السبت، 12 مارس 2022

285-عصمة الأنبياء

 

عصمة الأنبياء

د. منى زيتون

مُستل من كتابي "تأملات في كتاب الله"

على المثقف، السبت 12 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961837

 


وصلني تعليق مهم على مقالي "الحاجة إلى علم نفس تاريخي"، قال فيه صاحبه:

لدي ملاحظة حول الحديث عن خطايا الأنبياء في الجزء المعنون "ما بين التعظيم والتدمير" وهو أن الأنبياء منزهون عن الخطايا والآثام، وهم معصومون، ومع هذا قد يصدر منهم خطأ بسيط بلا تعمد، أو يرتكبون خلاف الأولى. وهم مُنزَّهون عن الكفر والشرك. وقول النبي إبراهيم: ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ في زعم قومه. قال الواحدي في الوجيز: "في زعمكم أيها القائلون بحكم النجم وذلك أنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها". وقال البيضاوي في تفسيره (1/ 423): "وقوله: ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد".

ردي على التعليق

بخصوص ما ذكر بعض المفسرين في قول أبينا إبراهيم ‏﴿‏هَذَا رَبِّي﴾ فهو مضاد لصريح معنى الآيات؛ ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 76- 79].

فمن الواضح أنه كان في رحلة بحثه عن الله، فأخذ يراقب وأخطأ أولًا واعتقد في صحة عقيدة قومه، لأنهم كانوا يعبدون الكواكب، ويصنعون لها تماثيل لتجسيدها على الأرض، وكانوا يخصون أكبر الكواكب المشتري ﴿كبيرهم﴾ بتعظيم أكبر، ولكن أفول المشتري في تلك الليلة كان دليلًا عنده أنه ليس إلهًا، فالإله لا يتحول ولا ينتقل، وفي اليوم الثاني عندما راقب القمر وأفل عرف أنه هو الآخر ليس إلهًا، فطلب الهداية من الرب الحقيقي الذي لم يكن عرفه؛ أي طلب من الله أن يدله عليه، وفي الصباح رأى الشمس وكان أفولها دليلًا عنده أن الرب هو الذي خلق هذه الأجرام كلها، وتبرأ أن يكون من المشركين به. وبهذا الرأي رأى ابن عباس فيما رواه عنه الطبري، وليس فيه انتقاصٌ من مقام الخليل إبراهيم، فقد كان فتى يطلب الهداية ويقين الإيمان.

وفي الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وبين الله عز وجل، ثم بينه وبين فرعون في سورة الشعراء سنجد أن كليم الله يقر في حواره مع الله عز وجل بأن لقوم فرعون عليه ذنبًا ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ (14)﴾، ويقر أمام فرعون بأنه عندما قتل الرجل منهم خطأ كان من الضالين ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)﴾، فهو رد على فرعون الذي كان قد وصفه بالكفر، والكفر ضلال بين العبد وربه، ولكن موسى قتل الرجل جهالة منه وضلالًا وليس كفرًا، قبل أن يُوحى إليه ويصير نبيًا.

وأود أن أوضح أن ما ذكرته أنت من عصمة الأنبياء من الخطايا أبدًا إنما هو رأي رآه مفسرون، ولا أراه موافقًا لما ذكره الله تعالى من قصص بعضهم في القرآن، وإنما العصمة تقرر في حقهم بعد نيلهم مقام النبوة، وهذا مما لا خلاف عليه؛ فهم جميعًا بعد نبوتهم معصومون. وهذا الرأي أقرب لتحقق الفائدة من كونهم بشرًا، لإمكان الاقتداء بهم، وليعلم المذنب منا أن ذنبه غير حائل بينه وبين أن يصل إلى درجة عالية من الإيمان إن تاب ورجع عنه. ولكن مما لا خلاف عليه أيضًا أنهم جميعًا منذ نشأتهم أتقياء، وأن أي خطأ وقع فيه أحدهم قبل نبوته لم يكن مقصودًا.

 

الاثنين، 7 مارس 2022

284-الحكمة.. السلطة الثالثة

 

الحكمة.. السلطة الثالثة

د. منى زيتون

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

على المثقف، الاثنين 7 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/961732

 

إن أكبر النعم التي تتيح لبشر أن يُهاب وتكون له المنزلة العالية بين غيره من البشر هي ما يُعرف بالسُلطات الثلاث التي عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة؛ القوة والمال والعلم، ويُقال إنها لم تجتمع ثلاثتها في ذروتها لبشر قط.

