي يمكن أن تقع في أيديها المستندات الدفاعية الموجودة في منزل على الشاطئ، يبعد أميالًا بحرية قليلة عن كوبا (عدو أمريكا اللدود)، ويغيب عنه صاحبه وأسرته، ألمحت إلى معلومات مخابراتية تجمعت لدى المخابرات الأمريكية عن تخطيط عملاء لمخابرات دول معادية (روسية غالبًا) للوصول إلى هذه المستندات عن طريق البحر، وهو ما دفع رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي –رغم ولائه للجمهوريين- إلى التحرك سريعًا لاستعادتها، فالمسألة لم تعد سباقًا بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل أمست فجأة مسألة تمس الأمن القومي الأمريكي، وتهدد بتعرف الروس على شفرة الدفاع النووية الأمريكية السابقة، ومعرفة بيانات عن كيفية تفعيلها، وغيرها من البيانات الهامة.

والشبهات عن علاقة دونالد ترامب بإدارة الرئيس الروسي بوتين بدأت منذ حملته الانتخابية الأولى أمام هيلاري كلينتون، والتي ثارت شبهات بالتدخل الروسي فيها لإنجاحه، ولكنها سكتت لعدم كفاية الأدلة.

وفي شهر ديسمبر 2020، وأثناء عرقلة إدارة ترامب إجراءات انتقال السلطة إلى إدارة بايدن، حدثت محاولات اختراق الكترونية خطيرة لبيانات قومية هامة، وأشارت تقارير إلى أن الاختراق روسي، ولم تُعر إدارة ترامب الأمر أدنى اهتمام!

والآن جاءت القنبلة التي فجَّرت ظهر البعير.

والسؤال الأهم الآن: هل حاول الروس اختراق منزل ترامب في غيابه، للحصول على المستندات الدفاعية غاية السرية، والتي أحضرها معه من البيت الأبيض فقط لأنه أحمق؟ أم أن صاحب المنزل أحضر المستندات إليه ليمكن الروس من الحصول عليها، وأنهم ظنوا أن الوقت صار ملائمًا؟! بمعنى أدق: هل دونالد ترامب أحمق أم خائن؟!

ولعل من أهم الإشكاليات في محاكمة ترامب بشأن التهم المتعددة التي تلاحقه أن تفاصيل المحاكمات ربما ستبقى سرية حفاظًا على هيبة الولايات المتحدة، ولن يُكشف سوى عن مجرد عناوين، بل ربما ستبقى مذكرة الاستدعاء في حقه أيضًا سرية، وهو ما سيبقى منزوعي البصيرة رافضين تصديق أن ترامب محتال ولص وغالبًا خائن، ويدعموه باعتباره مظلومًا، لأن إدارة بايدن تلفق له التهم لمنعه من خوض الانتخابات الرئاسية القادمة التي تكفي ثبوت اتهامات فساد الذمة المالية والتهرب الضريبي لمنعه من خوضها، ولكنه يتحدث وكأنه نالها، وفاز في استحقاقاتها!

كما تجددت المخاوف بشأن احتمال زيادة مستويات العنف ضد سلطات إنفاذ القانون والمسئولين الحكوميين الأمريكيين بسبب ادعاءات ترامب بأنهم يلفقون له الاتهامات؛ فسيبقى الحمقى في كل زمان ومكان يحبون الأبواق الصوتية الفارغة كثيري الضجيج، مهما تسببوا لأممهم من كوارث.

الاثنين، 11 يوليو 2022

292-أولاد طنط فكيهة

 

أولاد طنط فكيهة

د. منى زيتون

الاثنين 11 يوليو 2022

وعلى المثقف، الثلاثاء 12 يوليو 2022

https://www.almothaqaf.com/qadaya/963860

 

في كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" ناقشت مفهوم التعاطف وأنواعه ومشاكله في المجتمع العربي، والمصري خاصة، في مقالين "تعاطف المصريين.. خطأ في البوصلة!‏" و "قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت".

في المقال الأول منهما ركزت على وجود مشكلة خاصة بالتعاطف في المجتمع المصري وربما العربي، وأن نسبة لا بأس بها تنحرف بوصلتهم، فيتعاطفون مع الطرف الخطأ في كل قضية اجتماعية، حتى أن من بينهم من يتعاطف مع القاتل والمغتصب ويتباكى على شبابه الضائع، وماذا ستفعل أمه من بعده، وخالته وعمته وزوجة خال جارتهم وزوجة بواب عمارتهم!

وقلت إن من أسباب ذلك الحول العاطفي ولا شك أن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع لديهم مهارات متدنية في التفكير، والتعليم ‏السيء الذي يتلقونه مسئول بالأساس عن افتقاد الخريجين القدرة على التفكير الناقد، وسيادة ‏التفكير العاطفي كما لو كانوا أفرادًا في قبيلة بدائية.‏ وهناك مثل عامي شهير في مصر يقول:  "ضربني وبكى، وسبقني واشتكى"، ففي مصر يمكن أن تقتل أو تغتصب أو تتحرش حتى بطفل أو طفلة، ثم تظهر الضعف والخنوع، فتلقى تعاطفًا من بعض الحمقى كاسدي العقل والرأي!

