الثلاثاء، 5 يوليو 2016

26-أن تكون من الفئة الغالبة!!!


أن تكون من الفئة الغالبة!!!
د/منى زيتون
الأحد 6 ديسمبر 2015
الثلاثاء 2 يوليو 2019

الرغبة في التميز هي غريزة إنسانية توجد لدى كل البشر، ترتبط بتحقيق وتقدير الذات والثقة بالنفس، كما تعد تلك الرغبة دافعًا لكثير من السلوكيات الإنسانية التي يمكن تفسيرها في ضوئها. هذا لا يعني أن تكون تلك الرغبة هي الدافع الوحيد وراء تلك السلوكيات لدى جميع من يسلكونها، فقد تتشابه السلوكات الإنسانية وتختلف الدوافع إليها، وهذا أعقد ما يخص سلوك الإنسان.
وتتعدد المجالات التي يمكن أن يكون الشخص متميزًا فيها بتعدد ميول البشر واتجاهاتهم وظروفهم وشروطهم التي تخلقها لهم بيئاتهم الصغيرة، بل ومجتمعاتهم الكبيرة أيضًا.
ورغم كونها غريزة إنسانية لا يفتقدها إنسان، ويمكن اعتبارها سرًا من أسرار التفرد الإنساني إلا أنها تتحول لدى البعض إلى هوس يؤدي بكثيرين إلى سلوكيات قد تدمرهم على أصعدة كثيرة مادية ومعنوية.
على سبيل المثال، فقد انتشرت في مجتمعاتنا حمى شراء منتجات علامات تجارية معينة باهظة الثمن حتى لو لم يكن بها أي ميزة تميز منتجاتها عن غيرها من المنتجات لعلامات أقل شهرة.
بعض من يقعون فريسة لهذه الرغبة في التميز يدّعون اقتناعهم بأن منتجات العلامات التجارية الباهظة الثمن هي الأفضل، وتستحق فرق السعر الرهيب بينها وبين منتجات العلامات الأقل شهرة، ولكن الأغلبية يدركون تمامًا أنه لا فرق أو أن الفرق لا يستحق ويعرفون أن الغرض من وراء هذا السلوك الذي يكلفهم كثيرًا ويسرق أموالهم هو الوجاهة الاجتماعية بغض النظر عن مدى قيمة السلعة.
شاهدت فيديو ذات مرة يشرح كيفية صناعة ساعة سويسرية من علامة تجارية معروفة والتي يستغرق صنعها 8 سنوات، وكيف أنها تعرض الثانية والدقيقة والساعة واليوم والشهر والفصل والسنة وتحتوي على منبه وتتألف من 1366 قطعة مركبة بطريقة معقدة جدًا وبمساحة ضيقة للغاية، والأهم أن ثمنها 2.6 مليون دولار، وقطعًا ستجد سفيهًا يشتريها، وحتى من يشتري الأقل سعرًا منها بكثير لا يخلو من سفاهة. فما الفرق الجوهري بين ساعة يد ثمنها مئات الآلاف وغيرها من الساعات من علامات تجارية راقية أقل سعرًا وشهرة؟!! هل ستحلق بي في رحلة عبر الزمن عندما أرتديها؟!
ورغم أن مشكلة شراء منتجات العلامات الشهيرة تخلق أزمات مالية كثيرة لدى متوسطي القدرة الشرائية، كما تخلق أزمات نفسية عند المتطلعين الطامحين من ضعيفي القدرة الشرائية، إلا أن تلك المشكلة أهون بكثير من غيرها؛ لأن الدافع وراء تلك السلوكيات شعوري محض، وهو ما يمثل أهمية كبيرة لمن يرغب في التعافي، فالمشاكل الإنسانية الحقيقية تكمن عندما تكون دوافع الفرد من وراء سلوكياته دوافع لا شعورية، لأنه لا يدرك الأسباب الحقيقية المؤدية لسلوكاته، فيصعب انفكاكه منها.
من ثم، فإن ما يعنيني نقاشه هنا هو سلوكات أرى أن الرغبة في التميز تقف وراءها ولا تكلف من يقوم بها شيئًا، فهي سلوكات متاحة ومجانية، ما جعلها تنتشر في كل الثقافات الفرعية في مجتمعنا، فلم تميز بين الأغنياء والفقراء، والمثقفين والجهلاء، وأعني الانضمام لجماعات أيًا كان نوعها. قد تكون الجماعة ناديًا رياضيًا أو شركة اتصالات أو جماعة/حزبًا سياسيًا، ثم ما يلي ذلك الانضمام من التعصب لتلك الجماعة. وسأعطي أمثلة من مجالات مختلفة لتوضيح الأمر.
لنبدأ بالرياضة، ولنسأل سؤالًا بسيطًا وهو: لماذا تزيد شعبية النادي الأهلي مثلًا في مصر عن غيره من الأندية حتى الأندية الكبرى؟ الإجابة المنطقية هي أنه النادي الذي يحصد بطولات أكثر رغم أن هناك فرقًا تلعب كرة أحلى، والانتماء لمشجعي النادي لا يكلف صاحبه شيئًا، وفي الوقت ذاته يمنح الفرد شعورًا بأنه من الفئة الغالبة المنتصرة، ومن هنا نشأت الشعبية، ثم صارت الشعبية سببًا في مزيد من الشعبية حين تسببت في انضمام المزيد من المشجعين، وكأن الفرد صار من حزب الأغلبية مجانًا.
