منذ سنوات عملت في جامعة حائل في شمال جزيرة العرب،
والتي تقع في مدينة صغيرة تحمل نفس الاسم على سفح جبل شمّر، وشمّر هم بطن كبير من
بطون قبيلة طيّ، والتي يعرف الصغير قبل الكبير منها سيد من سادات العرب كان يُضرب
به المثل في الكرم، وهو حاتم الطائي، وكان من أبنائه سيد آخر هو عدي بن حاتم،
والذي استمهل خالد بن الوليد رضي الله عنه ليعيد قبيلته إلى حظيرة الإسلام؛ حيث
كانت من أواخر القبائل إسلامًا وارتدت عن آخرها بعد موت الرسول، فكلمهم وأعادهم
إلى صوابهم، وحقن الله به دماءهم، وكان رضي الله عنه ممن حارب مع البقية الباقية
من البدريين وأهل بيعة الرضوان في جيش سيدنا علي، ومن أقرب أصدقائه، وأقرب
المقربين إلى الإمامين الحسن والحسين من بعده.
عندما دخلتُ المدينة لأول مرة وجدتها بسيطة للغاية، على
عكس ما تصورت، رغم أنها مدينة سياحية؛ كون جوها معتدلًا لوقوعها على سفح جبل وسط
صحاري قائظة، وذات مرة كنت أركب السيارة مع سائق مصري كبير في السن، وتساءلت عن
هذا الحال العجيب للمدينة، فقال لي: "لي ثلاث وعشرون سنة في حائل، ولو
رأيتيها قبل سنوات لقلتي إنها قرية. لقد تطورت كثيرًا في السنوات الأخيرة"، وعلى
العكس من بساطة المدينة فقد كانت الجامعة فخمة للغاية، وكان الجميع يشيد بالأمير،
الذي علمت منهم أنه أول أمير يُعين لهم، فلم تكن مدينتهم وما حولها إمارة مستقلة
حتى تولى الملك عبد الله بن عبد العزيز الحكم سنة 2005م، وأمه من حائل، فعيّن لهم
أميرًا وأنشأ جامعة حديثة ضخ فيها من الأموال الكثير. ولكن بقي التساؤل كبيرًا في
رأسي: لماذا أُهملت هذه المنطقة طيلة تلك السنوات منذ تأسيس الدولة السعودية
الثالثة، وعبر عهود كثيرة، حتى أنقذهم الله بتولي ملك أخواله منهم لتحظى بالاهتمام
مثل باقي المدن؟ وقتها لم أكن مهتمة بتاريخ الوهابيين كي أفهم السبب، وكان مواطنو
تلك المدينة قليلي الكلام مع الغرباء بشكل لافت. ومما لفت نظري أيضًا وجود دكتورة
عراقية من آل الشمري تعمل بالجامعة، ويعاملونها على أنها منهم، لا على أنها غريبة،
وعلمت من بعض الدكتورات الأردنيات أن من الشمّرية من يسكن الأردن أيضًا.
ونظرًا لأنها كانت أول تجربة لي للعمل بالسعودية، فقد
سأمتها سريعًا، ورغم أن عقد عملي كان لعامين دراسيين قابلين للتجديد؛ إلا أني أكملت
العام الأول على مضض، وقدمت استقالتي، وعدت إلى مصر، لأحنّ بعد عودتي بفترة للحج
والعمرة، وأتعاقد مرة ثانية للعمل بجامعة في مدينة كبيرة تقع على بعد ساعة جنوب
الرياض. وكان أيضًا من أسباب قراري بالعودة إضافة إلى الحج والعمرة، هو حالة القرف
التي أُصاب بها من سوء الأوضاع في مصر، والتي يعاودني بعدها الحنين إلى مصر كلما
سافرت، حتى لو كنت في أمريكا وليس السعودية، فأشتاق إلى مصر وعسلها الأسود، وأعود
لأصاب بالقرف مرة أخرى، وربما فكرت في السفر إلى مكان آخر.
