الثلاثاء، 5 يوليو 2016

25-الشباب بين مطرقة المسايرة وسندان المغايرة!

25-الشباب بين مطرقة المسايرة وسندان المغايرة!
د/منى زيتون
الأحد ‏29 نوفمبر 2015
السبت 18 مايو 2019
http://www.almothaqaf.com/a/qadaya2019/936937



مما لا أنساه أبدًا أنه في السنة الأولى من أعوامي الجامعية، قص علينا دكتور من أساتذتنا قصة حدثت له وهو في أول أيامه كطالب في الجامعة. قال لنا إنه في أول سِكشن عملي لفرقته، وبعد أن انتهى المعيد من الشرح النظري توجه الطلاب –وهو من بينهم- ليشاهدوا العيّنة المطلوب فحصها تحت الميكروسكوب، وإذا بأستاذنا لا يستطيع أن يرى شيئًا بينما باقي الطلبة يدّعون أنهم رأوا العيّنة! وهو ينظر وينظر ويعيد النظر في عدسات الميكروسكوب ولا يرى شيئًا، وفي النهاية جاء المعيد الذي كان قد غادر القاعة لأمر ما ليُفاجأ بأن الطلاب –عدا دكتورنا راوي القصة- ادّعوا أنهم رأوا العينة، بينما الحقيقة أن الشريحة الميكروسكوبية كانت على الطاولة الجانبية ولم توضع على الميكروسكوب بعد!
يُنسب لجون ستيوارت ميل كلمة يقول فيها: "الخطر الرئيسي في العصر الحالي هو قلة من يجرؤون على أن يكونوا مختلفين"، ولعل القصة التي رويتها للتو تظهر إلى أي حد يمكن أن يصل الحال ببعض البشر رغبة في مسايرة من حولهم خاصة أصحاب السلطة عليهم، وكاستجابة لضغوط الأقران، ولكن من خلال خبراتي أرى أنه ربما كان هذا هو الحال في عصر ستيوارت ميل، لكن في عصرنا الحالي صار هناك خطر آخر إضافي مصدره أصحاب مدرسة "خالف تُعرف".
غالبًا سيأتيني الرد المتداول بين الشباب بتعداد الآيات التي نزلت في ذم الكثرة:
1- ‏﴿‏‏‏وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ‏﴾‏‏‏‏
2- ‏﴿‏‏‏وَأَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ‏﴾‏‏‏‏
3- ‏﴿‏‏‏وَأَكثَرُهُمُ الكَافِرُونَ‏﴾‏‏‏‏
4- ‏﴿‏‏‏وَأَكثَرُهُم لِلحَقِّ كَارِهُونَ‏﴾‏‏‏‏
5- ‏﴿‏‏‏وَأَكثَرُهُم كَاذِبُونَ‏﴾‏‏‏‏
6- ‏﴿‏‏‏بَل أَكثَرُهُم لاَ يُؤمِنُونَ‏﴾‏‏‏‏
7- ‏﴿‏‏‏وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم لاَ يَعلَمُونَ‏﴾‏‏‏‏
8- ‏﴿‏‏‏وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلُونَ‏﴾‏‏‏‏
9- ‏﴿‏‏‏وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ‏﴾‏‏‏‏
10- ‏﴿‏‏‏وَمَا يَتَّبِعُ أَكثَرُهُم إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئاً‏﴾‏‏‏‏
11- ‏﴿‏‏‏وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم لاَ يَشكُرُونَ‏﴾‏‏‏‏
12- ‏﴿‏‏‏وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشرِكُونَ‏﴾‏‏‏‏
13- ‏﴿‏‏‏أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِن هُم إِلَّا كَالأَنعَامِ بَل هُم أَضَلُّ سَبِيلاً‏﴾‏‏‏‏
14- ‏﴿‏‏‏وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم مُّؤمِنِينَ‏﴾‏‏‏‏
15- ‏﴿‏‏‏فَأَعرَضَ أَكثَرُهُم فَهُم لَا يَسمَعُونَ‏﴾‏‏‏‏
16- ‏﴿‏‏‏وَإِن تُطِع أَكثَرَ مَن فِي الأَرضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِن هُم إِلاَّ يَخرُصُونَ‏﴾‏‏‏‏
17- ‏﴿‏‏‏وَلَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤمِنُونَ‏﴾‏‏‏‏
18- ‏﴿‏‏‏وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ‏﴾‏‏‏‏
19- ‏﴿‏‏‏فَأَبَى أَكثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً‏﴾‏‏‏‏
والحقيقة أنني لم أقتنع يومًا بهذا الرد الذي يروج له أصحاب مدارس التكفير مثلما يروج له التنويريون على السواء؛ فمقاتلو داعش أيضًا يظنون أنفسهم استثنائيين باعتبارهم الفئة الناجية، والحديث القرآني عن الكثرة والقلة حديث عام لا يساعدنا على تمييز كل فرد بحياله أو كل مجموعة بحيالها بل يصف حال عموم البشر.
