السبت، 14 سبتمبر 2019

212-ابن تيمية واعتقاده الشاذ في قيام الحوادث بذات الله والكلام!


ابن تيمية واعتقاده الشاذ في قيام الحوادث بذات الله والكلام!
د/ منى زيتون
مقتطف من كتابي "التطرف الديني"
ومنشور في المثقف، السبت 14 سبتمبر 2019

في مقال "الاعتقاد في صفة الكلام لله عز وجل" تناولنا عرضًا مبسطًا لاعتقاد أهم فرق المسلمين في الكلام، فعرضنا لاعتقاد أئمة الأشاعرة ولاعتقاد السلفية وكذا اعتقاد المعتزلة في الكلام، والذي وافقتهم عليه فرق الشيعة المختلفة.
وقد عُرِف عن تقي الدين أحمد بن تيمية كثرة مخالفاته لأئمة المسلمين في الأصول والفروع. يذكر السبكي في مقدمة كتابه "الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية" (ص6): أن "ابن تيمية أحدث في أصول العقائد، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة، وأن الافتقار إلى الجزء ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت، ويُحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات، فقال بحوادث لا أول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديمًا، ولم يجمع أحد هذين القولين في مِلة من المِلل ولا نِحلة من النِحل"أهـ.
وربما كان ينبغي أن أوضح أن بعضًا مما نُسِب إلى ابن تيمية من عقائد لم يصرِّح باعتقاده به، ولكنه صرَّح باعتقاد ما لزم منه اعتقاده به؛ وكان لابن تيمية اعتقادان شاذان أثبتهما ما دونته يداه في "منهاج السُنة"، أحدهما أخذه عن الكرامية، والآخر ابتدعه، فلم يُسبق إليه، ونفصل فيهما في هذا المقال.

الاعتقاد الأول: تجويزه قيام الحوادث بذات الله تعالى
كان ابن تيمية إلى مذهب الكرامية أقرب منه إلى مذهب الحنابلة؛ فالكرامية -وإن اتفقوا مع الحنابلة في أغلب عقائدهم- كانوا يجوِّزون قيام الحوادث بذاته تعالى، وابن تيمية كان يرى برأيهم، وكتب كتابًا ينقض فيه "أساس التقديس" للفخر الرازي، وبالغ في الحط منه انتصارًا للكرامية. كما أثبت اعتقاده بتلك العقيدة في "منهاج السُنة" (ج2، ص380) "فإن قلتم لنا: قد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قالوا لكم: نعم، وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل"أهـ. وهو في هذا الموضع يقرر عقيدته لا عقيدة غيره.
ويضيف (ص381) "فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسُنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطوائف، ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يُراد به الأمراض والنقائص، والله تعالى منزَّه عن ذلك، كما نزَّه نفسه عن السِنة والنوم واللُغوب، وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض، وغير ذلك مما هو منزّه عنه بالنص والإجماع. ثم إن كثيرًا من نُفاة الصفات -المعتزلة وغيرهم- يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقًا، وهو غلط منهم، فإنّ نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال"أهـ.
وأقول: بل كذب ابن تيمية، وافترى على الله، بل وعلى العقل؛ فسبحانه يُغيِّر ولا يتغَّير، فما كان في مخلوقاته كان عُرضة لأن تقوم به الحوادث فتتغيّر، وما كان قائمًا بذاته لا تقوم به الحوادث لأنه سبحانه لا يتغيّر، والله كامل بكل صفات الكمال والجلال منذ الأزل، ليس بحاجة أن يأتي مختل ضعيف عقل فينسب إليه أنه أراد أن يُلحق بذاته القديمة إضافة يُحدثها، ثم يدعي أنها تضيف إليه كمالًا، ولو صحّ أن قبلت ذات الله إضافة لاقتضى منها نقصًا سابقًا. تعالى الله عما نسب إليه المختلّون.
كما كذب ابن تيمية كعادته، وافترى على السلف والأئمة، وما قال بقيام الحوادث بالله قبله إلا الكرامية المجسمة أسلافه، متابعة منهم للمجوس، بل إنه حتى الحنابلة الأوائل لم يقولوا بهذا. وهذا أسلوب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وصدق الإمام الكوثري في مقدمة تحقيقه "السيف الصقيل" (ص15) حين قال عن ابن القيم: "كلما تراه يزداد تهويلًا وصراخًا باسم السُنة في كتابه هذا –النونية-، يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث، وأنه في تلك الحالة نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن الانتباه لما يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية"أهـ.

