الأربعاء، 6 يوليو 2016

49وفُتِح قفص الأسد (نكبة بغداد)


وفُتِح قفص الأسد، نكبة بغداد
د/ منى زيتون
أحد مقالات كتابي "التطرف الديني"
منشور الأحد 31 يوليو
وعلى 5 أجزاء على البديل؛ الاثنين أول ‏أغسطس 2016‏
 السبت ‏‏6أغسطس ‏‏2016‏
 الأحد ‏‏14أغسطس‏2016‏ 
 الخميس ‏‏18أغسطس ‏‏2016‏
وعلى المثقف، الثلاثاء 13 أغسطس 2019

في عام 656هـ نُكبت بغداد بالتتار، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وسقطت خلافة بنو العباس. وقد اتهم كثير من المؤرخين الوزير أبا طالب محمّد بن أحمد بن علي مؤيّد الدين ابن العلقمي الأسدي، بأنه خان الخليفة المستعصم بالله، لأنه كان موغر الصدر بسبب نهب دور قراباته من الشيعة في الفتنة التي نهب فيها الحنابلة الكرخ سنة 655هـ، كما اتهموه بدافع آخر وراء ما نسبوه إليه، وهو أنه كان يهدف لقتل العلماء من السُنة ونشر مذهبه.
وكانت حيثيات التآمر من وجهة نظر أصحاب نظرية خيانة ابن العلقمي، أنه هو من أطمع هولاكو في بغداد، فكاتبه، وصرف الجند، وحبَّب للخليفة جمع المال، وهو أيضًا من تآمر مع هولاكو عندما وصل بغداد، فهوَّن عليه قتل الخليفة، وأعان على قتل الفقهاء والعلماء السُنة. وهي اتهامات شنيعة تستحق التقصي.
ولعل أول ما يلفت أي قارئ عن نكبة بغداد، ممن يبحث عن الحقيقة، وليس إلى إلصاق التهم بالمخالفين، أن المؤرخين قد انقسموا صنفين حول تلك الكارثة التي حلَّت بالمسلمين:
1-  المؤرخون المعاصرون للحدث، وهم قلة، اهتموا بذكر تفصيلات كثيرة عن المراسلات التي دارت عبر أكثر من عشرة أشهر بين هولاكو والخليفة قبل النكبة، وتفاصيل الوضع في بغداد قبل النكبة، بل وفي السنوات السابقة عليها، وسرد محاولات التتار المستميتة لأخذ بغداد عبر عقود، ووصف لشخصية الخليفة والحاشية، وموقف كل منهم ودوره في الحوادث. وهذه التفاصيل تعطي صورة واضحة للغاية عن الحدث، ويخلص أي قارئ نزيه منها إلى براءة ابن العلقمي.
2-  الفئة الثانية من المؤرخين: وهم الأكثرية، وأغلبهم من غير المعاصرين للنكبة، وكلهم من أهل الشام –وأهل الشام معروفون بتعصبهم الزائد ضد الشيعة بالحق وبالباطل-، فقد غابت عن رواياتهم التفاصيل التي سبقت النكبة، فيعطون للقارئ صورة ضبابية، تشعره عندما يقرأ سردهم للحوادث كأن التتار قد باغتوا بغداد، وكأن الناس قد استيقظوا فوجدوا التتار فوق رءوسهم يحصدونها، وقد يكون هؤلاء المؤرخون معذورين لأن الموت قد حصد أرواح الآلاف في بغداد بسيوف التتار، ثم حُصِدت أرواح آلاف أخرى عندما انتشر الطاعون، ونقل الهواء الوباء إلى الشام، فحصد آلاف آخرين هناك، ولا شك أنه لم يبلغ هؤلاء المؤرخين تلك التفاصيل التي سبقت مجيء التتار، وإن كانوا على العكس قد ذكروا بعض التفاصيل حول الحوادث التي تلت دخول التتار، وهي أقل أهمية في تحديد أسباب النكبة، كما أنها اختلفت كثيرًا عما رواه المعاصرون للنكبة، وكانت أقل دقة. وأغرق هؤلاء المؤرخون في المقابل في إيراد اتهامات، أشبه بالرجم بالغيب، جاءت متناقضة، وغير منطقية، ولا دليل عليها؛ فعلموا بمراسلات تجسس الوزير السرية المزعومة وأوردوها، بينما خفيت عليهم مراسلات هولاكو والخليفة العلنية، وما دار فيها، فلم يوردوها!
ومقارنة بسيطة بين ما كتبه المؤرخون من أمثال: رشيد الدين الهمذاني، وهو مؤرخ المغول، المتوفى سنة 718هـ، في "جامع التواريخ"، وابن الطقطقا، المتوفي سنة 709هـ، في "الفخري في الآداب السلطانية"، وابن العبري، المتوفي سنة 685هـ، في "تاريخ مختصر الدول"، وابن الفوطي الحنبلي البغدادي، المتوفي سنة 723هـ -وكان شاهد عيان على النكبة، وتم أسره فيمن أسرهم التتار من الأحداث صغار السن، فلم يُقتل-، وبين ما خطَّه ابن كثير في "البداية والنهاية" أو الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، أو السُبكي في "طبقات الشافعية"، أو من نقلوا عنهم كابن شامة واليونيني، يظهر الفرق الجليّ بين من يعرض حقائق، ويكاد لا يُعلِّق على الحوادث، تاركًا للقارئ الفرصة للفهم والتقرير، وبين من يرمي بالتهم جزافًا دون ذكر تفاصيل كافية تثبتها. وشتَّان بين الحقائق والآراء، خاصة إن كانت الآراء قد بُنيت على الهوى والتعصب.
وأعتقد أن أول ما يلزم لفهم الحوادث للحكم على صحة أي من الروايتين، هو التعرف على الشخصيات الأساسية على مسرح الحوادث.
كان خليفة المسلمين وقتها هو الخليفة المستعصم بالله. يقول عنه ابن الطقطقا في "الفخري في الآداب السلطانية" (ص333) "كان المستعصم رجلًا خيّرًا متديّنًا، ليّن الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان، حمل كتاب اللّه تعالى، وكتب خطًا مليحًا، وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة، إلاّ أنّه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأُمور المملكة، مطموعًا فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأُمور. وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسًا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهّال من أراذل العوام، إلاّ وزيره مؤيّد الدين محمد بن العلقمي؛ فإنّه كان من أعيان الناس، وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد، مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء"أهـ. ويحكي ابن الطقطقا (ص334) عن المستعصم قصصًا تظهر مقدار طيبة قلبه وشفقته، ثم يتبعها بقوله: "والمستعصم هو آخر خلفاء الدولة العباسية ببغداد. ولم يجر في أيام المستعصم سوى نهب الكرخ، وبئس الأثر ذلك"أهـ.
بينما يصفه ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص445) فيقول: "وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر، وكان صاحب لهو وقصف، شُغِف بلعب الطيور، واستولت عليه النساء، وكان ضعيف الرأي، قليل العزم، كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول"أهـ.
ويذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص262) سبب استخلاف المستعصم. يقول: "وكان المستنصر، والد المستعصم، ذا همة عالية، وشجاعة وافرة، ونفس أبية، وعنده إقدام عظيم، واستخدم جيوشًا كثيرة وعساكر عظيمة. وكان له أخ يعرف بالخفاجي، يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملكنى الله الأرض لأعبرنّ بالجيوش نهر جيحون، وانتزع البلاد من التتار، وأستأصلهم. فلمَّا توفي المستنصر، كان الدويدار والشرابي أكبر الأمراء وأعظمهم قدرًا، فلم يريا تقليد الخفاجي الأمر خوفًا منه، وآثروا المستعصم علمًا منهما بلينه وانقياده وضعف رأيه، لتكون لهما الكبرياء فأقاموه"أهـ. وهي قصة تُصدِّق على صفات المستعصم بالله كما اتفق عليها كل من ترجموا له، ولكن الأهم فيها أنها تكشف عن جانب هام في شخصية الدويدار، وهو شخصية محورية في حوادث النكبة كما سنرى، فالدويدار شخص صاحب حيلة، لا يعرف كيف ينصح للمسلمين؛ فلم يتقِ الله في اختيار الخليفة، ومصلحته عنده مقدمة عن صالح المسلمين، وسيظهر أثر هذه الصفة الرديئة في حوادث القصة البائسة. فبداية النكبة جاءت منذ خانت الحاشية الله ورسوله، وولوا من لا يصلح!
أما الوزير ابن العلقمي، المتهم في القضية، والمختلف  في أمره بين فريقيّ المؤرخين، فيصفه ابن الطقطقا في "الفخري" (ص337-338) قائلًا: "اشتغل في صباه بالأدب، ففاق فيه، وكان رجلًا فاضلًا كاملًا لبيبًا كريمًا وقورًا محبًا للرياسة، كثير التجمل، رئيسًا متمسكًا بقوانين الرياسة، خبيرًا بأدوات السياسة. وكان مؤيّد الدين الوزير عفيفًا عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزّهًا مترفّعًا. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية، تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلمّا وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة، وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأنا أسأل قبوله، فقبل. ثمّ إنّه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئًا من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه ألاّ يهدي إليه شيئًا بعد ذلك. وكان خواصّ الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه، وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه، فأكثروا عليه عنده، فكفّ يده عن أكثر الأُمور"أهـ. بينما يصفه السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص262) بأنه "كان فاضلًا أديبًا، وكان شيعيًا رافضيًا، في قلبه غل على الإسلام وأهله، وحبَّب إلى الخليفة جمع المال، والتقليل من العساكر، فصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات، ومنهم من يكاري على فرسه ليصلوا إلى ما يتقوتون به"أهـ.