فإذا ما انتقلنا إلى الكيانات الاقتصادية، ولنأخذ مثالًا بالشركات العاملة في مجال الاتصالات، -والتي لقلة عددها واتصال خدماتها بجميع المستهلكين في مصر ستكون المقارنة أوضح من أي مجال اقتصادي آخر-، فسنجد أن هناك شركتين بدأتا المنافسة في السوق المصرية. الشركة الأولى البرتقالية بنت دعايتها للتأثير على المستهلكين على أنها الأكثر انتشارًا، ولنتذكر إعلاناتها الأولى عام 1998 التي كانت تدعي أن شبكتها تصل لكل شبر في مصر حتى فوق الجبال، ولا زالت إعلاناتها حتى الآن تركز على أنها الشبكة التي تجمع الناس وتربط بينهم، فيفرح الناس بالأغاني ويرددونها لكن الشركة تحقق خسائر وتتناقص أعداد العملاء، بينما الشركة الثانية الحمراء بنت دعايتها منذ بدايتها –ولا زالت- على أنها الشبكة المميزة التي يستخدمها جميع المشاهير وأكبر الأسر وأغناها في مصر. أي أن من صنع دعاية تلك الشركة ركز على غريزة حب التميز لدى البشر. ذات مرة طلبت رقم تليفون امرأة بسيطة، فإذا بها تفتخر أن رقمها تابع لتلك الشركة الحمراء المميزة!
ثم دخلت شركة ثالثة خضراء في السوق المصري للاتصالات منذ سنوات، وبنت دعايتها على أساس أن المستهلك المصري يتعرض للإجحاف والسرقة من الشركتين الأخريتين وأنه حان وقت إنقاذه، وعليه فهي الشبكة التي تقدم خدمات وعروض كثيرة بأسعار معقولة. ورغم صحة ما ادعته تلك الشركة الخضراء فيما ركزت عليه دعايتها، وجديتها في تقديم خدمات وعروض لمستهلكيها، فإن مقارنة أرباحها وأرباح الشركة البرتقالية بالشركة الحمراء لن يكون في صالحهما، والأرقام لا تكذب.
والخلاصة، أن الشركة الحمراء قد فهمت متطلبات النفس البشرية أكثر من الشركتين الأخريتين. فإن كان بإمكان الفرد أن يكون مع الجماعة الأكثر تميزًا وبنفس التكلفة فلِم لا يكون معهم؟! هكذا يفكر كثير من البسطاء!!
وفي مجال السياسة لا مجال للمقارنة بين أعداد المنتمين للحزب الوطني في عهد مبارك وأعداد المنتمين إلى أي من الأحزاب الأخرى بما فيها الوفد الذي كان حزب الأغلبية يوم أن كان حزب الحكومة، فالناس دومًا مع الغالب، وقليلون فقط من تحركهم المبادئ، فيظلون أوفياء لمبادئهم، إن صح أن يُقال إن في السياسة مبادئ.
والآن لننتقل إلى أهم الميادين، وهو ميدان الجماعات الدينية، لنرى أن الرغبة في التميز تفسر انضمام كثيرين إلى الجماعات الدينية بينما يكون سلوكهم متنافي تمامًا مع الدين، مما يجعل خبر انضمامهم لتلك الجماعات صدمة بكل المقاييس لمن يعرفونهم عن قرب، ولكنهم لا يدركون الدافع الحقيقي وراء هذا السلوك المستغرب من هؤلاء، وأن الأمر لا يعدو رغبة في الانتماء لجماعة تكون لها الغلبة الفكرية والنجاة الأخروية أكثر مما هو إيمان حقيقي بمعتقداتها.
أعرف كثيرين جُل ما يعنيهم هو إثبات حديث الفئة الناجية بما فيه الفقرة الأخيرة المختلف حول صحتها، وإقناع نفسه والآخرين أنه منها!!!
هذا ويلعب التعزيز دوره في تقوية تلك الرغبة في التميز، وهو ما يركز عليه المروجون لأي من العلامات التجارية أو الكيانات الرياضية والاقتصادية والسياسية والدينية، وكما سبق وأوضحنا أن هؤلاء المروجين يسعون إلى تحويل تلك الغريزة الطبيعية إلى حالة من الهوس المرضي الذي يؤدي إلى رفع المستوى الظاهري للثقة بالنفس لدى الفرد، وإن كانت الحقيقة عكس ذلك تمامًا؛ فتحقيق التميز الزائف عن طريق الانتماء لجماعة يُدعى كونها مميزة أو ليس للفرد دور في تميزها إنما يداري الإحساس بالفشل وافتقاد القيمة التي يعاني منها الشخص على المستوى الفردي.
كما توضح تلك الظاهرة أن نسبة كبيرة من أفراد مجتمعنا ينقصهم المستوى المتطلب من التفكير الناقد الذي يجعلنا نضع معايير صحيحة لتقييم ما يُشاع أنه أفضل. والأمر لمن يفهم حقيقته هو شكل آخر من أشكال السير مع القطيع، وفرصة مجانية للتواجد مع الطرف الأقوى أو الأفضل والأكثر تميزًا كما يُشاع بغض النظر عن حقيقة كونه كذلك. والمشكلة الحقيقية عندما يكون الانتماء لجماعات أو كيانات مجانيًا ومتاحًا للجميع ولا توجد كُلفة مقابله؛ لأن هذا يجعل المشاكل المترتبة أكثر تفاقمًا.
وما ينبغي علينا إدراكه أن الرغبة الزائفة في التميز فيما لا يعد تميزًا من الأساس إنما هو تعبير عن عدم الثقة في النفس وليس الثقة فيها، ويعد أسلوبًا من أساليب خداع الذات وتعويض النقص ينبغي أن يتغلب عليه الفرد، وأن يبحث عما يمكن أن يجعله يتميز حقيقة لا زيفًا.