ولا شك أن العلم هو أعلى وأرفع السلطات، ولم يعط بشر نعمة أكبر من العقل ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 269].

قال القرطبي في تفسير الآية: "وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به، وبه يعلم الامتناع من السفه وهو كل فعل قبيح، وكذا القرآن والعقل والفهم"أهـ. وكل الأنبياء آتاهم الله العقل والحكمة والعلم والفهم.

وقد دعا الخليل إبراهيم عليه السلام فقال فيما أخبر رب العزة عز وجل: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ [الشعراء: 83]. ومن دعائه نفهم أن الحكمة توصل الإنسان للحُكم السليم على الأمور وتمييز الشر من الخير، ومن ثم إدراك طريق الخير، والالتحاق بركب الصالحين؛ فالحكمة لا يهبها الله إلا لعباده الصالحين.

وقال تعالى عن لوط عليه السلام: ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: 74].

وقال عن موسى عليه السلام: ‏﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [القصص: 14].

وعن يوسف عليه السلام لما آتاه حُكمه وعلَّمه في سن أبكر مما آتى موسى، قال: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف: 22].

وقال تعالى في سليمان وفي أبيه داود عليهما السلام ‏﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ‏[الأنبياء: 79].

‏والحليم صفة تدل على تمام العقل، فالحلم هو العقل في لغة العرب، والعقل في الأناة ومخالفة الهوى وضبط النفس عن الغضب.

وهذه الصفة قد وُصف بها سيدنا إبراهيم، يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]. ويقول تعالى في آية أخرى عن الخليل: ‏﴿‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏﴾‏  [هود: 75].‏ فالأواه المتضرع، والحليم سليم العقل الذي لا يخامره شك في ربه؛ صحيح اليقين والإيمان بربه.

كما وُصف بها ولده الذبيح إسماعيل ‏﴿فَبَشَّرْنَٰهُ بِغُلَٰمٍ حَلِيمٍۢ‏﴾‏ [الصافات: 101]، وكلاهما أوتي رشده من الصغر. بينما وصف سيدنا إسحق بالعليم ‏﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٍۢ‏﴾‏ [الحجر: 53].

ولتفهم معنى النعت انظر إلى إبراهيم وهو يتطلع في النجوم والكواكب وهو فتى ليدرك ما لم يدركه شيوخ قومه، ثم وهو يتوقف عن الاستغفار لأبيه عندما تبين له أنه عدو لله، وانظر إلى ‏إسماعيل الغلام الصغير الذي يخبره أبوه أنه يرى في المنام أنه يذبحه ويستسلم للأمر الإلهي الذي يخبره به ‏أبوه الخليل بهدوء ودون أدنى جدال.

وكان سيدنا الحسن بعد تنازله عن الحكم لمعاوية يُقال له: "حليم آل البيت"، وغار معاوية فصار المنافقون ‏يتقربون إليه بوصفه بالحلم!

ولكن نبي الله سليمان قد تفرد عن باقي الأنبياء بأن طلب توسعًا لا يُضاهى في ملكه الذي ورثه عن أبيه، فلا ينبغي لأحد من بعده ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ ‏[ص: 35]. وإن كان هذا يعني أن يتفرق هذا الملك من بعده، لأنه لن ينبغي حتى لأبنائه أن يملكوا ما ملك، وهو ما كان.

وإن كان سليمان قد فاق أباه في العلم والملك فداود قد  زاده الله قوة ‏﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ [سبأ: 10]، كما أن سليمان ذاته كان من أكبر النعم على أبيه ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ﴾ [ص: 30]. فرغم أن داود عليه السلام رزقه الله مائة ولد إلا أن سليمان كان نعمة عظيمة استحق أن يُذكر ويمن الله بها عليه.

ولم يذكر تعالى لنا أن نبيًا من أنبيائه طلب القوة أو المال ليغتر بأيهما على عباد الله، بل على النقيض فقد روى لنا عن قارون، وكيف اغتر بماله ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ [القصص: 79]، بعد أن تجرأ وادعى أن ماله جاء بعلمه ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي﴾ [القصص: 78]، وكانت نهايته نتيجة تكبره عن شكر الله على ما آتاه ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ﴾ [القصص: 81]، فلا استطاع نُصرة نفسه ولا استطاع بشر نُصرته عندما استحق عقاب الله، فكان ذنبه عدم الشكر؛ فكأن الخسف جزاء البطر وعدم الشكر.

الأحد، 6 مارس 2022

283-أكذوبة رضاع الكبير!

 

أكذوبة رضاع الكبير!