وأقول: إن قصة هدية صاحب الموصل لها دلالة قوية فيما يخص اتصاف الوزير بالأمانة، ومثله لا يُتهم بأنه خان الخليفة، كما أن لها دلالة على اتصافه بالكرم، فلا يوصف من يفعل هذا أنه كان يجمع المال ويحبسه عن الجند، ولا بأنه إنما أراد أن يوافق له الخليفة على تجييش الجند، لمَّا لاح خطر التتار، ليأخذ المال، كما اتهمه الدويدار، وسنراه أثناء سرد الحوادث. ولا أفهم كيف يجتمع له أن يكون فاضلًا وأديبًا وفي قلبه غل على الإسلام، ولكن السُبكي يذكر رأيه بناء على الاتهامات التي تناقلها أغلب المؤرخين، ثم يناقض السُبكي ما سبق وذكره عن سيطرة الدويدار على الخليفة، فيتهم الوزير بأنه صاحب الرأي، ومن يزين للخليفة الأمور فيأخذ بها، وإن كانت سقيمة، وقد أجمع كل من ترجم للمستعصم أنه كان حريصًا على المال، وليس بحاجة لأحد أن يحببه في جمعه، فقد كان من شمائله.
وإن أردنا أن نعرف من البخيل، فالمؤكد أنه ليس الوزير الذي هادى من هاداه بما قيمته أزيد، وحلف عليه ألا يعيدها، وزاد بأن حمل الهدية إلى الخليفة فلم يأخذها لنفسه. يحكي ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" (ص109) عن الدويدار الصغير، فيقول: "في سنة 637هـ، تكامل بناء المدرسة المجاهدية، تجاه دار الدويدار الكبير، وهي منسوبة إلى الدويدار الصغير، جعلها برسم الحنابلة، ولم يوقف عليها شيئًا"أهـ. وكانت العادة أن يتم إيقاف أوقاف يُخصص دخلها للمدرسة.
ولنقرأ ما دوَّنه المؤرخون من أهل الشام، كسبب رأوه كافيًا ليتآمر ابن العلقمي على الخلافة بأكملها. يذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص263) "وكان ابن العلقمي معاديًا للأمير أبي بكر ابن الخليفة وللدويدار؛ لأنهما كانا من أهل السُنة، ونهبا الكرخ ببغداد حين سمعا عن الروافض أنهم تعرضوا لأهل السنة، وفعلا بالروافض أمورًا عظيمة، ولم يتمكن الوزير من مدافعتهما لتمكنهما، فأضمر في نفسه الغل، وتحيل في مكاتبة التتار وتهوين أمر العراق عليهم وتحريضهم على أخذها"أهـ. وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص358) المبرر نفسه، قال: "وذلك أنه لمَّا كان في السنة الماضية –يعني 655هـ-، كان بين أهل السُنة والرافضة حرب شديدة، نُهبِت فيها الكرخ محلة الرافضة، حتى نُهِبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أشنع منه منذ بُنيت بغداد"أهـ. ويسرد الذهبي المبرر نفسه في ترجمته لابن العلقمي في "السير" (ج23، ص362)، يقول: "وكان أبو بكر ابن المستعصم –ابن الخليفة- والدويدار الصغير قد شدَّا على أيدي السُنة، حتى نُهِب الكرخ، وتمّ على الشيعة بلاء عظيم، فحنق لذلك مؤيد الدين بالثأر بسيف التتار من السُنة، بل ومن الشيعة واليهود والنصارى، وقُتِل الخليفة ونحو السبعين من أهل العقد والحِل، وبُذِل السيف في بغداد تسعة وثلاثين نهارًا حتى جرت سيول الدماء، وبقيت البلدة كأمس الذاهب"أهـ.
ولن أتوقف عند مستوى الحمق الذي كان يتصف به ابن الخليفة، وفقًا لرواية أصحاب نظرية خيانة ابن العلقمي، وهو يوقد فتنة طائفية في عاصمة مُلكه، بينما التتار على الأبواب، والذي لا يقل عن حمق أبيه والجواري ترقص بين يديه والقصر مُحاصر، وفقًا لرواية ابن كثير، بينما هو يظن أنها أزمة وستزول؛ لأن بغداد لا تُقهر، ولأنه صديق لهولاكو!
فقط سألفت إلى وجود رواية ثانية ورد فيها سبب آخر للوحشة بين الوزير ابن العلقمي من جهة وابن الخليفة والدويدار من جهة أخرى بخلاف أن الأخيرين من أهل السُنة! وتوضح أن نهب الكرخ كان نتيجة للوحشة بينهم لا سببًا! تلك الرواية التي ساقها مؤرخ المغول رشيد الدين الهمذاني في كتابه "جامع التواريخ- تاريخ هولاكو" (م2 ج1، ص262-263) كسبب للفتنة التي حدثت، وهو تآمر الدواتدار –الدويدار- على خلع الخليفة، خاصة وهو يحتضن الرعاع والسفلة ببغداد –وهو وصف الهمذاني لأتباع الدويدار من الحنابلة-، وإعلام ابن العلقمي للخليفة بالأمر، ثم إطلاع الخليفة الدواتدار على ما قاله الوزير، فادَّعى الدواتدار للخليفة أن الوزير يوالي هولاكوخان، ويتبادل معه الجواسيس، ثم أحدث الفتنة في بغداد، ولم تهدأ الفتنة حتى أعلن الخليفة ثقته في الدواتدار، وصار اسمه يذكر في الخطبة بعد اسم الخليفة.
وقد ذكر تلك الرواية أيضًا ابن الفوطي الحنبلي البغدادي في "الحوادث الجامعة"؛ حيث أورد حدوث وحشة بين الوزير والدويدار سنة 653هـ، بسبب ما نُسِب إلى الدويدار الصغير أنه يدبر في خلع الخليفة المستعصم والمبايعة لولده الكبير أبي العباس المشهور بأبي بكر. وكان ذلك سببًا لفتنة عظيمة بين عوام سوق المدرسة ومشرعة الصبّاغين، وقُتِل فيها خلق كثير وجُرِح عالم عظيم. وظل التوتر قائمًا حتى كتب الخليفة للدويدار عهد أمان سنة 654هـ. والخبر مفصَّل في "العسجد المسبوك"، ولكن ذُكِر في حوادث سنة 654هـ.
ولا يعنيني ترجيح أي من الروايتين رغم سذاجة الرواية الأولى، وإغفال مؤرخي الشام ذكر الرواية الثانية، فكل هذا لا يهم، فالسبب وراء الفتنة بين الحنابلة والشيعة سنوات 653هـ، 654هـ، 655هـ ليس هو القضية، فما أكثر فتنهم ببغداد، ولا تكاد تنقضي، وما أكثر ما احترق ونُهِب الكرخ. وأي قارئ للتاريخ العباسي يعلم ذلك يقينًا.
لكن ما يهمني هو التعليق على المبرر الذي ساقه الإمام الذهبي، وغير الذهبي من المؤرخين ممن يؤكدون خيانة ابن العلقمي، ولا زالوا يسردوه علينا عبر قرون، ويدرسونا إياه. وأقول: يبدو أن الذهبي، وأثناء كتابته مبرره العظيم قد انتبه إلى أن سيوف التتار لن تطال السُنة فقط، الذين من المفترض أن المؤامرة كانت عليهم وحدهم، بل ستطال الشيعة واليهود والنصارى، وفقًا لما عُرف عن التتار منذ ابتلى الله بهم بلاد الإسلام، فلم يميزوا بين أهل أي بلد دخلوه، وأعملوا السيوف في الناس في كل بلاد خُراسان بلا تمييز، ورغم أن الذهبي قد أدرك هذا إلا أنه لم يتراجع عن تصوره للحوادث ليدرك عدم معقوليته، وتعامى كذلك كثير ممن أرَّخ للحادثة عن ذكر أن الأذى قد طال الجميع بما فيهم الشيعة، لأن المطلوب إثبات أن شخصًا ضربه أخوه، ففتح باب القفص للأسد متصورًا أن الأسد سيميز بينه وبين أخيه، ويأكل أخاه، بينما لن يمسه هو أي مكروه! فهل أنتم تعقلون؟!
ولنتتبع الحوادث سويًا. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص356-357) "وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنُشاب من كل جانب، حتى أُصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتُضحكه، وكانت من جملة الحظايا، وكانت مولّدة تُسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة. فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرة الستائر على دار الخلافة، وكان قدوم هولاكوقان بجنوده كلها –وكانوا نحوًا من مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من سنة 656هـ، وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب أن هولاكوقان لمَّا كان أول بروزه من همذان متوجهًا إلى العراق، أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنيّة؛ ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم، فخذَّل الخليفة عن ذلك دُويداره الصغير أيبك وغيره، وقالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعث إليه بشيء يسير، فأرسل شيئًا من الهدايا، فاحتقرها هولاكوقان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دُويداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثهما إليه، ولا بالى به حتى أزِف قدومه، ووصل إلى بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف"أهـ.