الاعتقاد الثاني: اعتقاد شاذ في صفة الكلام
واعتقاد ابن تيمية في الكلام كان شاذًا؛ إذ حاول فيه الجمع بين النقيضين، فأثبته صفة ذات قائمة بذاته تعالى كقول جمهور السُنة من الأشاعرة والماتريدية وعامة أهل الحديث، وأثبته صفة فعل كما أثبتته المعتزلة! أو بالتعبير الأدق فقد اعتبر الكلام صفة كصفة الفعل! فاعتبره صفة قديمة –وصفات الله كلها قديمة-، لكنه يحدث شيئًا فشيئًا، والصفة القديمة التي تقوم حوادثها في المخلوقات شيئًا فشيئًا هي صفات الفعل كالخلق والرزق، ولكنه لم يعتقد قيام حوادث الكلام بالمخلوقات كما اعتقدت المعتزلة!
ويمكنني تلخيص اعتقاده بالآتي: "رغم تصريحه بأن الكلام صفة تقوم بالذات، كاعتقاد أهل السُنة، فقد اعتقد بحدوث الكلام، كما تحدث الأفعال، ولكنه قائم بذات الله، وموضع حدوثه في ذات الله، باعتباره لا يرى بأسًا في قيام الحوادث بذاته تعالى، مع تعلق الكلام الحادث بالمشيئة والاختيار". ويدل على هذا الكثير مما ذكره في "منهاج السُنة".

ولنأخذ مقتطفات مما كتب لتتضح لنا عقيدته في الكلام أكثر:
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص375-376) مدِّللًا على قيام الكلام بالذات، وهو ما لا يرفضه أهل السُنة، بل هو عقيدتهم: "وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضا والمعافاة؛ فكان ذلك عند أئمة السُنة مما يقوم بالرب تعالى، كما تقوم به كلماته، ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه. فمن قال: إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفصلًا عنه، والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنًا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال، قال ما لا يعقل"أهـ. وعند هذا الحد فاعتقاده لا يُخالف اعتقاد أهل السُنة قيد أنملة.
ولكن ابن تيمية لا يقول إن الكلام صفة تقوم بذاته تعالى القديمة وحسب، بل يدّعيه فعلًا يتجدد أيضًا!! ويرفض التصنيف الذي اتفق عليه المسلمون منذ عهد أبي حنيفة، على أن الصفات إما صفات قائمة بالذات كالعلم والإرادة، أو صفات فعل تقوم حوادثها في المخلوقات بائنة عن الذات كالخلق والرزق، لأن ذات الله ليست محلًا للحوادث. وإنما كان اختلاف المسلمين حول تصنيف الكلام، فأهل السُنة اعتبروه صفة ذات ومن ثم فهو قديم، والمعتزلة اعتبروه صفة فعل ومن ثم عدّوه مخلوقًا محدثًا.
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص377-378): "وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل، ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب، كلام متناقض. كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال، بل هو مخلوق بائن عنه؟ وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعًا للمعتزلة فهو خطأ في نفسه، فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع بين المتناقضين..... فإن قلتم هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به، لأنه لو قام به لقامت به الحوادث، قيل: والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل، ويقولون: كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل، ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون. وهذا قول جمهور الناس كـ......."أهـ.
وهنا هو يكذب ويخلِّط في عدة مسائل:
-الأشعرية ما قالت بالتصنيف متابعة للمعتزلة، فهذا التصنيف أول من قال به هو أبو حنيفة، كما أن المعتزلة تقول إن الكلام صفة فعل بخلاف قول الأشاعرة إنه صفة قائمة بالذات.
-يعتبر أن الاعتقاد بأن صفة الفعل كالخلق والرزق محل عملها بائنًا عن ذات الله لأن ذات الله ليست محلًا للحوادث من تناقض الكلام، وهذا من تجويزه أن تقوم الحوادث بذاته، تعالى الله عما يقول ضعفاء العقول، وكلا النوعين من الصفات، الذات والفعل، صفات قديمة منسوبة لله، ولا تناقض، لكنه لا يفهم أن صفة الفعل ينشأ معها حوادث متغيرة محلها المخلوقات وليس ذات الله.