د. منى زيتون

منقح ومزيد الأحد 23 يناير 2022

من مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

على المثقف، الأحد 6 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961708

 

في علم النفس هناك حيلة دفاعية شهيرة تُعرف بالإسقاط، تحدثت عنها تفصيلًا في مقالات سابقة، وملخص ما يُقال فيها إن كل من هو آثم قلبه يظن بالآخرين ما في قلبه، ويبدو أن المنافقين لم يصدقوا براءة السيدة عائشة من حادث الإفك التي نزلت من فوق سبع سماوات، وبقي في نفوسهم عنها بعض الشك والريبة والاتهام، وهذا منطقي فكيف للمنافق أن يكفيه دليل الغيب وهو غير مؤمن على الحقيقة!

وهناك صنف آخر من الناس أصدق وصف له هو "المسارع إلى تصديق الإفك". هم لا يصنعون إفكًا ولكنهم ‏يصدقونه حتى وإن كانت هناك رواية أخرى تبرئ المتهم، وأيًا ما كان هذا المتهم!‏

وسبق أن تحدثت عن تلقائية السيدة عائشة وتصرفاتها الفطرية في مقالات سابقة، وفي هذا المقال وددت العروج إلى أمر آخر يتعلق بتلقائيتها؛ إذ يبدو لي أن تلك البراءة الزائدة فيها هي ما شجعت بعض المنافقين الوضّاعين على الافتراء عليها فيما عُرف برضاع الكبير، فإن كان الله تعالى قد برأها في قصة الإفك فإنها ومع الأسف لم تجد من يبرئ ساحتها من الأباطيل التي ادعوها في مسألة رضاع الكبير، ولم تجد دفاعًا عنها سوى بعض التبريرات ممن صدق هذه الأكذوبة رغم تعارضها مع قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة:233]؛ إذ جعل الله الحولين تمام الرضاعة، وكذا تعارضها مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن "لا رضاع إلا في الحولين"، و "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام"، وقوله "إنما الرضاعة من المجاعة". واللافت أن السيدة عائشة من أكثر من روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في باب الرضاع! وهي من روت عن رسول الله حديث "إنما الرضاعة من المجاعة"!

وأصل القصة الذي وجد من يحرف فيه بعد ذلك، -والذي يمكن الاستدلال عليه من مجمل الروايات الصحيحة وما حكته السيرة النبوية- أن السيدة عائشة كانت قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول بعض الرجال على النساء ممن لا تربطهم بهن صلة دم ولكن هناك صلة نشأت بسبب الرضاع؛ كأن تكون زوجته أرضعتها أو ما شابه، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ثم إنها كانت صغيرة السن عندما تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثلما تزوجت هي تزوجت صاحباتها وأنجبن، بينما بقيت هي من بينهن لم تنجب، وكانت صاحباتها يدخلن عليها ومعهن أبنائهن، وكانت تلاعب هؤلاء الأطفال، ورأى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلقًا بهم، ولأنه يعلم أن هؤلاء الأطفال سيحرم عليها أن يدخلوا عليها ويزوروها عندما يبلغون وستجد في نفسها لأنها تعتبرهم بمثابة الأبناء أفهمها رسول الله أن الإسلام ليس فيه تبنٍ، وأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشرع في تحريم من تحب أن يدخل عليها منذ صغره، فيرضع وهو طفل ليحرم عليها فيدخل عليها بلا تهمة عندما يكبر، واستمر ذلك في غير أبناء صويحابتها، ومع ذلك فلم يُرو أي حديث يُفهم منه -ولو شبهة- أنها قد أرضعت أي طفل بنفسها، بل كانت قريباتها من يرضعن هؤلاء الأطفال.

ولكن يبدو أن بعض من يفتقد التمييز والفهم الكافي لم يفهم أن الحديث يدور عن أطفال صغار! وكأن السيدة عائشة كانت تصاحب نساء في عمر أمها كل منهن لديها أبناءً رجالًا بالغين! مع أن الأحاديث في صحيح مسلم وغيره تحكي عن أنها كانت تلعب بلُعبها في بيت رسول الله وتأتيها صواحبها ويلعبن معها! وصاحب هذا الذكاء الفائق يتهم رسول الله بأنه أذن لزوجته بإرضاع رجال بالغين أو أنها فهمت منه مشروعية ذلك!