وحتى هذا الجزء من الرواية رغم شدة اختصاره عند ابن كثير، فإننا لا نلمح فيه كبير اختلاف عما أورده مؤرخ المغول رشيد الدين الهمذاني مفصلًا، في كتابه "جامع التواريخ- تاريخ هولاكو"، وإن كان من المؤكد أن من سيقرأ للهمذاني ستتكون لديه صورة أخرى للحوادث، يذكر الهمذاني (م2 ج1، ص267: 268)، "بلغ هولاكوخان الدينور في التاسع  من ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة قاصدًا بغداد، ثم قفل راجعًا ومضى إلى همدان، في الثاني عشر من شهر رجب من تلك السنة. وفي العاشر من رمضان أرسل إلى الخليفة رسولًا يتهدده ويتوعده قائلًا: "لقد أرسلنا إليك رسلنا وقت فتح قلاع الملاحدة –يعني قلاع الخوارج الحشاشين النزاريين-، وطلبنا مددًا من الجند، ولكنك أظهرت الطاعة ولم تبعث الجند. وكانت آية الطاعة والاتحاد أن تمدنا بالجيش عند مسيرنا إلى الطغاة؛ فلم ترسل إلينا الجند، والتمست العذر. ومهما تكن أسرتك عريقة، وبيتك ذا مجد تليد، لا بد أنه قد بلغ سمعك على لسان الخاص والعام، ما حل بالعالم والعالمين على يد الجيش المغولي، منذ عهد جنكيزخان إلى اليوم، والذل الذي حاق بأسر الخوارزمية والسلجوقية وملوك الديالمة والأتابكة وغيرهم، ممن كانوا ذوي عظمة وشوكة، وذلك بحول الله القديم الدائم، ولم يكن باب بغداد مغلقًا في وجه أية طائفة من تلك الطوائف، واتخذوا منها قاعدة ملك لهم، فكيف يُغلق في وجهنا رغم ما لنا من قدرة وسلطان؟ ولقد نصحناك من قبل. والآن نقول لك: احذر الحقد والخصام، ولا تضرب المخصف بقبضة يدك، ولا تلطخ الشمس بالوحل فتتعب. ومع هذا فقد مضى ما مضى؛ فإذا أطاع الخليفة فليهدم الحصون، ويردم الخنادق، ويسلم البلاد لابنه، ويحضر لمقابلتنا، وإذا لم يُرد الحضور، فليرسل كلًا من الوزير وسليمان شاه والدواتدار؛ ليبلغوه رسالتنا دون زيادة أو نقص، فإذا استجاب لأمرنا فلن يكون من واجبنا أن نُكن له الحقد، وسنبقي له على دولته وجيشه ورعيته. أما إذا لم يُصغ إلى النُصح، وآثر الخلاف والجدال، فليعبئ الجند، وليعين ساحة القتال؛ فإننا متأهبون لمحاربته، وواقفون له على استعداد. وحينما أقود الجيش إلى بغداد، مندفعًا بسورة الغضب، فإنك لو كنت مختفيًا في السماء أو في الأرض، فسوف أنزلك من الفلك الدوار، وسأُلقيك من عليائك إلى أسفل كالأسد، ولن أدع حيًا في مملكتك، وسأجعل مدينتك وإقليمك وأراضيك طُعمة للنار. فإذا أردت أن تحفظ رأسك وأسرتك؛ فاستمع لنُصحي بمسمع العقل والذكاء، وإلا فسأرى كيف تكون إرادة الله"أهـ.
ويحكي الهمذاني أنه بعدما بلغ الرسل بغداد، وبلَّغوا الرسالة، أوفد الخليفة شرف الدين ابن الجوزي –حفيد الإمام أبو الفرج ابن الجوزي- وكان رجلًا فصيحًا ومعه بدر الدين محمود وزنكي التخجواني بصحبة الرسل لتبليغ رده إلى هولاكو، وروى الهمذاني رسالة الخليفة التي كان مضمونها اعتداد بالنفس مع عدم مبالاة بتهديد هولاكو بالحرب، وتساءل الخليفة في رسالته "إذا كنت مثلي تزرع بذور المحبة، فما شأنك بخنادق رعيتي وحصونهم؟"، وهو تساؤل من الخليفة له وجاهته، ويحمل ضمنيًا تشككه في نوايا هولاكو. وذكر الهمذاني أن الخليفة بعث الرسل مع بعض التحف والهدايا، كما روى الهمذاني (ص270) ما فعله الحنابلة بالرُسل، قال: "وحينما خرج الرُسل من المدينة، وجدوا الصحراء كلها ممتلئة بالرعاع، فأطلقوا ألسنتهم بسبْ الرُسل، وبادروهم بالسفاهة، وأخذوا يمزقون ثيابهم، ويبصقون في وجوههم؛ لعلهم يقولون شيئًا يتخذونه ذريعة لإيذائهم والاعتداء عليهم. فلمَّا أخبروا الوزير بذلك، أرسل على الفور بعض الغلمان فأبعدوهم"أهـ. وقد غضب هولاكوخان من رسالة الخليفة، وأرسل له يتوعده بالحرب.
أما عما اُتخذ من تدبيرات. يقول الهمذاني (ص271: 272) "وبعد أن وصل الرسل بغداد، بلَّغوا رسالة ذلك الملك الفاتح –هولاكو- إلى الوزير –ابن العلقمي-، فعرضها برمتها على الخليفة، فقال: ماذا نرى لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟ فأجاب الوزير: ينبغي أن ندفعه ببذل المال؛ لأن الخزائن والدفائن تُجمع لوقاية عزة العرض وسلامة النفس، فيجب إعداد ألف حمل من نفائس الأموال، وألفًا من نجائب الإبل، وألفًا من الجياد العربية المجهزة بالآلات والمعدات، وينبغي إرسال التحف والهدايا في صحبة الرسل الكُفاة الدُهاة، مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو، وجعل الخطبة والسكة باسمه، فأُعجب الخليفة برأي الوزير، وأشار بإنجاز ذلك. ولكن مجاهد الدين أيبك المعروف بالدواتدار الصغير –بسبب الوحشة التي كانت بينه وبين الوزير- أرسل إلى الخليفة رسالة بالاتفاق مع الأمراء الآخرين، يقولون: "إن الوزير دبر هذه الحيلة لمصلحته الخاصة، لكي يتقرب زلفى إلى هولاكو، ويُلقي بنا نحن الجنود في البلاء والمحنة. ولكننا سوف نرقب مفارق الطرق، ونُلقي القبض على الرسل، ونأخذ ما معهم من أموال، وندعهم في العذاب والعناء". فعدل الخليفة بسبب هذا الكلام عن إرسال الأحمال، وبدافع من التهور والغرور أرسل إلى الوزير من يقول: "لا تخش القضاء المقبل، ولا تقل خرافة؛ فإن بيني وبين هولاكوخان، وأخيه منكوقاآن صداقة وألفة، لا عداوة وقطيعة. وحيث إنني صديق لهما؛ فلا بد أنهما أيضًا يكونان صديقين ومواليين لي، وإن رسالة الرسل غير صحيحة. أما إذا أضمر الأخوان لي خلافًا وغدرًا، فلا ضير على الأسرة العباسية؛ إذ أن ملوك الأرض هم بمثابة الجنود لي، وهم منقادون ومطيعون لأمري ونهيي، فأدعوهم من كل قُطر وأسير لدفعهما...........""أهـ.
وتكاد تكون الحوادث نفسها عند ابن الفوطي وابن العبري، بشكل أقل تفصيلًا، لكن ابن العبري كانت له إضافة وجيهة، وهي أن الخليفة إنما رفض تسيير جيش لمساندة هولاكو في القضاء على الإسماعيلية الحشاشين، لأن أمراءه اعتقدوا أنها خديعة من هولاكو لإخلاء بغداد من الجنود. يقول ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص471-472): "وفي شوال سنة 655هـ، رحل هولاكو عن حدود همذان نحو مدينة بغداد. وكان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة –الإسماعيلية النزاريين- قد سيّر رسولًا إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة، فأراد أن يُسيّر ولم يقدر، ولم يمكّنه الوزراء والأمراء، وقالوا: إنّ هولاكو رجل صاحب احتيال وخديعة وليس محتاجًا إلى نجدتنا، وإنّما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال، فيملكها بسهولة، فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. ولمّا فتح هولاكو تلك القلاع، أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة، وعاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا الوزير فيما يجب أن يفعلوه، فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبّار ببذل الأموال والهدايا والتحف له ولخواصه. وعندما أخذوا في تجهيز ما يسيّرونه من الجواهر، والمرصّعات، والثياب، والذهب والفضة، والمماليك والجواري، والخيل والبغال والجمال، قال الدويدار الصغير وأصحابه: إنّ الوزير إنّما يدبّر شأن نفسه مع التاتار، وهو يروم تسليمنا إليهم، فلا نمكّنه من ذلك. فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة، واقتصر على شيء نزر لا قدر له، فغضب هولاكو، وقال: لا بدّ من مجيئه هو بنفسه، أو يسيّر أحد ثلاثة نفر: إمّا الوزير، وإمّا الدويدار، وإمّا سليمانشاه. فتقدّم الخليفة إليهم بالمضيّ، فلم يركنوا إلى قوله، فسيّر غيرهم، مثل: ابن الجوزي، وابن محيي الدين، فلم يجديا عنه"أهـ.
وجاءت رواية ابن الطقطقا للحوادث، على اختصارها، موافقة لرواية الهمذاني وابن العبري، يقول (ص335): "وما زالت غفلة الخليفة تنمى، ويقظة الجانب الآخر تتضاعف، حتى وصل العسكر السلطاني إلى همذان، وأقام بها مديدة. ثم تواترت الرُسل السلطانية إلى الديوان المستعصمي، فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزي، فبُعِث رسولًا إلى خدمة الدركاه السلطانية بهمذان. فلمَّا وصل وسُمِع جوابه عُلِم أنه جواب مغالطة ومدافعة، فحينئذ وقع الشروع في قصد بغداد وبث العساكر إليها......"أهـ. ثم شرع ابن الطقطقا يصف دخول العساكر بغداد، ونلاحظ حذر الكاتب من المغول في اختياره لعباراته، كونه معاصر لهم.
يقول ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص445-446) عن المستعصم بالله "كان إذا نُبه على ما ينبغي أن يفعله في أمر التاتار، إما المداراة والدخول في طاعتهم، وتوخي مرضاتهم، أو تجييش العساكر وملتقاهم بتخوم خراسان قبل تمكنهم واستيلائهم على العراق، فكان يقول: أنا بغداد تكفيني، ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضًا يهجمون عليّ وأنا بها، وهي بيتي ودار مقامي. فهذه الخيالات الفاسدة وأمثالها عدلت به عن الصواب، فأُصيب بمكاره لم تخطر بباله"أهـ.
وحكى عنه ابن الطقطقا اللا مبالاة نفسها. يقول في "الفخري" (ص334) "وفي أواخر أيامه –أي المستعصم- قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرّك ذلك منه عزمًا، ولا نبّه منه همّة، ولا أحدث عنده هَمًّا، وكان كُلّما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيء، ظهر من الخليفة نقيضه من التفرط والإهمال، ولم يكن يتصوّر حقيقة الحال في ذلك، ولا يعرف هذه الدولة، يسّر الله إحسانها وأعلى شأنها، حقّ المعرفة. وكان وزيره مؤيّد الدين ابن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويُكاتبه بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقّظ والاحتياط والاستعداد، وهو لا يزداد إلاّ غفولاً، وكان خواصّه يوهمونه أنّه ليس في هذا كبير خطر، ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنّما يعظّم هذا لينفق سوقه، ولتبرز إليه الأموال ليجنّد بها العساكر فيقتطع منها لنفسه"أهـ. وفي الجزء الأخير رد عمّن كان يمنع الأموال، ويمنع تجنيد العساكر، وهو ما اتهموا به الوزير بعد وقوع النكبة!
