الثلاثاء، 5 يوليو 2016

30-المصريون بين ضياع الوسطية واستقطاب الهوية "قراءة نفسية في تحول اتجاهات المصريين الفكرية"

30-المصريون بين ضياع الوسطية واستقطاب الهوية
"قراءة نفسية في تحول اتجاهات المصريين الفكرية"
د/منى زيتون
الأحد 3 ‏يناير2016‏، الأحد 10 ‏يناير2016‏

لم يشهد التاريخ فترة انقسم فيها المصريون على أنفسهم مثلما يحدث لهم في السنوات الأخيرة، فقد اُحتلت مصر من قبل كثيرًا، ولكنها لم تُقسم لا جغرافيًا ولا فكريًا. لم يفلح أحد يومًا في تقسيمها جغرافيًا؛ لأنه كلما ‏طال الزمن الذي اتحد فيه أهل ‏البلد تحت مظلة واحدة، ذابوا في بعضهم البعض وأصبحوا ‏كيانًا واحدًا، يتزوجون من بعضهم، وينتقلون للعمل في أي بقعة من بقاعه. والاتحاد ‏بين مدن مصر تم منذ آلاف السنين، ‏كانت كافية لذوبانهم في الكيان الواحد، فتلاشت أي نزعات ‏انفصالية يمكن أن تقوم لأي سبب جغرافي، لا سيما أن حكام مصر القدماء كانوا من أهلها، وتبادلت عواصم الدولة في تلك الحقبة بين مدن الشمال والجنوب.
لذا دام تركيز المتآمرين على مصر لسنوات بعيدة على البحث عن مبررات لتقسيمها فكريًا، فاستُخدم الدين ليكون سببًا في إحداث الفرقة التي ينشدونها بين أفراد المجتمع المصري، ويبدو أنه لما لم يبلغوا مرادهم في تفتيت اللحمة الوطنية، وتفريق المسلمين والمسيحيين على أساس الاختلاف في الدين، تقرر تغيير ذاك المخطط القديم، فصرنا نسمع نعرات عجيبة لم نعتدها في سابق السنين، أسهمت وأفلحت في تقسيم المصريين فكريًا، وصاروا أكثر شيء جدلًا، فهناك قسم منهم ضاعت وسطيتهم وتم استقطابهم كليًا نحو أحلام عودة الخلافة والذوبان في العروبة حتى ما عادت كلمة "مصر" تعني لهم شيئًا، وقسم في المقابل ضاقوا من العرب ومن القسم الأول من المصريين، ويزعمون عدم انتمائهم إلى العروبة.
بدأت النغمات المفرقة الجديدة منذ سنوات بنغمة طائفية وشحن عجيب ضد الشيعة، وكأن الشيعة طائفة كبيرة في مصر! بينما أعدادهم لا تتجاوز بضعة آلاف قليلة ولهم مسجد واحد يتيم في مدينة الألف مئذنة، كما انتشرت بين المصريين أفكار غلاة الشيعة على أنها اعتقادات عموم الشيعة، وأدى هذا الحقن الطائفي لتوهم كثير من ضعاف العقول المتشددين تشيع المعتدلين من المصريين رافضي التمذهب والتطرف، واختفى تدين المصريين السهل البسيط كانبساط أرضهم، وضاعت وسطية قسم كبير من المصريين الذين كانوا في سابق السنين سنييَ المذهب عاشقين لآل البيت دون غلو، واُستقطب هذا القسم نحو نوع من التشدد الديني السني غريب عنا لم نعرف مثله في تاريخنا، ثم سعوا إ‏لى نشر أفكار مذهبهم على أنها التدين الحقيقي، وماعداه مخالف لجوهر الإسلام.
لكن المشكلة لا تكمن في محاولة إقناع هؤلاء للبسطاء بشكليات هذا المذهب كعدم الاحتفال بالمولد النبوي على سبيل المثال، فمثل هذا الأمر ينافي فطرة العوام تمامًا. المشكلة الأكبر تكمن في حقنهم للعوام بجرعات تكفيرية لكل من خالفهم دينيًا، فهذا ما يسقط فيه العوام، وقل منهم من يستطيع رده بفطرته، لأن المتدين يكره الكافر بالفطرة ويراه جاحدًا.
