الجمعة، 18 سبتمبر 2020

237-أميرات الدولار!

 

أميرات الدولار!

د/ منى زيتون

 

الخميس 17 سبتمبر 2020

وعلى المثقف، السبت 19 سبتمبر 2020

http://www.almothaqaf.com/a/qadaya2019/949721

 

منذ أيام تصدر وسم لدعم الإعلامية المصرية رضوى الشربيني صدارة مواقع التواصل الاجتماعي في مصر. وبداية القصة أن الإعلامية كانت قد أدلت برأيها عن الحجاب في إحدى حلقات برنامجها، مشجعة المحجبات اللاتي يفكرن في خلع الحجاب بالعدول عن خلعه، ورغم أنها لم تدع غير المحجبات إلى ارتدائه ولم تذكر صراحة أنها ترى الحجاب فريضة إلا أن كلامها أشار إلى ذلك الاعتقاد بوضوح، وذكرت صراحة رأيها بأن عدم ارتدائه ليس سوى ضعف إيمان وتغلب للنفس الأمارة بالسوء –أو تغلب شيطان نفس غير المحجبة بحسب تعبيرها-؛ ومن ثم فالمحجبة أفضل من غير المحجبة.

وعلى الفور تلقت لجنة الشكاوى بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام المصري عددًا من الشكاوى ضدها بسبب هذا التصريح، والذي اعتبروه مسيئًا، وفتحت بسببها تحقيق عاجل مع الإعلامية.

وكثر تداول الموضوع على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحول النقاش حول رأي أدلت به إعلامية إلى قضية رأي عام، وكعادتنا فقد اتسع ذلك النقاش ظاهريًا فقط من حيث أعداد المشاركين فيه، وليس من حيث دلالة الفعل ورد الفعل، والذي أراه أكبر من أن يُحصر في نقاش حول الحجاب وكونه فريضة أم لا، أو مقارنة سلوك المحجبات بغير المحجبات، فما يحدث هو فصل جديد من فصول تبدل القيم في المجتمع المصري، وإذا تغيرت أفكارنا تبدلت سلوكياتنا بالتبعية، ولا ينبغي أن يمر علينا مرور الكرام في حديث عابر عن الحجاب، بل ينبغي التعمق وأن نفهم علاقة ما حدث بـ "الرغبة في التميز" وتبدل قيم "الأنا" لتتوافق مع "الهو".

 

الرغبة في التميز عن طريق الانتماء لجماعة

سبق وناقشت "الرغبة في التميز" في مقال قديم، وأعطيت أمثلة لطرق يحاول من خلالها أناس عاديون إشعار أنفسهم بالتميز من خلال الانتماء لجماعة ما، حتى أن بعضهم قد يرى نفسه مميزًا عن غيره لأنه من سكان العاصمة، وإن كان يسكن أحد أحيائها الشعبية!

والضيق من "مدح الحجاب" وتحويل الحديث إلى ذم المحجبات لأن بعضهن قد تفعلن كذا وكذا هو مثال آخر للأسباب التي قد تخترعها غير النابهات لنفخ ذواتهن الفارغة من كل قيمة؛ لأن الحجاب ذاته لا علاقة له بسلوك بعض من ترتدينه، كما أن سلوك من لا ترتدينه بوجه عام لا يمكن الجزم بأنه أفضل.

كما أنني لست أفهم كيف تبرر من لا ترتدي الحجاب ذلك في إطار حريتها الشخصية، في حين تتدخل دون خجل في حرية غيرها عندما تقررن ارتدائه، بل ويتدخلن في حرية إبداء إحداهن مدحًا له ولمن اخترنه!

ولكن كما أسلفت فهناك دافع حقيقي لسلوك التطاول على الحجاب والمحجبات يختلف جذريًا عن الخلاف الظاهري المدعى حول فرضيته أو الإدعاء بأن المسألة تقع في نطاق الحرية.

إن حالة الإفلاس الثقافي التي تستشري في المجتمع المصري اليوم جعلته مجتمعًا يعمه التظاهر؛ فلا قيم حقيقية أصيلة فيه تسوده، فإما قيم بدوية مستوردة وإما قيم أوروبية مستوردة، وهناك من يحاول الظهور بمظهر المثقف، فيختار التعارض الدائم مع رأي المتدينين، وطالما قلت إن التعصب يخلق ما يمكن أن نسميه بالعور الفكري، وهناك من يحاول الظهور بمظهر علية القوم، ولهذا التظاهر مستلزماته التي لا تفارقه، والتي تكشفه في آنٍ واحد. وكما يقول الشاعر: إذا ظهر الحمار بزي خيل *** تكشّف أمره عند النهيق!