ويذكر ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص473) أول واقعة حدثت بعد المراسلات الأولى بين الخليفة وهولاكو، وكانت بين الدويدار الصغير ومقدمة من جيش التتار قبل بغداد، انهزم فيها التتار أولًا، ثم التقاهم بعض أتباعهم، وهجموا جميعًا على عسكر الدويدار فهزموهم، ونجا هو في نفر قليل من أصحابه، ودخل بغداد. وهي تدل على رغبة الدويدار في القتال، مثلما كان حال سليمانشاه، وعدم تخاذله عنه، وهو ما يبرر طلب هولاكو لهما. وقد ذكر الواقعة ابن الطقطقا أيضًا (ص335-336).
والآن لنناقش الاتهامات التي أُلصِقت بابن العلقمي، والتي كان أولها أنه هو من كاتب هولاكو يُطمعه في بغداد! ذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص263) عن ابن العلقمي "وتحيل في مكاتبة التتار، وتهوين أمر العراق عليهم، وتحريضهم على أخذها، ووصل من تحيُّله في المكاتبة إليهم أنه حلق رأس شخص، وكتب عليه بالسواد، وعمل على ذلك دواء، صار المكتوب فيه كل حرف كالحفرة في الرأس، ثم تركه عنده حتى طلع شعره، وأرسله إليهم، وكان مما كتبه على رأسه إذا قرأتم الكتاب فاقطعوه، فوصل إليهم، فحلقوا رأسه، وقرأوا ما كتبه، ثم قطعوا رأس الرسول. وكتب الوزير إلى نائب الخليفة بإربل، وهو تاج الدين محمد بن صلايا، وهو أيضًا شيعي، رسالة يقول فيها: نُهب الكرخ المكرم والعترة العلوية، وحسن التمثيل بقول الشاعر –وذكر شعرًا-، وقد عزموا، لا أتم الله عزمهم، ولا أنفذ أمرهم على نهب الحِلَّة والنيل، بل سوَّلت لهم أنفسهم أمرًا فصبر جميل، والخادم قد أسلف الإنذار وعجل لهم الإعذار"أهـ.
وأقول: السُبكي الصغير، وإن كان فقيهًا جليلًا، إلا أنه لا علم له بالتواريخ، ولا يعرف التحقيق فيما يسمع من حكايا، ولا يقتصر الأمر على حكاوى النكبة؛ فالقصة مكذوبة، والكذب يفضح صاحبه، وقصة حلق رأس الرسول والكتابة عليها، ثم الانتظار حتى تُنبت وتخفي ما تحتها، أحسب أني سمعتها في حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن الأهم أنها غير قابلة للتنفيذ، حتى لو تنزَّلنا على رأيهم وسلَّمنا بخيانة ابن العلقمي، كونها تستلزم وقتًا، والأمور قد تطورت سريعًا، وفي بضعة شهور، حتى انتهت بدخول هولاكو بغداد، كما لا حاجة لابن العلقمي لها، وهو الوزير، وكان يمكن أن يذهب إلى هولاكو عندما طلب أحد الثلاثة الوزير أو الدويدار أو سليمان شاه، أو يبعث برسالة شفهية إلى هولاكو، والأدهى أنه كان من الشعر المدعى في هذه القصة الملفقة التي تفوح منها رائحة أهل الشام ذلك البيت الذي نسبوا إلى ابن العلقمي التمثيل به (فقلت من التعجب ليت شعرى*** أيقظان أمية أم نيام)!! فالوزير الأديب الشيعي، وهو يرسل رسالته السرية تلك المزعومة إلى زميله الحاكم الشيعي الآخر، لم يجد بيت شعر يتمثل به سوى بيت شعر يأتي على ذكر بني أمية! وسبحانه العليّ القدير قد فضح خبر تلك الرسالة السرية فوصل خبرها إلى مؤرخي الشام، ممن نقل عنهم السُبكي تلك القصص، بينما لم يسمعوا بمكاتبات الخليفة وهولاكو العلنية فلم يوردوها! والأعجب أن ابن صلايا كان ممن قتلهم هولاكو من الأعيان، وقيل أن بدر الدين لؤلؤ هو من غمز فيه وتسبب في قتله.
وأبسط رد على هذا التهوك أن التتار قد حاموا حول بغداد كثيرًا، قبل تلك السنة التعيسة بعقود، ومنذ عهد المستنصر والد المستعصم، فلم يكونوا بحاجة إلى من يستدعيهم. فاقتربوا كثيرًا من بغداد سنة 618هـ، حتى قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص106) "اقتربوا من بغداد، فانزعج الخليفة من ذلك، وحصَّن بغداد، واستخدم الأجناد، وقنت الناس في الصلوات والأوراد". ثم في سنة 628هـ، ذكر ابن كثير (ص183) "قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر، فعاثوا بالفساد يمينًا وشمالًا، فقتلوا ونهبوا وسبوا، على عادتهم، خذلهم الله تعالى"أهـ. ثم كانت هناك هجمات صغيرة للتتار على بلاد العراق قبل سقوطها بسنوات زمن المستعصم، مثل هجمات سنة 633هـ وسنة 634هـ، وسنة 635هـ حين حاصروا إربل، وفتحوها عنوة، وقتلوا أهلها، وسبوا ذراريها، ودخلوا في أعمال بغداد، وكان ذلك في دولة المستنصر بالله، وقبل خلافة المستعصم بالله، فلم يكن ابن العلقمي قد ولي الوزارة.
وذكر ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" في حوادث سنة 635هـ (ص96) " في صفر، وصلت الأخبار إلى أهل إربل، أن عساكر المغول عادوا إلى قصدهم في جمع كثير، فانتزح من كان بها وبالقلعة أيضًا، فلمّا رأى زعيمها الأمير شمس الدين باتكين خلو البلد، أمر بخروج العسكر المقيم هناك إلى ظاهر البلد ثم الاستعداد للحراسة، فعدلوا حينئذ عن إربل وقصدوا دقوق، وانبثوا في أعمال بغداد وعاثوا بها أشد العيث، فوصل الخبر إلى بغداد، فخرج شرف الدين إقبال الشرابي –رئيس الجند- مبرزًا إلى ظاهر البلد، وأمر خطيب جامع القصر أبا طالب بن المهتدي بأن يحرض في خطبته على الجهاد ففعل ذلك، فبكى الناس لما سمعوا كلامه، وأجابوا بالسمع والطاعة، وقدم أهل السواد من دقوق وغيرها إلى بغداد، معتصمين بها، وتضاعفت أجرة المساكن، وانزعج الناس لذلك، وتتابع خروج الأمراء والعساكر إلى ظاهر البلد، وركب الخليفة المستنصر بالله إلى الكشك، فنزل به، وظهر للأمراء، وأمرهم المشورة، فقال كل واحد ما عنده، وسهل الأمير جمال الدين قشتمر الأمر في لقائهم، وعيّن الشرابي على جماعة من الأمراء لقصدهم، فتوجهوا إلى القليعة ونزلوا بها، فبلغهم أن المغول في جمع كثير وهم بالقرب من الجبل، فساروا نحوهم، فلمّا قاربوهم تعبوا ميمنة وميسرة وقلبًا، فلمّا شاهدت عساكر المغول ذلك ولّوا راجعين، فتبعهم جماعة من العسكر فقتلوا منهم جمعًا كثيرًا وأسروا منهم جماعة، وغنموا من دوابهم وأثقالهم"أهـ. ثم عاد التتار في السنة نفسها -635هـ- في رجب، وأعادوا المحاولة. يقول ابن الفوطي (ص97) "ثم وصل الخبر في شهر رجب المبارك أن عساكر المغول قد سارت نحو بغداد، فتقدم إلى الأمراء بالخروج إلى ظاهر البلد، فخرج الأمير جمال الدين بكلك الناصري، والأمير جمال الدين قشتمر وغيرهما من الأمراء، وخيموا ظاهر البلد، وكاتب الخليفة ملوك الأطراف يستنجدهم ويعرفهم الحال،..........." وكانت وقعة كبيرة، انهزم فيها المسلمون وغنم منهم التتار ورجعوا عن بغداد، فلم يدخلوها.
وبسبب تلك الوقعة الكبيرة سنة 635هـ، وما تلاها من مراسلات مع المغول، والاستعداد لهم، والخوف من مفاجأتهم، انقطع الحج من العراق آخر خمس سنوات من حكم الخليفة المستنصر بالله، وتحديدًا في السنوات (635هـ- 636هـ- 637هـ- 638هـ- 639هـ)، وعاد الحج زمن المستعصم بالله، حتى أن والدة الخليفة خرجت للحج سنة 641هـ. ثم ذكر ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" خبر انقطاع الحج مرة ثانية سنة 642هـ، وكان من ضمن الأسباب، اشتغال الديوان بحركة عساكر المغول. كما انقطع الحج سنة 644ه، وسنة 647هـ، وسنة 648ه.
        ويذكر ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص446) "في سنة اثنتين وأربعين –يعني وستمائة- أغار التاتار على بلد بغداد، ولم يتمكنوا من منازلتها"أهـ. وذكر ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" (ص158) في حوادث السنة نفسها أخبار وصول رسول من المغول إلى بغداد، ثم يذكر (ص162) وصول المغول إلى بغداد وعودهم في المحرم من سنة 643هـ بعد أن جرت بين عساكر الفريقين حرب ساعة من نهار. وذكر (ص188) أنه في سنة 647هـ وصل الخبر إلى بغداد باقتراب المغول وقتلهم للناس ونهبهم لأموالهم، فاستعد سكان بغداد، ولم يهدأوا إلا عندما أخبرتهم الطلائع أن المغول عادوا. وفي (ص200) ذكر ابن الفوطي أمر صلح بين الخليفة وسلطان المغول تم على يد أحد كبار التجار ببغداد، فقال إن هذا التاجر عز الدين مقلد بن الخردازي "سافر إلى خراسان، واتصل بملوك المغول، وتحدث مع السلطان كيل خان في الصلح مع الخليفة، وقدم بغداد مع رسول السلطان، ثم عاد ومعه الهدايا والتحف". وفي سنة 650هـ، قتل عساكر المغول وأسروا ونهبوا في بلاد العراق، وحاموا حول بغداد، ثم عادوا. فما كانت بغداد بالنسبة للتتار إلا قضية مؤجلة.