وأرى أن هناك تصورًا أصبح منتشرًا للغاية خاصة بين الشباب أن من يحارب السائد بالضرورة مفكر وجريء، والحقيقة أن أغلبهم يخالف عن جهل وتعالم وليسوا بأقل ضلالًا ممن يدعون مخالفتهم فكريًا وسلوكيًا.
لكن كيف؟!!!
هناك مفهوم في علم النفس ذو حدين نسميه المسايرة/المغايرة الاجتماعية؛ فالمسايرة تعبر عن إعطاء الفرد أحكامًا واعتقاده وسلوكه وفقًا للمعايير والعادات المقبولة من الجماعة الداخلية التي ينتمي لها، ويُعبر الأفراد عن المسايرة دومًا باستجابات تكون مشابهة لسلوك الآخرين في المجتمع.
والحقيقة التي نستقرؤها بوضوح من نتائج تجارب وملاحظات علم النفس الاجتماعي أن أغلب البشر يميلون لإعطاء تلك الاستجابات المتوافقة مع معايير مجتمعهم سواء كانت صحيحة أم خاطئة، وهو ما يحفظ لكل مجتمع إنساني على حدة حدوده وتنظيمه.
بينما المغايرة على العكس من المسايرة تمامًا تعبر عن عدم انسياق الفرد وراء معايير وعادات المجتمع وتقبله لها تلقائيًا بل إخضاعها للنقد، والسلوك بشكل يختلف عن المقبول في إطارها.
وتختلف المجتمعات في قوة الضغط الذ‏ي تمارسه على أفرادها للخضوع والامتثال لمعاييرها، وعادة لا يجرؤ الأفراد في المجتمعات الصغيرة والريفية والقبلية على مجرد التفكير في الانحراف عن السلوك المرغوب اجتماعيًا أو إبداء الإعجاب بأفكار تخالف أعراف المجتمع حتى لو كانت أكثر منطقية، بينما تعطي المجتمعات الكبيرة والمفتوحة فرصة أكبر لأعضائها للانحراف عن معاييرها.
لكن ينبغي الإقرار بأنه لا يوجد مجتمع لا يطلب من أفراده مسايرة معاييره بدرجة أو بأخرى، ونخطيء حين نتصور أن المجتمعات المتقدمة في عصرنا تتيح حرية لأفرادها أكثر من المجتمعات النامية لأن القوانين التي يفرضها أي مجتمع متقدم هي جزء من معاييره التي يضغط على أفراده للامتثال لها، ويمكنني القول إن إخضاع الأفراد لقوانين المجتمع يكون أقوى في المجتمعات المتقدمة بينما إخضاع الأفراد لأفكار وقيم المجتمع يكون أقوى في الدول النامية.
وبـتأمل واقعنا المعاصر يتضح أنه في ظل الانفتاح الثقافي المتاح على العالم بأسره –وهو من أبرز صفات عصرنا- صارت هناك صرعة لدى الشباب في مجتمعاتنا العربية تحديدًا لمسايرة معايير جماعات خارجية يرونها أكثر تقدمًا في ركب الحضارة، وأنها ما تقدمت إلا ‏بوجود تلك المعايير، ومن ثم إصدار استجابات تكون غالبًا مختلفة عن سلوك الآخرين في مجتمعاتهم الأصلية.
ويمكنني إعطاء تفسيري لتلك الظاهرة بأحد أمرين.
الأول: أن الأفراد الذ‏ين يخضعون لسلوك المجتمع الخارجي إنما حدث لهم هذ‏ا نتيجة تضارب المعايير لأنهم باختصار صاروا لا يعتبرون أن المجتمع الداخلي هو فقط مجتمعهم، فاتسعت نظرتهم للمجتمع، ربما لجاذ‏بية المجتمع الإنساني الأكبر لديهم، مما جعل استجاباتهم تختلف، فظهرت مغايرة للاستجابات المقبولة في المجتمع الداخلي، ومسايرة للمعايير في المجتمعات المتقدمة.
الثاني: وهو الأنكى أن هؤلاء يغايرون فقط رغبة في إظهار الاختلاف عن ‏مجتمعنا.‏
كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في إنشاء جماعات جديدة لا يحدها مكان ينخرط فيها الأفراد من مجتمعات وبلدان مختلفة وتؤثر في خضوعهم لمعاييرها الفكرية -دون نقد!-. من ثم، يكون جُل ما حدث لهؤلاء الأفراد الذ‏ين يظنون أنفسهم مغايرين للمجتمع الداخلي أنهم خضعوا لسيطرة مجتمع آخر، ولم يكتسبوا قط القدرة على التفكير الناقد.
