الثلاثاء، 5 يوليو 2016

14-نوح عليه السلام

نوح عليه السلام

د/منى أبو بكر زيتون

الثلاثاء 21 ‏يوليو 2015‏

http://www.arabpens.com/2015/07/blog-post_21.html

مزيد ومنقح ضمن مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

دفعني لكتابة هذه المقالة مقالة أخرى لأحد الأصدقاء عن طوفان نوح عليه السلام بمناسبة ‏عرض ‏فيلم "نوح" في دور السينما العالمية‏.

كانت مقالته بعنوان "الطوفان ما بين العلم والأديان"، وقد سبق وقرأت مثل هذه الأفكار التي طرحها في مقاله في كتاب "القرآن والتوراة ‏والإنجيل والعلم" ‏للدكتور موريس بوكيه، والتي ملخصها أن هناك تعارضًا بين تصور حدوث ‏الطوفان وفق تفسيريّ رجال الدين والعلماء؛ فالعلماء يرون أن الأرض كانت معمورة في جهات ‏كثيرة ولم يتفرد قوم نوح ‏بالوجود عليها، ومن ثم فالطوفان لم يعم الأرض بل خص قوم نوح، ‏وعلى سبيل المثال فقد دلل ‏د.موريس بوكيه في كتابه على ذلك بإيراد تقديرات العلماء للزمن ‏الذي عاشت فيه حضارات أخرى ‏على ظهر الأرض كالدولة الوسطى في مصر في الوقت ذاته ‏الذي يُستدل عليه من التوراة أنه كان زمن ‏طوفان نوح عليه السلام.‏

كما تشكك تلك الرؤية –ووفقًا للزمن المستنبط للطوفان من آيات التوراة- في أن كل من على ظهر الأرض الآن من نسل نوح عليه السلام؛ لأنه ‏كان ‏هناك بشر آخرون عاشوا في أماكن أخرى من الأرض ولم يغرقوا بالطوفان، ونسلوا، وأبناؤهم ‏يحيون ‏بيننا، فليسوا من نسل نوح على قولهم.‏

وكذلك ورد التشكيك في عمومية الطوفان لأجل أجناس وأنواع الحيوانات وأعدادها الكبيرة، مع ‏إيراد ‏بعض ما ذكرته نظرية التطور وبعض مما ذكره علماء الأنثروبولوجيا والجيولوجيا مما ‏يرونه ‏تناقضًا بين تصور العلم وتصور الدين.‏

وبداية أقول إنه يلزم لفهم سبب الإشكالية وإزالة الضبابية والعتمة عن حدث هام كالطوفان أن نُقسم الفترة التي عُمرت فيها الأرض منذ استخلاف آدم عليه السلام إلى ثلاث فترات، أولها الفترة ما بين آدم ونوح عليهما السلام، والثانية هي الفترة ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام، والثالثة هي فترة ما بعد إبراهيم عليه السلام.

ونوح عليه السلام هو شيخ الأنبياء، فهو أولهم بعد آدم عليه السلام. وقد ‏ورد في بعض الآثار أن الأرض أمضت أول عشرة قرون في إيمان خالص لم يشركوا ‏ولم ‏يكفروا بالله حتى زين لهم الشيطان ابتداع الأصنام؛  فبعث الله فيهم نوحًا، وقد ذُكر في ‏المدة ‏بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام عن أبي أمامة الباهلي أن رجلًا قال: "يا رسول الله أنبيٌّ كان ‏آدم؟ ‏قال: نعم، مكلَّم، قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون" رواه الطبراني في "المعجم الأوسط"، والبيهقي في "الأسماء والصفات"، وابن حبان ‏في "‏صحيحه"، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ‏ووافقه ‏الذهبي، وهذه القرون العشرة بين آدم ونوح عليهما السلام التي ذكرها الحديث الشريف هي المدة ذاتها تقريبًا التي يمكن استنباطها من الأرقام المذكورة في سفر التكوين، وبالتدقيق فالمدة بينهما 1056 سنة وفقًا للتوراة.

ولكنهم لا يحسبون زمن الطوفان تزايدًا من زمن آدم عليه السلام، ولكن تناقصًا من زمننا نحن، والتعارض المزعوم وفقًا لهذا الطرح بين الدين والعلم منشأه هو تلك الأرقام المذكورة ‏في التوراة، والتي تقدر حدوث الطوفان قبل ثلاثة قرون من عصر أبي الأنبياء إبراهيم، علمًا بأن عصر إبراهيم حديث للغاية ويقدر ما بين 1800- 1850 ق.م، وهذا مصدر الضعف في الأرقام التوراتية فهناك اختصار رهيب للفترة ما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام! أما يُروى عن الفترة ما قبل نوح أو ما بعد إبراهيم فهي مقبولة.