وفي مقال "قل لي مع من تتعاطف أقل لك من أنت" صنفت مستويات وحالات التعاطف من خلال خبراتي الميدانية إلى خمسة أصناف "التعاطف الإنساني- اللا تعاطف- التعاطف مع صاحب الحق- التعاطف الفئوي- التعاطف المرآوي". ويختلف التعاطف المرآوي عن التعاطف الفئوي في أن التعاطف يكون مع من يشبهك كفرد وليس من ينتمي لجماعتك، وقد يلعب النوع (ذكر/أنثى) دورًا في زيادة درجة التعاطف المرآوي.

وحقيقة فإنني كنت قد تصورت أنني قد شرحت ومثّلت بما يكفي لتوضيح مفهوم التعاطف ومستوياته، حتى فرضت إحدى القضايا الاجتماعية نفسها كمثال تطبيقي للتعاطف المرآوي، وهي قضية مقتل طالبة بجامعة المنصورة على يد زميلها عمدًا مع سبق الإصرار والترصد، بعد أن اعتاد لأكثر من سنتين التعرض لها وتهديدها بالإيذاء لرفضها الارتباط به بعد تقدمه لخطبتها ورفضها إياه، وهي القضية التي تظهر لنا إلى أي حد بلغت درجة انحدار الذكاء الاجتماعي والانفعالي لدى بعض البشر؛ كونهم تعاطفوا مع القاتل وأمه بدلًا من القتيلة وأهلها.

وقبل أن نفهم علاقة ما يحدث بالتعاطف المرآوي، يجب أن نشرح القضية باختصار وفقًا لما صح من معلومات، فأمامنا قاتل سبق أن اعترف في تحقيقات النيابة أنه اشترى سكينًا جديدًا مسنونًا قبل بدء الامتحانات الجامعية بغرض قتل المغدورة، وكان يداوم على حمله في جرابه في جيبه، وأنه ترصد للقتيلة مرات في أيام الامتحانات الأولى محاولًا قتلها ولكنه لم ينفرد بها ليتمكن من تنفيذ جريمته، وأنه ركب الحافلة التي استقلتها القتيلة مع صديقاتها إلى الجامعة في يوم القتل من محطة تالية ليتأكد أنها استقلتها؛ ولعلمه أنها لن تستطيع أن تهبط من الحافلة لتنتظر موعد الحافلة التالية لها وإلا فإنها لن تلحق موعد امتحانها.

لكن كان من بين أقواله التي بدّلها في المحكمة، أنه كان يحمل السكين المسنون معه –ربما كان يتنزه به- وأنه لم يكن يخطط لقتلها يومها، وكان يتمنى ألا يلقاها في هذا اليوم، ولكنها كانت تتضاحك مع زميلاتها في الحافلة التي كان يركبها معهن طوال الطريق، ما أثار ضغينته؛ لأنه ظنها تتضاحك معهن عليه. علمًا بأن صديقات الفتاة اللاتي كن معها عندما سُئلن في التحقيقات أجبن بأنهن لم يرين القاتل عندما ركب الحافلة.

وغالبًا فإن هذا التغيير في أقواله تم بتلقين من محاميه بعد أن أفهمه أن اعترافه بشرائه وحمله السكين في جيبه طوال الامتحانات السابقة ليوم الامتحان الخامس الذي سفك فيه دم القتيلة هو إقرار بالعمد والترصد، وذلك في محاولة منه لنفي صفة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، فكأن القاتل –وفقًا للتعديل في القصة- لم يكن ينوِ القتل ولكنه غضب من القتيلة فوجد السكين الذي كان –صدفة- في جيبه فقتلها في لحظة غضب غير مخطط لها! وأعتقد أن هذه النقطة ستكون أحد الألاعيب القانونية التي ينوي المحامي فريد الديب أن يضمنها مذكرة النقض في حكم الإعدام، كما أنه -ولا شك عندي في ذلك- سيشكك في القاضي رئيس المحكمة، بأنه استبق الحكم على المتهم.

كذلك ادعى المتهم في اعترافاته في المحكمة أنه قتل الفتاة انتقامًا لأنها استغلته، وهو ادعاء صار يكثر المحامون من تحفيظه لموكليهم المتهمين في قضايا القتل العمد المتلبسين بجرمهم، وليس أمامهم سوى الاعتراف، والسبب أن هذه كانت الحجة التي تم تخفيف الحكم لأجلها على ملياردير مصري شهير استأجر قاتلًا محترفًا لقتل مطربة عربية تلاعبت به ورفضت إتمام الزواج بعد أن دفع لها ولأجلها أكثر من مائة مليون دولار. فصار كل من اشترى علكة يقلده ويدعي أنه تم استغلاله وأنه كان ينفق على من قتلها!