ونظرًا لعدم وجود أعداد كبيرة من الشيعة في مصر فقد كان بديهيًا أن يتم تفريغ ذلك الشحن الطائفي خارج مصر لعدم وجود متنفس له داخلها، فانضم كثير ممن فقد وسطيته من الشباب المصري إلى داعش إضافة لبعض الجماعات التكفيرية المسماة بالجهادية في سيناء، وربما يومًا ما في تالي الدهر لو زادت أعداد الشيعة في مصر لجنينا ثمرة هذا الشحن في مدننا وقرانا.
نوع آخر من استقطاب الهوية ونغمة أخرى أصبح يرن صداها كثيرًا؛ وهي تلك النغمة النشاز التي تحمل في طياتها الاعتقاد بالنقاء العرقي، ويكثر من ترديدها غالبًا بعض مسيحييَ مصر في السنوات الأخيرة، وتدعي أن المسيحيين المصريين هم فقط القبط، بينما المسلمين المصريين عرب!
ولو نظرنا للأمر ككونه مصطلحًا فلا بأس في ذلك. جاء في "المعجم الوسيط": "القِبْطُ: كلمة يونانية الأصل، بمعنى سكان مصر، ويقصد بهم اليوم المسيحيون من المصريين، وجمعها: أقباط". كما أنه مما لا يُختلف عليه بين المتدينين أن القبط الأوائل الذين عمروا مصر وأهل السودان والأمازيغ كانوا من نسل حام بن نوح، بينما العرب وبني إسرائيل والروم والفرس من نسل سام بن نوح، والأتراك والسلاجقة واليونان من نسل يافث بن نوح.
لكن الأمر ليس مجرد مصطلح، بل هناك ما هو أبعد من المصطلح ويترتب عليه. يكاد من يردد هذا أن يعتبر المسلمين محتلين لمصر! أو على الأقل أن مسلمي اليوم ناقصو مواطنة بإزاء المسيحيين! ويتناسى هؤلاء أن نسبة كبيرة من أهل مصر قد دخلت في الإسلام طواعية، وليس مسلمي مصر من العرب فقط كما يرددون.
ثم بافتراض أن جميع المسلمين بالفعل جاءوا من نسل عرب الجزيرة الذين هاجروا إلى مصر، فهل كل المسيحيين المصريين حقًا من نسل القبط الأوائل؟ وكم جيل يلزم لاكتساب الجنسية من وجهة نظر هؤلاء؟ لقد نسي أصحاب دعوة "المسيحيون هم القبط" أو تناسوا أنه في بعض دول العالم خاصة في أمريكا اللاتينية يمكن للمهاجر الحديث الحاصل على الجنسية أن يترشح لرئاسة الدولة، بينما لا يعترف هؤلاء بأكثر من ألف عام للحصول على الجنسية، ولا يرونها كافية للانتماء لأرض مصر.
ولكن تلك النغمة العرقية النشاز لا خوف حقيقي منها؛ إ‏ذ تتردد على استحياء لأن المسيحيين المصريين العقلاء يدركون تأثيرها على اللحمة الوطنية، وهم من يشهد لهم التاريخ أنهم ما كانوا قط شوكة في حلق بلدهم، فلم يخونوا أو يقفوا في صف أي محتل، فكيف ينشرون أفكارًا ذات نزعات انفصالية حتى لو كان بعضهم بالفعل مقتنعين بها؟
المشكلة الأكبر أن تلك النغمة العرقية قد أثارت إعجاب البعض من مسلمي مصر، أو لنقل القسم المقابل من المصريين الذي تعني له مصريته الكثير، فأخذوا يرددونها لكن بصيغة أخرى بغرض فصل المصريين عن العرب كقومية، ولسان حالهم يقول بأننا كمصريين –مسلمين ومسيحيين- قبط ولسنا عربًا، وصدق من قال إن لكل شعب عاداته كما أن لكل شعب نقاط ضعفه التي قد يؤخذ منها، فالشوام –على سبيل المثال- ليست لديهم نفس النعرة القومية المنفصلة عن العروبة التي أصبحت موجودة لدى قسم كبير من المصريين، بل يفتخرون بعروبتهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، وكان كثيرون منهم يدينون بالمسيحية قبل الإسلام، وبقيوا على دينهم بعد دخول الإسلام إلى بلادهم. وعليه، فالتآمر عليهم لا يركز على الأساس العرقي بل الطائفي إلا فيما يخص الأكراد.