فوفقًا للتوراة فإن إبراهيم هو ابن تارح بن ناحور بن سروج بن داعو بن فالج بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح، وسام وُلد وعمر أبيه نوح 500 سنة، والطوفان حدث ونوح عليه السلام عمره 600 سنة، وعمر ابنه سام 100 سنة، والفرق بين سام وإبراهيم حوالي 400 سنة، فيكون الطوفان قد حدث قبل ميلاد إبراهيم عليه السلام بثلاثة قرون! ولا شك عند المؤمنين أن إبراهيم من ولد سام بن نوح، ولكن فرق أن يُقال إبراهيم بن.............. من ولد سام، وبين أن يُقال ابنه، فمن هنا كانت الإشكالية في حساب تلك الفترة.

‏ومن ثم فالأرقام التوراتية تقدر وقوع الطوفان بمرحلة زمنية حديثة للغاية مقارنة بتقديرات العلماء لعمر ‏الأرض ‏وتقديرات نظرية التطور لنشأة وتطور الإنسان والأحياء، وفي رأيي أن المناقشة بين الأرقام التوراتية –خاصة تلك المختصرة للغاية بين زمني شيخ الأنبياء وأبي الأنبياء- وأرقام نظرية التطور هو نزاع بين تخرصين ‏كلاهما ‏غير صحيح.‏ ولا أقول هذا ‏بسبب ‏التصديق الأعمى بنظرية التطور والتي لا أؤمن بها بتاتًا، ولم يوجد لها حتى الآن ما يمكن ‏أن يقويها حقيقةً من مكتشفات العلم، ولنا حديث موسع عن هذه النظرية وأدلتها المدعاة والرد عليها في كتاب "الإلحاد والتطور.. أدلة كثيرة زائفة" لمن أراد الوقوف على ما ساقه التطوريون واعتبروه أدلة، وليس هذا موضوعنا هنا.

وبالنسبة لنا كمسلمين فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه كان هناك أكثر من مائة ألف نبي من عهد آدم عليه ‏السلام وصولًا إليه، ورغم أن بعضهم كان معاصرًا لبعض، لكن هذا لا يكاد يتفق منطقيًا مع تلك ‏الأرقام ‏التي تختصر فترة عمارة الأرض التي ذُكرت في سفر التكوين. وإذا أخذنا هذا ‏في الاعتبار ‏تتلاشى عدم القدرة على فهم القصة كما فهمها مفسرو القرآن قديمًا، والذين أتفق ‏معهم في بساطة ‏تفسيرهم وعدم إنكاره بسبب أرقام عجيبة سواء كانت متضخمة فوق الحد منسوبة للعلم أو مختصرة بما لا يُعقل منسوبة للدين!

والتفسير لآيات القرآن يقول ببساطة إن سيدنا نوح هو الأب الثاني للبشرية لأن كل المؤمنين به قد حُملوا في السفينة مع أهله -‏إلا ‏امرأته وابنه الكافر لأنه سبق عليهم القول- وذلك كما أخبر الحق سبحانه وتعالى في آي القرآن الكريم: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ ‏أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ‏آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40]، ولكن رغم أنه كان هناك مؤمنون نجوا معه من غير أهله إلا ‏أن الله ‏سبحانه أورث الأرض لبنيه من بعده ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: 77].‏

ومن ثم فلا صعوبة في تصور أن الإغراق قد حدث للأرض كلها، ومن يستصعبون ذلك ‏كأنهم يظنون ‏الأرض وقت عاش نوح عليه السلام وقومه كانت كالأرض التي نعيش عليها الآن وقد ‏طفحت بالبشر في ‏كل أنحائها. وإذا قرأت أخي القارئ السيرة النبوية ستجد أن الناس وإلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ‏كانوا يستكثرون الألف، فيُقال فتح ‏مكة عشرة آلاف، وفُتحت مصر بأربعة آلاف جندي. علمًا بأن هذا بمنظورنا شيء لا يكاد يصدق، ‏ولكن هكذا كانت أعداد البشر في العالم زمن الرسول محمد ‏صلى الله عليه وسلم ، فما بالنا بزمن نوح عليه السلام!

وأرى أنه لا يوجد تناقض مع العقل -يستحق أن يثير كل هذه التساؤلات- من أن قوم ‏نوح ‏كانوا هم العامرين للأرض دون غيرهم، وحتى لو سلمنا بأنه كان هناك قلة قليلة من المؤمنين يعمرون ‏مناطق ‏أخرى من الأرض فمن المؤكد أنهم نجوا، وهذا لا يتعارض مع السياق القرآني، ولكنه ‏فقط ‏يتعارض مع تصور إغراق الأرض كلها، وهذه النقطة تحديدًا هي التي يمكن ألا نتفق فيها ‏مع ‏تصور المفسرين فإذا كان قوم نوح هم غالب أهل الأرض ويسكنون بقعة منها حيث عاشوا ‏وعاش ‏سيدنا نوح فلم يعم الطوفان مناطقًا لم تكن مأهولة أو كان بها قلة من ‏المؤمنين؟! لذا فإن ‏لفظ الأرض التي أغرقت، والمستخدم في القرآن عند الحديث عن قصة نوح عليه ‏السلام يمكن أن تكون ‏لفظة خاصة وليست عامة، ولا مبرر لتعميمها في ظل هذا الفهم، ‏وإن كانت هناك شبهة قوية حول هذه الرؤية لأنه ‏إن كانت هناك مناطق أخرى عامرة من الأرض فلِم كان التدبير ‏الإلهي بحمل الحيوانات في ‏السفينة حتى تبقى أجناسها لو كانت تلك الأجناس تعيش في ‏مناطق أخرى من الأرض لن يطالها ‏الطوفان؟

