السبت، 28 سبتمبر 2019

214-إنما النسيء زيادة في الكفر

إنما النسيء زيادة في الكفر

د. منى زيتون

كتب المقال بصورة مختصرة ردًا على الاستفسار الوارد المشار إليه فيه الجمعة 27 سبتمبر 2019

ونُشر السبت 28 سبتمبر 2019

http://www.almothaqaf.com/a/b6/940113

مزيد ومنقح ومنشور ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

النسخة المزيدة على المثقف، الخميس 10 مارس 2022

https://www.almothaqaf.com/a/b6/961796

 

وصلني استفسار تعجبت له من إحدى قريباتي التي تعيش في دولة أجنبية، تسألني فيه عن صحة اعتبار أول هلال في برج الميزان هلال رمضان الحقيقي، ومن ثم بدء صيام شهر رمضان فيه! وعلمت منها أن هناك قوائم سنوية يعدها بعض الناس لموعد الصيام الصحيح على قولهم، ويعقدون الندوات لشرح وجهة نظرهم ولإقناع غيرهم بالصيام وفق منهجهم.

وأنا وإن كنت قد تعجبت عندما علمت بأن هناك من يصومون وفقًا لحساب النسيء بالإضافة، فالنسيء ذاته ليس بأمر غائب عن علمي، وإن كنت أوقن أن كثيرًا مما يتعلق بالزمن وحساب الأيام والسنين لا يعلمه أغلب البشر في عصرنا رغم بساطته، وسبق أن تطرقت إلى بعض تلك الموضوعات في مقال سابق لي بعنوان "أيام وليالٍ".

وفي هذا المقال سأحاول شرح معنى النسيء، وكيف ولماذا كان العرب وبعض الأمم التي تعتمد السنة فيها على دورة القمر يضمنونه في تقويمهم، ومن كان يضيفه من العرب، ومنذ متى تم استبعاده من حساب السنوات القمرية عند العرب، وغيرها من الأمور التي لم أحسب أبدًا أن لها قيمة لتُحكى، لكن طالما الأمر صار إلى أن هناك من يتبع تقويم النسيء فقد أصبح الحديث واجبًا ومتطلبًا.

اختلاف السنة الشمسية عن السنة القمرية

نعلم أن الفصول الأربعة ترتبط بدوران الأرض الحقيقي حول الشمس، وحركة الشمس الظاهرية في البروج الاثني عشر، وتكون عدد أيام السنة الشمسية الإجمالية 365 يومًا في السنة البسيطة أو 366 يومًا في السنة الكبيسة التي يتم فيها جمع الكسور المتبقية من حساب السنوات البسيطة.

بينما يتم القمر دورته الحقيقية حول الأرض في 27 يومًا وما يقارب ثلث اليوم، ولكن نظرًا لأن الأرض ليست ثابتة، وتغير موضعها باستمرار بدورانها حول نفسها وحول الشمس، والشمس يتغير موضعها بالنسبة لدائرة البروج، فإن القمر يلزمه يومان إضافيان وسويعات ليتم الحركة الظاهرية حول الأرض ويلتقي بالشمس ليقترنا ويولد هلال جديد، ليبدو للراصد من المكان نفسه على سطح الأرض أن القمر أكمل دورة كاملة، فيستغرق إجمالي ذلك 29 يومًا ونصف يوم، ووفقًا لموعد ميلاد الهلال كل شهر وموعد غروبه في يوم مولده يتحدد ما إن كان الشهر السابق عليه سيُحتسب 29 يومًا أو 30 يومًا.

وينشأ من دوران القمر حول الأرض الأشهر القمرية، وكل اثني عشر شهرًا قمريًا يعادل سنة قمرية واحدة، عدد أيامها 354 يومًا، وبذا فهي تقل عن السنة الشمسية حوالي 11 يومًا، لكن عدة كل منهما 12 شهرًا بعدد البروج. وقد يبدو ظاهريًا أن السنة القمرية لا علاقة لها بالبروج، ولكن الحقيقة أن الهلال الجديد يولد بعد اقتران الشمس مع القمر في البرج الذي تكون فيه الشمس.

وترتيب الشهور القمرية الصحيح دون تلاعب (المحرم- صفر- ربيع الأول- ربيع الآخر- جمادى الأولى- جمادى الآخرة- رجب- شعبان- رمضان- شوال- ذو القعدة- ذو الحجة). وقد عرف العرب الأشهر الحُرم في سنتهم القمرية، ولم يختلفوا على أنها رجب الفرد، وثلاثة أشهر متتالية اثنان في آخر العام (ذي القعدة وذي الحجة)، ويليهما المحرم الذي هو أول شهور العام التالي. يقول تعالى: ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَقَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ [التوبة: 36].

ما هو النسيء؟ وما هي صفته؟

من المتفق عليه أن النسيء كان شعيرة يتبعها بعض العرب لشن الغارات وطلب الثارات، ووفقًا للطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج2، ص 130) ولابن هشام في "السيرة النبوية" (ج1، ص 27) كان بنو فقيم من كنانة –وهم عدنانيون مُضريون- هم النسأة الذين يجتمع الناس إليهم في جمرة العقبة بعد أن يفرغوا من حجهم من كل عام ليحلوا ويحرموا لهم الشهور، فلا تكون ثلاثة أشهر حُرم متتابعة يحرم الإغارة والعدوان فيها، على عكس ما أراد الله عز وجل، ومن ثم فهو كفر بالله تعالى، أو بالأدق فهو زيادة كفر فوق كفر من يفعله.

وقد اختلف المفسرون والمؤرخون في الصفة التي كان بها العرب ينسأون، وبعد مراجعة أقوالهم الكثيرة ورواياتهم في القضية يمكن إجمال ما قالوا في إن بعضهم ادعوا أن العرب كانوا ينسأون بالتبديل بين أشهر الحل وأشهر الحرمة، أيًا كان الإبدال في العام نفسه أو من عام لعام، ومنهم من قال إنهم كانوا ينسأون بالإضافة.

النسء بالإبدال والتأخير

تقول العرب: نسأ الشيء ينسؤه نسًا ومنسأةً ونسيئًا إذا أخّره تأخيرًا.

وهناك من المفسرين والمؤرخين من قالوا إن العرب كانوا ينسأون بتبديل الشهور؛ أي يحتسبونها بطريقة لا تغير من عددها، ولا عدة الأشهر الحرم، فالسنة عندهم اثنا عشر شهرًا، وفيها أربعة حرم، وبذلك يواطئون ويوافقون عدة الشهور وعدة ما حرم الله منها، ولكنهم يحلون ما حرم الله بتحليل شهر حرام وتحريم شهر مكانه من أشهر الحل.

قال الطبري في تفسيره: "وما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه. وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله".

ويقول ابن هشام (ص 28): "فإذا أراد –الناسيء- أن يُحل منها شيئًا أحل المُحرَّم فأحلوه، وحرّم مكانه صفر فحرَّموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم. فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين: الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل"أهـ. ومما أورده الطبري عن ابن عباس "يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه".

ومما أورده الطبري عن ابن زيد أن الرجل من النسأة والذي يُسمى بالقَلَمَّس قال في المحرَّم: "ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين". قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: "لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم، هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه".

وهذا يتفق  مع ظاهر معنى الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37]. فالغرض أن يتم تأخير شهر المحرم وإلغاء حرمته وفقًا لأهوائهم.