وقطعًا لا يخفى ما تحمله تلك الرؤية الأخيرة "نحن قبط ولسنا عربًا" من نزعة عنصرية دونية للعرق العربي، خاصة مع ظهور الدواعش، وتعالي وتيرة الإلحاد، وانتشار الأفكار المتفذلكة حول الإسلام ممن لا يحسن أن يقرأ العربية.
ولعل مما ساعد أيضًا على انتشار تلك الدعاوى بين قسم من المصريين هي النظرة للعرب على أنهم قومية كسولة لا أثر حضاري لها، متناسين قرون الحضارة الإسلامية وسنوات مجدها، ومتناسين أيضًا أن عرب الجزيرة اليوم ليسوا هم عرب الأمس. التاريخ يحدثنا كيف أنه بعد الفتوحات الإسلامية لبلاد مصر والشام والعراق والمغرب العربي قد هاجر لتلك البلدان تحديدًا أغلب سكان جزيرة العرب حتى لم يبق في الجزيرة سوى القليل من أشراف العرب ممن جاوروا الحرمين وسكنوا المدن الكبيرة، إضافة إلى الأعراب في الصحراء، واختلط المهاجرون العرب بالمصريين والشوام والعراقيين والمغاربة، والتحموا بهم، وانصهرت جيناتهم معهم في العصور الوسطى.
وفي العصر الحديث، ومع ظهور خيرات البترول في جزيرة العرب، أصبحت مأملًا لكثيرين للعيش فيها، وليس فقط أعراب الصحراء الذين تخلفوا عن الرحيل عنها قديمًا لألفتهم بها. صحيح أن أحفاد هؤلاء الأعراب الباقين في جزيرة العرب لديهم نعرة عنصرية بغيضة حفظت لهم انفصال هويتهم، لكونها قللت من تزاوجهم مع الوافدين ومنعت تجنيس أغلب هؤلاء، لكن يظل النقاء العرقي غير ممكن إدعاؤه؛ لأنه يضاد ناموس الله في الكون، فانتقلت الجينات للأجيال الجديدة عن طريق الأمهات من الشعوب المجاورة الوافدة عليهم.
وعودة إلى المصريين، فنقول إن القبط قبل الإسلام بالفعل لم يكونوا يعتبرون عربًا، ومما يدلل على هذا أحاديث فتح مصر، والتي كانت فيها الوصية بقبط مصر، كون أن لهم ذمة ورحمًا يصلهم بالعرب، فهم أخوالهم وليسوا منهم.
كما اتضح من الدراسات العلمية الحديثة التي استندت على تحليل الحمض النووي DNA أن نسبة كبيرة من المصريين في الصعيد عمومًا –مسلمين ومسيحيين- لا زالوا يحتفظون بالصفات الجينية لسلالة المصريين القدماء، بينما تكون النسبة أقل كثيرًا في سكان دلتا مصر. أي أنه يوجد استمرار جيني لسلالة المصريين القدماء، كما أنه من المفهوم أن تظهر تلك السلالة في الصعيد أكثر، لأن سكان الدلتا كانوا أكثر اندماجًا مع سكان الثقافات الواردة إلى مصر من شتى بقاع الدنيا.