-يكذب في ادعاء خلاف جمهور السُنة في صفات الفعل لمعتقد المعتزلة والشيعة! وجمهور الأمة عدا الكرامية على أن أفعاله تعالى محلها مخلوقاته بائنة عنه لأن التغير يلحقها ولا يلحقه سبحانه. وممن كذب عليه ابن تيمية، وادّعى حكايته لذلك البهت، الإمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد".
وقد أنصف الإمام البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد"، عندما ردّ على المعتزلة والحنابلة في آنٍ واحد، في تنازعهما في مسألة الكلام، وقد كانت محنة خلق القرآن ما فترت بعد، فميّز بين المتلو والتلاوة، فالكلام صفة ذات، وذاته تعالى قديمة لا تتغير ولا تحل فيها الحوادث، ومن ثم فالقرآن المتلو كلام الله قديم غير مخلوق، ولكن الخلق صفة فعل، تقوم حوادثها في المخلوقات، فيخلق الله أفعال العباد، ومنها تلفظنا بالقرآن، فتلاوتنا للقرآن وكتابتنا له محدثة مخلوقة. وشتّان بين عظمة هذا التمييز للبخاري، وهو اعتقاد أهل السُنة الأشاعرة والماتريدية، وبين تخليط ابن تيمية وجمعه بين أن يكون الكلام صفة ذات وصفة فعل!! ونسبته التغير إلى الله، وعدم تمييزه بين فعل الله القديم وأفعال العباد المخلوقة. والحقيقة أنني لم أقرأ لسلفي واحد من القدماء والمحدثين ما يدل على فهمه وتمييزه لمسألة الكلام إلا الإمام الذهبي رحمه الله، أما من عداه فيبدو أن المسألة فوق مستوى فهومهم.
وأعود فأُذكِّر بأن ابن تيمية كان أقرب في كثير من معتقداته للكرامية وليس للحنابلة، فالإمام أحمد لم يثبت عنه تمام الثبوت سوى أن قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، أما الكرامية فهم أول من ابتدع القول بأن الصفات القديمة تتعلق بها مشيئة قديمة وإرادات حادثة. يقول الشهرستاني في "الملل والنحل" (ص102): "أثبتوا لله تعالى مشيئة قديمة متعلقة بأصول المحدثات، وبالحوادث التي تحدث في ذاته، وأثبتوا إرادات حادثة تتعلق بتفاصيل المحدثات"أهـ. وتابعهم ابن تيمية في هذا المعتقد.
يقول ابن تيمية في منهاج السُنة (ج1، ص148): "الله لم يزل متكلمًا إذا شاء".
ويقول في منهاج السُنة (ج2، ص383): "كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة".
ويقول كذلك في منهاج السُنة (ج2، ص362): "قول من يقول: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام أزلي قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا. وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة".
وهذه عادته في نسبة كل ما يعتقده إلى السلف، وادعاء إجماعهم عليه، وإلحاق فهمه بقولهم، ليفهم منه ما أراد:
·        فكونه تعالى لم يزل متكلمًا، دال على أن صفة الكلام قديمة أزلية، وصفاته تعالى كلها قديمة، بلا خلاف بين أهل السُنة. سبحانه لا يلحقه تغير.
·        أما قرن هذه الصفة بمشيئته في كيفيتها وزمنها، فترتبط بحوادث يُحدثها في خلقه، وليس ما ادّعاه سلفه الكرامية؛ فالله يخلق فيمن يشاء من خلقه القدرة على تلقي كلامه القديم القائم بذاته. ويبدو أن ابن تيمية يعتقد أن الله تعالى لم يتكلم إلا بالقرآن، وانقضى كلامه، وهو ما لم يقله السلف.
·        وأما تحديده أنه تعالى يتكلم بصوت يُسمع، فلم يقم به إجماع أهل السُنة، بل عموم أهل السُنة الذين هم الأشاعرة والماتريدية على أن كلامه تعالى ليس بحرف وصوت، ولكنه لا يفتأ يردد أنه وجماعته هم أهل السُنة.
