الثلاثاء، 5 يوليو 2016

37-سيدنا هارون هل كان من قوم فرعون؟!

هل كان هارون عليه السلام من قوم فرعون؟!

د/منى زيتون

الاثنين ‏29 فبراير ‏‏2016‏

http://www.arabpens.com/2016/03/blog-post_46.html

مزيد ومنقح ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

لا شك أنه من لوازم عصرنا إعادة قراءة التراث والتفكر فيه لاستنباط المزيد وإعادة تقييم ما استنبطه علماؤنا في الماضي، فهذا من لوازم عصرنا، أما ما هو من سيئاته فهي تلك الرغبة الجامحة في الخروج بالجديد حتى وإن كان من باب اتباع المتشابه والتحايل على اللغة، بل وعلى المنطق، فهنا تتحول مراجعة التراث إلى سخافة، ويحق لرافضي مراجعته أن يقولوا لصاحب الكلام الجديد: ليتك سكت.

ومما قرأته لأحد الشباب مراجعة قام بها حول شخصية النبي هارون استنتج من خلالها استنتاجات أراها عجيبة وغريبة –بل وحقيرة- وإن كان لم يقصد بها الإساءة لهارون عليه السلام، بل أراد من خلالها الانتصار لكل من هو من منبت وضيع بالمجتمع بأن منبته يمكن ألا يحول بينه وبين أن يصل لأعلى المراتب. وقد نسج صاحبنا كل هذه القصة التي بنى عليها مقاله من خياله للانتصار لذلك الهدف وتلك الرؤية.

ووفقًا لتصور صاحب المقالة فهو يفسر نجاة هارون عليه السلام من الذبح رضيعًا رغم كونه صبيًا، ثم استهانة بني إسرائيل به في غياب كليم الله موسى حتى عبدوا العجل على أنه دليل على أن هارون عليه السلام لم يكن يهوديًا بل من قوم فرعون نتيجة استحياء النساء الذي أخبرنا الله تعالى بوقوعه من آل فرعون في حق بني إسرائيل، ولذا كان أفصح منه بلغة المصريين القدماء، ومن ثم طلب موسى عليه السلام من الله تعالى استوزار أخيه وأن يشركه معه، ولذا أيضًا خاطبه موسى عليه السلام بـ ﴿يَا ابْنَ أُمَّ [طه: 94]، كما زعم الكاتب الذي أسرف على نفسه عندما توهم -دون دليل، بل على عكس ما تظهر الأدلة- أن مكانة هارون ليست كبيرة لدى بني إسرائيل كونه ليس منهم!

وأرد على مزاعمه بما يلي

معلوم أن الأنبياء هم أطهر الناس منبتًا، ومن يدعي أن لا أثر يوضح سبب نجاة هارون النبي إما متهوك أو لم يقرأ التوراة نهائيًا، ولا يتبع خطوات التفكير العلمي ومن أولياته فرض الفروض ابتداءً ثم اختبارها وتخير أفضلها لتبنيه، وليس المسارعة بافتراض ما لا يوجد عليه دليل ثم تبنيه باعتباره التفسير الوحيد الجائز رغم عدم اتساقه مع عناصر أخرى في القصة!

ومن المعلوم أن المصريين القدماء كانوا مشهورين بدرايتهم بعلم الفلك، وقد ذكر المفسرون أن فرعون موسى لما رأى تلك الرؤيا التي أنذره بها الله تعالى بزوال ملكه على يد صبي يولد من بني إسرائيل وفسرها له الكهنة أمر بذبح كل الذكور الذين يولدون من بني إسرائيل، ولكن قال له ملؤه: ومن سنستخدمه بعد ذلك وهؤلاء هم عبيد المستقبل؟ فرجع إلى الكهنة فأخبروه أن السنوات تترتب (نارية- ترابية- هوائية- مائية)، وأن السنوات النارية والهوائية متقاربة وكذا الترابية والمائية، فالسنون عام وعام، وهو بالمناسبة كلام الفلكيين إلى يومنا هذا. وبناءً عليه أمر فرعون جنده بترقب ميلاد كل طفل في تلك السنين المتخوف أن يولد فيها صبي بني إسرائيل المنتظر ليروا إن كان ذكرًا فيذبحوه، فصار الذبح يتم عامًا ويُترك عامًا، حتى لا يُقضى على نسل بني إسرائيل الذين كان يستعبدهم، وصدق الكهنة في حساباتهم إمعانًا في الاستهتار من الله بفرعون وتدبيره، فكأن الله تعالى كان يتحداه بالرؤيا أولًا ثم تفسيرها بشكل صحيح ثانيًا، فنج نفسك إن كنت قادرًا، ولكن الله نجى سيدنا موسى -ولم يُنج فرعون- بأن أمه لم تظهر عليها علامات الحمل، ثم أتم نجاته بما أوحى به إلى أمه ففعلته. فإن لم يقنعك ما قاله المفسرون لأنه بلا دليل فادعاؤك أيضًا بلا دليل!