النسء بالإضافة

من معاني النسء الإضافة. قال الطبري: و "النسيء" مصدر من قول القائل: "نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك"، أي:  زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: "نسيء". ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: "نسيء"، وقيل للمرأة الحبلى: "نَسُوء"، و "نُسِئت المرأة"، لزيادة الولد فيها، وقيل: "نسأتُ الناقة وأنسأتها"، إذا زجرتها ليزداد سيرها.

ومما رواه الطبري عن ابن عباس ويثبت به أن بعض العرب كانت تزيد صفرًا آخر يتلاعبون به بين الحل والحرمة قوله: "فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا، وزِيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم، وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله".

وروى عن أبي مالك: قال: "كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشر شهرًا، فيجعلون المحرَّم صفرًا، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنـزل الله: ‏﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾‏"أهـ.

وأرى أن التأكيد على ذكر عدتهم في الآية الكريمة ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض فيه إشارة إلى أن هناك سنينًا كان العرب يزيدون فيها في شهور السنة فيجعلوها ثلاثة عشر شهرًا.

وعلى هذا القول فالمفترض أنه كانت تتم هذه الإضافة لشهر النسيء في التقويم العربي بين الأشهر الحُرم، وتحديدًا بين شهري ذي الحجة والمحرم، أي بين نهاية سنة وبداية السنة التالية لها، فيضيفون صفرًا نسيئًا، فيتأخر شهر المحرم لتوسط النسيء بينه وبين ذي الحجة، فبعد ذي القعدة وذي الحجة من نهاية السنة يأتي شهر نسيء، ثم يتبعه المحرم بداية السنة التالية ثم صفر آخر!

ومن ذلك نستدل أن بعض العرب قبل الإسلام كانوا ينسؤون بإضافة الشهور، مثلما كان ولا زال اليهود ينسأون بإضافة الشهور. ولكن العرب القدماء كانوا مشغولين بشن الغارات وطلب الثارات وليس بضبط الفصول الأربعة!

وحجة العرب المعاصرين الداعين للنسء بالإضافة أن العرب واليهود أبناء إبراهيم، وهذا الحساب الذي يراعي الأهلة والفصول الأربعة في آنٍ واحد هو حساب إبراهيم القائم على الشمس والقمر، والغرض منه أن يصحح الفروق بين السنة القمرية والسنة الشمسية، فيحافظ على توافق الشهور القمرية مع الفصول الأربعة. واستدلوا على ذلك بأسماء بعض الشهور العربية القمرية التي ترتبط بالفصول الأربعة؛ فقالوا ما سُمي شهر ربيع الأول بذلك إلا لأنه يكون في الربيع.

واليهود يضيفون شهرًا واحدًا يُسمى النسيء مرة كل ثلاث سنوات قمرية كما لو كانت كل سنة من الثلاث سنوات أُضيفت لها عشرة أيام، بحيث تكاد تساوي الثلاث سنوات القمرية إضافة لشهر النسيء (37 شهرًا قمريًا) ثلاث سنوات شمسية، وأحيانًا يتم إضافة شهر النسيء مرة كل سنتين لتسوية الكسور، ويكون ذلك وفق نظام ثابت يتكرر كل 19 عامًا. ففي تقويمهم تتم إضافة 7 ‏أشهر نسيء في 7 أعوام كبيسة من بين كل 19 عامًا، ما يعني أن هناك سنينًا عند اليهود تكون بسيطة وعدتها 12 شهرًا يظهر فيها 12 هلالًا، ‏وسنينًا أخرى كبيسة يظهر فيها 13 هلالًا.

ورغم أن السنة القبطية سنة شمسية لا علاقة لها بالأهلة (شهورها 12×30يوم)، وتبدأ يوم 11 سبتمبر من كل عام، فإن اليهود يتفقون مع المصريين في بداية العام، فالسنة العبرية تبدأ في تشريه تزامنًا مع بداية السنة القبطية، ‏وتحديدًا مع ميلاد أول هلال في الخريف (في الفترة من ثلث سبتمبر وحتى أوائل أكتوبر)، حيث يعتقدون وجميع الأمم التي اعتبرت الميزان بداية العام أن الرب يحاسب العباد عما فعلوه في العام المنصرم. ولكن يُضاف شهر النسيء في السنة العبرية في منتصف الأعوام السبعة الكبيسة في ‏الربيع (بين مارس وأبريل)، بينما تُضاف 5 أو 6 أيام نسيء في التقويم القبطي في آخر العام القبطي (6-10 سبتمبر).

تلاعب العرب بالنسيء في موسم الحج

رأينا أن اليهود اتخذوا نظامًا ثابتًا لإضافة شهر النسيء لضبط شهور التقويم اليهودي على الفصول الأربعة، ولكن العرب في الجاهلية تلاعبوا بالنسيء بتبديل الشهور، كما صار يتم التلاعب أحيانًا بالإضافة، ولم تكن الفصول الأربعة هي الغرض من نسئهم، بل السبب الأوحد في هذا التلاعب أن العرب كانوا يحللون النسيء، فيحاربون ويغيرون ويعتدون فيه، على عكس الواجب اتباعه في الأشهر الحرم التي يتوسطها.

ووصل التلاعب إلى موسم الحج. روى الطبري عن مجاهد: قال: "حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين, حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"أهـ.

وأعتقد أن ما رواه مجاهد بن جبر صحيح لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر السنة التاسعة من الهجرة النبوية الشريفة بعد عودته من غزوة تبوك، قد أمرّ الصديق أبا بكر على الحج، ثم نزلت سورة التوبة، فبعث النبي الإمام علي بأربعين آية من صدرها ليقرأها على الناس في الموسم ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3].

ومن بين الأربعين آية الآيتان الكريمتان المتتابعتان التي تحدد أولاهما أن عدة الشهور اثنا عشر شهرًا، وتؤكد على حُرمة الأشهر الحرم -فالحديث عن السنة القمرية لا الشمسية-، رغم تأكيد الآية أيضًا على ضرورة قتال المشركين في غيرها ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَقَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ [التوبة: 36].

والآية الأخرى التالية لها تتحدث عن النسيء وتلفت نظر المؤمنين للضرر المترتب على النسء واستحلال الأشهر الحرم ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37].

ففيهما إبطال ما كانت تفعله العرب من النسء في الجاهلية، وبعد أن قرأهما علي قال للناس إنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؛ فأُبطل كل ما استحدثوه في جاهليتهم، وبعد أن عاد كل شيء إلى أصله حج رسول الله بالناس في السنة العاشرة.

هل حساب السنوات القمرية على عهد الرسول فيه نسء بالإضافة؟

إن كان قد ثبت أن بعض العرب من كنانة وغيرها كانت تنسأ، على خلاف بين العلماء في الكيفية التي كانوا ينسأون بها، فإنه لم يرد مطلقًا أن قريشًا كانت تنسأ بتبديل أو بإضافة. وقد ثبت أن قريشًا شاركت في الجاهلية في حرب الفِجَار، وقيل سميت بالفِجَار لما استحل فيه ‏المتحاربون من المحارم بينهم في الأشهر الحرم، فلا أبدلت قريش ولا أضافت، ولكن هوازن وغطفان وبني سُليم ‏الذين كانوا يحاربون كنانة –ومنهم قريش- كانوا يفعلون.‏

ومراجعة التواريخ الهامة في السيرة النبوية وتواريخ ما قبلها من حوادث هامة جرت قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم يتفق مع حساب السنين القمرية؛ من ذلك أن ميلاد رسول الله كان في 20 أبريل عام 571م الموافق 10 ربيع الأول من عام الفيل، وكان بعد تولي كسرى الأول أنوشروان بأربعين سنة ميلادية أو 41 ونيف سنة قمرية. ووفاته بعد ذلك في ربيع الأول سنة 11هـ الموافق يونيو 632م، وعمره 61سنة ميلادية شمسية وحوالي 45 يومًا، والتي تعادل 63 عامًا قمريًا، ولما كان المشهور بين المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم توفى عن عمر 63 عامًا تأكد لنا أن حساب السنين على عهد النبي كان بالقمر وعلى عدة اثني عشر شهرًا.