والحقيقة أن وكيل النيابة قد أنصف الفتاة في مرافعته، وحكى القصة بتمامها من واقع التحقيقات وشهادات الشهود وتفريغ مراسلات هاتف الضحية والقاتل، وكذا القضاة الذين نظروا القضية يستحقون الإشادة، خاصة رئيس المحكمة، فلم يعبأ ولم يهتم بتغير أقوال المتهم نوعًا في تفاصيل لا أهمية لها أراد بها تضليل المحكمة وإطالة أمد القضية، فالاعتراف بالجريمة ثابت وقد أقر القاتل بجُرمه على الملأ في المحكمة، وقد مثّل جريمته بنفسه في موقع الحادث، والشهود على كثرتهم لم يغير أي منهم حرفًا من قوله، والتصوير من كاميرات المراقبة طوال الطريق منذ هبوط الفتاة من الحافلة إلى بوابة الجامعة حيث غدر بها لا شبهة فيه، ومحاولة القاتل تغيير توصيف الاتهام، ونفي القتل العمد والترصد لا يعتد به عاقل، فسلاح الجريمة كان في جيبه، فهو لم يقتلها بطوبة تلقفها من الشارع وهوى بها على رأسها، بل بسلاح أقر بشرائه وإبقائه في جرابه مسنونًا والمداومة على حمله لغرض تنفيذ الجريمة بطعنها طعنات كثيرة متفرقة في جسدها، ومحاولة نحرها وفصل رأسها عن جسدها. وهناك تهديدات بالقتل مرسلة من هاتفه إلى هاتف القتيلة، فعلى من يتذاكى هذا المجرم الوضيع؟ وعليه فقد حكمت المحكمة عليه بأقصى العقوبة بالإعدام شنقًا بعد موافقة مفتي الديار المصرية.

السيكوباتي المدلل

في مقال "الكفاءة في الزواج ما بين العصامي والمتسلق والسيكوباتي" تحدثت عن شخصية السيكوباتي وكيف يوهم نفسه بعلاقات عاطفية وهمية لا مكان لها سوى رأسه، ويبقى متعلقًا بها سنوات. كما سبق أن أشرت في مقال عن الفتاة قاتلة صديقتها في كفر الدوار عام 2021 أن السيكوباتيين لا يلجأون للقتل إلا بعد أن يفشلوا أن يدمروا الضحية معنويًا، فتشويه السمعة هو سلاحهم الأول الذي يشنونه على الضحية التي يضمرون لها الشر، وعندما لا يؤثر التشويه ويجدون الضحية في أحسن حال ولا تعبأ بهم، تتحرك دغالة قلوبهم صوب القتل.

وفي مقال "الفن ومشكلات المجتمع" في كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" تحدثت عن "التشنيع" كمشكلة اجتماعية، وحكيت ضمن ما حكيت عن قصة طويلة، نُشرت في بريد الجمعة بجريدة الأهرام، وقت أن كان يشرف عليه المرحوم الأستاذ عبد ‏الوهاب مطاوع، عن شاب مدلل فاسد أحب فتاة رائعة فائقة الجمال وعلى خلق، ولأنها ‏رفضته صار يشهر بها وبسمعتها ليطرد عنها الخاطبين، ثم يعاود طلب خطبتها، حتى اضطرها أهلها ‏لقبول زواجها منه لأنه الحل الوحيد –كما رأوه- لتنقية سمعتها وإعادتها كما كانت وكشف كذبه، ثم ‏يطلقونها منه بعد إتمام الخطة!‏

وأرجو عدم الاستخفاف بقاتل المنصورة فهو سيكوباتي مدلل ذكي، وهو واعٍ ومسئول عن أفعاله، وليس مسلوب الإدراك، وهذه النوعية من البشر من أخطر ما يكون، يعانون غالبًا من اضطراب التعلق، ويكذبون كما يتنفسون، ويتدربون منذ صغرهم نتيجة التربية الفاسدة المدللة التي يتلقونها على أن يستدروا التعاطف، ويتحايلون مرارًا وتكرارًا لدفع الآخرين لتحقيق رغباتهم، ولا ينضجون انفعاليًا مهما بلغ سنهم.

وعلى العكس من ذلك فالشخص القوي صاحب الحق لا يستدر التعاطف، ولكن كما أوضحنا فالفئة العاقلة التي تتعاطف مع الحق وليس غيره هي فئة واحدة من خمس فئات.

ومن خلال تعاملي مع كثير من حالات السيكوباتيين المدللين فأنا متأكدة بنسبة 100% أن القاتل يظن أن بإمكانه أن يخدع الجميع وينجو، وكانت تعبيرات وجهه فاضحة له طوال إدلائه بأقواله في المحكمة، وما نسميه بـ "ابتسامة المخادع" لم تفارق وجهه. كما أن السيكوباتي المدلل متبلد المشاعر، فالأمر وما فيه كان رغبة تملك تجاه القتيلة وليس حبًا؛ لذا فهو لا يندم مهما سبّب من ضرر، فلم ينبس بكلمة اعتذار أو إبداء ندم طوال محاكمته.

والحق أن الحقير قاتل نيرة أفلح كثيرًا في استدرار التعاطف من كاسدي العقل والرأي وإيهامهم أنه ضحية، هؤلاء الذين لا زالوا يتلمسون لقابيل سببًا لقتله هابيل، ويرددون أكذوبة زواجه من الجميلة التي رأى قابيل نفسه أحق بها، فالتبرير للتافهين ذوي الشخصيات الضعيفة لدى هؤلاء حاضر؛ كونهم يرون فيهم أنفسهم، والتعاطف المرآوي الفاضح لدخائل النفوس واضح كضوء الشمس، وهذا رد على من يتساءل عن أسباب هذا التعاطف غير المبرر بالنسبة للعقلاء.