كما أورد الهمذاني في "جامع التواريخ" في قصة توجه هولاكو إلى همدان بعد فتحه قلاع الإسماعيلية، وقبل نكبة بغداد، وتحديدًا في ربيع الأول سنة 655هـ، أمر توبيخ هولاكو لأحد قادته (ص260) قائلًا له: "إنك لم تفعل شيئًا سوى أنك رحت تخوف القوات المغولية، بالمبالغة فيما عليه الخليفة من قوة وعظمة"، وأن قائده قد اعتذر له بأنه لم يستطع أن يُخضِع بغداد بسبب "كثرة سكانها ووفرة جيوشها، وكثرة ما فيها من الأسلحة ومزيد الأبهة، وبسبب الطرق الضيقة الصعبة التي يجب سلوكها قبل الوصول إليها"أهـ. وهو حوار يؤكد أن نية هولاكو كانت منعقدة على الاستيلاء على بغداد.
ومن التهم التي ألصقوها أيضًا بابن العلقمي، ما ذكره السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص269)؛ ذلك أنه بعد أن وصف هولاكو وإذلاله للملوك، وما فعله مع الإسماعيليين النزاريين في بلاد فارس، قال: "والخليفة غافل عما يُراد به. ثم تواترت الأخبار بوصول هولاكو إلى أذربيجان بقصد العراق، وكاتب صاحب الموصل لؤلؤ الخليفة، يستنهضه في الباطن، وما وسعه إلا مداراة هولاكو في الظاهر، وأرسل الخليفة نجم الدين البادرائي رسولًا إلى الملك الناصر صاحب دمشق، يأمره بمصالحة الملك المعز وأن يتفقا على حرب التتار، فامتثلا أمر الخليفة. وفيما بين ذلك تأتي الكتب إلى الخليفة فإن وصلت ابتداء إلى الوزير لم يوصلها إليه وإن وصلت إلى الخليفة أطلع الوزير فيثبطه ويغشه حين يستنصحه"أهـ. وليس مفهومًا أي مكاتبات تلك التي أخفاها الوزير عن الخليفة. فإن كان السُبكي يقصد المكاتبات بين الخليفة وهولاكو، فهذا كذب، لأنه من الثابت أن الخليفة استقبل رسل هولاكو، وبعث معهم بهدايا يسيرة، وبعث بثلاثة فيهم ابن الجوزي ليبلغ رسالته لهولاكو، وإن كان السبكي يقصد أن الوزير أخفى مكاتبات للخليفة من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، العجوز الداهية، الذي لعب على كل الحبال في حياته، ونجا من هولاكو بدهائه، وقل من نجا، فكان أولى بالوزير أن يخفي أمر هدايا لؤلؤ عن الخليفة عن أن يخفي أمر رسائل تدعوه للتنبه لهولاكو، وما قيمة هذه الرسائل حتى تُخفى؟! وهل خفي أمر هولاكو عن الخليفة، وعن ابنه أبي بكر، وعن الدويدار، وسليمان شاه، فاحتاج من يُعلِمه؟!
فهل طلب ابن العلقمي لقاء هولاكو، ليكيد للخليفة، ويغري به الحمل الوديع هولاكو كما ادّعوا؟! يذكر ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص473-474) أنه "لمّا نزل هولاكو بغداد في منتصف المحرم سنة 656هـ، وبنى سورين حول المدينة، وحفروا خندقًا عميقًا، ونصبوا منجنيقات بإزاء سور بغداد، ورتبوا الآلات. وكان بدء القتال ثاني وعشرين محرم. فلمَّا عاين الخليفة العجز في نفسه والخُذلان من أصحابه، أرسل صاحب ديوانه وابن درنوش إلى خدمة هولاكو، ومعهم تحف نزرة. قالوا: إن سيَّرنا الكثير يقول: قد هلعوا وجزعوا كثيرًا. فقال هولاكو: لِمَ ما جاء الدويدار وسليمانشاه؟ فسيَّر الخليفة الوزير العلقمي، وقال: أنت طلبت أحد الثلاثة، وها أنا قد سيَّرت إليك الوزير وهو أكبرهم. فأجاب هولاكو: إنني لمَّا كنت مقيمًا بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة، والآن لم أقنع بواحد"أهـ. فوفقًا لهذه الرواية، فإن لقاء ابن العلقمي مع هولاكو كان بأمر الخليفة، وبدفع منه، عندما لم ينصاع الدويدار وسليمان شاه لأمره، فلم يذهبا لمقابلة هولاكو.
وتتفق تلك الرواية جزئيًا مع رواية ابن الطقطقا في "الفخري" (ص338). يقول: " حدّثني كمال الدين أحمد بن الضحّاك، وهو ابن أخت الوزير مؤيّد الدين ابن العلقمي، قال: لمّا نزل السلطان هولاكو على بغداد أرسل يطلب أن يخرج الوزير إليه، قال: فبعث الخليفة، فطلب الوزير، فحضر عنده وأنا معه، فقال له الخليفة: قد أنفذ السلطان يطلبك، وينبغي أن تخرج إليه. فجزع الوزير من ذلك، وقال: يا مولانا، إذا خرجت فمن يدبّر البلد؟ ومن يتولّى المهام؟ فقال له الخليفة: لا بدّ أن تخرج. قال: فقال السمع والطاعة"أهـ. فالخليفة أخبر الوزير بأن هولاكو يطلبه ليخرج إليه، ولم يُعلمه أن طلبه له قديم، ولا أن هولاكو طلب الدويدار وسليمانشاه أن يخرجا، فلم يمتثلا لأمره.
بينما يدعي ابن كثير أن ابن العلقمي هو من سعى للخروج لمقابلة هولاكو للكيد للخليفة، بسبب حنقه على احتراق الكرخ، فاحتال على الخليفة ليخرج له بادعاء المصالحة على نصف خراج العراق، ثم أن ابن العلقمي ومن معه من الشيعة حرَّضوا هولاكو على قتل الخليفة! يقول ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص358) "ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج في أهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكوقان، لعنه الله تعالى، ثم عاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوقان حُجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنزل الباقون من مراكبهم ونُهبت، وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحضِر الخليفة بين يدي هولاكو، فسأله عن أشياء كثيرة،...... وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة، لعنة الله عليهم، وغيرهم من المنافقين على هولاكوقان أن لا يُصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك، وحسّـنوا له قتل الخليفة، فلمَّا عاد الخليفة إلى السلطان هولاكوقان –وكان قد ذهب إلى القصر- أمر بقتله، ويُقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والنصير الطوسي"أهـ.
وهو اتهام مشابه لما ذكره السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص270)، قال: "وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي، ثم إنه ضرب سورًا على عسكره، وأحاط ببغداد. فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم، وقال: أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح، فخرج وتوثق لنفسه من التتار، ورد إلى المستعصم، وقال: إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته، ولا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية، وينصرف عنك بجيوشه، فمولانا أمير المؤمنين يفعل هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد، والرأي أن تخرج إليه. فخرج أمير المؤمنين بنفسه في طوائف من الأعيان إلى باب الطاغية هولاكو، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأنزل الخليفة في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد، فضربوا أعناقهم، وصار كذلك يخرج طائفة بعد طائفة فتضرب أعناقهم، ثم طلب حاشية الخليفة فضرب أعناق الجميع، ثم طلب أولاده فضرب أعناقهم"أهـ.
وربما كانت الحقيقة تركيبة من كل ما ذُكر، وهي على الأرجح ما ذكره ابن الفوطي الحنبلي البغدادي -وهو المؤرخ الوحيد الذي كان شاهد عيان على الحوادث- في "الحوادث الجامعة" (ص233) فيقول: "فلما كان اليوم الرابع عشر من المحرم خرج الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي إلى خدمة السلطان هولاكو في جماعة من مماليكه وأتباعه، وكانوا ينهون الناس عن الرمي بالنشاب ويقولون: "سوف يقع الصلح إن شاء الله، فلا تحاربوا". هذا وعساكر المغول يبالغون في الرمي. وعاد الوزير إلى بغداد يوم الأحد سابع عشر المحرم، وقال للخليفة: "وقد تقدم السلطان هولاكو أن تخرج إليه، فأخرج ولده الأوسط أبا الفضل عبد الرحمن في الحال، فلم يقع الاقتناع به، فخرج الخليفة والوزير ثامن عشر المحرم، ومعه جمع كثير، فلمّا صاروا ظاهر السور، منعوا أصحابه من الوصول معه، وأفردوا له خيمة، وأُسكِن بها". فابن الفوطي يشهد أن الوزير قد خرج، وهذا ليس محل خلاف، ولا يعرف أي خلفية عما دعاه للخروج، ثم يشهد أنه أبلغ الخليفة بطلب السلطان له، فخرج الخليفة بعد تمنع، فلا خراج ولا زواج.