وبالنسبة لأجناس الحيوانات فالتوراة تورد أعداد الحيوانات وغيرها من التفصيلات مما لم يذكر القرآن ‏شيئًا ‏عنها، وما أتصوره أن ما حُمل في السفينة كانت تلك الحيوانات الكبيرة ‏التي ‏كانت تعيش على تلك الأرض التي شملها الطوفان -أيًا كانت عامة أو خاصة-، ولا ‏تستطيع أن ‏تنجو بنفسها وقت الطوفان وليس كل جنس حيواني كان يعيش على ظهر الأرض، ‏وليس هذا ‏استبعادًا على قدرة الله أن تتسع السفينة لهم، ولا لأن أعداد أجناس وأصناف ‏الحيوانات بالملايين ‏ولكن لأن هذا هو المنطق فلِم يدخل النسر السفينة وهو يستطيع أن يحلق ‏إلى قمم الجبال فينجو؟ ‏ولم تدخل الحشرات وهي تستطيع الاختباء في شقوق الجبال العالية وتعيش ‏حتى ينحسر الماء؟ ‏

كما أن العلماء يحسبون أنواع الحيوانات وليس أجناسها إمعانًا في تصور استحالة وقوع الأمر ‏وفقًا ‏لبساطة النصوص الدينية، والحقيقة أن "الأسد" على سبيل المثال هو جنس يندرج تحته ‏أنواع، وما ‏أخبرنا القرآن عنه أن ما حُمل في السفينة كان زوجان من ذلك الجنس أي ذكر ‏وأنثى من ‏الأسود فقط، وليس من كل نوع من أنواع الأسود، فهذا يقود إلى تصور أن ‏كل الأنواع من ‏الأسود التي تعيش اليوم على ظهر الأرض قد أتت من هذين الزوجين، كما أننا ‏جميعًا أبناء نوح ‏ومنا الأبيض والأسود والأصفر.‏ ولهذا التفسير وجاهته مع ما استجد من معرفة في علم الوراثة في العقود الأخيرة تتعلق بأن كل فرد يحمل الحقيبة الوراثية الكاملة لنوعه/جنسه، ولكن تنشيط وتثبيط المورثات هو الذي يتحكم في الصفات التي تظهر عليه.

وفي الختام أحب أن أوضح وجهة نظري في نقطة كثيرًا ما تُثار عند الحديث عن نوح ‏عليه ‏السلام -والذي له مكانة كبيرة في قلبي-، وهي ذلك الادعاء بالباطل عليه أنه استعجل العذاب ‏على قومه ‏ودعا عليهم، وهذا فيه تجنٍ على شيخ الأنبياء وأحد أولي العزم من الرسل الذي كابد ‏هؤلاء الكفرة ‏ألف سنة إلا خمسين عامًا -وليتني أوتيت جزءًا من ألف جزء من قدرته على ‏مجاهدة الأراذل ‏والصبر عليهم-، والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إليه بأنه لن يؤمن له ‏منهم إلا من قد ‏آمن، وأمره بصناعة الفلك وأن يكف عن دعوته أن يهدي هؤلاء القوم مجددًا؛ ما يعني ‏أن غضب الله وقع ‏عليهم بينما كان سيدنا نوح يسترضيه ليمهلهم ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن ‏يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ‏وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ‏﴾، وإنما دعا عليهم سيدنا نوح بعد أن ‏تجاسر عليه طفل صغير من أطفالهم -وهو الشيخ ‏الكبير- وتطاول عليه أثناء صناعته للفلك، وذلك ‏مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ‎ ‎رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ‏الْأَرْضِ‎ ‎مِنَ‎ ‎الْكَافِرِينَ دَيَّارًا(26)إِنَّكَ إِن ‏تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا‏﴾.‏

‏ ‏           فلماذا يتم التغافل عن هذه الآيات والإصرار على التقليل من شأنه عليه السلام وكأنه دعا على ‏من ‏كان يمكن أن يهتدوا، وقد علم مسبقًا أنه قد حق عليهم العذاب، وإنما دعا استعجالًا لهذا ‏العذاب ‏بعدما أصابه من مهانة لم يعد قادرًا على احتمالها.‏