لكن هذا لا يمكن أن يدعم ادعاءات دعاة النقاء العرقي، والمطالبين بقومية مصرية منفصلة، ففي التاريخ المغرق في القدم حُكمت مصر من قبل المصريين غالبًا، وكان الفراعنة هو لقب لحكام مصر في عهد الأسرات المصرية التي حكمت مصر قبل أن يتناوشها ويتناوب عليها صنوف الاحتلال المختلفة من ليبيين ونوبة وفرس وبطالمة ورومان، ثم دخول العنصر العربي بكثافة مع دخول الإسلام وانتشاره، إضافة إلى الحملات الصليبية في العصور الوسطى، مما أحدث اختلاط جيني أثر في النقاء العرقي لسكان مصر الأصليين بدرجات تفاوتت ما بين الشمال والجنوب؛ ذلك أن المصريين لا يعرفون أساليب فصل المهاجرين التي تنجح فيها شعوب أخرى. نظرة مثلًا على حال المهاجرين –وليس اللاجئين- السوريين إلى مصر، وكيف اندمجوا في الشعب المصري وعاشوا بينهم، ومقارنة بسيطة بين هذا الاندماج للسوريين في مصر، وبين المخيمات التي تم فصلهم فيها في بلاد أخرى كفيلة بتوضيح الرؤية؛ لذا أرى أن الحديث عن النقاء العرقي لدولة اختلط سكانها بسائر شعوب العالم منذ القدم هو ضرب من ضروب الخرف. ومن أعجب ما يكون أن تجد شخصًا أبيض تغلب عليه جينات الساميين، ويدعي أنه قبطي قح!

ويبقى السؤال الأهم ما الذي يجعل بعض المصريين يدعون بالأصل ضياع هويتهم ويرغبون في استعادتها؟ أو لنقل يتصورون إمكانية استعادتها منفصلة؟
لا شك أن هذا يأتي كرد فعل تجاه القسم الأول من المصريين المهووسين بأحلام الخلافة، الناقمين على فكرة الدولة القطرية المستقلة، ولكنه أيضًا رد فعل تجاه العرب وبعض مما يرد منهم، فلو سألت أي من مرددي نغمة "نحن قبط لا عرب" عن سبب استيائه وشعوره بضياع هويته المصرية، لحدثك عن اختلاف ثقافة العرب الوافدة عن الثقافة المصرية، قاصدًا تحديدًا الثقافة التي يحملها المذهب الوهابي وتتفق معه، والتي تخالف بساطة ووسطية تدين المصريين، وهو كلام له وجاهته، ولكنه غالبًا لن يكتفي بذلك لإثبات وجهة نظره –خاصة إن كان من المسيحيين المصريين- بل سيعود بالزمن لأيام الفتح العربي الأولى معتبرًا أنه احتلال كسائر الاحتلالات التي تعرضت لها مصر، والذي سعى لإفقاد مصر هويتها، وأن من أهم معالم ضياع تلك الهوية أن المصريين ومنذ الفتح العربي –الاحتلال العربي كما قد يسميه- توقفوا رويدًا رويدًا عن استعمال اللغة القبطية التي داوموا على التحدث بها حتى وقت الاحتلال الروماني، ولكن ينسى هذا أو يتناسى أن العرب لم يمنعوا أي قومية أدخلوها في سلطانهم من استخدام لغتهم الأم، ففتح العرب بلاد فارس ودخل عموم أهلها في الإسلام، ولا زال الفرس يتكلمون الفارسية إلى يومنا هذا، وفتحوا تركيا ودخل أغلب أهلها في الإسلام، ولا زال الأتراك يتكلمون التركية، كما لا زال أهل النوبة يتحدثون النوبية، والأكراد يتحدثون الكردية، والأمازيغ البربر يتحدثون الأمازيغية، ومن ثم فإن كان المصريون قد كفوا عن استخدام اللغة القبطية، حتى وصل الأمر أن قل استخدامها في الكنائس المصرية، فليس للعرب ذنب في هذا حتى لو صح افتراضهم أن عدم استخدام لغة خاصة يعني انسلاخ المصريين من مصريتهم وضياع هويتهم.
ولكن في رأيي أن الضيق المعلن من قبل البعض من ضياع اللغة القبطية غير حقيقي، وهو مجرد محاولة للبحث عن أسباب واهية للتعمية على الأسباب الحقيقية التي سببت لهم الضيق من العروبة.