ربما لم يسمع كثيرون منا بمصطلح "أميرات الدولار"، وهو مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر، تعبيرًا عن الفتيات الثريات من العائلات الأمريكية ذوات الأصول المتواضعة، اللاتي تم ترتيب زواج لهن من نبلاء إنجليز قليلي الثروة، فكان أول زواج بين الثروة والجاه في العصر الحديث. وكان من العلامات الفارقة لهن عن النبيلات الإنجليزيات أنهن كن يبالغن في الاعتناء بمظهرهن، وظهر ذلك جليًا في أعداد الأزياء الجديدة اللاتي كن يعددنها في كل موسم، والتكلف فيها، وتلك هي المفارقة، فبينما اعتقدن أن كثرة الأزياء وزيادة تكلفتها سترفع شأنهن كانت الكاشف الأول لحقارة أصولهن!

ومن يريد أن يرى كيف تعبر البساطة عن الرقي فليبحث عن صورة فستان خطوبة الأميرة فوزية ابنة الملك فؤاد وشقيقة الملك فاروق لولي عهد إيران وقتها محمد رضا بهلوي. الفستان من قماش الساتن الأبيض الناعم، محلى بوردات مشغولة يدويًا، وأعتقد أن فتيات اليوم يستحيل أن ترضى إحداهن بمثل هذا الفستان الراقي البسيط في حفل عيد ميلاد لها فضلًا عن حفل خطبة.

ولمن لا يعلم فإنه حتى عقد السبعينات كانت كل سيدة في مصر تشتري لنفسها حوالي ثلاثة فساتين جديدة سنويًا في الصيف، وأقل من ذلك العدد في الشتاء، وبعضهن كن يُفصلن ملابسهن وملابس أفراد عائلاتهن، وكانت من تريد إبراز غناها تبرزه في صورة عاقلة بأن تقتني من الذهب والمجوهرات ما تدخره للزمن.

ثم تبدل الزمن منذ نهاية السبعينات، مع بداية ما عُرف بالانفتاح الاقتصادي، وكلنا يلمس كيف تحاول طبقة من محدثي ومحدثات النعمة اليوم الإنفاق ببذخ زائد على مظهرهم، ومحاولة التشبه بالغرب في ذلك المظهر، علمًا بأن الأجانب لا ينفقون معشار ما ينفق هؤلاء على المظاهر الفارغة.

وعودة إلى موضوع الحجاب لأقول إن عدم تحجب نساء هذه الطبقة يأتي غالبًا كحرص على إظهار رقي زائف باعتبار الحجاب –كما ترينه- يليق بالطبقات الاجتماعية الدنيا، لا بهن! ومثله في ذلك كثرة دس أغلبهن كلمات من اللغة الإنجليزية في حديثهن، وبلهجة عجيبة لم أسمع الإنجليز أو الأمريكان أنفسهم ينطقون بها! ومدح رضوى للحجاب والمحجبات كان سهمًا صُوب تجاه تميزهن المزعوم، وفضحهن رد فعلهن.

ولو وُجد معيار حقيقي تتميز هؤلاء التافهات باعتباره لما انشغلن بالتقييم على أساس التصنيف كمحجبات وغير محجبات، لأنه حتى الأجانب اللاتي يقلدونهم يرون ارتداء الحجاب كحرية شخصية ولا يحكمون على الناس من خلاله.

إن التميز الحقيقي الذي يحق للمرء أن يفتخر به هو ما صنعه بنفسه، وليس من خلال الانتماء لجماعة. إن الفتى من قال هأنا ذا **** ليس الفتى من قال: ذاك أبي.

 

عندما تصير "الأنا" "هو"!

في نظريته الشهيرة، حدد سيجموند فرويد ثلاث منظمات للنفس الإنسانية (الهو- الأنا- الأنا العليا)، وقرر أن الشخصية الفردية هي نتاج تفاعلها.