ولعل أحدًا لن يفهم حقيقة رضاع الكبير إلا من أحاديث كتاب الموطأ لإمام المدينة مالك بن أنس، المولود سنة 93هـ بعد وفاة السيدة عائشة بنحو 36 سنة، والمتوفي سنة 179هـ، وقد عاصر الإمام مالك في أول عمره عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المتوفاة على الأرجح سنة 106هـ، وكانت توصف بأنها "تربت في حجر عائشة"، فسمعت منها الحديث، وتفقهت على يديها، وروى عنها الإمام مالك في الموطأ بواسطة ابنها محمد بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وعروة بن الزبير –وهو ابن أخت السيدة عائشة- ، وابن شهاب الزهري.

كما عاصر الإمام مالك هشام بن عروة بن الزبير وجدته أسماء بنت أبي بكر، وروى عنه بعض الأحاديث في باب الرضاع التي رواها عن أبيه عن السيدة عائشة أخت جدته، وروى كذلك عن نافع مولى ابن عمر، ومعلوم أن أول ما دُون من حديث رسول الله كان حديث أهل المدينة، عندما أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث على رأس المئة الأولى، وأمر قاضي المدينة وقتها أبي بكر بن حزم –وهو ابن أخت عمرة بنت عبد الرحمن-  بجمع الحديث وتدوينه؛ لذا فالإمام مالك هو أدرى الأئمة بما كان عليه زوجات رسول الله وسائر أهل المدينة في زمن الصحبة وأول عهد التابعين، ومن أهم الأحاديث التي رواها في باب الرضاع التي تدل على أن ما عُرف باسم رضاع الكبير ما هو إلا أكذوبة مصدرها تحريف الكلم عن مواضعه ووضع الوضَّاعين:

(1740) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زوج النبي صَلى الله عَلَيه وَسَلم أَرْسَلَتْ بِهِ، وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ.

(1741) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ كَانَ يَقُولُ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ لِمَنْ أُرْضِعَ فِي الصِّغَرِ، وَلاَ رَضَاعَةَ لِكَبِيرٍ.

(1742) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عن صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَتْ بِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي سرح إِلَى أُخْتِهَا فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تُرْضِعُهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْضَعُ، فَفَعَلَتْ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا.

(1743) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، أنْ أَبِاهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ أَخَوَاتُهَا، وَبَنَاتُ أَخِيهَا، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إِخْوَتِهَا.

(1744) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الرَّضَاعَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَطْرَةً وَاحِدَةً فَهُوَ محَرِّمُ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ , فَإِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ.

(1745) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: قال مَالِكٌ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَأَلْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ كمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.

(1746) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ مَا فِي الْمَهْدِ، وَإِلاَّ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ.

وأرى أن ما أثار الشبهة في بعض الأحاديث الصحيحة هو عدم تحديد السن الذي كانت تتم فيه الرضاعة لأن الراوي يحسب أنه مفهوم ضمنًا وليس بحاجة أن يُنص عليه، وهو ما استغله المنافقون الوضاعون للبناء عليه والتحريف في أصله ليبدو الأمر على غير حقيقته، ومع ذلك فهناك روايات ألفاظها غاية في الوضوح ففي الحديث (1740) يروي الإمام مالك أن سالم بن عبد الله بن عمر قد أرضعته السيدة أم كلثوم بنت أبي بكر وهو طفل رضيع، ولكنها لم تتم من رضاعته ما يكفي لتحريمه عليها وعلى أختها السيدة عائشة بسبب مرضٍ ألمّ بها، ومن ثم فلم يكن يدخل على السيدة عائشة عندما كبر، والأهم من تحديد سنه في الرواية أن هذه الرواية تثبت يقينًا أن السيدة عائشة لم تكن ترى أن الرضاعة تصلح للكبير، وإلا لكانت قد أمرت امرأة أخرى من قراباتها بإعطائه لبنًا بعد الحولين ليحرم عليها. وفي الحديث (1742) نجد فيه قصة مشابهة تتعلق بالسيدة حفصة. والحديث (1745) فيه فتوى عروة بن الزبير –وهو ابن السيدة أسماء بنت أبي بكر، والسيدة عائشة خالته- بأن الرضاعة لا تكون سوى في الحولين. فكيف يستقيم كل هذا مع ادعاء من ادعى أن السيدة عائشة كانت ترى أن الرضاع يكون للكبير؟!