فتكون كل من المسايرة والمغايرة وفقًا لهذا التصور وجهين متناقضين للتعبير عن تسلط الجماعة على فكر الشخص، وتحكمها فيه، لكن مع اختلاف التفاصيل.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الذ‏كاء يؤثر تأثيرًا واضحًا في درجة المسايرة الاجتماعية، لأن الشخص الذ‏كي لا يقبل كل ما يُعرض عليه ويقلده، وأضيف هنا أن ذ‏لك ينطبق على ما يعرضه أي مجتمع وليس فقط مجتمع الفرد الداخلي.
من ثم فإنني أرى أن تعريف المغايرة الاجتماعية بحاجة لمزيد من التعمق وإمعان النظر بحيث يتم التركيز على الهدف وليس السلوك الظاهر؛ لأن المفترض أن المغايرة تنبع من محاولة الأشخاص نقد واقعهم نقدًا ذ‏اتيًا، وليس مسايرة معايير مجتمع آخر، أو لرغبة في مخالفة معايير المجتمع دائمًا وأبدًا حتى لو خالفوا كل قواعد المنطق لرغبتهم في مخالفة تلك المعايير.
ولا ننكر أن لدى كل فرد درجة من المسايرة وإلا لصارت حياته عراكًا مستمرًا بينه وبين مجتمعه لا يملك أي شخص أن يحتملها، ولكن المشكلة تكمن في المسايرة المفرطة التي تفقد الفرد استقلاليته وقدرته على نقد ما يستحق النقد، فإن أفقدت المغايرة –كما نلمسها في مجتمعاتنا- الشباب حس النقد أيضًا رغبة في الحصول على التعزيز والمدح من مجتمعات أخرى فهي ليست مغايرة، وينبغي البحث لها عن مسمى آخر.
فالإنسان الحر لا يعبأ برأي الجماعة ولا يحركه إيجابًا أو سلبًا، بمعنى أن أفكاره تخرج من خلال مبادئه وقناعاته وليس من خلال رغبته في إظهار مسايرته وتوافقيته مع جماعة ما أو مخالفته لها.
يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت, وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أحسنتم، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم"، وكلنا نعرف قصة أندرسون عن الإمبراطور العاري الذي ساير الخياط المحتال في أنه يرى الثوب الوهمي الذي لا يراه إلا الأنقياء –على حد زعم المحتال-، وسايره باقي الشعب وادّعوا أنهم يرون الثوب وأنه رائع، حتى كشفهم طفل صغير بريء وصرخ (لماذا يسير الإمبراطور عاريًا؟!).
للأسف فإن كثيرًا من الناس تافهون، يقلدون ويدعون الإيمان بمباديء حتى لا يتهموا بالجهل من جهة المتفذلكين، فيدعون المغايرة، أو على العكس يقلدون السائد في مجتمعاتهم وإن كان به ما يوجب إعادة النظر، فيؤثرون السلامة بالمسايرة، فصار مجتمعنا ينقسم بين مساير –دون وعي- ومغاير -ليس عن نقد وتمحيص- لمعاييره وقيمه، بينما المجتمع المثالي هو ذلك المجتمع الذي تتوفر فيه للأفراد القدرة على المبادرة وإبداء الرأي، كما توجد به سلطة اجتماعية واضحة المعايير والقوانين القابلة للنقد من قبل الأفراد على أسس موضوعية وليس من باب الخروج بخزعبلات تحت اسم التجديد والإصلاح.
ولنتذ‏كر أن المفكرين والمصلحين في كل عصر كانوا مغايرين حقيقة، ومغايرتهم كانت نابعة من تفكير حقيقي وعميق تم رفض السائد فيه على أسس منطقية، و-أكرر- ليس استجابة لمعايير مجتمعات خارجية، ولا رغبة في إظهار الاختلاف عن معايير المجتمع الداخلي.
أستطيع أن أفهم تأثر الشباب والمراهقين بجماعات الأقران وتحكم تلك الجماعات الفرعية وضغطها على أفرادها للاقتناع بأفكار معينة والسلوك على نحو معين، ولكن ينبغي أن أقول للشباب أنه كي تكون مفكرًا حرًا كما تزعم وترغب ينبغي أن تحرر تفكيرك من قيود المسايرة والمغايرة كليهما. والتحرر من تلك القيود يبدأ بالتحرر من التعصب لأي جماعة يمكن أن يخطيء أفرادها وتضطر أن تسير مع القطيع مدافعًا عنها دون وعي حتى تحولت مجتمعاتنا إلى مجموعات من القطعان يسهم الإعلام في توجيهها تدافع بالباطل عن أخطاء واضحة، وضاع الحق والصدق من مجتمعنا.
وإن حاول أحدهم إقناعك بأن تطبيقك لهذا سيُفقدك الانتماء تذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نُصْرَتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟، قَالَ: "تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نُصْرَتُكَ إِيَّاهُ".
الإنسان الذي يضع الحق هدفًا له لن يضل إن شاء الله. لن يساير في الخطأ، ولن يكون من حزب "خالف تُعرف"، كما أنه لن يتفرنج.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119]. هدانا الله وإياكم.