وبينما تكون الهو/الهي مستودع الغريزة والرغبات، ويسير وفق مبدأ "اللذة"، فلا ينشغل بخلق توافق بين الفرد والقيم الاجتماعية، ولا يعنيه إن كان تحقيق الرغبة في إطار يتفق مع القيم أو يخالفها، تكون الأنا في المقابل منشغلة بالتوفيق بين قيم ومعايير المجتمع وبين رغبات الهو، فهي تعمل وفق مبدأ "الواقع". أما الأنا العليا فتعمل وفق مبدأ "المُثل"، وتحتاج لتعمل بشكل جيد أن يتلقى الفرد تربية جيدة ملتزمة أخلاقيًا منذ صغره، تجعله ينأى بنفسه عن كل حقير من الفعل مهما كان متوافقًا مع هواه، وحتى إن سمحت به قيم المجتمع الذي يحيا فيه.

ووفقًا لرؤيتي فهناك محاولة حثيثة لخلق تبدل واضح في قيم المجتمع المصري والعربي، وتعديل قيم المجتمع لتحقيق أكبر قدر من التوافق مع غرائز ورغبات النفس. إنه تعديل "الأنا" لتصير "هو"! لأن القيم المجتمعية هي مرجعية "الأنا". وعندما تتوافق قيم المجتمع مع مبدأ اللذة –كما يريدون لها- سيصبح "الهو" متلبسًا قناع "الأنا" متحكمًا في الأغلبية منا، باستثناء من عصمهم الله وبقيت لديهم "الأنا العليا" قوية؛ لتكون الضمير في غياب القانون والناس وكل وسائل الردع الخارجية.

وقد يقول قائل إن ما يحدث من رفض للحجاب والاحتشام بوجه عام في بعض الأوساط المجتمعية هو تعارض ورد فعل لسلوكيات مناقضة صدرت من بعض المضطربين عقليًا الذين يجبرون النساء على ارتداء النقاب واللون الأسود خاصة، حتى إنهم قد يجبرون طفلات لم يصلن لسن المدرسة على ارتداء النقاب!

وبتعبير علمي، فإن الأنا العليا عند هذه الفئة الأخيرة تكون قاسية بالدرجة التي تخرج الفرد من عداد الأسوياء نفسيًا، وظاهريًا تكون قوية لا تسمح للهو بالسيطرة على النفس، ولكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك، وقد يسقطون في كثير من الاختبارات الأخلاقية حين تخف سطوة المجتمع وتغيب الرقابة الخارجية.

والحقيقة التي تؤكدها الدراسات النفسية أنه بمقدار قوة "الأنا" واتزانها بين "الهو" و "الأنا العليا" تتكامل الشخصية. ومن هنا فألاعيب الحواة تعمل على إضعاف "الأنا".

وكثيرًا ما لا أجد فرقًا حقيقيًا بين أميرات الدولار المتحزبات ضد الحجاب ونساء الجماعة السلفية المنقبات من حيث دوافع السلوك، فالدافع وراء السلوك واحد وهو الرغبة في التميز من خلال الانتماء لجماعة، مع الفارق الكبير بين اعتقادات وسلوكيات كلا الجماعتين. إنها حرب نفسية بين حزب "الهو" وحزب "الأنا العليا"، وكلا الحزبين متطرف.

الاثنين، 7 سبتمبر 2020

236-إعادة تدوير القضايا!


إعادة تدوير القضايا!
د. منى زيتون
الأحد 6 سبتمبر 2020

في يوم السبت 29 أغسطس 2020، فوجئ المصريون المتابعون للشأن العام، بخبر عجيب مريب، بقبول طعن النيابة العامة أمام محكمة النقض على تبرئة محكمة الجنايات للفريق أحمد شفيق رئيس وزراء مصر الأسبق والمرشح الرئاسي السابق في قضية "جمعية خدمات مصر الجديدة الأهلية (مشروع حديقة الأسرة)" والمعروفة إعلاميًا باسم "فساد وزارة الطيران"، وذلك بعد أكثر من سبع سنوات من صدور الحكم له بالبراءة فيها عام 2012!
يُذكر أن الفريق أحمد شفيق قد شغل منصب رئيس الوزراء أثناء ثورة 25 يناير 2011، وترشّح في الانتخابات الرئاسية التي عُقدت عام 2012، في الدور الأول أمام اثنا عشر مرشحًا، ثم في دور الإعادة أمام منافسه الدكتور محمد مرسي. والأهم أنه أعلن ترشحه أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الرئاسية عام 2018 عندما كان يقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة، قبل أن يُنقل إلى القاهرة على غير إرادته للضغط عليه للتراجع عن الترشح، والذي كان!
وبدأت التكهنات والتساؤلات على الفور بأسباب فتح قضية لا وزن لها بعد سبع سنوات من الحكم فيها بالبراءة، وسريعًا ما انجلى الأمر؛ فبعدها بأيام تم القبض على رجل الأعمال البارز صلاح دياب وتوجيه اتهامات فساد له هو الآخر، وتتردد أقاويل عن لقاء على عشاء عمل جمع الرجلين –شفيق ودياب- بفيلا صلاح دياب بمنيل شيحة، قبل أيام من فتح القضايا لهما، وتحديدًا يوم الاثنين 24 أغسطس، ولم يقتصر الحديث بينهما فيه على الاقتصاد، بل سب الرجلان الرئيس واتفقا على وصفه بـ "العبيط".
وقد ظننا أول الأمر بعد قرار إعادة محاكمة أحمد شفيق أن القضية المعنية هي القضية المعروفة إعلاميًا باسم قضية "أرض الطيارين"، ولكن اتضح أن القضية التي قرر رجال السيسي إعادة محاكمة شفيق بسببها هي قضية "مشروع حديقة الأسرة"!