إن محاولة بحث المصري عن هويته المصرية والانسلاخ من العروبة هي رد فعل لكثير من التغيرات التي أشعرته أن بلده التي كانت سيدة العالم يومًا ما وحاضرة الدنيا تفقد قيمتها السياسية والدينية بعد أن فقدت قيمتها الاقتصادية منذ عقود.
ولعل أي متابع لأحوال المصريين يمكنه أن يلمس بسهولة أن كثيرًا منهم يشعرون بالضيق إزاء التغيرات السياسية الجارية في المنطقة، ومن محاولة بعض دول الخليج التي كانت دومًا أقل من مصر من حيث الوزن السياسي التسيد وجعل مصر تابع لها، وسواء كانت الدولة التي تحاول فرض هيمنتها دولة صغيرة لا تكاد تظهر على الخريطة تتآمر على بلدنا، أو دولة كبيرة تمارس هيمنتها باسم الصداقة! فالأمر مقرف لنا كمصريين أن نفقد استقلالنا السياسي ونتحول إلى تابعين.
منذ عقود فرضت الظروف الاقتصادية على المصريين الهجرة لكسب العيش في دول الخليج، كما غزانا مذهب ديني متشدد ساهم في ابتعاد المصريين عن وسطيتهم، لكنها بقيت تأثيرات على الأفراد، وظلت مصر محتفظة بوزنها وثقلها السياسي، ولكن التحولات السياسية الأخيرة في المنطقة أفقدت مصر الكثير من ذلك الثقل السياسي مما زاد سخط نسبة كبيرة من المصريين على الانتماء للعروبة.
ولكن هذا يبقى سببًا للحنق على بعض دول الخليج فقط، ولعل مما زاد ضيق ذلك القسم الكبير من المصريين، وإصرار كثيرين منهم على الدعوة إلى سلخ مصر من القومية العربية والانعزال عنها، أن العرب كأمة شعوب لا تراعي الخصوصية، وبيت أخي هو بيتي، ومن حقي أن أبدي رأيي في نظامه وأحاسبه على ما يفعله فيه! وكثير من العرب لا يوفرون كلمة للتعليق -خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي- على ترتيب البيت الداخلي المصري، وبما أنه لا يعجبهم فقد يصل الأمر إلى سب مصر والمصريين، مع عدم الوعي إطلاقًا بتأثير كلماتهم على بعض المصريين، والشرخ الذي تعمقه داخل فصيل منهم تجاه الانتماء للعروبة.
كمصرية، أفهم أننا كمصريين –ممن تعنينا المواطنة- قد اختنقنا في السنوات الأخيرة من كثير من العرب، وتثريبهم على مصر، ونكرانهم لتضحياتها من أجل قضايا العروبة، والتي أضعفتنا اقتصاديًا، وأضاعت أرواح الآلاف من شبابنا، لكن هذا لا يعني أن يفقد المصري هويته العربية تدريجيًا بسبب بعض ناكري الجميل ومن يحشرون أنوفهم، وقد يصل الحال بهم أن يسبوا بلدنا، ومهما كان مقدار غيظنا من تصرفات هؤلاء لا ينبغي أن نترك أنفسنا لمشاعرنا السلبية، ‏بل ينبغي أن نعي هويتنا، ونفهم أن انتماءنا للعروبة هو جزء من تلك الهوية، وأن مصر كشجرة لها جذور، ولكن فروعها طُعَمت من أشجار أخرى مما أكسبها نكهتها.‏
في كتاب "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" لدكتور جمال حمدان يوجد فصل هام بعنوان ‏‏"تعدد الأبعاد والجوانب"‏، وهو فصل قصير لا يستغرق وقتًا طويلًا في القراءة، ولكنه يضبط تفكير من يقرأه بخصوص حالة استقطاب الهوية التي يحاولون إيقاع ‏الشخصية المصرية فيها.‏
من لم يفهم كيف أن مصر آسيوية وأفريقية وعربية ونيلية ومتوسطية معًا لم يفهم كيف أثرت عبقرية المكان في هذا ‏الشعب، ولا من أين أتى تميزه.