وكذلك فتواريخ المعارك التي جرت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع الفرس والروم بالتقويم الجولياني الشمسي يتفق مع تاريخها المعروفة به في التاريخ الإسلامي وفقًا لسنين قمرية عدة كل منها اثنا عشر شهرًا.

والتاريخ الهجري الوحيد الذي شذ في الحساب عندما راجعته ولم يتوافق مع ما يلائمه من تاريخ شمسي ميلادي كان تاريخ غزوة تبوك، فوفقًا لما ورد في السيرة النبوية فإن تلك المعركة حدثت في رجب سنة 9هـ، وغرة رجب في هذه السنة يوافقها 16 أكتوبر سنة 630م، ولما كنا نعلم يقينًا أن هذه المعركة عُرفت بغزوة العسرة لأن النفرة فيها كانت في الحر، مع طول السفر اللازم لبعد تبوك عن المدينة المنورة، فإن تاريخها قد أشكل علي، ولكن مراجعة التواريخ قبلها وبعدها أكد لي أن الخطأ في تاريخ هذه الغزوة تحديدًا وليس غيرها، ومنشؤه التاريخ الهجري الذي دونه الرواة عن بدئها، والذي قالوا إنه كان في رجب، وليس الخطأ في التاريخ الميلادي المقابل.

وبمراجعة ما كُتب عن معركة العُسرة سنجد أن التجهيز لها كان في شدة الحر، ومعلوم أن هذا لا يكون سوى من أواخر يوليو والثلاث أسابيع الأولى من أغسطس، واستغرق التجهيز وقتًا لكبر عدد الجيش وقلة المال، ثم إن الرسول قد نفر مع الجيش، وطال المسير إلى تبوك، وأقام بها مع الجيش حوالي عشرين يومًا، وجرت مكاتبات وعهود وغيرها هناك، ثم قفل الرسول راجعًا مع الجيش، ووفقًا للمؤرخين فقد كان الزمن من خروجه إلى قفوله ما بين خمسين إلى خمسة وخمسين يومًا. وعليه فقد خرج رسول الله إلى تبوك أواخر الأسبوع الثالث من أغسطس على التقريب، والذي يوافق 4 جمادى الأولى، وعاد في منتصف أكتوبر، وهو ما يوافق غرة رجب، فكأن رجب كان وقت عودة النبي منها وليس خروجه إليها.

أو أن تجهيز الجيش قد استغرق وقتًا أطول مما ظنناه، وأن رسول الله أراد أن يمتحن المنافقين ببدء تجهيز الجيش في الحر، ولكن ما تحرك الجيش من المدينة حتى هل هلال رجب، وكان هذا في منتصف شهر أكتوبر وانكسار الحر. وإن كان قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ[التوبة: 81] يرجح القول الأول بأن الجيش نفر في الحر ولم تنكسر الحرارة بعد.

كيف كان يستدل العرب على الفصول الأربعة؟

لو عدنا إلى الحجة الرئيسية التي يحتج بها المطالبون بالنسء بالإضافة نجدهم يدعون أن أسماء الشهور العربية تتوافق مع فصول ‏‏السنة، ولكن نظرة سريعة على أسمائها ستلفتنا إلى أن أغلب تلك الأسماء لا يظهر منه علاقة أكيدة بشهور السنة، ثم كيف يتفق أن جمادى قد سُمي ‏‏كذلك على قولهم لجمود الماء فيه لأنه يأتي في الشتاء، بينما ترتيبه بعد شهري ربيع أول وربيع آخر! فهل ‏‏الشتاء يحل بعد الربيع!‏

والملاحظ أنه مع عدم إضافة النسيء فإن كل 32 سنة شمسية وستة أيام تعادل 33 سنة ‏هجرية، ‏بمعنى أن الدورة الفلكية ستتم في كل حال. وكل 32 سنة تنتظم الشهور بحيث يكون هلال المحرم في برج الدلو، وقد كانت سنة ‏‏‏571م التي وُلد فيها رسول الله من السنوات التي بدأت السنة مع هلال الدلو، فجاء شهر ربيع الأول في الربيع، وحل ‏‏رمضان في الميزان. وفي عام 1973 كان رمضان في ‏الميزان (6 ‏أكتوبر= 10 رمضان).‏ وفي عام 2005 توافق يوم ميلاد الرسول الهجري والميلادي تقريبًا فكان يوم 10 ربيع الأول 1426هـ موافقًا 19 أبريل 2005م.

ومما أعلمه يقينًا أن العرب كانت تستدل على الفصول الأربعة وتغيرات المناخ من خلال طلوع منازل القمر وقت الفجر، ومنازل القمر هي أجزاء من دائرة البروج، وكل فصل من فصول السنة الأربعة يضم ثلاثة بروج، بإجمالي 90 درجة من دائرة ‏البروج، وتتوزع في درجات البروج الثلاثة سبع منازل من منازل القمر.

وعلى هذا فإن من يدعي أن العرب كان يلزمهم تثبيت الشهور القمرية ما أمكن بإضافة النسيء لضبط مواعيد الفصول الأربعة لأجل تحديد موعد رحلتي الشتاء والصيف وتثبيت المواسم الدينية ليست لديه فكرة كافية عن حياة العرب في الجاهلية، فالعرب لم يكن يلزمهم في شيء أن تأتي شهور معينة في الشتاء أو الربيع أو الصيف أو الشتاء، ولي مقال موسع عن "منازل القمر" في كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" لمن أراد الاستزادة.

ومما أحفظه من أقوالهم التي كانوا يعبرون بها عن تغيرات المناخ وفقًا لطلوع المنازل وقت الفجر: قالت العرب عن طلوع نجوم منزلة الدبران: إذا طلع الدبران يبست الغدران، وهان الزمان، وعطشت العربان. وقالوا عن ظهور الهقعة فجرًا: إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة، ورجعوا ‏عن النجعة. وقالوا في الذراع: إذا طلع الذراع حسرت الشمس القناع، وأشعلت في الأفق شعاع، وترقرق السراب بكل ‏قاع.

وقالوا في العواء: إذا طلعت العواء، ضُرب الخِباء، وطاب الهواء، وكُره العراء، وشَنّنَ السِقاء. وتقول العرب إذا طلع السِماكْ: ذهبت العكاكْ، وقلّ على الماء اللكاكْ. أي: ذهب الحر وقل ازدحام الإبل ‏على الماء. وقالت عن طلوع الغفر: إذا طلع الغفر، اقشعرّ السفر، وتربّل النضر، وحسن في العين الجمر.

وقالت عن قلب العقرب: إذا طلع القلب، جاء الشتاء كالكلب، وصار أهل البوادي في كرب‏. وقالوا عن شولة العقرب: إذا طلعت الشولة، أعجلت الشيخ البولة، واشتدت على العائل العولة؛ ذلك أنه يطلع فجرًا في قلب الشتاء، وتقل قدرة الناس على العمل فتزيد المطالب على الفقراء.