والحقيقة التي يعرفها التربويون وعلماء النفس أن النساء الجاهلات الفاشلات في التربية يدللن أطفالهن، كل منها على قدرها وبحسب طبقتها الاجتماعية، فالتدليل غير مقتصر على الأغنياء، ويخرجن للمجتمع أشباه رجال فاقدي النخوة والكرامة، اعتماديين، تربوا على أن تدعمهم المرأة لا أن يدعموا المرأة، وعلى ألا يتحملوا المسئولية تجاهها وتجاه أنفسهم، وربما يعيش أحدهم على مال المرأة ولا يعمل، ولا يرى في ذلك بأسًا، بينما النساء المحترمات المثقفات هن من يربين الرجال. والقاتل تلقى تربية مدللة من أمه رغم شدة فاقتها، لتعويضه عن يُتمه المبكر.

وفي المجتمع المصري يشيع وصف "ابن طنط فكيهة" للتعبير عن أشباه الرجال، ممن تدللوا صغارًا حتى أصبحوا مسوخًا بشرية من حيث الشخصية، فشخصياتهم أنثوية ولا علاقة لهذا بالشذوذ الجنسي كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، وكل دلوعة ماما من بينهم لم تفهمه أمه معنى الكرامة وكيف يكون رجلًا، يتعاطف تعاطفًا مرآويًا مع القاتل، فهو تافه ذو شخصية هشة مثله، يتعلق تعلقًا مرضيًا بالأشخاص، ويبحث عن امرأة يعتمد عليها مثلما كان يعتمد على أمه، ولا يتصور أن ترفضه وتصده.

فإن أردت أن ترى الرجال وليس أشباههم، فانظر إلى القضاة على المنصة وإلى وكيل النيابة، ‏وإلى كل من رأى في فعلة القاتل خسة ونذالة، وليس لأولاد طنط فكيهة فاقدي الكرامة ممن ‏يدافعون عن شبيههم.‏

ادعاءات المتعاطفين مع القاتل

تجولت في موقعي الفيسبوك واليوتيوب وقرأت التعليقات المتعاطفة مع القاتل من ذوي الفطرة الفاسدة، ويمكن تلخيص الأفكار الرئيسية فيها –وبألفاظ بعض أصحابها- في الآتي:

·      قهر الرجل صعب، قليل من يتحمله!

·      القاتل ضحية عدم اهتمام من الطرف المقتول!

·      لماذا لم تُعطه فرصة، وهو يحبها؟!

·      غبي، كان اغتصبها أحسن!!

·      القتل حدث في لحظة نفسية صعبة، ومؤكد أنه لم يتعمده!

·      القتيلة هددته فاضطر أن يقتلها!

·      القتيلة استغلته وتستحق ما حدث لها!

·      القتيلة بنت عابثة، تشرب الخمر وتدعم الشواذ جنسيًا، ومثلها تستحق القتل!

·      الفتاة كانت متبرجة، والاختلاط والسفور سبب الجريمة!

·      لماذا لا نربي بناتنا؟! أبوها وأمها هما سبب قتلها!

·      المتهم (القاتل) تليفونه لم يتم تفريغه! ومؤكد أن هناك أدلة قوية على علاقتهما توجد عليه!

·      القانون في مصر لا يُطبق سوى على الفقير، فلان قاتل فلانة ولم يصدر ضده حكم بالإعدام.

·      لماذا تم الإسراع بإجراءات التقاضي؟!

وكما نرى من نوعية التعليقات أنها يستحيل أن تصدر عن أسوياء؛ فالقاتل معذور، والقتيلة تستحق القتل، والدولة تتآمر على هذا الشاب المسكين لأنها تطبق القانون سريعًا، رغم أنه أخذ حقه الكامل في الدفاع!

وهو المنطق الذكوري الغبي المعتاد، نتاج التربية الحقيرة التي يتلقاها بعضهم من أمه وأبيه في صغره، ولم يكن ينقصهم إلا أن يقولوا: كيف يُعدم رجل بامرأة؟! ولا ننسى منذ سنوات عندما كان هناك طفل في الحضانة يتحرش بطفلة زميلته، وكلما ابتعدت عنه وجلست في مقعد بعيد عنه طاردها، ولم يجد أبوه في سلوكه بأسًا، وقال في المدرسة: "ابني يعمل اللي هو عايزه، واللي عنده معزة يربطها".

وهناك تحويل تام في نقاشات المتعاطفين مع القاتل لتوصيف القضية من قتل عمد إلى الحكم على سلوك الفتاة؛ لإيجاد مبررات للقاتل، وكأن الإساءة لها وإظهارها في صورة سيئة كفيل بتقرير استحقاقها للقتل! وأكثروا في المقابل في دعاوى تفوق القاتل وأن مستقبلًا باهرًا كان ينتظره، وأنه كان سيُعين معيدًا في الجامعة، ولا أعرف من يمكن أن يتأكد أن طالبًا لا زال في سنواته الجامعية الأولى ولا شك سيُعين معيدًا!

ولم تتورع هذه الفئة من المعلقين عن الكذب وارتكاب شتى المغالطات لتبرئة ساحة قاتل خسيس وضيع قتل ضحيته عمدًا في وضح النهار بعد أن افترى على الضحية في عفتها وشرفها في حياتها لأنها رفضته، فيما لم يجرؤ في التحقيقات أن يمس شرفها بكلمة لفرط جبنه.

