الثلاثاء، 5 يوليو 2016

40-التعميم والتمييز

التعميم والتمييز

د/منى زيتون

أول مايو2016

http://www.arabpens.com/2016/05/blog-post.html

 يقول تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]. يظهر من سياق الآية الكريمة أن المشركين كانوا قد قالوا إن البيع نظير الربا، أي: هذا مثل هذا، فلِم قد أحل الله هذا وحرم هذا؟! من ثم فإن أصل الإشكالية أن المشركين لم يميزوا وجود فروق بين حالتيّ البيع والربا، والتي على أساسها كان تفريق الله عزّ وجلّ بينهما في الحكم الشرعي، ما أدى إلى اعتراضهم على حكم الله.

ومثله ما يشيعه الملاحدة في عصرنا الحديث من أن الزواج مثل العلاقات غير الشرعية، فلِم يقبل المجتمع الشرقي –المتخلف كما يرونه- الزواج ويرفض ما عداه؟

وهذان من أشهر أمثلة التعميم وعدم القدرة على التمييز في المسائل الشرعية، وما الفقه إلا فهم لأوجه التشابه والاختلاف بين المواقف، وعلى أساسها تُبنى الأحكام. فما هو التعميم وما هو التمييز؟

في التعلم الشرطي الكلاسيكي هناك قوانين للتعلم، منها قانونا التعميم والتمييز، فالتعميم ببساطة، ودون الإشارة لمصطلحات نفسية، هو قدرتنا على الاستجابة للمواقف تبعًا لدرجة التشابه بينها وبين الموقف الأصلي الذي تم فيه التعلم، وكلما زاد التشابه بين المواقف كان احتمال التعميم وإعطاء الاستجابة نفسها كبيرًا، كما أن التعميم قد يكون أوليًا، بمعنى أن الاستجابة المعممة تظهر نتيجة مثيرات مشابهة من النوع ذاته في الموقفين، وقد يكون ثانويًا بمعنى أن الاستجابة تظهر نتيجة وجود خاصية أو جزئية أو شكل من أشكال المثير الأصلي.

والتمييز على عكس التعميم، هو القدرة على التفريق بين المثيرات المختلفة والمتشابهة، ومن ثم إصدار الاستجابة لمثير دون آخر.

والتعميم والتمييز كلاهما متعلم، والمتفق عليه من خلال تجارب التعلم على الحيوانات والأطفال الصغار أن تعلم التعميم يسبق تعلم التمييز، فالطفل الصغير يطلق لفظ "بابا" على كل رجل عندما يبدأ الكلام، ثم يتوقف عن ذلك، ويبدأ في التمييز ولا يُنادي بالكلمة غير أبيه؛ ذلك أن التعميم والتمييز عمليتان عقليتان، ولكن التمييز يحتاج بذل جهد عقلي أكبر، فيحدث في مرحلة تالية للتعميم، فالحيوانات المخبرية لا تتعلم التمييز بين المثيرات البسيطة إلا بعد جهد وتدريب طويلين، والإنسان لا يميز بدقة بين المثيرات إلا في مرحلة متقدمة من نموه العقلي.

وتعتبر عمليتا التعميم والتمييز من العمليات الهامة المتصلة بفهم كثير من مظاهر التعلم الإنساني؛ لأن التعلم بجميع أشكاله يقتضي التمييز بين المفاهيم والحقائق ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينها، لكن ليس الأطفال الصغار فقط من يفتقدون للقدرة على التمييز، بل هناك من الكبار عمرًا من لا يستطيعون تحديد أوجه التشابه والاختلاف بين موقفين، ويميلون إلى إطلاق استجابة متشابهة لموقفين مختلفين! وتقول العامة عندنا في مصر عن الغبي إنه لا يميز!

تذكرت هذه البديهية المتعلقة بالتعلم الإنساني في الأيام الأخيرة بسبب ما قرأته من بعض تشنيعات مؤيدي النظام على أي معترض على عملية التنازل المخزي عن جزيرتي تيران وصنافير، وكانت دفوع المؤيدين كلها تقدح إما في مستوياتهم العقلية أو نضجهم الانفعالي أو قدرتهم على التفكير المنطقي، وسأركز هنا على ما يخص افتقادهم القدرة على التمييز.

دفع بعضهم بأن السعوديين إخوة، ومن ثم فإن التفريط في جزيرتين غير مأهولتين بالسكان لهم أمر لا إشكالية فيه إلا إن كان المعترض من مصطنعي المشاكل! فالمشنِّع هنا لا يميز المقبول وغير المقبول في العلاقات الأخوية، فجعل التفريط في الأرض للأخ أمرًا مقبولًا، وعاب على من استنكره.

كما استنكر بعض المؤيدين على بعض الشباب العامل في السعودية رفضهم التنازل عن الجزيرتين، وكأنه من الواجب على الشاب المغترب أن يتنازل عن أرضه -التي هي عرضه- لمن شاء الله أن يجعل رزقه في بلادهم!

وكلا التشنيعتين مثالين صارخين للفشل الذريع في التمييز بين المواقف وإطلاق تعميمات بين موقفين مختلفين لا تليق سوى بأطفال صغار، بينما يُفترض أن يؤدي اختلاف الموقفين في كل حالة بالعقلاء إلى استجابات مختلفة. ولضعف القدرة على التمييز كما سبق وأسلفت دلالة قوية على انحدار المستوى العقلي لمن أطلق هذه التعميمات المتساهلة إن كان حقًا مقتنعًا بها، أما إن كان غير مقتنع بها، وأطلقها من باب المكايدة، فهي دليل على ضعف مستوى النضج الانفعالي، وأما الاحتمال الأخير فهي أنه إنسان حقير دنيء الأصل على استعداد أن يبيع أي شيء مما يقدره أولو النخوة، وهذا حقيقة إنكاره عليهم بهاتين التشنيعتين.