ومن ثم فإن كان قد ثبت من هذه الأحاديث وغيرها في الموطأ أن الرضاع المقصود لهؤلاء الرجال كان في سن الرضاع في الحولين وليس بعدهما بيوم، فإن غاية ما يُقال فيما روي عن إنكار السيدة أم سلمة ومن معها من أمهات المؤمنين لهذه الطريقة في التحريم أنهن لم يستسغنها رغم ما أخبرتهن به السيدة عائشة من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وأن رسول الله قد أجاز أن يدخل على المرأة حتى زوج المرأة التي أرضعتها، وعمها وخالها من الرضاع، ولكن التحريف في ألفاظ بعض الأحاديث ووضع أحاديث أخرى هو ما أوصل البعض إلى الاعتقاد بأن لأكذوبة رضاع الكبير أصل في الإسلام.

وتفسير هذا التشنيع على السيدة عائشة تحديدًا أنها دخلت في آخر سنين عمرها في عداء مع كلا المعسكرين المتحاربين؛ فعاداها من تشيعوا للأمويين –في ذلك الزمان وليس بعده- ومن تشيعوا للإمام علي على السواء، وفي المعسكر الأموي في ذلك الزمان كان هناك وضاعون يضعون الأحاديث لتقوية جانب الأمويين وذم من يبغضون، ثم كان في المعسكر الشيعي مثل هؤلاء الوضّاعين في زمن لاحق بعد أن غيّب الموت بقية الصحابة وأصحاب علي من بينهم، ولأني أشتم رائحة خبث الأمويين في هذه الفِرية، وأعرف أن إرضاع الأطفال الغرباء مما يُعاب على المرأة عند أهل الشام وليس أهل العراق، والرضاع وما يختص به يدخل في باب العادات والأعراف الاجتماعية وليس فقط الحِل والحرمة، فأنا أرى أن مصدر الأحاديث في باب رضاع الكبير في كتب أهل السُنة كان بلاد الشام قبل أن يتلقفها الشيعة بعد ذلك ويضعوا في الباب إضافاتهم في كتبهم. ولأن سبب خلافها مع الإمام علي معروف، ولأن وضع الأحاديث عنها وعن غيرها بالمدح والذم كان في عهد دولة بني أمية، وأحسب أن كثيرين ليس لديهم علم بسوء علاقة السيدة عائشة بمعاوية ومروان بن الحكم وأسبابها، فيلزمني التعريف بهذا.

 بدأ سوء علاقة السيدة عائشة بمروان بن الحكم بسبب الكتاب الذي ختمه مروان بختم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد أن كان عثمان قد ولّى أخاها محمد بن أبي بكر ولاية مصر بدلًا من عبد الله بن سعد بن أبي السرح عامل بني أمية عليهم الذي شكاه أهلها، فلما سار محمد ومعه رجال في صحبته ليصل ولايته، أقبل عليهم في الطريق رجل يسرع كأنه مُلاحَق مطلوب، فاستوقفوه لشكهم فيه وسألوه فاختلط ما بين أنه مولى لعثمان أو لمروان، ففتشوه واستخرجوا كتابًا مختومًا بختم الخليفة مرسل إلى والي بني أمية على مصر يأمره بأن يحتال على محمد بن أبي بكر ومن معه ويقتلهم ويبقى في عمله! وهذا الكتاب كان سبب الفتنة الكبرى التي قُتل فيها سيدنا عثمان.

ثم إن أخاها محمد بن أبي بكر بعد ذلك قد قُتل، والمؤرخون مجمعون على أن معاوية وحزبه من قتلوه. ووردت أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد في المسند (16775) عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة –وكان قد قدم المدينة حاجًا-، فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلًا فيقتلك؟ فقال: ما كنتِ لتفعليه وأنا في بيت أمان". وفي رواية أنها قالت له: "أمِنتَ أن أخبأ لك رجلًا يقتلك بأخي محمد؟".

وإضافة لذلك ووفقًا لرواية أخرجها الحاكم في المستدرك (8483/191) عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سُنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنة هرقل وقيصر، فقال: أنزل الله فيك ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا﴾ [الأحقاف: 17] الآية. قال: فبلغ عائشة ‏رضي الله عنها فقالت: "كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان قصص من ‏لعنة الله عز وجل".‏ وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏ لأبيك وجدك‏ إنكم الشجرة الملعونة في القرآن‏".

من ثم فقد تجددت العداوة بين السيدة عائشة ومروان ومعاوية ويزيد عندما تهكم أخوها الآخر عبد الرحمن بن أبي بكر على أخذ معاوية البيعة لابنه اللعين من بعده، وحاول مروان التشنيع على عبد الرحمن والادعاء عليه زورًا أن آية التأفف قد نزلت فيه! فكذَّبت السيدة عائشة مروان وذكرت ما سمعته من لعن رسول الله لأبيه وولده، ويبدو أن مقالتها تلك قد جرأت من سمع لعن الرسول للحكم أبي مروان بأن يروي ما سمعه، فانتشرت أحاديث لعن مروان بين المسلمين، وهو ما سنسوق بعضه في مقال "آل البيت والشجرة الملعونة".