ورغم أن تقرير الطب الشرعي أثبت أن القتيلة عليها رحمة الله كانت عذراء لم تُمس بكارتها، ولكن هؤلاء المتعاطفين كانوا ولا زالوا يرددون أنها ماجنة عابثة داعرة متعددة العلاقات! ويتداولون صورة بعيدة للغاية وجانبية ولا تظهر فيها ملامح لصاحبتها نهائيًا، يدعون أنها لها وهي تمسك كأس خمر. ‏﴿‏أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏﴾‏ [هود: 18].

ومن بين أصدقائها الذين هم بالمئات على الفيسبوك، أشاروا إلى علامة إعجاب وضعتها على منشور لشخص سبق أن دعم مجموعة من الشواذ منذ أعوام بعيدة، ومن ثم فهي ولا شك مثله تدعم الشواذ!

وقد دخلت بنفسي إلى صفحة القتيلة الحقيقية على الفيسبوك، ووجدت أنها وضعت علامات إعجاب على أربع صفحات باسم "التاريخ الإسلامي"، وصفحة باسم "دولة الخلافة العثمانية"، وصفحات إخبارية وجامعية، ومثل هذه الصفحات لا توحي بأن من أعجب بها شخصية تافهة عابثة. ومع ذلك فكل ما سبق من قبيل مغالطات عدم الترابط ولا دخل لها ولا علاقة بقضية القتل.

والقتيلة –وفقًا للسفهاء- استغلت القاتل النابه الذي لم يوجد مثله في كلية آداب المنصورة، في سنتها الجامعية الأولى، وهنا لا بد أن يتساءل العقلاء عن قيمة المساعدة في الكليات النظرية، ومنذ متى والشباب هم من يذاكرون للبنات في هذه الكليات، وكل أساتذة الكليات النظرية في الجامعات المصرية يعرفون أن ما لا يقل عن 50% من الطلبة لن ينجحوا ما لم تساعدهم زميلاتهم، وهل مساعدة القاتل للقتيلة بشأن بحث طُلب منها في إحدى المواد في عامها الجامعي الأول الذي تصادف أنه كان عام استشراء فيرس كورونا، وذلك بصفته الطالب المعين لجمع الأبحاث من زملائه، يعتبر استغلالًا أو يُرتب له حقوقًا عليها؟!

لقد اعترف القاتل على رءوس الأشهاد أن القتيلة بدأت مطالباتها له بالابتعاد نهائيًا عنها منذ عامهما الجامعي الثاني، حتى أنها بعثت له رسائل صوتية تحتوي سبابًا، وأنه قد أسمعه لكثيرين، وأنه تلقى مطالبات من كثيرين بالابتعاد عنها؛ لأنها لا تريده، ولو كانت ترغب في استغلاله أو أنه حقًا يقدم لها خدمات جليلة لما سبّته ونهرته بعنف وحظرته في بداية السنة الجامعية الثانية فأمامها ثلاث سنوات جامعية.

 ثم إن القاتل ادعى في التحقيقات أنه طاهٍ لتبرير دافعه لقتلها بأنها استغلته ماديًا أيضًا، وأنه كان ينفق عليها، وتأكيد دعاواه أنها ارتبطت به في عامها الجامعي الأول، تلك الادعاءات التي لا يؤيدها سيل المراسلات منه والتجاهل ثم الحظر من جانبها. والسبب أن شحاذًا مثله يستحيل أن يملأ عين ست البنات، ولا بد له من ادعاء مصدر للمال الذي يكذب بشأن إنفاقه عليها، كما أن بإمكان المحامي الطعن في النقض بأن السكين التي ارتكب بها القاتل الجريمة كانت معه لأجل العمل، وهو ما نفاه جيرانه في شهاداتهم في مقاطع الفيديو على موقع اليوتيوب، ومداخلاتهم مع القنوات الفضائية، فأبوه المتوفى كان رجلًا شديد الفقر يعمل عاملًا في معمل مخللات، مات وأبناؤه صغارًا ولم يترك معاشًا، وعملت أمه حتى انحنى ظهرها لتربيتهم، وهناك مساعدات تتلقاها الأم من أقاربها لمعاونتها على المعيشة، ولم يقل أحدهم في شهادته أن القاتل كان يعمل رغم سؤاله المباشر عن مصدر دخل الأسرة، ونفى أحدهم تمامًا أنه عمل طاهيًا عندما سُئل عن ذلك، وقال إنه ربما وقف في بقالة للبيع مرة، ولكن لم يُعرف عنه أنه يعمل. والأمر بسيط وغير مُعجز في التفسير، فمثل هذا المدلل الاعتمادي لا يتحمل المسئولية، فحتى إن كان قد تعلّم صنعة الطهي، فهو سيعمل يومًا ويتعطل سنة، ونعود لنقول إنه ينتظر من أفراد المجتمع أن يعاملوه مثلما عوّدته أمه.

علمًا بأن الفتاة كانت تعمل أثناء دراستها بإحدى الشركات بالقاهرة، وتركت المحلة وذهبت للعيش في القاهرة مع أختها، لأن زوج أختها سافر للعمل خارج مصر، ومع ذلك ورغم عدم حضورها للمحاضرات غالبًا وابتعادها عن القاتل فقد استمر في مطاردتها عبر وسائل التواصل.