مشروع حديقة الأسرة
بدأت السبت 5 سبتمبر 2020 إعادة محاكمة الفريق أحمد شفيق بدعوى إهدار أموال وزارة الطيران والإضرار بالمال العام بمبلغ يُقدر بـسبعة (7) ملايين جنيه.
والسبب الذي وجهت المحكمة للفريق أحمد شفيق الاتهام على أساسه بالفساد هو إعطائه الأمر أثناء ترأسه وزارة الطيران بتمويل إنشاء حديقة الأسرة بألماظة بعد اتفاق وقعته الوزارة مع جمعية خدمات مصر الجديدة الأهلية.
وحديقة الأسرة هي حديقة عامة صغيرة، مساحتها الكلية حوالي 33 ألف متر، وأنشأتها وزارة الطيران في عهد شفيق كمشاركة في الخدمة المجتمعية مع استغلالها في وضع دعايات لشركة "مصر للطيران".
وكان المحامي الإخواني عصام سلطان هو أول من اتهم الفريق أحمد شفيق بالفساد لأجل هذا السبب؛ بدعوى أن وزارة الطيران ليست مسئولة عن إنشاء حدائق عامة، حتى لو استغلتها في الدعاية والإعلان عن نشاطها! رغم أن هذا الأسلوب الدعائي ليس من ابتكار أحمد شفيق، ومعروف ومسبوق على مستوى العالم أن تنشيء إحدى الشركات حديقة أو ميدانًا أو تمثالًا ويصاحب ذلك وضع دعايات للشركة.
فلمن لا يعلم فهذا هو الاتهام العظيم بالفساد والإضرار بالمال العام الذي يُوجه للفريق شفيق الآن، وقد سبق وبرأته محكمة الجنايات من الفساد فيه قبل سبع سنوات!
وقرروا إعادة محاكمته في الاتهام ذاته الآن بعد أن أفلسوا وأعياهم البحث عن سلوك مالي خاطئ له طوال سنوات استوزاره، بنى وافتتح وجدّد فيها مطارات، واشترى وجدّد أسطول طائرات، وكانت تحت يديه مليارات، ولم يجدوا في النهاية شيء يتهمونه به كفساد في فترة وزارته إلا إنشاء حديقة عامة! وإذا لم تستحِ فافعل ما شئت.