ومن أسفٍ أن يجد هذا الكلام الساذج عن إغراء ابن العلقمي هولاكو بقتل الخليفة من يردده، فهل كان الخليفة لينجو أصلًا، حتى يحتاج هولاكو من يُحرِّضه عليه؟ وهل هولاكو الذي قتل كل من أمَّنهم من الملوك بعد أن ملك بلادهم، كان سيترك من رفض الإذعان له؟! وهو الخليفة صاحب الشرعية والبيعة في عنق المسلمين؟! إن من يقرأ عما فعله هولاكو عند قتال الحشاشين النزاريين قبل أن ينكب بغداد، سيرى المزيج ذاته من التهديد والترغيب في رسائل هولاكو، وسيرى أنه بعد أن أمَّن خورشاه آخر ملوك الإسماعيلية النزارية، وخلع عليه الخُلع، ووهبه فتاة مغولية ليتزوجها، وبعد أن تيسر له فتح حصونهم، عاد فتخلص من خورشاه وقتله، وقتل أقاربه وأفراد أسرته من النساء والرجال وحتى الأطفال في المهد. وأعاد السيناريو نفسه مع القائد حسام الدين عكه، نائب الخليفة على درتنك، والذي قتله هولاكو هو وأهل بيته، رغم أنه قد خرَّب كل القلاع التي كانت تحت يديه بأمر هولاكو، وكذا فعل مع أهالي إحدى قلاع الشام بعد نكبة بغداد. إنه هولاكو قائد المغول المحتال الذي لم يكن له عهد.
وهناك كلمة عظيمة المعنى ذكرها ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص475)، يبدو أن مؤرخينا المهووسين بفكرة أن الخليفة كان يمكن أن ينجو لولا الخيانة والتحريض عليه، لم يفطنوا إليها. يحكي ابن العبري ما حدث بين خروج الخليفة من قصره ببغداد في رابع صفر، وبين مقتله بعدها بعشرة أيام. يقول: "ودخل هولاكو بنفسه إلى بغداد؛ ليشاهد دار الخليفة، وتقدم بإحضار الخليفة فأحضروه، ومثل بين يديه وقدم جواهر نفيسة ولآليء ودررًا معبأة في أطباق، ففرَّق هولاكو جميعها على الأمراء، وعند المساء خرج إلى منزله، وأمر الخليفة أن يُفرِز جميع النساء التي باشرهن هو وبنوه ويعزلهن عن غيرهن ففعل، فكن سبعمائة امرأة، فأخرجهن ومعهن ثلاثمائة خادم خصيّ"أهـ. وأقول: إن أمر هولاكو بفرز النساء لا يمكن أن يهدف إلا لقتل كل من يمكن أن تحمل في بطنها من ينازع ويطلب الخلافة، لكن بينما هولاكو لا يتعفف عن قتل النساء المحتمل أن يكن حوامل، يظن بعض الحمقى منا أن الخليفة نفسه كان يمكن أن ينجو!
تأكيدًا على كلامي. ذكر ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" (ص262) في حوادث سنوات ما بعد النكبة، وتحديدًا سنة 670هـ، "فيها وصل خواجة شرف الدين هارون ابن الصاحب شمس الدين محمد بن الجويني، صاحب ديوان الممالك، وسأل من الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني صاحب الديوان، عمه، تزويجه بابنة أبي العباس أحمد ابن الخليفة المستعصم، فاشترطت والدتها –وهي زوجة الصاحب علاء الدين- قبل العقد عليه أن لا يشرب الخمر، وأجاب إلى ذلك"أهـ. وفي هذا تأكيد على أن ابن الخليفة المستعصم الأكبر، أبي العباس أحمد، المعروف بين عامة بغداد بأبي بكر، قد بقيت زوجته وابنته الصغيرة على قيد الحياة، علمًا بأن المغول لا يترفعون عن قتل النساء، وهذه الزوجة هي ذات العصمة شمس الضحى شاه لبنى بنت عبد الخالق بن ملكشاه بن أيوب الأيوبية، التي بنت ببغداد المدرسة المعروفة بالعصمتية سنة 671هـ، والتي توفيت سنة 678هـ، وتوفيت ابنتها رابعة حفيدة الخليفة سنة 685هـ. أما عن سبب نجاة تلك الزوجة، فهو أنها قد ولدت مولودتها رابعة في العيد الكبير سنة 655هـ، وكانت نفساء وقت النكبة، فتأكد المغول من براءة رحمها، ولمّا كان المولود بنتًا، تركوهما. وهذا دال على أن هدف هولاكو من السؤال عن الجواري اللاتي يباشرهن الخليفة وأبنائه هو استبراء الرحم، وقتل أي واحدة منهن يُظن فيها الحمل.
وإن أضفنا إلى ما سبق أن أحد أبناء عم هولاكو كان قد أسلم، وهو بركة خان، وصارت بينه وبين الخليفة مراسلات، سنعلم أي خطر كان يمثله المستعصم على هولاكو. وقد حارب بركة هذا مع المماليك ضد التتار الملاحدة بقيادة هولاكو ومن تلاه في القيادة بعد وفاته.
أما عن اتهام ابن العلقمي بأنه كان يُخِرج الفقهاء ليُقتلوا، فاتهام باطل نفاه كمال الدين ابن الفوطي الحنبلي البغدادي، قال ابن الفوطي في "مجمع الآداب في معجم الألقاب" في ترجمة القاضي فخر الدين أبي بكر عبد الله بن عبد الجليل بن عبد الرحمن الطهراني الرازي (رقم2140): "وهو ممّن كان يُخرج الفقهاء إلى باب السُّور، إلى مخيّم السلطان هولاكو، مع شهاب الدين الزنجاني ليُقتلُوا، وتوفي في رجب سنة سبع وستين وستمائة، ودفن بالخيزرانية"أهـ. أما شهاب الدين الزنجاني فقد كانت سيرته عند الذهبي مليئة بتقلبات الدهر، وذُكِر اسمه ضمن الذين قُتِلوا صبرًا في نكبة بغداد، ونقلها عنه السبكي في "طبقات الشافعية"، كما جاءت سيرته في قصة ابن العبري عن قتل الخليفة، التي سنذكرها توًا، على أنه كان واحدًا ممن طلب الأمان لعامة بغداد، والله أعلم بحاله. لكن ابن الفوطي –وهو شاهد عيان كما أسلفنا- لم يذكر ابن العلقمي، وهو ما يعنينا الآن.
ويذكر ابن العبري قصة مختلفة عن قتل الخليفة، في "تاريخ مختصر الدول" (ص474)، أنه لمَّا اشتد القتال "أمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار وسليمانشاه، وأمّا الخليفة إن اختار الخروج فليخرج وإلاّ فليلزم مكانه. فخرج الدويدار وسليمانشاه ومعهما جماعة من الأكابر، ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنّه يرجع ويمنع المقاتلين الكامنين بالدروب والأزقّة لئلا يقتلوا أحدًا من المغول، فرجع وخرج من الغد وقُتِل. وعامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي وشهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. ولمّا رأى الخليفة أن لا بدّ من الخروج، أراد أو لم يرد، استأذن هولاكو بأن يحضر بين يديه، فأذن له، وخرج رابع صفر ومعه أولاده وأهله"، وبعدها شرع هولاكو في نهب بغداد ودار الخلافة، "وفي رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد، وفي أول مرحلة قُتِل الخليفة المستعصم، وابنه الأوسط مع ستة نفر من الخِصيان بالليل، وقُتِل ابنه الكبير ومعه جماعة من الخواص على باب كلواذ، وفوَّض عمارة بغداد إلى صاحب الديوان والوزير وابن درنوش"أهـ.
ومما رواه الهمذاني مؤرخ المغول، في كتابه "جامع التواريخ- تاريخ هولاكو" (م2 ج1، ص293) أنه "في يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، عندما اُستُدعي الخليفة، وأدرك أن أمارات النحس تبدو على مصيره، وخاف خوفًا شديدًا، وقال للوزير: ما حيلتنا؟، فأجاب الوزير: لحيتنا طويلة. وكان مراده من ذلك أنه عندما فكَّر أول الأمر في أن تُرسل أحمال وفيرة لدفع هذا البلاء، قال الدواتدار: لحية الوزير طويلة، وحال دون الأخذ بهذا الرأي، واستمع الخليفة لكلامه، وأهمل تدبير الوزير"أهـ.
وروايتا ابن العبري والهمذاني تناقضا رواية السُبكي وابن كثير جملة وتفصيلًا، ولا أثر فيهما لتحريض وقع من ابن العلقمي، والمنطق يقول إن هولاكو ليس بحاجة لتحريض، ولا لتمثيلية زواج أو تمثيلية مفاوضة على خراج، لإحضار الخليفة وأعيان بغداد. وحقًا وصدقًا كلما قرأت ما كتبه المؤرخون العرب عن نكبة بغداد أترحم على عمدة المؤرخين ابن الأثير الجزري، فكم افتقدنا قلمه وصدقه وتحقيقه في حادثة كهذه.
وهنا نأتي إلى نقطة هامة فارقة، اعتمد عليها مؤرخو الشام غير المعاصرين للنكبة لتأكيد اتهام ابن العلقمي بالخيانة، وهي اتهامه بأنه هو من صرف الجند. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص360): "وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط أسهمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فيهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق إلا عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وذلك كله طمعًا منه أن يُزيل السُنة بالكلية، وأن يُظهر البدعة الرافضية، وأن يُقيم خليفة من الفاطميين، وأن يُبيد العلماء والمفتين"أهـ. وأقول: ربما لم يبلغ ابن كثير أن خلافة الفاطميين كانت قد سقطت قبل النكبة بنحو قرن من الزمان، وقُتِلوا من عند آخرهم، بل وفني من خلفهم من سلاطين الأيوبيين، وصار الحكم للمماليك!
ويصف ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص358) حال جند بغداد عند وصول هولاكو، قائلًا: "جنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم صُرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء القصائد يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي"أهـ!
بينما من المعلوم والثابت أن المستعصم قد بويع بالخلافة لمّا توفي أبوه بعد الصلاة من يوم الجمعة عاشر جُمادى الآخرة من سنة 640هـ، والمصادر التاريخية، وأهمها ما أورده ابن الفوطي الحنبلي البغدادي، تذكر طلب الجند من قائدهم شرف الدين إقبال الشرابي المستنصري، للزيادة في رواتبهم، في شعبان من السنة نفسها، وتم رفض طلبهم، في حين لم يستوزر المستعصم الوزير ابن العلقمي إلا سنة 642هـ، ولم يكن هولاكو قد شرع في حملته التي قصد بها قلاع الإسماعيلية النزاريين، ومن بعدها بغداد وما حولها، ولم تكن الفتنة التي افتعلها الدويدار بين السُنة والشيعة سنة 655هـ قد حدثت، والتي ادعوا أنها كانت سبب خيانة ابن العلقمي، وأنه هو من عمل على تقليل الجند ومكاتبة هولاكو بسببها.