ورغم أن مراسلات تطبيقات التواصل الاجتماعي تنفي أي علاقة حقيقية بين القتيلة والقاتل، وتوضح أنها حظرته منذ زمن بعيد بعد أن حاول تجاوز حدود الزمالة وملاحقتها، ولم تجد التجاهل كافيًا، فتنزلًا أنه لو صح –وهو لم يصح- أن الفتاة ارتبطت به ثم رأت في شخصيته ما أنكرته عليه، أو أن أمها كما يدعي القاتل هي سبب فشل الارتباط بينه وبين القتيلة، ورفضت أن يتقدم لها ويخطبها، فهذا حقها، وليس في هذا أدنى استغلال أو تحيل، وأي أم لو أخبرتها ابنتها أن زميلًا لها يريد خطبتها، وهو فقير فقرًا مدقعًا، وغير قادر على الزواج ربما قبل عشر سنوات، فستأمرها بنسيان الأمر ورفضه. وهناك من يتزوجون ويتطلقون، ولكننا بتنا نسمع كثيرًا عمن يصطنع أزمة لأن الطرف الآخر فسخ الخطبة أو رفضها من البداية، وكأن الطرف الآخر مخلوق لتلبية طلباته وليس له حق في الرفض.

وأعرف فتاة تقدم لها طبيب صديق لأخيها، وكانت والدته بصحبته، وأحواله المادية جيدة، وتمت قراءة الفاتحة، ثم رفضوه بعد ذلك بسبب ما رأوه من فرط الاختلاف الطبقي، فلا اعتبر الشوكولاتة التي اشتراها يوم ذهب للتقدم للفتاة استغلالًا، ولا اعتبر الرفض له معيبًا في حقه. ورغم اقتناعي أنهم أخطأوا برفضهم شابًا مكافحًا لهذا السبب إلا أن الرفض يبقى من حقهم، وليس لأحد أن يسلبهم إياه ويلزمهم بالموافقة.

إن المنطق يقول إن أمامنا روايتين؛ رواية أهل القتيلة وصديقاتها وبقية الشهود ورواية القاتل، ورواية القاتل ليست أكثر من تشنيعات على القتيلة بسوء السلوك، وكأن سوء السلوك هذا إن صح يعفيه من عقوبة القتل العمد، أو كأنه سيغير مسمى الاتهام في القضية، والأدهى أن بعض ما قال يصدق على رواية أهل الضحية لسبب بسيط أن هناك شهودًا كثرًا عليه لن يستطيع تكذيبهم، فليس باستطاعته الادعاء بعدم تحرير محاضر في الشرطة له بعدم التعرض للقتيلة، ولن يستطيع إنكار أن هناك جلسة عرفية عُقدت لإلزام أهله بتربية ابنهم المهووس بالفتاة، ولن يستطيع إنكار أن كثيرين سمعوا سبابها له في الرسائل الصوتية، ولا أنها قالت لكثيرين في الجامعة أنه يطاردها وهو كاذب وأنها غير مرتبطة به، وأنهم كلموه في شأن ضرورة ابتعاده عنها.

ولأنه من فمك أدينك، ولكن أنى للتافهين أن يُقيّموا أمرًا بشكل صحيح؟! فالمتفق عليه بحسب كلا الروايتين أن القاتل فاقد الرجولة والكرامة، فهو معترف أن القتيلة منذ نحو عامين لم تترك سبيلًا لإبعاده عنها إلا وفعلت، ولو كانت سيئة السلوك –كما ادعى- فقد كان هذا مدعاة لأي رجل حقيقي أن يلفظها لا أن يطاردها، ولو كانت تسافر دون علم أهلها –وهو ما نفوه- فهل هناك رجل يتصل بأهلها ليرفع صوته عليهم أن كيف تركوها تسافر وحدها ودون إخباره؟! ومن تكون حتى يخبروك؟! ولو كانت زوجتك يا فاقد الكرامة وسافرت دون إخبارك –وإن أخبرت أهلها- للزمك أن تطلقها لا أن تلتصق بها بغراء يأبى أن يُفك، ولكن اعترافاتك التي أردت أن تشين بها القتيلة أشانتك ودللت على فقدك النخوة والكرامة.

وبإمكاني أن أقرر أن قاتل المنصورة هو أكثر حالات السيكوباتيين التي درستها ‏انحطاطًا وقذارة، فهو حثالة بشرية وضيعة تمشي على الأرض، وليس بأقل انحطاطًا منه من يدافعون ‏عنه.‏

بلبلة ولغط موجه في المجتمع

أتساءل، أين خال القاتل الذي حضر الجلسة العرفية التي طلب فيها أهل نيرة من فاقد الكرامة الابتعاد عن ابنتهم؟ وأين أخته الثانية التي لم أقرأ أي محاولة دفاع لها عنه؟ ولماذا لم يُطلبا للشهادة؟

وقد لفتت النظر في مقالي "خطيئة حواء مجددًا" إلى أن رفاق القاتل في الجامعة لا بد أن لهم يدًا في تحريضه على التشهير بالفتاة عبر الحسابات الوهمية التي اختلقها في حياتها ثم على قتلها، ولا شك عندي أن لهم يدًا أيضًا في شن حملة التعاطف الحالية مع القاتل والتشهير بالقتيلة، والذي وجد صداه لدى المتعاطفين مرآويًا من أشباه الرجال، وبعض من النساء أيضًا، فالتعاطف المرآوي لا يقتصر على أبناء النوع الواحد، لكن الأمر يبدو أكبر من هؤلاء الرفاق إلا إن كان من بينهم من يعرف الكثير عن الانترنت، وهناك بلبلة كبيرة حادثة في مصر، والجنازة حارة والميت (أعني القاتل) كلب. ويجب تكثيف البحث عن مصدر هذه البلبلة وفضحه. كما أنه من الواضح أن إحدى أختي القاتل مندمجة مع المتعاطفين معه، وأعتقد أن زيارة الأجهزة الأمنية لمنزل عائلة القاتل ومنازل أصدقائه وفحص أجهزة الكمبيوتر والتليفونات بها قد صار ضرورة.