يتحدث د.جمال في كتابه عن الشخصية المصرية ككل وسبب ثرائها الثقافي. لماذا يشعر من ‏يتعامل مع المصري البسيط أن لديه مخزونًا كبيرًا من الخبرات لا يمكن تفسيره إلا بأنه مكتسب من خلال البيئة؛ لأن ‏مثله لم يتعلم تعليمًا نظاميًا، كما أن نظامنا التعليمي ذاته أصبح ضحلًا، ولا يمكن أن يُدعى أنه يدعم الثقافة بأي حال من ‏الأحوال.
ما أراد د.جمال قوله هو أن الثقافة المصرية بقوتها امتصت كل التأثيرات الثقافية التي جاءتها من موقعها الجغرافي ‏العبقري كملتقى للقارات، والذي لم يكن طاردًا للبشر المسالمين العابرين من مكان لآخر عبر مصر، ومن ظروفها ‏التاريخية التي نشأت من الغزوات المتكررة من أعراق وأجناس مختلفة، ثم أفرزت مصر ما امتصته، لتكون ثقافة ‏عظيمة نشأت من تلاقح ثقافات كثيرة.
والشاهد أنه لو كانت مصر منغلقة على ثقافتها القديمة –كما يزعم مدعو النقاء العرقي- ما كانت هذه العظمة في شخصية المصري التي تظهرها التحديات، ومن ‏وجهة نظري فإن ذلك يفسر سبب تراجع ثقافة الشعب المصري ككل في العقود الأخيرة، وأعني الثقافة الفطرية وليست فقط ثقافة الكتب؛ فقد انغلق المصريون على أنفسهم بشكل لم يحدث مسبقًا في تاريخهم، حتى أن متابعاتهم الإعلامية أصبحت تقتصر ‏على القنوات المصرية، بينما باقي العرب يتابعون قنوات من كل البلاد العربية مما زاد ثراءهم الثقافي، وتراجع في ‏المقابل المخزون الثقافي المصري، لذا أرى أن دعاوى استقطاب الهوية والإصرار على مصرية مصر فقط ستؤثر ‏علينا ثقافيًا بشكل سلبي.
لم ينس الفرس أنهم فرس ولم يعتبروا أنفسهم عربًا رغم إسلامهم، وكذا الأكراد، وكذا الأتراك؛ فالدين عندهم منفصل عن القومية، ودخولهم في الإسلام لم يعنِ انسلاخهم من قوميتهم ولا الانسياح في قومية أكبر وترك لغتهم. لكن المصريين اندمجوا في القومية العربية بإرادتهم، وطعموا هويتهم بها كما سبق أن طعموها من ثقافات أخرى، وهذا هو سر مصر، كما أن التاريخ لا يعود إلى الوراء فكفى تهريجًا. إن نغمة أن المصريين قبط وليسوا عربًا ليست نغمة عاقلة، ولا تتفق مع التاريخ فضلًا عن اتفاقها مع المنطق.
العروبة هي جزء من هويتنا، ومحاولة بث فكرة فصلنا عنها هي فكرة خبيثة والأغراض السياسية التي تقف وراءها مفضوحة، وسُتلفظ مثلها مثل أفكار ومذاهب خبيثة أخرى، فكما لفظت مصر أي تطرف عقدي شيعي مما عمل على نشره الفاطميون، ستلفظ أي مذهب سني متشدد لأنه لا يتفق مع ‏بساطة أهلها، كما ستلفظ أي أفكار غريبة تسعى لتغيير انتماءاتها.‏ فلا وسطيتها ستضيع، ولا الهوية المصرية سينجحون في استقطابها، ولا أمل في أن ينجحوا في تقسيمها أو عزلها عن الأمة العربية. ستبقى دائمًا شوكة في حلق المتآمرين.

رابط أهم فصول كتاب "شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان" لدكتور جمال حمدان، والذي اختاره د.جمال ليترجمه إلى الإنجليزية
‏‏الفصل بعنوان "تعدد الأبعاد والجوانب"‏
(الطبعة تشمل الأصل العربي+ الترجمة الإنجليزية)‏