وآيات التوراة توضح أن هارون هو ابن عمران مثل موسى ﴿وَأَخَذَ عَمْرَامُ يُوكَابَدَ عَمَّتَهُ زَوْجَةً لَهُ. فَوَلَدَتْ لَهُ هَارُونَ وَمُوسَى [الخروج 6: 20]. ومن الآيات ما تنسبه نصًا إلى سبط لاوي، وورد اسم هارون في التوراة 332 مرة بكل التبجيل، وبما يظهر علو قدره، ومن بينها آيات تقول إن الرب كلمه، وأنه كان نبيًا وكاهنًا لبني إسرائيل. فهو عليه السلام له شأن عظيم فيهم قديمًا وحديثًا، ونسله من بني إسرائيل يتشرفون به إلى يومنا هذا، وبعضهم يُوجدون في ما يُعرف بدولة إسرائيل، ولا زال أبناء الديانات الثلاث يسمون أبناءهم باسمه.

وورد في التوراة أنه أكبر من موسى بثلاث سنين ‏﴿وَكَانَ مُوسَى ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَهَارُونُ ابْنَ ثَلاَثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً حِينَ كَلَّمَا فِرْعَوْنَ[الخروج 7: 7‏]. وعليه فإما أنه عليه السلام وُلد قبل رؤيا فرعون أو أن السبب هو أنه ولد في واحدة من السنوات التي كان يُترك فيها المواليد الذكور دون ذبح وهذا سبب نجاته، وقد مات أيضًا قبل موسى عليه السلام، بالاتفاق بين التوراة والآثار الإسلامية، وإن كان عمر موسى عندما أرسل إلى فرعون يبدو أصغر بما دلت عليه آيات القرآن ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [القصص: 14].

ومما ذكر في الأثر أيضًا أن جميع أنبياء بني إسرائيل من سبط لاوي من بعد موسى جاءوا من نسل هارون، ومناداة قوم مريم لها ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا[مريم: 28]؛ أي لا ينبغي لمثلك أن تقترف ما اقترفتي وما ظنوا فيها عليها السلام وحاشاها. وهو يثبت علو مكانة هارون عندهم.

ومعلوم أيضًا أن أم المؤمنين السيدة صفية بنت حُيي كانت تُباهي بأنها من نسل هارون، وحين أغاظتها زوجات الرسول كما هو الحال بين الضرائر، وقلن لها: "ما أنت إلا يهودية"، قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أعدن عليك القول فردي عليهن، ليس في نساء العالمين مثلي، زوجي نبي وأبي نبي وعمي نبي".

أما ما كان من شأن بني إسرائيل معه عندما غاب موسى عليه السلام في مواعدة الله عز وجل، فالسؤال الأدق هو كيف تجرأوا على مقام رب العالمين فعبدوا غيره وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر؟!

وأما مخاطبة هارون لأخيه موسى بـ ﴿يَا ابْنَ أُمَّفهو من باب التحنن والترقق، وهو تعبير بلاغي، وكان شائعًا عند العرب عند مناداة القرابات من جهة الأم. وكان خالد بن الوليد لا ينادي عمر بن الخطاب سوى "ابن أم شملة" لأن أم عمر ابنة عم خالد. وقد تُفهم الكلمة على أنه أخوه من جهة الأم فقط في مخالفة للتوراة، ولكن لا دليل على أن أباه من قوم فرعون!

وأما كون موسى عليه السلام ليس بفصيح اللسان بل كان يتلعثم، وهو تفسير قوله تعالى على لسان فرعون: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ[الزخرف: 52]، وقوله: لا يكاد يبين -اشتقاقًا من البيان- أي لا يكاد كلامه يتضح من لعثمته في النطق، فمجرد تصور أن شخصًا تربى وسط قوم لا يجيد لغتهم لهو تصور أتفه من أن يُرد عليه، لكن قد يكون في إقامة موسى لثمان أو عشر سنوات في قوم مدين وابتعاده عن مصر وعدم استخدامه للغة المصرية تفسيرًا لثقل لسانه بلغتهم، وإن كان من المؤكد أنه يفهم عنهم.

وهناك علة أخرى أستخلصها من الدراسات التي رجعت إليها أثناء إعداد رسالتي للدكتوراة، وأعني الدراسات على ثنائيي اللغة، وهم من يتكلمون لغتين منذ الميلاد، فكلاهما لغة أم بالنسبة لهم، وبعض الباحثين قد وجدوا أن هذا يتسبب لدى بعضهم في التلعثم، وفسروه بأن هناك منطقة تنشط للكلام في الفص الجبهي الأيمن مناظرة لمنطقة بروكا المسئولة عن إصدار الكلام في الفص الجبهي الأيسر لدى البشر العاديين، وتكون واحدة منهما  مسئولة عن إعطاء الأوامر بالحديث بإحدى اللغتين، والأخرى مسئولة عن إعطاء أوامر الحديث باللغة الأخرى، وهو ما يمكن أن يتسبب في التلعثم أو ثقل اللسان بسبب تضارب الإشارات القادمة من نصفي المخ، وموسى عليه السلام تربى في قصر فرعون وتعلم لغتهم منذ الميلاد، كما تعلم العبرية من أمه وقومه أيضًا منذ الميلاد، فهو ثنائي اللغة.

وختامًا فإن الحرية الفكرية لا تعني بتاتًا الخوض في مقامات الأنبياء والعلماء والأكابر، وتصور النقائص فيهم دون دليل، فهذه ليست حرية، خاصة وأن اليهود في التوراة قد شانوا مقامَات أنبياء كُثر مما نتعفف عن الكلام فيه، ولو كان هناك أي دنس في أصل هارون عليه السلام ما كانوا سينتظرون عباقرة زماننا ليظهروه وينشروه.