وينقل د.مصطفى جواد في مقاله عن قضية ابن العلقمي، في مجلة "الرسالة" سنة 1935 "وأمر هولاكو بإجاعة المستعصم، فلما اشتد عليه الجوع، أمر أن يقدموا له جملة من الجواهر والحلي والأعلاق النفيسة في أواني الذهب والفضة التي أخذها من دار خلافته، فاستغرب الأمر وقال: "قد علمتم أن هذا ليس مما يُؤكل ولا يُغني من جوع". فأرسل إليه هولاكو "لِم لم تُجند به الجنود، ولم تدفع به عن نفسك، فات ساعة ندم؟"أهـ. كذلك جاء في "الفخري" (ص363) ما يؤكد توبيخ هولاكو للخليفة، قال: "وأمر السلطان بخروج الخليفة وولده ونسائه إليه، فخرجوا. فحضر الخليفة بين يدي الدركاه، فيُقال: إنه عوتب ووُبخ بما معناه نسبة العجز والتفريط والغفول إليه"أهـ.
والآن نأتي لما حكاه ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" عما يثبت أن تقليل الجند وعطاءاتهم حدث بعد استخلاف المستعصم بشهور، وبإشراف من قائدهم الشرابي. ذكر (ص135) أنه "في شعبان سنة 640هـ، حضر جماعة من المماليك الظاهرية والمستنصرية عند شرف الدين إقبال الشرابي –رئيس الجند- للسلام عليه على عادتهم، وطلبوا الزيادة في معايشهم، وبالغوا في القول، وألحّوا في الطلب، فحرّد عليهم وقال: "ما نزيدكم بمجرد قولكم، بل نزيد منكم من نريد، إذا أظهر خدمة يستحق بها"، فنفروا وخرجوا على فورهم إلى ظاهر السور وتحالفوا على الاتفاق والتعاضد. فوقع التعيين على قبض جماعة من أشرارهم، فقُبِض منهم اثنان وامتنع الباقون"، ثم يحكي ابن الفوطي عن اعتصامهم قائلين: "نريد أن يخرج أصحابنا ونزاد معايشنا"، لكن الشرابي أصر على موقفه وقال: "إن المحبوسين ما نُخرجهم، وهم مماليكنا، نعمل بهم ما نريد، ومعايشكم ما نزيدها، فمن رضي بذلك يقعد، ومن لم يرض وأراد الخروج من البلد فنحن لا نمنعه"، ولم ينته اعتصامهم هذا الأول إلا بعد سبعة أيام، ولم يُسفر عن زيادة معايشهم. ثم ذكر (ص202) في حوادث سنة 650هـ "وفيها، فارق كثير من الجند بغداد لانقطاع أرزاقهم ولحقوا ببلاد الشام". وقال في حوادث سنة 655هـ (ص229): "وكان الخليفة قد أهمل حال الجند، ومنعهم أرزاقهم، وأسقط أكثرهم من دساتير ديوان العرض، فآلت أحوالهم إلى سؤال الناس، وبذل وجوههم في الطلب بالأسواق والجوامع. ونظم الشعراء في ذلك الأشعار، ومنهم المجد النشابي"أهـ.
وأقول: صدق ابن عباس رضي الله عنه إذ قال: "إذا خفي عليكم شيء فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب". فالخليفة هو الذي قلَّل عطاءات الجند، أما من الذي حاول أن يعيد ترتيب الجيوش قبل قدوم التتار، فقد قرأت يومًا أن ابن أبي الحديد الشاعر المعتزلي قد كتب قصيدة يمدح فيها ابن العلقمي عندما حاول إعادة ترتيب الجند –كما سنرى-؛ لذا ليس من العجيب أنه رغم اختفاء تلك القصيدة بشكل غير مفهوم، كأن لم تكن، فإن ابن أبي الحديد كثيرًا ما يُشنَّع عليه عند ذكر النكبة، وكأنه كان من الحاشية أو ربما قائد الجند، وليس أكثر من شاعر، والأدهى أن تاريخ موته مختُلِف فيه، وقيل أنه مات في السنة التي سبقت النكبة!
ومما رواه ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" (ص230) "ذكر بعض أصحاب الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، أنه سمعه يُنشد من شعره:
كيف يُرجى الصلاح من أمر قوم *** ضيّعوا الحزم فيه أي ضياع
فمُطاع الكلام غير سديد *** وسديد المقال غير مطاع
ووفقًا لرواية الهمذاني، فإنه بعد أن عدل الخليفة عن إرسال الهدايا لهولاكو، فلم يسمع لنصح الوزير، وأظهر اللامبالاة، حاول ابن العلقمي إعادة ترتيب الجند ما استطاع، ولكن الخليفة بخل بالمال اللازم، وكان كلام الأمراء الذي نقله الهمذاني يطعن في الخليفة باعتباره هو من يُمسك يده عن الجنود، مما تسبب في قلة الجيش، ثم هو فوق ذلك يمنع المال والتتار على الأبواب. يقول الهمذاني (ص273- 274): "فاضطرب الوزير لهذا الكلام –أي لكلام الخليفة اللامبالي-، وأيقن أن دولة العباسيين سوف تزول. وإذا كان إدبار هذه الدولة سيكون في عهده، فإنه طفق يتلوى كالثعبان، ويفكر في كل تدبير، وقد اجتمع عند الوزير أمراء بغداد وعظماؤها، وأطلقوا ألسنتهم بقدح الخليفة وطعنه قائلين إنه صديق المطربين والمساخرة، وعدو الجيوش والجنود. وإننا أمراء الجيش، بعنا كل ما ادخرناه في عهد والده"أهـ. ثم أن الخليفة بلغه أن سليمان شاه يرغب في القتال، فأعجبه الرأي، وقال للوزير أن يُنفذه، وأمر بعرض الجند، ولكن الخليفة وبعد أن صار عدد الجند وفيرًا وصاروا جيشًا جرارًا اعتذر عن أن يمنح المال! كما ذكر الهمذاني أن الدواتدار خصم الوزير هو من أشاع أن الوزير متفق مع هولاكوخان. وأنه استعان في نشر الإشاعات بأتباعه من سفلة المدينة، ويبدو أن الهمذاني يعني الحنابلة لأنهم كانوا أتباع الدواتدار وفقًا لرواية الذهبي، والذين افتعلوا الفتنة مع الشيعة سنة 655هـ.  ثم أرسل الخليفة هدية صغيرة ثانية إلى هولاكو، ومعها رسالة تحذير من مصير كل من يفكر أن يطمع في بغداد، وأن هولاكو اشتد غضبه بسبب هذه الرسالة، ورد على الخليفة بشعر يؤكد أن الحرب قادمة لا محالة، ونهاية الخليفة على يديه محققة، وقد كان، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وقد فصَّل الهمذاني في ذكر الفظائع التي حدثت في صفحات مطولَّات.
وقد اتفق المؤرخون على وقوع مذابح ببغداد عندما وطأها المغول، وإن اختلفت رواياتهم حولها. وفقًا لرواية ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص360) "فلمَّا قدم هولاكوقان، وتهيب من قتل الخليفة، هون عليه الوزيران ذلك، فقتلوه رفسًا وهو في جُوالق، وقيل: بل خُنِق. ويقال: بل غُرِّق. ومالوا على البلد، فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون،.......ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم، وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالًا جزيلة حتى سلِموا وسلِمت أموالهم. وعادت بغداد بعد أن كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة"أهـ.
فهل نجا أهل الذمة كما ذكر ابن كثير؟ وقد كانت زوجة هولاكو المقربة نصرانية، وقد اُدعيّ أنها هي من حرَّضته على مذابحه ضد المسلمين. ذكر بعض المؤرخين كابن الفوطي أن هولاكو قد أمر بحراسة بيوت النصارى ببغداد وقت النكبة، فنجوا ونجا من التجأ إليهم من المسلمين، كما فتح المتهم بالخيانة الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي داره لكل من طلب أن يُستأمن فيها، وكذلك أُمِّنت دار ابن الدامغاني صاحب الديوان، ودار ابن الدوامي حاجب باب النوبي، ودور بعض كبار التجار. لكن هل ابن العلقمي يعنيه نجاة أهل الذمة أم المسلمين، وبالأخصّ الشيعة، ليكون له صلة بنجاتهم؟ وفقًا لرواية ابن كثير، فهو لا يُنكر أن الشيعة قد أُعمِلت فيهم سيوف التتار، فنُكِبوا كما نُكِب السُنة. فكيف لم يتوقف أحد من مروجيّ نظرية خيانة ابن العلقمي عند قتل الشيعة في بغداد؟؟!! وظلوا يكررون المبرر نفسه ببلاهة، أن ابن العلقمي دعا هولاكو إلى بغداد انتقامًا للشيعة، ورغبة في نشر مذهب الشيعة، ورغبة في استخلاف شيعي، وفي النهاية قُتِل الشيعة، عندما فُتح القفص للأسد!! أما ابن العبري فيذكر في "تاريخ مختصر الدول" (ص474) "أمر هولاكو أن يكتبوا على السهام بالعربية: إن الأركاونية والعلويين والداذنشمدية، وبالجملة كل من لم يُقاتِل فهو آمن على نفسه وحريمه وأمواله. وكانوا يرمونها إلى المدينة"أهـ. والأركاونية كلمة يونانية تشير إلى أتباع أركون ومعناه الدهقان العظيم، وغالبًا يقصد بهم المسيحيين.