وإشاراته التي تقطع بأنه يرى أن صفة الكلام فقط هي القديمة، لكن محتوى الكلام حادث على فترات وفقًا لمشيئة الله، كثيرة. منها:
يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص380) موجهًا كلامه إلى الشيعة الإمامية، وهم على عقيدة المعتزلة نفسها فيما يخص خلق القرآن، زاعمًا أن ما يقوله ردًا عليهم هو قول جمهور أهل السُنة: "وإذا كان الجمهور ينازعونكم، فتُقدَّر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم؛ فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون: هو قائم بذات الله، فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم، فقلنا: العدم لا يؤمر ولا ينهى، وقلنا: الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم"أهـ. ثم يُردف "قالوا –أي الجمهور الذي يدعيه من أهل السُنة-: وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئًا بعد شيء، فنحن نقول به؛ وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به، وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما"أهـ.
وهذا إقرار صريح منه على أنه يوافق الشيعة والمعتزلة في القول بأن القرآن حادث مخلوق، ولكنه جمع مع اعتقادهم اعتقاد السُنة بأنه قائم بذات الله!!
ويقول في "منهاج السُنة" (ج1، ص177): "أئمة أهل الملل وإن قالوا: إن الرب لم يزل متكلمًا إذا شاء ولم يزل حيًا فعالًا، فإنهم يقولون: إن ما سواه مخلوق حادث بعد أن لم يكن"أهـ.
ويقول في "منهاج السُنة" (ج1، ص235): "معلوم أن الشيء الذي يريد الفاعل أن يفعله، لا يكون شيئًا قديمًا أزليًا لم يزل ولا يزال، بل لا يكون إلا حادثًا"أهـ, وأقول: قوله هذا منطقي، في ضوء اعتباره الكلام صفة فعل كاعتقاد المعتزلة.
ويقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص380): "ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل، فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل، لأن الله يقول‏‏‏: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ﴾ [النمل: 8]. وقال: ﴿إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال"أهـ.
وأقول: لو كنت تميز أن الكلام القديم، الذي هو صفة ذات وليس صفة فعل، لمّا أراد الله إنزاله على رسله أو إسماعه لموسى عليه السلام، أو أمر شيئًا من مخلوقاته، خلق لهم في أنفسهم القدرة على تلقيه، لزال عنك خلطك. ولكنه لا يُميز بين صفتيّ الكلام والخلق، ولا يفتأ يشير إلى أن كل ما سوى الله مخلوق مفعول محدث، وهذا صحيح بالنسبة لمخلوقاته، ولكن ماذا عن صفاته يا ابن تيمية، والكلام من صفاته؟
إن أي مدقق وراء كلامه يرى تلميحات، بل وتصريحات، متكررة متناثرة، عن اعتقاده بأن صفة الكلام لدى الله قديمة، ولكن القرآن ذاته مخلوق، حادث على فترات، وفقًا لمشيئة الله، وكان هذا من تناقضاته المنهجية؛ إذ كيف يتفق كون الكلام قديمًا مع كونه يتجدد ويحدث (بذاته تعالى) وفقًا لمشيئته؟! واعتقاده للمدقق –ورغم كل التحوير- هو أقرب لقول المعتزلة في خلق القرآن، لأن إدعاءه قيامه بالذات، لم يمنع إثباته لحداثته.
بالرغم من ذلك، فإنه يُصر صراحة ويُقرر أن اعتقاد السُنة هو أن القرآن كلام الله قديم غير مخلوق. يقول في "منهاج السُنة" (ج2، ص363): "وبالجملة أهل السُنة والجماعة، أهل الحديث، ومن انتسب إلى السُنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة، وأئمة أتباعهم، والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، [والقرآن كلام الله غير مخلوق (العبارة ساقطة من أربع نسخ)]، وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف، والأئمة من أهل البيت، وغيرهم، والنقول بذلك متواترة مستفيضة"أهـ. ويضيف (ج2، ص374-375) "احتجّ الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" قالوا: لا يُستعاذ بمخلوق، وكذلك ثبت عنه أنه قال: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك" وقالوا: لا يُستعاذ بمخلوق"أهـ.