والتشنيع بالافتراء والكذب من صفات الشياطين، وتظهر هذه الصفة من قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102]. وذكرنا هذا في مقال "صفات الشياطين".

وقد كان التشنيع بإطلاق الأكاذيب سلاحًا يستخدمه بنو أمية كثيرًا على من أرادوا كف بأسه وإسكاته من الصحابة. وسأورد بعض الروايات لرواة مختلفين رووا أخبار تشنيع بني أمية على أشخاص مختلفين ممن لا يختلف عاقل على فضلهم؛ لتبيين أن هذه الصفة كانت بائنة واضحة فيهم.

فمما روي من أشهر تشنيعاتهم بالباطل ما رواه عطاء بن السائب عن أبي يحيى، قال: كنت بين الحسن والحسين ومروان، والحسين يُساب مروان، فنهاه الحسن، فقال مروان: أنتم أهل بيتٍ ملعونون. فقال الحسن: ويلك قلتَ هذا! والله لقد لعن الله أباك على لسان نبيه وأنت في صلبه".

وممن حاولوا التشنيع عليه بأنه يهودي! ولكنه رد بما أخرسهم، سيد الخزرج وابن سيدها، صاحب رسول الله وابن صاحبه، الأمير قيس بن سعد بن عبادة. روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (ج3، ص 111) أن معاوية قال لقيس بن سعد: إنما أنت حبر من أحبار يهود؛ إن ظهرنا عليك قتلناك، وإن ظهرت علينا نزعناك، فقال له قيس: إنما أنت وأبوك صنمان من أصنام الجاهلية، دخلتما في الإسلام كُرهًا، وخرجتما منه طوعًا.

وعندما أتى الكريم بن الكريم عدي بن حاتم الطائي معاوية يدعوه إلى بيعة الإمام علي اتهمه معاوية بأنه من قتلة عثمان بن عفان! وقال له تحديدًا: "إنك والله لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه وإنك لمن قتلته"! وهذا الذي حكاه معاوية باطل فعدي لم يقتل عثمانَ ولا أجلب عليه، بل إنه مما ذكره الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (ج3، ص 165) أنه خرج من الكوفة مع بعض صحبه وقالوا: لا نقيم ببلد يُشتم فيه عثمان.

والفارق بين السيدة عائشة وهؤلاء الرجال أنهم ووجهوا بما شُنِّع عليهم وأمكنهم الرد عليه، ولكن ربما هي قد ماتت ولم تعلم بما يشنعه المنافقون، وكون أن أحاديث الرضاع في كتاب موطأ الإمام مالك واضحة ليس فيها لبس فهذا يؤكد أن هذا التشنيع عنها لم يصدر من المدينة المنورة وإنما من خارجها.

وفي مقال "ما بين فضائل علي وفضائل معاوية" سنقف على بعض مما وضعه الوضاعون المستهزئون بالله ورسوله لرفع درجة معاوية، وأتساءل: هل يصعب على من تجرأوا على وضع أحاديث تدعي أن الله يحب فلانًا وأن حبه فرض على عباده وأنه يُبعث بصورة كذا وكذا وحكموا بأنه في الجنة، هل يصعب عليهم أن يشنعوا على أم المؤمنين عائشة فينسبوا إليها هذه الفرية القذرة ليشينوها، ليجدوا في المعسكر الآخر من يتلقفها ويزيد من حجمها! وكأن الله يبتليها بإفك جديد!

الخميس، 3 مارس 2022

282-وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ

د. منى أبو بكر  زيتون

الأربعاء 26 يناير 2022

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف، الجمعة 4 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961650

يقول تعالى في كتابه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].

وما قيل في مناسبة نزول الآية إن اليهود قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح اختبارًا لنبوته، وقيل بل طلبت اليهود من قريش أن يسألوه، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أجابهم بما ورد في الآية.

ثم إن مفسرينا قد اختلفوا على ماهية الروح المسئول عنها في الآية؛ فمنهم من قال إن المقصود عيسى عليه السلام وقد سألوه عنه، ومنهم من قال القرآن، ومنهم من قال إنه مَلَك سألوه عن صفته، ومنهم من قال إنها خلق كما أن الملائكة والجن خلق، ومنهم من قال إنهم سألوه عن الروح التي تحل في الجسد وتكون بها حياته.

