الأحد، 6 أكتوبر 2019

216-صور من التطرف داخل البيت السُني


صور من التطرف داخل البيت السُني
د/ منى زيتون
الاثنين 7 أكتوبر 2019

لم تدر الصراعات الطائفية في تاريخ الإسلام فقط بين أصحاب العقائد المختلفة، بل كانت هناك احترابات وصراعات داخلية، وقد عرضت في مقال "لعبة الدين والسياسة" لأمثلة من تحارب فرق الشيعة فيما بينهم سياسيًا، وكذا كان هناك تطرف بين مذاهب أهل السُنة (الحنفية- الشافعية- المالكية)؛ بسبب قضايا اعتقادية فرعية بين الأشاعرة والماتريدية -على عظم التقارب بين العقيدتين حتى اُعتبرتا أقرب أن تكونا عقيدة واحدة- كمسألة الاستثناء في الإيمان، وبعض الأحكام الفقهية المختلف فيها بين الأئمة، كالبسملة ورفع اليدين في الصلاة عند الركوع عند الشافعية، والنبيذ غير المسكر عند الأحناف، وأحكام الكلاب عند المالكية.
في مقال سابق أيضًا رأينا كيف أفنى الشافعية الحنفية في الريّ، سنة 617هـ، على ما روى ياقوت الحموي في معجمه. وكانت هناك حساسيات بين أهل المذهبين في بلاد فارس بوجه عام؛ كونهما أكثر مذاهب أهل السُنة انتشارًا بها، ووصف ابن الأثير في "الكامل" (ج7، ص400) القاضي أبي علي المحسن التنوخي أنه "كان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. قاتله الله". وفي غير بلاد فارس، وخاصة الشام، كان التعصب ماثلًا أيضًا بين المذهبين. يروي الذهبي في "ميزان الاعتدال" (ج4، ص52) عن قاضي دمشق محمد بن موسى البلاساغوني الحنفي، المتوفي سنة 506هـ، قوله: "لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية"!! وربما كان مما أسهم في تقليل التعصب ظاهريًا بين المذهبين أن ملوك السلاجقة كانوا سُنة أحناف، بينما كان وزراؤهم شافعية، وكان الزنكيون عمال السلاجقة في الشام أيضًا سُنة أحناف، وتابعوهم من البيت الأيوبي شافعية؛ فامتنع المتعصبون من كلا الفريقين عن إظهار تعصبهم حرصًا على رءوسهم، ثم عندما ساد الأيوبيون ومن بعدهم المماليك انتشرت الشافعية، وبعد دخول مصر والشام تحت سلطان العثمانيين سادت الحنفية مع عقيدة السُنة –وليس المعتزلة-.
وكانت مسألة الاستثناء في الإيمان من أكثر المسائل التي تثير الفتن بين أهل المذاهب السُنية، خاصة الحنفية والشافعية، مع كون الخلاف فيها يكاد يكون لفظيًا! ولم يتكلم فيه ويعظمه إلا ضعيفيّ الفهم والعلم. يقول الجويني في "الإرشاد" (ص400) "الإيمان ثابت في الحال قطعًا لا شك ‏فيه، ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة، إيمان الموافاة؛ فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة، ‏ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز"أهـ. فالشافعية الأشاعرة يجوزون أن يقول المسلم "أنا مؤمن إن شاء الله". وكان بعض الأحناف الماتريدية خاصة يكثرون من التشنيع على الشافعية لأجل تلك المسألة، ويصفونهم بالشكوكيين. يقول السيد سابق في "فقه السُنة" (ج1، ص9): ‏"اختلفت الأمة شيعًا وأحزابًا، حتى إنهم اختلفوا في حكم تزوج الحنفية بالشافعي –خطأ واضح، والصحيح الحنفي بالشافعية-، فقال بعضهم: لا يصح؛ لأنها تشك في إيمانها، وقال آخرون: يصح قياسًا على الذمية"أهـ.
كما كان الصراع بين الحنفية والمالكية على أشده في بعض الفترات في المغرب العربي، ولعله بدأ منذ محنة خلق القرآن لأن كثيرًا من الأحناف بالمغرب معتزلة أو مائلين للاعتزال، وليسوا ماتريدية، ووصل الصراع إلى حد أن بيت القضاء المالكي الذي كان الإمام سحنون قد بناه، هدمه قضاة الأحناف، وكان قضاة المالكية يعيدون بناءه عندما يلون القضاء. بل وكان الصراع أحيانًا ينشب داخل المذهب الواحد؛ مثلما حدث بين فرقتيّ المالكية بالقيروان، أتباع سحنون وأتباع ابن عبدوس، منتصف القرن الثالث، بسبب الاعتقاد بالاستثناء في الإيمان وربط الإيمان بالمشيئة، أو نفي ذلك، وكان عامي من أتباع سحنون قد تجرأ وبصق في وجه ابن عبدوس لأنه قال إنه "مؤمن، لكنه لا يقطع بذلك عند الله". وقد روى الذهبي القصة في "السير" في ترجمة ابن عبدوس.
وكذا كثيرًا ما حدث تطرف بين بعض المالكية والحنفية من جهة والشافعية من جهة أخرى؛ بسبب مسألة فقهية فرعية، وهي رفع اليدين عند الركوع في الصلاة، وعند الرفع منه، وهو من سنن الصلاة عند الشافعية. ومن أشهر ما يُروى في هذا ما نقله الذهبي في "السير" (ج13، ص202) في ترجمة الفقيه المالكي أصبغ بن خليل القرطبي، أنه وضع حديثًا على رسول الله في عدم رفع اليدين! أضاف الذهبي "وقد اتُّهم في النقل، ووضع في عدم رفع اليدين –فيما قيل-". وقد فصّل الذهبي في الاتهام في ترجمة أصبغ في "ميزان الاعتدال" (ج1، ص269-270)، فذكر الحديث الموضوع بالإسناد المزعوم الذي لا يستقيم، بسبب ما عُرِف عن أحوال الرواة، وكذا بسبب متن الحديث المليء بالأخطاء التاريخية، ثم قرر الذهبي "فهذا من وضع أصبغ". ويبدو أنه كان شديد التعصب، يقول الذهبي في ترجمته في "السير": "قال قاسم بن أصبغ: هو منعني السماع من بقيّ –بقيّ بن مخلّد-. وسمعته يقول: أحب أن يكون في تابوتي خنزير، ولا يكون فيه مصنف ابن أبي شيبة"أهـ.
ولقد بلغ التعصب ليس فقط درجة وضع أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تعداه إلى واقعة ذُكِر فيها محاولة لتحريف القرآن كي ينتصر صاحبها الفاسق لنفسه، رواها الإمام ابن حزم في "الإحكام" "قال نا محمد بن لبانة قال: أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة، وكان عديم الورع بعيدًا عن الصلاح. قال: فخطبنا يوم الجمعة، فتلا في خطبته ‏﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾‏‏ [التوبة: 128]، فقرأها بنونين (عننتم). قال: فلما انصرف أتيناه، وكنا نأخذ عنه رأي مالك، فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها، فقال: نعم، هكذا أقرأناها وهكذا هي، فلجّ، فحاكمناه إلى المصحف، فقام ليخرج المصحف، ففتحه في بيته وتأمله، فلمّا وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه، أنِف الفاسق من رجوعه إلى الحق، فأخذ القلم وألحق ضرسًا زائدًا –أي أضاف نونًا للكلمة-. قال محمد بن عمر: فوالله لقد خرج إلينا، والنون لم يتم بعد جفوف مدادها"أهـ.
هدانا الله جميعًا سواء السبيل.