قول المطالبين بإضافة شهر  النسيء في آيتي التوبة

يدعي أصحاب دعوى إضافة شهر النسيء لتصير بعض السنين الهجرية ثلاثة عشر شهرًا أن الآيتين في سورة التوبة ليس فيهما ذم عام لإضافة شهر النسيء، ومن ثم فهما لا تحرمان إضافته، وأن الزجر الذي وجهه الله سبحانه وتعالى كان مخصوصًا بسبب التلاعب فيه، بغرض استحلال الأشهر الحرم.

فعلى قولهم يكون وصف النسيء بأنه كفر لمن يقومون بتبديل الأشهر  لمواطأة العدة، وليس إضافة شهر النسيء لضبط الفصول، ويزعمون أنه رغم نزول الآيتين في السنة التاسعة للهجرة بعد عودة الرسول من غزوة تبوك إلا أن النسيء بقي ‏يُحتسب حتى سنة 17هـ.

ويستدلون على ذلك بتاريخ معركة تبوك 9هـ ومعركة اليرموك 15هـ وفقًا للتقويم اليولياني، فكلتاهما –وفقًا للمؤرخين المسلمين- حدثتا في رجب، وقد وافق رجب 15هـ أغسطس 636م، بينما وافق رجب 9هـ أكتوبر 630م لو حسبنا السنين القمرية على عدة اثني عشر شهرًا، ونظرًا لأنه ثبت من القرآن والسُنة أن النفرة في غزوة تبوك كانت في الحر فهم يرون في هذا دليلًا على أن رجب 9هـ كان في أغسطس، واستمراره بعد ست سنوات سنة 15هـ ليأتي في أغسطس يعني أنه كان يُضاف شهر نسيء بعد نزول آيتي تحريم النسيء!

ويقولون إنه لو كان المراد بالآيتين تحريمه لحرّمه الرسول صلى الله عليه وسلم ومنع إضافته، ‏ولكنهم يستدلون من توقيت الغزوة على أنه تم الإبقاء على النسيء واستمرار إضافته ما بين عامي 9هـ و 17هـ، ما أبقى الارتباط بين شهور السنة القمرية ‏والفصول الأربعة.‏

وسبق أن أوضحت أن جميع التواريخ في السيرة النبوية لا مشكلة في توافقها مع التقويم الجولياني باستثناء التاريخ الذي ذكره مؤرخو المسلمين لغزوة تبوك، وأن تفسيري للالتباس الواقع أن رجب 9هـ الموافق أكتوبر 630م كان موعد عودته صلى الله عليه وسلم منها، أو أن التاريخ صحيح لكن رسول الله جهز الجيش في الحر امتحانًا للمنافقين، ولم يخرج إلا بعد أن انكسر الحر.

وقولهم في المسألة هو توسع مبالغ فيه في الاستدلال، فتاريخ واحد وجدوه غير مضبوط جعلوه دليلًا عامًا على أن النسيء قد بقي بعد تحريمه! بينما هم بحاجة لإثبات أنه كان يُضاف! فالثابت أن شهر النسيء لم يُضف من الأساس قبل سنة 9هـ ولا بعدها!

وعلى قولهم فإن حذف شهر النسيء كان بدءًا من السنة السابعة عشرة من الهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وُضع التقويم الهجري، احتسابًا ‏من عام هجرة الرسول، وظلت السنة الهجرية القمرية تبدأ بالمحرم، رغم أن هجرة الرسول كانت في ربيع الأول ‏بالاتفاق، واعتبر المحرم من العام الأول لهجرة الرسول بداية التقويم، كما اتفق رأيا سيدنا عمر وسيدنا علي على ‏أن استمرار إضافة النسيء مرة كل ثلاث سنوات سيخرب التقويم، وربما عاد العرب للتلاعب في إضافته في أعوام ‏لا يلزم إضافته فيها لأجل استحلال الأشهر الحرم، فتم استبعاده، وصار الوضع على ما هو عليه إلى يومنا هذا، ‏فكل سنة هجرية قمرية تتكون من 12 شهرًا قمريًا فقط، وصارت الشهور القمرية تتقلب وليست ثابتة مع فصول ‏السنة الأربعة.‏

أما عن سبب طرح القضية من وجهة نظرهم وعلاقتها بصيام شهر رمضان المعظم، ‏فهم يقولون إنه بسبب إضافة شهر النسيء مرة كل ثلاث سنوات قديمًا في التقويمات ‏القمرية فقد كان موعد رمضان يكاد يكون ثابتًا مقترنًا بهلال برج الميزان، ولكن رمضان بعد حذف النسيء صار ‏يلف على فصول وشهور العام كلها، وتطول وتقصر ساعات الصوم، بينما ارتباط الصوم بالاعتدال الخريفي ‏يجعل ساعات الصوم تكاد تكون ثابتة وتختلف اختلافًا طفيفًا بين البلدان.‏

ولكن هؤلاء يتجاهلون أن العرب –ووفقًا لنص الآية الكريمة- كانوا يتلاعبون في ‏النسيء، ولم يكن الوضع مثاليًا كما يصورونه. ‏وعن نفسي –ومن باب التنزل لا الاقتناع- فلو صح أنه كان يتم إضافة شهر نسيء إلى أن ألغي عند وضع التقويم الهجري، فأنا أتفق مع الاجتهاد بحذف النسيء تمامًا، وليس فقط ضبطه ‏وعدم التلاعب فيه، وأعتقد أنه الرأي الأفضل، ولولا ذلك لكان النسيء من مساخر العرب عبر التاريخ، ‏ولنتخيل ماذا كان سيكون الوضع لو أراد العباسيون إضافته في عام ليعلن الفاطميون مخالفتهم فيه، وربما رأى ‏الأميون في الأندلس رأيًا آخر لمزيد من تعزيز الخلاف، وحتى في العصر الحديث ما كان العرب والمسلمون ‏ليتفقوا أبدًا، وكنا سنرى أهل بلد يصومون في شهر باعتباره رمضان بينما أهل بلد آخر مفطرون باعتبار أنهم في ‏شعبان لأنهم احتسبوا النسيء قبل المحرم في بداية العام وربما كان لدينا عدة مواسم حج في العام الواحد!‏

وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول هل أضافه الرسول أو لم يضفه من الأساس، وهل أنه أُبطل في عهد الرسول صلى ‏الله عليه وسلم أواخر السنة التاسعة للهجرة بعد نزول آيتي التوبة أم أبطل عند وضع التقويم الهجري بعدها بسنوات، ‏فاتباع الجماعة في الصوم هو الصحيح، وقد استقر المسلمون على هذا التقويم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ‏وفكرة انتظار أول هلال في الميزان ليصوم فيه بعض المقتنعين بنظرية إضافة النسيء باعتباره هلال رمضان الحقيقي لو ‏كان النسيء موجودًا أمر لا أراه صحيحًا.

الجمعة، 20 سبتمبر 2019

213-محمد علي.. اللص الشريف!