وبالنظر إلى الإجابة التي أجابها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المسئول عنه يمكن أن يكون المسيح أو القرآن أو الروح التي تدب بها الحياة في أبداننا، وبما أن السؤال مصدره اليهود، فلا سبيل إلى الاعتقاد بأنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن المسيح؛ من ثم فالمسئول عنه هو روح البدن، وربما كان القرآن الكريم. وسأشرح لماذا وكيف يتفق هذا مع الإجابة في الآية.

لقد فهم مفسرونا الإجابة الواردة على أن الروح لا يعلمها إلا الله، لأن الروح في البدن لا تدركها حواسنا فهي مما يغيب علمه عن البشر؛ أي أنهم رأوا فيها  إجابة مبهمة تعكس عجز الإنسان عن إدراك كل شيء في الكون.

لكن إن أخذنا في الاعتبار أنه من أهم المباحث الفلسفية عند القدماء قضية القديم والمُحدَث، وأنهم تكلموا كثيرًا في قضايا قِدَم العالم وقِدَم الروح، تكون الإجابة ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ تعني أن الروح التي تحل في البدن مُحدَثة مخلوقة، وليست قديمة، فهي خلق من خلق الله ‏﴿‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏﴾‏ [يس: 82].

ولنعلم أن من أساطير الأولين –والتي ربما كانت من آثار النبوة الأولى- أن الله تعالى خلق عالم الأرواح أولًا قبل خلق أجساد البشر، وأنه عندما يقضي الله تعالى بخلق إنسان يبعث الملك لنفخ روحه في هذا الجسد الذي يتكون، فالروح أقدم في الخلق من الجسد، ولكنها ليست قديمة بالمعنى الفلسفي، فلا قديم سوى الله سبحانه. كان الله ولا شيء معه، وكل ما في الكون هو سبحانه من أوجده، فالعالم بكل ما فيه مُحدَث والروح مُحدَثة.

والأرواح كلها طاهرة مؤمنة شهدت لله بالتوحيد عندما كانت في عالم الأرواح، وتبقى طاهرة حتى وإن حلت في جسد كافر، لذا فهي لا تُعذب يوم الحساب. ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبأ: 38].

ومن ثم فكل روح تمر بحياتين، حياة في عالم الأرواح، وحياة أخرى عندما تحل في جسد وتُنفخ فيه، وهذا أحد أوجه تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 172]. وقوله: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا﴾ [غافر: 11]. وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[البقرة: 29].

أما بالنسبة للمسيح عليه السلام فهو الآخر مخلوق مُحدَث، وإن كان قد خُلق بكلمة الله، وكلام الله قديم، وسنناقش هذا المعنى في مقال "المسيح كلمة الله القديمة".

وقد كان القرآن الكريم -لأنه أيضًا كلام الله- مما ثار الجدل حول كونه قديمًا أم مُحدثًا مخلوقًا، لأن نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم محدث، وثارت فتن وجرت محن بسبب القضية التي عُرفت بـ "خلق القرآن"، وقد تناولت هذه القضية بشروحها العقدية والتاريخية في كتابي عن التطرف لمن أراد الاستزادة.

واختصارًا فإن قول علماء السُنة إن القرآن والمسيح كلام الله، ولكن القرآن قديم وإن كان نزوله على رسولنا مُحدَث، والمسيح مُحدَث مخلوق بكلمة الله القديمة، ولو دققنا سنجد أنه لو كانت الروح المسئول عنها في الآية هي المسيح أو القرآن، فالجواب القرآني ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ هو أفضل جواب يُرد به بدلًا من الرد الفلسفي الذي سبب الخلاف والالتباس بأنه قديم أو مُحدَث.

الثلاثاء، 1 مارس 2022

281-قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ

 

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ

د. منى زيتون

الأحد 2 يناير 2022

منشور ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

وعلى المثقف، الأربعاء 2 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961598

 

يقول تعالى في سورة الفلق: ‏﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾‏.

والسورة كما نعلم هي إحدى المعوذتين، ونحن كمسلمين نقرأها لنعيذ أنفسنا من شر خلقه، وشر ما يفعلون ليؤذونا به من السحر والحسد، بينما نقرأ سورة الناس للاستعاذة من وسوسة شياطين الإنس والجن.