ومما يُدلل به مروجو خيانة ابن العلقمي هو نجاته من الذبح، فهل نجاة ابن العلقمي دليل على خيانته؟ وهل قائد محنك مثل هولاكو يمكن أن يثق في وزير قد خان مولاه؟ وهل يعتقد عاقل بهذا؟! وقد رد ابن الطقطقا في "الفخري" (ص338) على هذا الاتهام، قال: "ونسبه الناس –أي ابن العلقمي- إلى أنّه خامر، وليس ذلك بصحيح. ومن أقوى الأدلّة على عدم مخامرته: سلامته في هذه الدولة؛ فإنّ السلطان هولاكو لمّا فتح بغداد وقتل الخليفة سلّم البلد إلى الوزير، وأحسن إليه وحكّمه، فلو كان قد خامر على الخليفة لَما وقع الوثوق إليه"أهـ. وأقول: والأمثلة في المقابل على قتل هولاكو لكل خائن تعاون معه كثيرة، فهولاكو كان يقتل إضافة إلى الملوك والأمراء صنفين من الناس؛ الخونة والمتكبرين عليه.
ويتفق مع ابن الطقطقا، د.مصطفى جواد في مقاله عن قضية ابن العلقمي، في مجلة "الرسالة" سنة 1935، يقول: "ولو كان ابن العلقمي قد خان المستعصم، ومالأ هولاكو عليه، لخشي هولاكو غدره، وخاف خيانته، ولم يوله الوزارة الإقليمية، فإنه لما رحل عن بغداد عائدًا إلى بلاده فوَّض أمرها إلى الأمير علي بهادر، وجعله شحنة بها، وإلى الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، وصاحب الديوان فخر الدين ابن الدامغاني، ونجم الدين أحمد بن عمران الباجسري، ونجم الدين عبد الغني بن الدرنوس، وشرف الدين العلوي المعروف بالطويل، فتوفى ابن العلقمي بعد فتح بغداد بثلاثة أشهر، وذلك في مستهل جمادى الآخرة، فأمر هولاكو أن يكون ابنه عز الدين أبو الفضل وزيرًا بعده. ولقائل أن يقول: إن الخيانة أنالته الوزارة الإقليمية فنقول له: قد قيل هذا، وزُعم أن هولاكو قتله لخيانته، وقال له: "إنا لا نأمنك وقد خنت خليفتك"، ولقد كان هولاكو حذرًا من الخونة، مسارعًا إلى سفك الدماء، فهو إن لم يكن حرّيًا أن يقتله -على ظن خيانته- فإنه يطرحه ويستذله، فلا يوليه من ملكه شيئًا، وأن مؤرخًا يبتدع قتل هولاكو لابن العلقمي لسهلٌ عليه أن يُخوَّنه ويُفجرَّه ويسند إليه ما يشاء، ولكن الحق غير ذلك"أهـ.
وأقول: أي خليفة هذا الذي ترقص بين يديه الجواري وعاصمة ملكه محاصرة، بل ودار ‏الخلافة محاصرة؟! وقد وصفه ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص366) ‏بأنه "كان فيه لين ‏وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه".‏ ويكاد يكون ثابتًا لدى جميع المؤرخين في وصفه أنه محب للمال والطرب واللهو. أما عدم التيقظ فالأصح تسميته عدم عقل. وقد نتفق أو نختلف على صحة تصرفات الخليفة من حيث عدم إمداده هولاكو بالجند لمقاتلة الحشاشين، أو رده على رسالة التهديد من هولاكو، وغيرها من التصرفات، وقد يرى كثيرون –وأنا منهم- أن الخليفة كان محقًا في هذه الأفعال؛ فكيف يأمن الخليفة أن يهدم التحصينات ويردم الخنادق مثلما طلب هولاكو؟ بل وحتى لو نزل خليفة المسلمين –وهو من هو- على طاعته مثلما فعل ملك  النزاريين -وأي مذلة في هذا- فربما كان هولاكو ليغدر بالخليفة بعد أن يؤمِّنه حتى لو استمع الخليفة لنصيحة ابن العلقمي بالتلطف معه وإهدائه الهدايا الثمينة. وربما كانت النصيحة الأوفق، والتي نصحه بها ابن العلقمي ولم يأخذ بها هي الأخرى، والتي كانت ستكتب له إن مات أن يموت بشرف، هي النصيحة بتجييش الجند، والاستعداد للقتال، ثم القتال بشرف، بدلًا من أن يُضطر للاستسلام المهين، ثم يُسلِّم نفسه للقتل. وينبغي مع ذلك الإقرار بأن الخليفة كان يفتقد إلى الكياسة وحصافة الرأي اللازمين لمحاولة تجاوز أمثال هذه المواقف الصِعاب، وأن ابن العلقمي إن كان بالإمكان تدارك الأمر قد نصح للخليفة، وإن كان ليس بالإمكان دفع البلاء، وكان واقعًا لا محالة، فليس له ناقة ولا جمل.
ما يجب علينا كسُنة الاعتراف به، أنه وفقًا لرواية الهمذاني المفصلة للحوادث –وقد رويت جزءًا منها والشرح يطول-، وهو من أرخّ تفصيليًا لتاريخ المغول؛ والتي تدعمها روايات ابن الطقطقا وابن العبري وابن الفوطي وغيرهم، فاتهام ابن العلقمي وتحميله وزر سقوط بغداد هو من المغالطات التاريخية التي أظن أنه لا يحملنا عليها كسُنة إلا التعصب. وقد بحثت في سيرة ابن العلقمي قبل الوزارة فوجدت أنه كان أستاذ دار الخلافة، وكان المتولي لعمارة المدرسة المستنصرية التي وُقفت لتدريس المذاهب السُنية الأربعة، وأشرف على عمارتها كأعظم ما يكون الإشراف، حتى وُصفت بأنه لم تُبن مدرسة قبلها مثلها.
وقد يدعي بعضهم –وأعني السلفية- أن الهمذاني مؤرخ المغول، على الأخصّ، قد تعمد تبرئة ابن العلقمي، ولم يكن منصفًا فيما كتبه، وأقول أما فيما يخص تعمد تبرئته لابن العلقمي، فلا مبرر له، ولم يُعرف عن الهمذاني محاباة الشيعة، بل كان هو من تآمر على نقيب الأشراف ببغداد تاج الدين أبو الفضل محمد، وسعى في قتله، وذُبِح معه ابناه، والقصة مذكورة في مقدمة تحقيق كتابه (م2 ج1، ص31: 33). وقد شهد لكتابه المستشرقون المحققون (ص95) له بأن "هذا الكتاب القدير قد جمع بين التوفيق في تحري الصدق وموهبة الملاحظة"أهـ. ويضيف المحقق (ص96) "في وسع العرب والفرس والمغول أن يجدوا في مؤلف رشيد الدين منبعًا فياضًا لأقوم الوثائق، وإننا أيضًا نستطيع أن نغترف منه طائفة كبيرة من المعلومات لا نجدها في سواه"أهـ. وأقول: إن ما كتبه الهمذاني تتضح فيه الموضوعية، وكثير منه لو وضع أمام عينيه إرضاء سلاطين المغول ما كتبه، بل كان ليكتب عكسه، فليس مما يُرضي هولاكو إظهار رسل الخليفة متبجحين عليه غير مبالين بهيبته، كما أنه أورد تفاصيل دقيقة كعادة المؤرخين مع الحوادث الجِسام، فأورد وقائعًا وأثبت روايات، وأثبت أسماء، وما دار في المراسلات، وتاريخ كل حدث، وتعمد عدم التعليق برأيه في أغلب المواضع، بل ترك القارئ ليتبين حقيقة ما يحدث، وكل تلك التفاصيل التي ذكرها فأسرف فيها الهمذاني غابت مثيلاتها عند من أرَّخوا لنكبة بغداد ممن روجوا الاتهامات بالخيانة لابن العلقمي من باب الرجم بالغيب، لأنه الشيعي الوحيد الذي كان في بلاط الخليفة.
وبما أن التفاصيل التي سبقت النكبة قد بلغتنا عن طريق الهمذاني وغيره، والتفاصيل التي حدثت في بغداد أثناء النكبة قد بلغتنا عن طريق ابن الفوطي، وهو شاهد عين، وغير متهم بالانحياز لابن العلقمي، كونه حنبليًا، فينبغي أن نكف عن اتهام ابن العلقمي لمجرد أن خبرًا قد طيَّره بعض من نجا من النكبة بأنه شُوهد يركب حمارًا بعد النكبة، وهذا ليس شاهدًا على شيء سوى أن المغول قد احتقروه، وليس له شأن عندهم، ومثله في هذا مثل كل العرب، فلم ير مؤرخونا في الخبر سوى دليل على خيانته، وأنه مات همًا وكمدًا بعدها، فإن كان قد مات كمدًا فلا يلزم منه كونه خائنًا متآمرًا، وإن كان قد مات بالطاعون فلم يكن وحيد عصره، ولا دليل على خيانته إلا أوهامنا وتعصبنا.
لكن أيضًا، هناك في رواية الهمذاني وابن الفوطي للحوادث التي صاحبت وتلت سقوط بغداد ما يشير إلى مهادنة واستسلام تامين من الشيعة للتتار في المدن المحيطة ببغداد، وهي إشارات لا ينبغي إهمالها؛ فأهل الحِلَّة التمسوا من هولاكو أن يعين لهم شحنة، ثم استقبلوا جند المغول لمَّا اقتربوا من المدينة، بأن أقاموا جسرًا على الفرات، وأقاموا الأفراح ابتهاجًا بقدومهم، حتى أن التتار قد تجاوزوا المدينة اطمئنانًا لأهلها، وكان الخليفة المستنجد العباسي قد أمر بإهلاك بني أسد، أهل الحلة، فقُتِل منهم أربعة آلاف قتيل، قبل نكبة بغداد بقرن. وكذلك طلب أهل الكوفة شحنة، وبذلوا الأموال لهولاكو. كما التمس أحد الأمراء إرسال جند إلى النجف لحفظ المشهد المنسوب لسيدنا علي بن أبي طالب. وأقول: قد يكون هذا خوفًا من أهل تلك المدن على حياتهم من أن يلقوا مصير أهل بغداد، لكن هذه التصرفات ربما كانت سببًا في التشنيع الذي طال الشيعة بعد ذلك من قِبَل السُنة بأنهم تآمروا مع التتار لإسقاط خلافة بني العباس.
فهل عرفنا بعد كل هذه القرون، من هو المسئول عن فتح قفص الأسد؟!