محمد علي.. اللص الشريف!
د. منى زيتون
الجمعة 20 سبتمبر 2019
يُقال إن لكل عصر فسدة، ولكل فسدة علي! وفي تراث كثير من الشعوب على اختلافها تظهر شخصية اللص الشريف؛ كروبن هود في إنجلترا، وزورو في أمريكا اللاتينية، وعلي الزيبق في مصر. ولا يظهر هذا النوع من اللصوص إلا عندما يستشري الفساد ويعم من أكابر البلد، لتصبح مقولة "حاميها حراميها" أفضل وصف لواقع الحال. كما أن هذا اللص دائمًا يكون من ميسوري الحال، فهو لا يسرق لأجل جمع المال لنفسه فقط، بل يأخذ من الأقوياء المتسلطين الفاسدين ليعطي الفقراء المنهوبين.
في فترة احتلال الإمبراطورية الإسبانية لقارة أمريكا الجنوبية، وتحديدًا في القرن الثامن عشر، وعندما بلغت مظالم الإسبان درجة فادحة وبلغ غضب الناس مداه، ظهر زورو، والذي لم يكن إلا شابًا من أهل البلد، ممن نالوا أعلى درجات التعليم في إسبانيا ذاتها، وعاد بعدها إلى بلده، وقرر أن يساعد أهل بلده المظلومين، متخفيًا متقنعًا في شخصية أخرى، دون أن يكشفه أحد.
وفي إنجلترا، في العصور الوسطى، أثناء غياب الملك ريتشارد قلب الأسد، لقيادته الحملة الصليبية الثالثة، زادت المظالم التي تعرض لها الفقراء من طائفة النبلاء، بسبب إساءة استخدام النبلاء للسلطة، وعلى رأسهم شريف نوتينغهام، ففرضوا الضرائب الباهظة واستولوا على الأراضي. ورغم كون روبن هود أحد هؤلاء النبلاء إلا أنه كان صاحب ضمير حي لم يسمح له بأن يقف موقف المتفرج، واستطاع أن يضم إليه مجموعة من الرجال الأشداء من الطبقة المتوسطة، كوَّن بهم عصابة شريفة لسرقة الأغنياء وإعطاء أموالهم للفقراء، واستقر ومن معه في غابات شيروود، بالقرب من نوتينغهام.
إحدى روايات القصة تقول إن حرمان روبن هود من أراضيه وأملاكه كان شرارة ثورته ضد الظلم، بينما في نسخة أخرى منها يُحكى أنه بعد مشاركته في الحملة الصليبية الثالثة عاد سالمًا ولكنه وجد شريف نوتينغهام قد استولى على أراضيه، ورفض إعادتها! فكأن بداية ثورته كانت لأجل نفسه، ولكنها سرعان ما أصبحت ثورة لأجل عامة الناس.
وفي تراثنا الشعبي، لدينا أيضًا لص شريف، فعلي الزيبق من الشخصيات الشهيرة في التراث الشعبي المصري في فترة حكم المماليك. تحكي القصة عن شاب لم تكن تعجبه أوضاع النهب والسرقة والفساد المستشرية من الوالي وأعوانه، لكنه كان يعيش مثل باقي الناس، إلى أن حدث ما دفعه لتحدي الوالي مرة انتقامًا.
فوجئ الشاب بتهليل المظلومين وفرحتهم في الوالي، ثم عرف عن طريق الصدفة أن الوالي هو من تآمر على أبيه قبل سنوات وقتله وتسبب في حرمانه منه ويتمه، ما دفعه إلى تكرار أفاعيله البهلوانية التي كان يسخر فيها من الوالي والحاشية التي تأكل مال النبي، ولأنه كان يعرف كيف يفلت منهم بحيله كل مرة أسماه الناس "علي الزيبق".
منذ بدأ شهر سبتمبر 2019، والمصريون لا سيرة لهم سوى المقاول محمد علي، الذي ظهر في مقطع فيديو يحكي فيه عن مشاكله في العمل مع الجيش المصري في المقاولات، ويتهم قيادات فيه بأنهم لم يعطوه مستحقاته المالية المتأخرة عندهم، ويتحدث في الفيديو عن الإسراف والتبذير في قطاع الإنشاءات والمقاولات، وتوجيه موارد الدولة لبناء قصور وفنادق وغيرها من السفاهات التي لا تدر دخلًا على المواطنين.
شاهدت الفيديو الأول الذي بثه المقاول، ثم شاهدت بضع مقاطع فيديو أخرى بثها. وما فهمته أنا وغيري من المصريين أن الرجل -وكما يُقال بالعامية المصرية- "حلنجي ويلعب بالبيضة والحجر"، مكنته هذه الشخصية من أن يثرى ثراءً فاحشًا من العمل مع الجيش لمدة 15 سنة، لكنه مع ذلك ذو لسان ربما يكون أطول من اللازم لمدني يتعامل مع عسكريين من النوعية شديدة التسلط، وبعد أن ساءت العلاقات بينه وبين القادة الذين كان يعمل معهم، حتى وصل الأمر حد تحويله إلى محاكمة عسكرية، تحايل حتى استطاع الخروج خارج مصر، ثم استطاع تسفير أبنائه ليلحقوا به. وللحق فأنا أكاد أكون مقتنعة بأن الدافع الحقيقي الأولي الذي يقف وراء سلوكه هو دافع شخصي في البداية، وإنما نشأ الدافع الوطني والحديث عن الفساد وحقوق العباد بعد أن ساءت الأمور بينه وبينهم، وآلت إلى ما هي عليه من سوء.
ومحمد علي في ذلك لا يختلف عن أي من اللصوص الشرفاء عبر التاريخ، فكل من هؤلاء كان خارجًا على القانون وخارجًا على السلطة، لكنه كان شريفًا؛ خاض معركته مع السلطة لتحقيق العدالة الضائعة وإعادة توزيع الثروة بين العباد! وكلهم قد ثار لنفسه أول الأمر، منطلقًا من دوافع شخصية. الفرق الوحيد بينه وبينهم هو أنه لم يعد بحاجة لقناع يخفيه مثل زورو، ولا لغابة تُداريه مثل روبن هود، فباستطاعته أن يتكلم في إسبانيا وأن نسمعه في مصر!
في قصة علي الزيبق تحديدًا ظهرت شخصية أمه التي تتدخل مرارًا لإنقاذه، ورغم كونها شخصية حقيقية فقد كانت رمزيتها واضحة للوطن الذي لا يتخلى عن أبنائه المخلصين، ويسعى لتخليصهم من أيدي الحكام الظلمة الأوباش. وفي قصة محمد علي الدائرة حوادثها نصب أعيننا يبدو أن هناك أطرافًا متعددة تحاول –أو حاولت بالفعل- التدخل والاستفادة منها، وصار الرجل في مأمن حتى لم يعد يتحدث عن أن السيسي سيقتله، بل صار يطالبه بالتنحي!
على ما يبدو فإن أهم هذه الأطراف التي تواصلت مع محمد علي هي المخابرات العامة المصرية، وربما وزير الدفاع الحالي، والهدف هو الضغط على السيسي لأجل التنحي، ووصل الأمر حد التهديد بفضائح جنسية، وصدق من قال إن الجزاء من جنس العمل؛ فالسيسي الذي كان يُهدِد خصومه السياسيين بفبركة تسجيلات غير لائقة لهم صار يُهدَد بكشف فضائحه الجنسية الحقيقية، والتي تناثرت بعضها إلى مسامعنا بالفعل!
وفي مفاجأة غير متوقعة ظهر أحد أشهر عرائس الماريونيت التي استخدمت في ثورة يناير 2011، وأفسدتها، ظهر وائل غنيم ليثبت على نفسه أنه ليس أكثر من عميل يظهر لتضليل الشعب وتحويل توجهاتهم بضغطة زر ثم يختفي عندما ينتهي دوره على مسرح الحوادث، طعن وائل في محمد علي دون مناسبة، وهدفه تثبيط أي تحرك ضد السيسي، ولا نعلم حتى الآن هل هو عميل لمخابرات السيسي الحربية، أم للمخابرات الأمريكية التي تحاول الاحتفاظ برجلها في مصر، ومحاولة ركوب الموجة كالعادة لحين ترتيب الأوضاع لعدم وجود سيناريو جاهز لديهم للتعامل مع الحدث الذي من الواضح تمامًا أنه أربكهم مثلما أربكتهم ثورة يناير 2011 من قبل.
في الوقت ذاته انتشر بيان منسوب إلى الفريق سامي عنان، قيل إنه قد سربه من محبسه، وعن نفسي لا أصدق نسبة هذا البيان إلى الفريق عنان، بل الأقرب أن يكون جناحه داخل الجيش هو من ادعاه لأجل وضع عنان في الصورة في حال خلو منصب الرئيس، وهذا بطبيعة الحال لأن وزير الدفاع محمد زكي في حال أعاد تنفيذ سيناريو 30 يونيو بشكل مصغر لتبرير الإطاحة بالسيسي، ولم تكن هناك أيادٍ أخرى فاعلة معه لها من الوزن ما يسمح لها بالقرار، فإنه ولا شك سيستأثر بالحكم لنفسه.
في قصة علي الزيبق قام السلطان بعزل الوالي الأول وإحلاله بوالٍ آخر تلقفته عصابة الحاشية نفسها فلم يتغير شيء على الرعية، ما دفع علي الزيبق في الاستمرار، ونأمل ألا يكون هذا حالنا، فيحل محمد زكي محل السيسي، ويستمر الفساد والإفساد والقتل والترويع وإرهاب المواطنين، وإن كان الخلاص من السيسي في حد ذاته أملًا غاليًا!