 ورغم أن هناك أمر واضح في آية أخرى أن نستعيذ باسم الله وليس بغيره ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98]، فالأمر بالاستعاذة في هذين السورتين جاء بلفظ ‏ ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾‏ و  ﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ لتناسب صيغة التعوذ ما يُراد التعوذ منه. فما هو المقصود تحديدًا بالفلق؟

لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، والله تعالى يقول في آية أخرى: ‏﴿‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏﴾‏ [الأنعام: 96]، فالمقصود ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾‏ في السورة أنه تعالى شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده عند إضاءة الفجر، فالفلق هو فلق الصبح وقت الفجر، والاستعاذة ﴿بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾‏ القادر على كشف الظلام عن الأرض بأن يكشف عنا ما ابتلينا به من شرور خلقه.

ولأن خلق الله كثير ومنهم ما لا نعلمه، كما أننا لا نعلم يقينًا أين يكون الشر بين من نعلمه من خلقه، وقد يكون بينهم من يضمر لنا الشر ونحن ساهين عنه، جاء الأمر بالاستعاذة عامة ‏﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾.

والغسق هو أول ظلمة الليل بعد الغروب ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ووقب بمعنى دخل. فمن ذا الغاسق الذي يدخل بعد الغروب مباشرة، وأمرنا الله تعالى بالاستعاذة منه؟

القمر هو ما يدخل مع الليل، وفلكيًا فإن القمر حين يكتمل بدرًا يكون قد أتم نصف دورته حول الأرض، ويكون مواجهًا تمامًا للشمس؛ ما يجعله يشرق في لحظة غروبها، فيضيء وينتشر نوره من أول الغسق وطوال الليل حتى الفجر، وبعده تشرق الشمس ويغرب القمر البدر المواجه لها تمامًا، فلا يجتمعان في السماء أبدًا.

ولا يكون هذا حال القمر في أي طور من أطواره سوى البدر بسبب التقابل التام بينه وبين الشمس، وكل ما ظهر من أول الغروب وانتشر نوره فقد غسق، ولكنها تُقال خاصة للقمر البدر. وتقول العرب حين يتم القمر بدرًا: بَلَغَ الغَاسِقُ تَمَامَهُ.

وحتى إن كان القمر في أي طور آخر ويكون في نصف دائرة الأفق المرئية في وقت ما من النهار فلن يظهر لأن نور الشمس سيخفيه. وهذا قد يكون معنى آخر لوقوب الغاسق عندما يدخل في نور الشمس، ولكن التفسير بالبدر أدق.

أما عن سبب الاستعاذة من اكتمال القمر بدرًا ودخوله وانتشار نوره من أول الليل فيظهر في الآيتين بعدها‏﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾‏؛ فالسحرة الفجرة يجددون أسحارهم في الليالي البيض، فينفثون ويعقدون، ويُقال إنهم ينتظرون ليلة الخامس عشر من الشهر العربي لتجديد أسحارهم لأن القمر يكون غاسقًا أغلب الليل، وقد بلغ تمامه واكتمل ثم بدأ في التناقص، وهو ما يتفق واعتقادات القدماء من أن القمر ينتحس بالتناقص.

وسبق أن ذكرت في عدة مقالات عن العناصر والطباع الأربعة أن عنصر الماء فينا يمثل الانفعالات، ولأجل ذلك فإن طاقة القمر المائية -والتي نرى بأعيننا كيف تجذب مياه البحار- قادرة على تحريك الجزء المائي في الإنسان فتقل قدرته على ضبط انفعالاته، ويزيد التحاسد والغيرة، ومن أجل ذلك حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيام الأيام البيض، لأن الصيام يقلل محتوى الجسم من الماء، وهي نصيحة عامة تُقال لكل البشر، وتُقال خاصة لمن تغلبهم انفعالاتهم –أيًا كان نوعها- ولا يقدرون على ضبطها، فالإكثار من الصيام هو أفضل حل لهم.

وفي تفسير الطبري، عن أم المؤمنين عائشة قالت: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم نظر إلى القمر، ثم قال: "يا عائِشَةُ تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَب، وَهَذَا غاسِقٌ إذَا وَقَبَ". وأرى في تنكير كلمة ‏﴿غَاسِقٍ﴾ في سورة الفلق وكذا في ألفاظ هذا الحديث دلالة على أن ليس في كل غاسق شرًا، فليس دخول القمر ليلًا شرًا في كل وقت، ووفقًا لعلم الفلك فإن طاقة القمر تزيد عند اكتماله، كما تتأثر بطاقة المجموعة النجمية التي يقترن بها، فتزيد طاقته المائية وتتضاعف عند اقترانه بنجوم البروج المائية.