لذا؛ ولأجل تلك التناقضات الثابتة عنه، فإنه بالرغم من إثباته في بعض مواضع من كتبه لعقيدته في أن القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، كما هو اعتقاد أهل السُنة، وبالرغم من نفيه قدم العالم أو حتى قدم جزء منه في كتاباته، إلا أنّ لازم ما اعتقده في قيام الحوادث بذاته تعالى، وتوفيقه العجيب بين صفة الذات وصفة الفعل، وجعل الكلام ضربًا خليطًا من كليهما، قد أدى لاتهامه بالاعتقاد بكل من خلق القرآن وقدم العالم؛ فاتهمه علماء السُنة بالقول بخلق القرآن رغم نفيه ذلك في مواضع، وادعائه أن اعتقاده أن كلام الله قديم، ولم يتوقف الأمر عند ما اتهموا به المعتزلة؛ لأن المعتزلة قالوا: إن الكلام صفة فعل يُحدثها الله في مخلوقاته وليس في ذاته، وقالوا: ذات الله ليست محلًا للحوادث، فلم يُتهموا بالقول بقدم العالم. لكن ابن تيمية اُتُهِم بالقول بقدم العالم، لأنه لمّا جوّز على الله وهو القديم سبحانه أن يكون محلًا للحوادث، جاز أن يكون كل ما هو محل للحوادث قديمًا، فقيل عنه اعتقاده أن العالم قديم، رغم نفيه ذلك في كتبه، وكان يمكن أن يتهموه بالمزيد ولكن يبدو أنهم ترفعوا عنه؛ ذلك أن ما لم يخلُ من الحوادث فهو حادث، فكلامه يقتضي نفي الأزلية عن الله أو القول بقِدم العالم، وحاشا لله أن يعتقد بهذا مؤمن، وربما هو لم يفهم الأمر على ما ألزموه به، ومن الواضح لي تمامًا أنه لم يعتقده، بل ولم يخطر بباله أن يجرّه اعتقاده في قيام الحوادث بذات الله إلى الاتهام بالقول به. لكن لا نُخطِّئ من اتهموه، فمن خاض في عقائد شاذة باطلة -قيام الحوادث بذاته تعالى، وجعل الكلام صفة فعل وموضع حدوثه في ذات الله!- يلزمه كل ما ترتّب عليهما. كما أن له كلام يُفهم منه أنه لا يُسلِّم بمقدمة الأشاعرة "ما لم يخل من الحوادث فهو حادث"، ومجرد نقده لهذه المسلمة يدل على مستوى عالٍ من التخبط العقلي والمكابرة، ومن يحاول التمنطق من السلفية المعاصرين -وما أبعدهم عن المنطق- يدافعون عن هذا التخبط.
وقصة محن ابن تيمية وما صحبها من فتن بسبب اعتقاداته وفتاواه أوردها العديد من الأئمة في كتبهم، ومنهم الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه "الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة" (ج1، ص144 : 149)‏. قال بشأن استتابته: "وُجد خطه بما نصه (الذي اعتقد أن القرآن ‏معنى قائم بذات الله، وهو صفة من صفات ذاته القديمة، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا ‏صوت، وأن قوله الرحمن على العرش استوى ليس على ظاهره، ولا أعلم كنه المراد به، بل لا ‏يعلمه إلا الله، والقول في النزول كالقول في الاستواء)، وكتبه أحمد بن تيمية، ثم أشهدوا عليه أنه ‏تاب مماينًا في ذلك مختارًا، وذلك في خامس عشرى ربيع الأول سنة 707، وشهد عليه بذلك ‏جمع جم من العلماء وغيرهم، وسكن الحال، وأُفرج عنه، وسكن القاهرة"أهـ.
كما ذكر استتابته في مصر كتابة سنة 707هـ كي تكون حجة عليه، ابن المعلم القرشي في "نجم المهتدي ورجم المعتدي" (مخطوطة،630-631)، وهو مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس رقم (638). ومما أورد أن "ابن تيمية هدى الله قلبه للتوبة والرجوع والأوبة فادعى للطاعة، فاقترح عليه قاضي القضاة ابن جماعة أن يكتب بخطه ما يؤاخذ ‏به إن لم يقف عند شرطه، وبعد أن كتب تلك الصيغة بخطه توج خطه قاضي القضاة بدر الدين ابن ‏جماعة بالعلامة الشريفة، وشهد عليه جماعة من العلماء. ونص استتابته مدونة ومنقولة بالكتاب من خط يد ابن تيمية وهي كالتالي: "الحمد الله، الذي اعتقده أن القرءان معنى قايم بذات الله، وهو صفة من ‏صفات ذاته القديمة الأزلية، وهو غير مخلوق، وليس بحرف ولا صوت، وليس هو حالًا في ‏مخلوق أصلًا لا ورق ولا حبر ولا غير ذلك،........"أهـ.
وأقول: وكتابته لنص ما جاء في الاستتابة دليل على أنه كان قد ثبت عنه أنه يقول بعكسه، أو ما يوهم بعكسه.