السبت، 14 سبتمبر 2019

212-ابن تيمية واعتقاده الشاذ في قيام الحوادث بذات الله والكلام!


ابن تيمية واعتقاده الشاذ في قيام الحوادث بذات الله والكلام!
د/ منى زيتون
مقتطف من كتابي "التطرف الديني"
ومنشور في المثقف، السبت 14 سبتمبر 2019

في مقال "الاعتقاد في صفة الكلام لله عز وجل" تناولنا عرضًا مبسطًا لاعتقاد أهم فرق المسلمين في الكلام، فعرضنا لاعتقاد أئمة الأشاعرة ولاعتقاد السلفية وكذا اعتقاد المعتزلة في الكلام، والذي وافقتهم عليه فرق الشيعة المختلفة.
وقد عُرِف عن تقي الدين أحمد بن تيمية كثرة مخالفاته لأئمة المسلمين في الأصول والفروع. يذكر السبكي في مقدمة كتابه "الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية" (ص6): أن "ابن تيمية أحدث في أصول العقائد، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وأن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت، ويُحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات، فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديمًا، ولم يجمع أحد هذين القولين في مِلة من المِلل ولا نِحلة من النِحل"أهـ.
وربما كان ينبغي أن أوضح أن بعضًا مما نُسِب إلى ابن تيمية من عقائد لم يصرِّح باعتقاده به، ولكنه صرَّح باعتقاد ما لزم منه اعتقاده به؛ وكان لابن تيمية اعتقادان شاذان أثبتهما ما دونته يداه في "منهاج السُنة"، أحدهما أخذه عن الكرامية، والآخر ابتدعه، فلم يُسبق إليه، ونفصل فيهما في هذا المقال.

الاعتقاد الأول: تجويزه قيام الحوادث بذات الله تعالى
كان ابن تيمية إلى مذهب الكرامية أقرب منه إلى مذهب الحنابلة؛ فالكرامية -وإن اتفقوا مع الحنابلة في أغلب عقائدهم- كانوا يجوِّزون قيام الحوادث بذاته تعالى، وابن تيمية كان يرى برأيهم، وكتب كتابًا ينقض فيه "أساس التقديس" للفخر الرازي، وبالغ في الحط منه انتصارًا للكرامية. كما أثبت اعتقاده بتلك العقيدة في "منهاج السُنة" (ج2، ص380) "فإن قلتم لنا: قد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قالوا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل"أهـ. وهو في هذا الموضع يقرر عقيدته لا عقيدة غيره.
ويضيف (ص381) "فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسُنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يُراد به الأمراض والنقائص، والله تعالى منزَّه عن ذلك، كما نزَّه نفسه عن السِنة والنوم واللُغوب، وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو منزّه عنه بالنص والإجماع. ثم إن كثيرًا من نُفاة الصفات -المعتزلة وغيرهم- يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقًا، وهو غلط منهم، فإنّ نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال"أهـ.
وأقول: بل كذب ابن تيمية، وافترى على الله، بل وعلى العقل؛ فسبحانه يُغيِّر ولا يتغَّير، فما كان في مخلوقاته كان عُرضة لأن تقوم به الحوادث فتتغيّر، وما كان قائمًا بذاته لا تقوم به الحوادث لأنه سبحانه لا يتغيّر، والله كامل بكل صفات الكمال والجلال منذ الأزل، ليس بحاجة أن يأتي مختل ضعيف عقل فينسب إليه أنه أراد أن يُلحق بذاته القديمة إضافة يُحدثها، ثم يدعي أنها تضيف إليه كمالًا، ولو صحّ أن قبلت ذات الله إضافة لاقتضى منها نقصًا سابقًا. تعالى الله عما نسب إليه المختلّون.
كما كذب ابن تيمية كعادته، وافترى على السلف والأئمة، وما قال بقيام الحوادث بالله قبله إلا الكرامية المجسمة أسلافه، متابعة منهم للمجوس، بل إنه حتى الحنابلة الأوائل لم يقولوا بهذا. وهذا أسلوب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وصدق الإمام الكوثري في مقدمة تحقيقه "السيف الصقيل" (ص15) حين قال عن ابن القيم: "كلما تراه يزداد تهويلًا وصراخًا باسم السُنة في كتابه هذا –النونية-، يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث، وأنه في تلك الحالة نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن الانتباه لما يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية"أهـ.

الاعتقاد الثاني: اعتقاد شاذ في صفة الكلام
واعتقاد ابن تيمية في الكلام كان شاذًا؛ إذ حاول فيه الجمع بين النقيضين، فأثبته صفة ذات قائمة بذاته تعالى كقول جمهور السُنة من الأشاعرة والماتريدية وعامة أهل الحديث، وأثبته صفة فعل كما أثبتته المعتزلة! أو بالتعبير الأدق فقد اعتبر الكلام صفة كصفة الفعل! فاعتبره صفة قديمة –وصفات الله كلها قديمة-، لكنه يحدث شيئًا فشيئًا، والصفة القديمة التي تقوم حوادثها في المخلوقات شيئًا فشيئًا هي صفات الفعل كالخلق والرزق، ولكنه لم يعتقد قيام حوادث الكلام بالمخلوقات كما اعتقدت المعتزلة!
ويمكنني تلخيص اعتقاده بالآتي: "رغم تصريحه بأن الكلام صفة تقوم بالذات، كاعتقاد أهل السُنة، فقد اعتقد بحدوث الكلام، كما تحدث الأفعال، ولكنه قائم بذات الله، وموضع حدوثه في ذات الله، باعتباره لا يرى بأسًا في قيام الحوادث بذاته تعالى، مع تعلق الكلام الحادث بالمشيئة والاختيار". ويدل على هذا الكثير مما ذكره في "منهاج السُنة".