كانت المدينة التي تعاقدت فيها المرة الثانية كما أسلفت
تقع جنوب الرياض، واسمها الخرج، وكانت مدينة صغيرة مخضرّة إلى حد ما، وكانت هناك
مزارع كثيرة حول المدينة، على عكس المألوف في جزيرة العرب. وكانت محاطة بمجموعة من
المدن الأصغر؛ منها مدينة تُسمى بالحوطة، وكان أهلها على عكس أهل حائل متبسطون مع
الغرباء، ويظهرون تدينًا شديدًا شكليًا وفق عقيدتهم، حتى لقد كانت عميدة الكلية
تهتم بأمر ارتداء الطالبات للجوارب أكثر مما تهتم بانتظام المحاضرات، وبمنتهى
الصراحة فإنه رغم ودهم الظاهري إلا أنني لم أرتح لكثيرين منهم، لتمضي الأيام، وبعد
سنوات قليلات قررت العودة إلى مصر، وتقدمت باستقالتي، وقبل عودتي إلى مصر بعشرة
أيام كنت أركب السيارة عائدة من الكلية مع زميلتين إحداهما مصرية والأخرى أردنية،
وإذا بي أعرف مصادفة أثناء الحوار معهن ومع السائق المصري أن حديقة مسيلمة الكذاب
تقع بعيدًا عن بيتي بحوالي عشر دقائق بالسيارة، لأكتشف أن الخرج هي ذاتها اليمامة،
موطن بني حنيفة قوم مسيلمة، وأن المدينة الصغيرة المجاورة المسماة اختصارًا
بالحُوطة اسمها بالكامل حوطة بني تميم، وبنو تميم هم قوم ذي الخويصرة التميمي الذي
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المخرّج بروايات عدة، أنه
يُوشك أن يخرج من نسله الخوارج. وكان ما سمعته فاجعة وليس مفاجأة، ولكنه فسّر لي
سبب انقباضي الدائم من تلك المدينة وأغلب أهلها.
كنت بدءًا من عام 2012م قد بدأت الاهتمام بالقراءة عن
الوهابيين وتاريخهم، مما ساعدني على فهم الكثير مما كان قد بدا لي غريبًا خاصة ما
يتصل بأمر إهمال مدينة حائل، فعلمت أنه قبل الوهابية كانت هناك إمارة كبيرة شمال
نجد، عاصمتها حائل، تُسمى "إمارة جبل شمّر" تحت حكم آل رشيد، وأن هؤلاء
كانوا أقوى شوكة واجهها آل سعود ووقفوا أمام أحلامهم التوسعية، وكانت بينهم صولات
وجولات أثناء المحاولات الدؤوبة لخلق الكيان السعودي في الدولة السعودية الثانية
والثالثة. وبعد أن سقطت إمارتهم هاجر بعضهم شمالًا بعيدًا عن نفوذ آل سعود، فسكنوا
العراق والشام، وبقي البعض الآخر ليعاني الاضطهاد والتهميش، حتى أنه مما لفتني أن
عميدة الكلية بحائل كانت من أهل الرياض، وكانت نسخة طبق الأصل من نسخ التدين
الشكلاني الذي رأيته بعد ذلك في أهل الخرج، وقد علمت أنها كانت قد بدأت تفقد
نفوذها الواسع رغم بقائها في العمادة لأن الإدارة في قسم الرجال اكتشفوا قبلها
بسنوات أنها كتبت تقارير سرية ضد بعض الدكتورات، وعرف زوج واحدة من تلك الدكتورات
بالأمر من خلال علاقاته بالرجال في المبنى الإداري للجامعة، ورأى بعينه تقريرًا
كتبته العميدة النجدية التي تعتكف ساعة على الأقل كل يوم بمكتبها لصلاة الضحى
وقراءة القرآن، مدعية عن زوجته أن نظرها ضعيف للغاية، علمًا بأن زوجته لا تلبس
نظارة طبية من الأصل، ويبدو أنه كانت هناك قصص كثيرة ونوادر حول تلك العميدة، ولكن
كان التكتم هو سيد الموقف، ولم أتطفل لأعرف أكثر من ذلك.
عندما قرأت عن الوهابيين عرفت أن آل سعود من بني حنيفة
قوم مسيلمة –وفقًا لما كتبه الشيخ زيني دحلان إمام مكة في القرن التاسع عشر في
كتابه "فتنة الوهابية"-، وإن كانوا يحاولون جاهدين إخفاء ذلك النسب،
والاكتفاء بأنهم من ربيعة، من بكر بن وائل، دون تحديد، وأحيانًا يحاولون أن ينسبوا
أنفسهم إلى عنزة وهي من بكر بن وائل أيضًا، حتى أنه قد حدثت لأحد النسابة البكريين
–من أحفاد الصديق أبي بكر، وأنا أعرفه كوني من الأشراف- مشكلة كبيرة سنة 2013م،
وتم احتجازه لأشهر من قبل وزارة الداخلية السعودية، عندما صنّف كتابًا في الأنساب
رفض فيه أن ينسبهم إلى البطن الذي يدّعونه من بكر بن وائل، وأصرّ على أنه لا يعرف
هذا، ولن يكتب إلا ما يعرفه، لأن الأنساب أمانة، ومع ذلك فهو لا يطعن في نسبهم.