قضية أرض الطيارين
ومن قبل ذلك الاتهام التافه عن "فساد الحديقة"! كان الاتهام التافه الآخر الذي صدر له أيضًا حكم بالبراءة فيه عام 2013 بأنه وقّع بصفته –وليس بشخصه- على تخصيص أرض في جمعية "أرض الطيارين" لجمال وعلاء مبارك؛ علمًا بأن التخصيص الفعلي للأرض كان قد تم قبل سنوات تحت إدارة أخرى! حيث أن بداية التخصيص كان في أواخر الثمانينات، والفريق شفيق وقّع على هذا التخصيص بصفته عند تسجيل العقد في التسعينيات، والتخصيص ذاته ليس في إجراءاته أي خلل إداري أو قانوني!
وأراضي جمعية "الضباط الطيارين" هي أراضٍ في منطقة البحيرات المُرة بمحافظة الإسماعيلية، كان قد تم تخصيصها لهذه الجمعية، وهي واحدة من جمعيات أهلية كثيرة تم تخصيص أراضٍ لها في الإسماعيلية في فترة الثمانينات، وكانت أغلبها جمعيات للمدنيين وليس العسكريين.
وبوصفي مواطنة مصرية من سكان الإسماعيلية أحب أن أوضح الموقف بذكر بعض الحقائق عن "أراضي الجمعيات"؛ حيث يُساء إلى الفريق شفيق ويُتهم بالفساد بسببها من آنٍ لآخر، رغم أنه حتى لو كان تخصيص الأرض كان قد قام به الفريق شفيق فلا مشكلة ولا غضاضة إذا علمتم الحال في مدن القناة وقتها.
كلنا يعلم أن سكان مدن القناة تعرضوا للتهجير بعد حرب 1967 وظلوا مُهجّرين حتى بدأ إعمار تلك المدن مرة أخرى بعد حرب 1973، وتحديداً بدءًا من عام 1975 وما تلاها، وقد أسهم الشيخ زايد رحمة الله عليه في تعمير تلك المدن إسهاماً كبيراً، وهو ما لا يفوتني ذكره.
وطبعاً فإن علاقتي بتلك الفترة تأتي من خلال ذكريات وروايات الأهل. ومما يُحكى أن أحد أبناء عمومة أبي رحمة الله عليهما كان وكيلاً لوزارة الإسكان بالإسماعيلية حينها، وأنهم لما بنوا حي "الشيخ زايد" في نهاية السبعينيات لم يُقبل أحد على شراء وحداته السكنية رغم أنها كانت زهيدة الثمن للغاية، حتى أن إحدى نساء العائلة لا زالت تذكر كيف أنه كان يتحايل عليهم حتى يشتروا وحدات سكنية فيها قائلاً: نريد أن نخبر الرئيس -السادات- عندما يأتي للزيارة أن المنطقة قد عمرت، وقالت لي مرة: "كنا نضحك ونقول له: عايزنا نشتري شقق في الجبل؟!!!!". وطبعاً فإن هذه المنطقة التي كانوا يسمونها بالجبل أو "أبو رخم" صارت جزءًا من قلب المدينة الآن.
تلا ذلك إنشاء حي آخر جديد بالمدينة أوائل الثمانينات هو "حي السلام"، ثم حصرت محافظة الإسماعيلية قطع الأراضي الواقعة بين المدينة القديمة وحي الشيخ زايد، والتي كانت تُركت بغير إعمار، وتم عمل مزادين علنيين كبيرين وبيعت قطع الأراضي تلك فيهما للأهالي من المدنيين والعسكريين على السواء. وأخيرًا سمعنا عما عُرف باسم "أرض الجمعيات".
في نهاية الثمانينات والتسعينات أذكر تماماً الحوار الذي كان يدور أمامي عن أراضي الجمعيات والشقق السكنية التي سيتم تخصيصها للمشتركين في تلك الجمعيات التعاونية التي كانت منتشرة في تلك الفترة، وكانت متاحة للجميع. ما عليك سوى أن تدفع مبلغاً زهيداً للحجز، وكان الناس فيها زاهدون كحالهم مع منطقة الشيخ زايد في السبعينات، ولم يكونوا يتقاتلون عليها كما قد يتوهم الناس الآن، بل على العكس كنت أسمع من آنٍ لآخر عمن سحب المبلغ الذي حجز به الأرض أو الشقة، حتى أن أبي رحمة الله عليه عُرض عليه أن يدخل مكان بعض المنسحبين ولكنه رفض.
وبعد سنوات من الانتظار تم تخصيص الأراضي والشقق بالفعل في أوائل التسعينات، والآن فإن هذه الأراضي التي كانت صحراء قاحلة قد عمرت، وصارت كلها عمارات وفلل حديثة، وتحولت المنطقة إلى حي كامل كبير، وندم من لم يشترك ومن سحب اشتراكه.
وخلاصة القول إن مدن القناة كلها -والإسماعيلية خاصة- والطرق المؤدية إليها، كانت تشهد زخمًا تعميرياً بعد العودة من التهجير، وكانت الجمعيات الأهلية التي تخصص الأراضي متاحة للجميع، ولم يكن يتقاتل عليها أحد، بل على العكس، فكون أن علاء وجمال مبارك يخصص لهما أرضًا كما خُصصت لآلاف غيرهما من آحاد الناس فهذا أمر ليس فيه شبهة إلا لدى المتصيدين في الماء العكر، ولا يستحق الأمر القدر من التهليل الذي صاحبه، والإساءة المتعمدة والاتهام بالفساد للفريق شفيق بسبب تلك القضية أو غيرها من التوافه.
وأختم بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُل ٌرَّشِيدٌ [هود: 78].