ولنأخذ مقتطفات مما كتب لتتضح لنا عقيدته في الكلام أكثر:
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص375-376) مدِّللًا على قيام الكلام بالذات، وهو ما لا يرفضه أهل السُنة، بل هو عقيدتهم: "وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضا والمعافاة؛ فكان ذلك عند أئمة السُنة مما يقوم بالرب تعالى، كما تقوم به كلماته، ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه. فمن قال: إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلًا عنه، والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنًا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال، قال ما لا يعقل"أهـ. وعند هذا الحد فاعتقاده لا يُخالف اعتقاد أهل السُنة قيد أنملة.
ولكن ابن تيمية لا يقول إن الكلام صفة تقوم بذاته تعالى القديمة وحسب، بل يدّعيه فعلًا يتجدد أيضًا!! ويرفض التصنيف الذي اتفق عليه المسلمون منذ عهد أبي حنيفة، على أن الصفات إما صفات قائمة بالذات كالعلم والإرادة، أو صفات فعل تقوم حوادثها في المخلوقات بائنة عن الذات كالخلق والرزق، لأن ذات الله ليست محلًا للحوادث. وإنما كان اختلاف المسلمين حول تصنيف الكلام، فأهل السُنة اعتبروه صفة ذات ومن ثم فهو قديم، والمعتزلة اعتبروه صفة فعل ومن ثم عدّوه مخلوقًا محدثًا.
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص377-378): "وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل، ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب، كلام متناقض. كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال، بل هو مخلوق بائن عنه؟ وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعًا للمعتزلة فهو خطأ في نفسه، فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع بين المتناقضين..... فإن قلتم هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به، لأنه لو قام به لقامت به الحوادث، قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل، ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون. وهذا قول جمهور الناس كـ......."أهـ.
وهنا هو يكذب ويخلِّط في عدة مسائل:
-الأشعرية ما قالت بالتصنيف متابعة للمعتزلة، فهذا التصنيف أول من قال به هو أبو حنيفة، كما أن المعتزلة تقول إن الكلام صفة فعل بخلاف قول الأشاعرة إنه صفة قائمة بالذات.
-يعتبر أن الاعتقاد بأن صفة الفعل كالخلق والرزق محل عملها بائنًا عن ذات الله لأن ذات الله ليست محلًا للحوادث من تناقض الكلام، وهذا من تجويزه أن تقوم الحوادث بذاته، تعالى الله عما يقول ضعفاء العقول، وكلا النوعين من الصفات، الذات والفعل، صفات قديمة منسوبة لله، ولا تناقض، لكنه لا يفهم أن صفة الفعل ينشأ معها حوادث متغيرة محلها المخلوقات وليس ذات الله.
-يكذب في ادعاء خلاف جمهور السُنة في صفات الفعل لمعتقد المعتزلة والشيعة! وجمهور الأمة عدا الكرامية على أن أفعاله تعالى محلها مخلوقاته بائنة عنه لأن التغير يلحقها ولا يلحقه سبحانه. وممن كذب عليه ابن تيمية، وادّعى حكايته لذلك البهت، الإمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد".
وقد أنصف الإمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد"، عندما ردّ على المعتزلة والحنابلة في آنٍ واحد، في تنازعهما في مسألة الكلام، وقد كانت محنة خلق القرآن ما فترت بعد، فميّز بين المتلو والتلاوة، فالكلام صفة ذات، وذاته تعالى قديمة لا تتغير ولا تحل فيها الحوادث، ومن ثم فالقرآن المتلو كلام الله قديم غير مخلوق، ولكن الخلق صفة فعل، تقوم حوادثها في المخلوقات، فيخلق الله أفعال العباد، ومنها تلفظنا بالقرآن، فتلاوتنا للقرآن وكتابتنا له محدثة مخلوقة. وشتّان بين عظمة هذا التمييز للبخاري، وهو اعتقاد أهل السُنة الأشاعرة والماتريدية، وبين تخليط ابن تيمية وجمعه بين أن يكون الكلام صفة ذات وصفة فعل!! ونسبته التغير إلى الله، وعدم تمييزه بين فعل الله القديم وأفعال العباد المخلوقة. والحقيقة أنني لم أقرأ لسلفي واحد من القدماء والمحدثين ما يدل على فهمه وتمييزه لمسألة الكلام إلا الإمام الذهبي رحمه الله، أما من عداه فيبدو أن المسألة فوق مستوى فهومهم.
وأعود فأُذكِّر بأن ابن تيمية كان أقرب في كثير من معتقداته للكرامية وليس للحنابلة، فالإمام أحمد لم يثبت عنه تمام الثبوت سوى أن قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، أما الكرامية فهم أول من ابتدع القول بأن الصفات القديمة تتعلق بها مشيئة قديمة وإرادات حادثة. يقول الشهرستاني في "الملل والنحل" (ص102): "أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات، وبالحوادث التي تحدث في ذاته، وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل المحدثات"أهـ. وتابعهم ابن تيمية في هذا المعتقد.
يقول ابن تيمية في منهاج السُنة (ج1، ص148): "الله لم يزل متكلمًا إذا شاء".
ويقول في منهاج السُنة (ج2، ص383): "كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة".
ويقول كذلك في منهاج السُنة (ج2، ص362): "قول من يقول: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام أزلي قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا. وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة".
وهذه عادته في نسبة كل ما يعتقده إلى السلف، وادعاء إجماعهم عليه، وإلحاق فهمه بقولهم، ليفهم منه ما أراد:
·        فكونه تعالى لم يزل متكلمًا، دال على أن صفة الكلام قديمة أزلية، وصفاته تعالى كلها قديمة، بلا خلاف بين أهل السُنة. سبحانه لا يلحقه تغير.
·        أما قرن هذه الصفة بمشيئته في كيفيتها وزمنها، فترتبط بحوادث يُحدثها في خلقه، وليس ما ادّعاه سلفه الكرامية؛ فالله يخلق فيمن يشاء من خلقه القدرة على تلقي كلامه القديم القائم بذاته. ويبدو أن ابن تيمية يعتقد أن الله تعالى لم يتكلم إلا بالقرآن، وانقضى كلامه، وهو ما لم يقله السلف.
·        وأما تحديده أنه تعالى يتكلم بصوت يُسمع، فلم يقم به إجماع أهل السُنة، بل عموم أهل السُنة الذين هم الأشاعرة والماتريدية على أن كلامه تعالى ليس بحرف وصوت، ولكنه لا يفتأ يردد أنه وجماعته هم أهل السُنة.
وإشاراته التي تقطع بأنه يرى أن صفة الكلام فقط هي القديمة، لكن محتوى الكلام حادث على فترات وفقًا لمشيئة الله، كثيرة. منها:
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص380) موجهًا كلامه إلى الشيعة الإمامية، وهم على عقيدة المعتزلة نفسها فيما يخص خلق القرآن، زاعمًا أن ما يقوله ردًا عليهم هو قول جمهور أهل السُنة: "وإذا كان الجمهور ينازعونكم، فتُقدَّر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم؛ فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون: هو قائم بذات الله، فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم، فقلنا: العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا: الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم"أهـ. ثم يُردف "قالوا –أي الجمهور الذي يدعيه من أهل السُنة-: وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئًا بعد شيء، فنحن نقول به؛ وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما"أهـ.