وكنت أعرف أيضًا أن محمد بن عبد الوهاب شيخهم المتنبي من
بني تميم. وبهذا اكتمل الكوكتيل العجيب اللازم لخروج الخوارج، فاجتمعت بنو حنيفة
مع بني تميم جهة المشرق! وقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور الخوارج من
نسل ذي الخويصرة التميمي الذي تجرأ عليه عند تقسيم الغنائم بعد غزوة حنين وقال: يا
رسول الله "اعدل"، فقال الرسول: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل"،
كما قال صلى الله عليه وسلم إن الفتن ستخرج من المشرق، وتحديدًا من نجد، وقد صدق رسول
الله.
روى البخاري في صحيحه (1037) بسنده عن نافع،
عن ابن عمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي
يمننا". قال: قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي
يمننا". قال: قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها
يطلع قرن الشيطان".
ونجد هي ما ارتفع من بلاد العرب إلى أرض العراق، وهي هضبة
معروفة بجزيرة العرب، ولا توجد أرض عُرفت أو تُعرف إلى يومنا هذا بذلك الاسم غيرها،
واليمن والشام ونجد المشار إليهم في الحديث هي الأماكن المعروفة، فهي أعلام وليست
صفات؛ حتى يدعي أحد أن العراق هو نجد أهل المدينة كما يبغبغ الوهابية المحدثون، وليأت
من يدعي تلك المقولة بدليل واحد يُثبت أن أهل المدينة كانوا يقولون عن العراق (نجدنا).
وبالعودة إلى خطوط العرض، فإن خط العرض الذي تقع عليه المدينة المنورة هو
24.46667، وخط العرض الذي تقع عليه الرياض بنجد هو 24.4، فليس للمدينة مشرق مرتفع
عن الأرض غير نجد جزيرة العرب التي يعرفها القاصي والداني، والمقصود تحديدًا جنوب
مدينة الرياض حيث تقع اليمامة وحوطة بني تميم، فوالله ما كذب رسول الله. والمقصود
بقرن الشيطان هو جماعته وحزبه. كما أنه لو كان المقصود بفتن نجد ما حدث من أمر مسيلمة
الكذاب، ما دعا صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه لليمن بالبركة، ومنها خرج الأسود
العنسي، والأهم أن ما كان من أمر الكذابين –مسيلمة والعنسي- لا يُسمى فتنة،
"إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". فلم يُفتتن أحد ممن تبعوهما
بهما، وكانوا متيقنين من كذبهما، ولكن تبعوهما عصبية؛ حتى لا يُقال إن النبوة في مُضر
وحدها.
ولي ملاحظات حول الخوارج، وهي:
·
الحروريون، وهم الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي خرجوا بجانب الكوفة من أرض
العراق، والعراق أيضًا على الخط الشرقي للحجاز، وهناك روايات في كتب الأحاديث تقول
إن سيدنا علي لمّا عثر بين القتلى منهم على الرجل المخدج ذي الثدية، وهي العلامة
التي أنبأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل عنه، فقالوا إنهم لا يعرفونه، ولكنه
رجل قدم من اليمامة بنجد، وكان يجتهد في الصلاة بالمسجد. وفي "الملل والنحل"
(ج1، ص107) قال الشهرستاني: "من رؤساء الخوارج بحروراء حرقوص بن زهير المعروف
بذي الثدية". وذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج3، ص51) أن حُرقوص كان
أمير الجماعة من أهل البصرة الذين خرجوا على سيدنا عثمان بن عفان ضمن من خرج عليه
من أهل الأمصار سنة 35هـ وقتلوه. وذُكر في الروض الأنف (ج4، ص277) عن الواقدي أنه
قال: "حرقوص بن زهير الكعبي من بني سعد تميم"، فالأصوب أنه ليس هو ذو
الخويصرة التميمي الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من نسله المارقة،
وإن كان حرقوص أيضًا تميمي.