وبعد أن شاع أن حملة ستدشن لجمع 5 ملايين جنيه دية عن نيرة، وأعلن أهل الفتاة رفضهم لها، ظهر شخص سوري لم يعلن عن هويته، في مقطع فيديو طالبًا السماح له بدفع دية 10 ملايين جنيه مصري لأهل القتيلة في محاولة لإغرائهم بتغيير رأيهم وقبول الدية، لتخفيف الحكم على زهرة شباب مصر الذي سنفقده ونحطم مستقبله اللامع كقاتل متسلسل، وغالبًا فإن هذا السوري كاذب ولا ينوي دفع شيء، بل هناك من يريد تشويه أهل القتيلة مزيد تشويه وإظهارهم في مظهر المتاجرين بها، ولو كانت تلك الملايين لا تلزم السوري وفائضة عن حاجته إلى هذا الحد فلِم لم يدفعها للاجئي بلده الذين يتضور بعضهم جوعًا وبعضهم قتله برد الشتاء؟!

ثم إنني غير مقتنعة أن فريد الديب قد قرر أن يدافع عن القاتل بنفسه مجانًا، وهو من أعلن اعتزاله الترافع منذ فترة رغم ما يتلقاه من ملايين أجرًا للدفاع، فمن دفع له؟! ولماذا؟! أم أن الشباب الذين زاروه وعدوه بالدفع وآثر عدم الإعلان عن ذلك؟!

وأما الموقف المقابل بطلب مرتضى منصور وبهاء الدين أبو شقة تولي الدفاع طرف القتيلة مجانًا، فأكثر مقبولية، فهي المجني عليها، ومن الطبيعي أن تجد بشرًا طبيعيين يتعاطفون معها.

وخلاصة القول إنه لا نيرة قد قتلت أحدًا، والقاتل هو ولي الدم وقرر أن يقتص في غيبة القانون، باعتبار أننا نعيش في القرن التاسع عشر، ولا هي البيج نيرة وكونت عصابة قطع طريق وتستحق القتل حدًا للحرابة، ولا دخل للمهووس بها ولا بسلوكها الذي حاول تشويهه بشتى السُبل، متوهمًا أن هذا سبيله للفكاك من حبل المشنقة، وإمعانًا في انتقامه منها، بينما البنت ماتت بكرًا، وفحص تليفونها لم يظهر ما يشين مطلقًا في علاقتها بالقاتل قبل أن تحظره، ولا بغيره.

والله سبحانه وتعالى وجه الخطاب في آية القصاص فقال: ‏﴿‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏﴾‏ [البقرة: 179]، ولم يقل: (يا بني آدم)؛ لأن المخابيل المختلين عقليًا، يسيطر عليهم التفكير العاطفي، فيتعاطفون مع من يتمسكن، وينسون ماذا فعل وكيف أجرم، ودائمًا يبررون للمجرمين ويطالبون بالعفو عنهم.

وفي الحث على تنفيذ الجلد في حد الزنا، قال تعالى: ‏﴿‏وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ‏﴾‏ [النور: 2]، ولا شك أن القتل أبشع الجُرم، فإن كان هناك نهي عن الرأفة والرحمة بالزاني فالقاتل العمد أولى بهذا النهي، ومن يبحثون عن مخرج للقاتل ويتحايلون لتبرئته يتعدون حدود الله الواضحة، ‏﴿‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏﴾‏ [الأحزاب: 36].

ويجب أن يفهم المتعاطفون مع القاتل (ومع أنفسهم) أن هذه الفعلة لن تمر على خير. فهذا التافه يجب أن يُنفذ فيه القصاص بأسرع ما يمكن حسمًا للبلبلة وإخراسًا لهذا اللغط، وأن تجد الجهات الأمنية طريقًا لإيقاف الحمقى المعترضين على حكم الله تعالى في قاتل عمد، فاعتراضهم وسفههم يتعدى الاعتراض على حكم القضاء العادل، وإلا فالحادثة ستتكرر، وهناك كثيرين من الذكوريين المدللين التافهين ممن لا يحترمون الأنثى، ولا مشكلة لديهم في أن تُعنف أو تُقتل لأنها أغضبت حقيرًا من بينهم، ويمكن أن يحذو بعضهم حذو القاتل ما لم يلق جزاءه وفاقًا.

ويكفي أن إظهار بعضهم التعاطف معه على وسائل التواصل الاجتماعي قد أدى إلى تكرر الحادثة بعدها بأيام قلائل في عدد من البلاد العربية؛ فقتل تافه طليقته التي خلعته في الإمارات، وقتل شاب شابة في جامعتها في الأردن، وغيرها، ولم يوقف هذه النوعية من الحوادث النابتة كنبت الشيطان، سوى حكم الإعدام السريع على قاتل نيرة، الذي تتضافر جهود أولاد طنط فكيهة لإبطاله، ظانين أن بإمكانهم أن يصلوا لهدفهم!