وهذا إقرار صريح منه على أنه يوافق الشيعة والمعتزلة في القول بأن القرآن حادث مخلوق، ولكنه جمع مع اعتقادهم اعتقاد السُنة بأنه قائم بذات الله!!
ويقول في "منهاج السُنة" (ج1، ص177): "أئمة أهل الملل وإن قالوا: إن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء ولم يزل حيًا فعالًا، فإنهم يقولون: إن ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن"أهـ.
ويقول في "منهاج السُنة" (ج1، ص235): "معلوم أن الشيء الذي يريد الفاعل أن يفعله، لا يكون شيئًا قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال، بل لا يكون إلا حادثًا"أهـ, وأقول: قوله هذا منطقي، في ضوء اعتباره الكلام صفة فعل كاعتقاد المعتزلة.
ويقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص380): "ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل، فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله يقول‏‏‏: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ﴾ [النمل: 8]. وقال: ﴿إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال"أهـ.
وأقول: لو كنت تميز أن الكلام القديم، الذي هو صفة ذات وليس صفة فعل، لمّا أراد الله إنزاله على رسله أو إسماعه لموسى عليه السلام، أو أمر شيئًا من مخلوقاته، خلق لهم في أنفسهم القدرة على تلقيه، لزال عنك خلطك. ولكنه لا يُميز بين صفتيّ الكلام والخلق، ولا يفتأ يشير إلى أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث، وهذا صحيح بالنسبة لمخلوقاته، ولكن ماذا عن صفاته يا ابن تيمية، والكلام من صفاته؟
إن أي مدقق وراء كلامه يرى تلميحات، بل وتصريحات، متكررة متناثرة، عن اعتقاده بأن صفة الكلام لدى الله قديمة، ولكن القرآن ذاته مخلوق، حادث على فترات، وفقًا لمشيئة الله، وكان هذا من تناقضاته المنهجية؛ إذ كيف يتفق كون الكلام قديمًا مع كونه يتجدد ويحدث (بذاته تعالى) وفقًا لمشيئته؟! واعتقاده للمدقق –ورغم كل التحوير- هو أقرب لقول المعتزلة في خلق القرآن، لأن إدعاءه قيامه بالذات، لم يمنع إثباته لحداثته.
بالرغم من ذلك، فإنه يُصر صراحة ويُقرر أن اعتقاد السُنة هو أن القرآن كلام الله قديم غير مخلوق. يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص363): "وبالجملة أهل السُنة والجماعة، أهل الحديث، ومن انتسب إلى السُنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة، وأئمة أتباعهم، والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، [والقرآن كلام الله غير مخلوق (العبارة ساقطة من أربع نسخ)]، وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف، والأئمة من أهل البيت، وغيرهم، والنقول بذلك متواترة مستفيضة"أهـ. ويضيف (ج2، ص374-375) "احتجّ الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" قالوا: لا يُستعاذ بمخلوق، وكذلك ثبت عنه أنه قال: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك" وقالوا: لا يُستعاذ بمخلوق"أهـ.
لذا؛ ولأجل تلك التناقضات الثابتة عنه، فإنه بالرغم من إثباته في بعض مواضع من كتبه لعقيدته في أن القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، كما هو اعتقاد أهل السُنة، وبالرغم من نفيه قدم العالم أو حتى قدم جزء منه في كتاباته، إلا أنّ لازم ما اعتقده في قيام الحوادث بذاته تعالى، وتوفيقه العجيب بين صفة الذات وصفة الفعل، وجعل الكلام ضربًا خليطًا من كليهما، قد أدى لاتهامه بالاعتقاد بكل من خلق القرآن وقدم العالم؛ فاتهمه علماء السُنة بالقول بخلق القرآن رغم نفيه ذلك في مواضع، وادعائه أن اعتقاده أن كلام الله قديم، ولم يتوقف الأمر عند ما اتهموا به المعتزلة؛ لأن المعتزلة قالوا: إن الكلام صفة فعل يُحدثها الله في مخلوقاته وليس في ذاته، وقالوا: ذات الله ليست محلًا للحوادث، فلم يُتهموا بالقول بقدم العالم. لكن ابن تيمية اُتُهِم بالقول بقدم العالم، لأنه لمّا جوّز على الله وهو القديم سبحانه أن يكون محلًا للحوادث، جاز أن يكون كل ما هو محل للحوادث قديمًا، فقيل عنه اعتقاده أن العالم قديم، رغم نفيه ذلك في كتبه، وكان يمكن أن يتهموه بالمزيد ولكن يبدو أنهم ترفعوا عنه؛ ذلك أن ما لم يخلُ من الحوادث فهو حادث، فكلامه يقتضي نفي الأزلية عن الله أو القول بقِدم العالم، وحاشا لله أن يعتقد بهذا مؤمن، وربما هو لم يفهم الأمر على ما ألزموه به، ومن الواضح لي تمامًا أنه لم يعتقده، بل ولم يخطر بباله أن يجرّه اعتقاده في قيام الحوادث بذات الله إلى الاتهام بالقول به. لكن لا نُخطِّئ من اتهموه، فمن خاض في عقائد شاذة باطلة -قيام الحوادث بذاته تعالى، وجعل الكلام صفة فعل وموضع حدوثه في ذات الله!- يلزمه كل ما ترتّب عليهما. كما أن له كلام يُفهم منه أنه لا يُسلِّم بمقدمة الأشاعرة "ما لم يخل من الحوادث فهو حادث"، ومجرد نقده لهذه المسلمة يدل على مستوى عالٍ من التخبط العقلي والمكابرة، ومن يحاول التمنطق من السلفية المعاصرين -وما أبعدهم عن المنطق- يدافعون عن هذا التخبط.
وقصة محن ابن تيمية وما صحبها من فتن بسبب اعتقاداته وفتاواه أوردها العديد من الأئمة في كتبهم، ومنهم الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" (ج1، ص144 : 149)‏. قال بشأن استتابته: "وُجد خطه بما نصه (الذي اعتقد أن القرآن ‏معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا ‏صوت، وأن قوله الرحمن على العرش استوى ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا ‏يعلمه إلا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء)، وكتبه أحمد بن تيمية، ثم أشهدوا عليه أنه ‏تاب مماينًا في ذلك مختارًا، وذلك في خامس عشرى ربيع الأول سنة 707، وشهد عليه بذلك ‏جمع جم من العلماء وغيرهم، وسكن الحال، وأُفرج عنه، وسكن القاهرة"أهـ.
كما ذكر استتابته في مصر كتابة سنة 707هـ كي تكون حجة عليه، ابن المعلم القرشي في "نجم المهتدي ورجم المعتدي" (مخطوطة،630-631)، وهو مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس رقم (638). ومما أورد أن "ابن تيمية هدى الله قلبه للتوبة والرجوع والأوبة فادعى للطاعة، فاقترح عليه قاضي القضاة ابن جماعة أن يكتب بخطه ما يؤاخذ ‏به إن لم يقف عند شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توج خطه قاضي القضاة بدر الدين ابن ‏جماعة بالعلامة الشريفة، وشهد عليه جماعة من العلماء. ونص استتابته مدونة ومنقولة بالكتاب من خط يد ابن تيمية وهي كالتالي: "الحمد الله، الذي اعتقده أن القرءان معنى قايم بذات الله، وهو صفة من ‏صفات ذاته القديمة الأزلية، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وليس هو حالًا في ‏مخلوق أصلًا لا ورق ولا حبر ولا غير ذلك،........"أهـ.
وأقول: وكتابته لنص ما جاء في الاستتابة دليل على أنه كان قد ثبت عنه أنه يقول بعكسه، أو ما يوهم بعكسه.