·
كان الخوارج الأُول ثلاث فرق رئيسية: الأزارقة، والنجدات، والبيهسية. وكان
رؤساؤهم وعامتهم من بني حنيفة وبني تميم. أغلب من بايع نافع بن الأزرق الحنفي على الإمارة
كانوا من بني تميم. وكان نافع بن الأزرق الحنفي ونجدة بن عامر الحَنَفي من بني حنيفة
قوم مسيلمة، وكان أبو بيهس هيصم بن جابر من بني سعد بن الحارث بن ضُبيعة بن ربيعة
بن نزار، وديارهم بين اليمامة والبحرين والعراق، كما كان عبد الله بن صَفَّار التميمي،
وعبد الله بن إباض التميمي، وأبي بلال مرداس بن أُدَيَّة التميمي وبني الماحوز كلهم
من بني تميم، كما أن محمد بن عبد الوهاب زعيم الفرقة المسماة بالوهابية التي ظهرت
في القرن الثاني عشر الهجري من بني تميم.
·
القرامطة الذين آذوا الحجيج وانتهكوا حرمة بيت الله كانت دولتهم بالبحرين، والحشاشون
الذين حاربوا واغتالوا كبراء المسلمين أقاموا دولتهم في بلاد فارس. فوالله ما كذب
رسول الله أن الفتنة من المشرق وأنه من ضئضئي (نسل) هذا الرجل –ذي الخويصرة
التميمي- ستخرج المارقة.
·
ذكر الواقدي في كتاب "الردة" من القبائل التي ارتدت بعد وفاة الرسول
صلى الله عليه وسلم، أنه ارتدت بنو حنيفة باليمامة، وارتدت عامة بني تميم -وكان كثير
من بني تميم قبل الإسلام على المجوسية-، وارتد أهل البحرين، وبكر بن وائل. وأقول:
وهؤلاء جميعًا هم أجداد الخوارج.
·
لا يعني كلامي أن كل من انتسب إلى تلك الأراضي أو القبائل مطعون في إيمانه،
ولكن كان فيهم ومنهم المارقون، والتاريخ لا يكذب، ورسول الله لا يكذب. والخيرية وعز
الأنساب في الدنيا لا يعادلان الخيرية عند الله عز وجل. ورد في صحيح البخاري
(3515) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن كان جهينة ومُزينة وأسلم وغِفار
خيرًا من بني تميم، وبني أسد، ومن بني عبد الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة".
فقال رجل: خابوا وخسروا، فقال: "هم خير من بني تميم، ومن بني أسد، ومن بني عبد
الله بن غطفان، ومن بني عامر بن صعصعة".
والآن إلى تيران وصنافير لنسجل هذه
الحقائق:
وكلمة أخيرة عن الخرائط
منذ سنوات والناشيونال جيوجرافيك وغيرها
تتعمد نشر خرائط تقتطع من حدود مصر، مثل اقتطاع مثلث حلايب وشلاتين وضمه للسودان،
ولقد بذلت المستشارة هايدي فاروق جهدًا جبارًا في إقناع ديفيد ميلر -وهو رسام
خرائط محترف في "ناشونال جيوجرافيك"- بالوثائق أن الجزيرتين مصريتان،
وقام بنفسه بعد لقائه بها وزوجها بعامين، برحلة إلى سيناء 2007م، اقتنع على إثرها بالفعل
بأن الجزيرتين مصريتان. اقرأ مقاله
المنشور بتاريخ يناير ٢٠٠٨ تحت عنوان "رسام خرائط أمريكى بمصر":
أما عن هؤلاء الذين توقف نضجهم
الانفعالي عند مرحلة الطفولة المتوسطة، فيخالفون المنطق كيدًا في الآخرين، غير
مدركين أن ما يفعلونه خيانة للوطن، فللأسف، قد أظهرت مشكلة الجزيرتين أن هناك نسبة
كبيرة من الحثالة البشرية تحمل الجنسية المصرية، يكفي إلقاؤهم في النيل لتلويثه
سنوات، وربما تسميمه للأبد، حتى لقد بلغ مستوى الانحطاط ببعضهم إلى خلق أدلة مزيفة
ونسبتها لمفكرين لهم وزنهم من أمثال د/جمال حمدان لإثبات أن رئيسهم الفرعون على
حق. وصدق تعالى حين قال في وصف فرعون وقومه: ﴿استخف
قومه فأطاعوه﴾.