وهناك من لا يتعاطفون مع القاتل لكنهم يتاجرون بالقضية ويستغلونها لتحقيق الأرباح خاصة على موقع اليوتيوب، فهناك مقاطع فيديو بعناوين زائفة أو تحوي صورًا أو أخبارًا مفبركة عن الضحية، فأحدهم يضع فيديو مفبركًا بأنها موهبة غناء جديدة، وهناك من وضع صورًا مركبة بالمايوه يبدو أنه دفع على تركيبها 20 جنيهًا كاملة، لذا فهي غاية في الجودة حتى أن أي طفل صغير بإمكانه كشفها! ولا يعنيهم التشهير بالمغدورة، ويجب أن يحاسبوا.

ومن أهم الجهات التي يجب أن تُحاسب حسابًا عسيرًا كلية الآداب بجامعة المنصورة، والمسئولون بها، فكل منهم نموذج للمربي الفاشل الذي لا يستشعر مسئوليته تجاه طلابه، وقد حاولت القتيلة الاستنجاد بهم ولم يستجيبوا لها، واعتبروا ملاحقة القاتل لها لا تعنيهم لأنها تحدث خارج أسوار الكلية، رغم ثبوت أنه لاحقها وتحرش بها مرات داخل الكلية، كما لم تهتم الكلية بإصدار أي بيان عن واقعة القتل!

وليت من أكثروا الحديث عن سفور البنات يكفوا عن حالة العور الفكري المتفشية لديهم، ويتحدثوا مع الشباب عن الذين يؤذون المحصنات المؤمنات، ويؤلفون القصص عن علاقاتهم العاطفية المكذوبة بهن، والتي أضرت بالكثير من الفتيات، ويقنعوهم أن الشاب الناجح هو الواقعي الذي يضع قدميه على الأرض ولا يخلق واقعًا مشوهًا، ويعيش في أوهامه في بالونة في رأسه. ينمي قدراته ومهاراته، ويتطلع نحو تحقيق أهدافه ويخطط لها. وليس الذي يقضي وقته في اختلاق القصص الغرامية عن ولع الجميلات به.

ويجب أن تعلم الفتيات أن هناك من تعني كلمة "صباح الخير" له معنى آخر، وأن يميزن مع من يتعاملن، وأن يعلم أهل الفتيات أن أمثال هؤلاء من فاقدي الكرامة لا يتقبل الواحد منهم الرفض، ويبقى يدور على أهل الفتاة وجيرانها وصديقاتها، ويجب أن يلقى صدًا بجفاء وليس بذوق، فرفضه بذوق يكون أول مرة فقط، فإن تكرر طلبه وجب له التعنيف، واللياقة والشياكة والرقي في التعامل معه لن يجعلوه ينزع الفتاة من رأسه. ونصيحة لكل ولي أمر ألا تفتح الباب لمن تعرف أنك سترفضه، لأن بعضهم سيعتبر أن هناك أملًا طالما هناك تواصل بينه وبين العائلة، ولن يقبل بقطع هذا الحبل، فهؤلاء أشبه بالقُراضة.

وهناك أيضًا إشكالية "السابقة الأولى" التي تعشش في أدمغة كثير من المصريين، فلا بد أن يرتكب المجرم سلسلة من الجرائم ليقتنعوا بكونه مجرمًا. وهنا يظهر انعدام التمييز في أجلى حالاته، فكأن المتهم سرق رغيف خبز ليأكل، ومطلوب إعفائه من السابقة الأولى كي لا يضيع مستقبله، والقتل تحديدًا استثناء، ولا يكون القاتل قاتلًا عندما يقتل مائة فتكفيه نفس واحدة يزهقها، والله تعالى يقول في محكم كتابه: ‏﴿‏مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا‏﴾‏ [المائدة: 32]. وربما لأنهم لم يعتادوا أن يُقتص من القتلة صار ذلك مبررًا للمطالبة بالمساواة غير واعين أن القاتل هذه المرة ليس له أدنى عذر ليتم تخفيف الحكم عليه، بل هو معترف بالتحرش بالقتيلة لسنتين على الأقل، ولم يأل جهدًا في مضايقتها بكل ما أمكنه من سُبل.

كما أن هناك تصورًا لدى بعض العرب أنهم يفهمون أكثر من المختصين، فبعضهم يفتي على صفحة دار الإفتاء ويُكذب الفتوى الصادرة عنها، وآخر يصف دواء في مجموعة طبية معقبًا على تعليق لطبيب! ولأنني أول من تحدث عن أثر التدليل في الصغر عند نقاش قضية ذبيحة المنصورة، فقد لفتني أن بعض التعليقات رفضت هذا التفسير، وقرأت كلامًا لا وزن له عن القاتل المحترم المهذب اليتيم الذي يستحيل أن يكون مدللًا، وأن الأغنياء فقط من يدللون أبناءهم. وهؤلاء يثبتون أن كون الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتحدث اللغة ليس ميزة لدى جميع البشر، فبعض البشر كان من الأفضل لهم وللبشرية جمعاء لو ولدوا خُرسًا.