في مرحلة الدراسات
العليا، وأثناء حضوري إحدى حلقات بحث (سيمينار) قسم علم النفس بكلية التربية بالإسماعيلية،
إذا بالأساتذة يسخرون من عميد إحدى كليات التربية بجامعة أخرى؛ والذي يحرص على إرسال
نشرة دورية بأسماء كل المواضيع التي قام باحثون في كليته بتسجيل رسائلهم في الماجستير
والدكتوراة فيها، كي يمنع أي باحث من التسجيل في المواضيع ذاتها، وأن نشرته لم تعد
تُقرأ بل يُلقى بالرسالة دون فتحها في سلة المهملات بمجرد وصولها!
وبالنسبة لغير المتخصصين
وغير العارفين بطبيعة البحث العلمي، سيبدو لهم تصرف العميد المشار إليه تصرفًا طبيعيًا،
بينما الباحثون سيفهمون أنه يظهر درجة عالية من فرط النرجسية والزهو والإعجاب بالذات؛
ذاك أن ما يرمي إليه من تكميم أفواه أي شخص عدا تلاميذه، ومنعه من الخوض في المواضيع
العلمية ذاتها، والتي سمح لتلاميذه أن يخوضوا فيها، وقد سبقهم غيرهم –وقائمة المراجع
تشهد- هو محاولة منه لإغلاق باب الاجتهاد في العلم -وكأنه لا يكفينا إغلاق باب الاجتهاد
في الدين، وما جرّه علينا من تجميد العقول- ورغبةً في منع الباحثين الآخرين من التأمل
والبحث والتدقيق في المواضيع ذاتها، وتأصيلًا لما توصل إليه هو وتلاميذه وجعله الصراط
المستقيم الذي لا يجوز الحياد عنه!
ومنذ سنوات مرّت
عليّ أخبار زميلة تدعي أن أستاذًا كبيرًا في كلية ما قد نشر بحثًا يكاد يكون منقولًا
من رسالتها للدكتوراة، وأنها ستشكوه وتقاضيه، ثم انتهي الموضوع بعدها، وعندما سألت
لأتحرى عن الأمر علمت أن من اطلعوا على البحث المذكور وجدوا فيه اختلافات جوهرية عن
رسالة الزميلة بدءًا من الهدف ومرورًا بالتساؤلات المطروحة والمنهج والأدوات والعينة
والبرنامج المطبق، والأمر لا يعدو أن يكون قد بحث فقط في الموضوع الذي تطرقت إليه
في رسالتها! ظانة أنها قد أتت بما لم يأت به الأوائل، وعليه فيجب على الأستاذ وعلى
غيره أن يصمت للأبد ولا ينبس أحدهم ببنت شفة بعد قولها الفصل، وأن يوقف الباحثون في
مصر والعالم العربي وربما في العالم بأسره البحث في ذاك الموضوع!
وأتساءل، هل يمكن
أن تحدث مثل تلك الأمور من باحث في جامعة أجنبية؟ فمن المفترض أن طالب الدراسات العليا
قد درس مناهج البحث العلمي وتنمية مهارات التفكير، وأنه قادر على التحليل والمقارنة
بين كل طرح يُساق في موضوع معين، ويميز بينها على تعددها ولو بلغت الآلاف، ويعلم أن
تراكمية البناء هي جزء من طبيعة الفكر الإنساني، وأن كل فكر جديد إنما ينبني على ما
خلّفه الأولون، ولو كان كل جيل يهدم ما قدّمه الجيل السابق عليه ويبدأ من نقطة الصفر
لما بُنيت وشُيدت الحضارة الإنسانية.
والأمر لا يقتصر
على البحث العلمي الرسمي فقط في الجامعات العربية، ولنأخذ مثالًا مشابهًا عن البحث
العلمي غير الرسمي، فمنذ أعوام ثارت ثائرة الشباب على الفيسبوك من أتباع واحد ممن
يوصفون بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين بسبب دعوى أقامها أحد المعتزلة الجدد زاعمًا
أن الأول قدم خطبة كاملة عن المعجزات استنادًا لما طرحه ذاك الأخ المعتزلي فيما أسماه
بحثًا علميًا له منشور على شبكة الانترنت.
وببساطة فقد قمت
وقتها بعمل تحليل محتوى لذلك المقال الذي كتبه الباحث المعتزلي، والمنشور بالفعل بتاريخ
أقدم من تاريخ خطبة أخينا الأول، وكذا تحليل محتوى الخطبة، لأخرج باستنتاج بسيط أن
رأي الأول لا يعادل رأي الثاني، والفروق كثيرة وكبيرة، بل الأدهى أن أيهما لم يأت
بأفكار أصيلة تمامًا في الموضوع، والأفكار التي طرحاها في تفسير المعجزات قد سُبقا
إليها جزئيًا، طبعًا مع إسهام كل منهما في وضع تصوره الخاص وإضافاته.
ثم نشرت تحليل المحتوى
المقارن الذي أعددته في مقال على إحدى الصفحات المختصة رغم علمي أن كلا الطرفين تقتله
النرجسية والغرور، وأثق عن معرفة بالأول أن مقال الثاني لو كان نُشر بعد خطبته لتوهم
مثل ما توهمه الثاني من أنه قد سرق أفكاره السنية غير عابئ بالفروق الكبيرة بينهما،
فهو لا يقل نرجسية عن صاحبه، ولكنها كلمة رأيتها حقًا فقلتها رغم أن المنتفع منها
لا أراه يستحق الدفاع عنه في هذا الباب بالذات.
ولو كان الثاني
عاقلًا لفهم أن البحث عن الإيحاء والإلهام شيء عادي، وأنه حتى لو كان أخونا الخطيب
قد قرأ مقالته فأوحت له بأن يتحدث في موضوع "المعجزات" فلا بأس ولا ضير
في ذلك، والأمر ليس سرقة، وكل كاتب يأخذ أفكار الموضوعات التي يكتب فيها من كلمة أو
نقاش فُتح أمامه أو رغبة منه في التعليق على حوادث يسمعها. وأعرف واحدًا ممن يعرفون
بالمفكرين العرب يمر على صفحات ومجموعات الفيسبوك يقرأ باحثًا عن الإلهام، ولو كانت
الأصالة أن يطرق المرء موضوعًا غير مطروق فما ترك الأولون للآخرين شيئًا، وسيصمت الجميع
إذن وتجمد عقولنا، ونتوقف عن إبداء الرأي والتعبير عما يجول في خواطرنا إزاء ما نقرأ
ونسمع.
وإن كان الأمر يمثل
مشكلة كبيرة للباحثين في مجال الرأي والفكر الإنساني فإنه أعوص وأوسع ضررًا في مجال
إبداء الرأي في المسائل والقضايا الدينية، فكثيرًا ما سمعنا نقدًا لإغلاق باب الاجتهاد
الديني، ومنذ كنا صغارًا أُطلقت أمامنا تلك المقولة وذلك النقد عمن تراه قال إن رأيي
لا يحل لأحد أن يجتهد فيه بعدي، وهل يوجد أحد قال ذلك؟! ولكنها تبقى مقولة ودعوى فارغة
لا ننفك فيها عن ترديد كلام ينزع للمثالية لكوننا لسنا ماهرين في التطبيق، فالقول
كما ذكرنا، أما لسان حالنا الناطق فيقول: "لا ينبغي لأحد أن يجتهد ويكون له رأي
بعدي".
لذا أدعي أن هؤلاء
ممن يريدون منع الناس من إبداء الرأي في مواضيع سبق أن اجتهدوا فيها نرجسيون وعقولهم
خربة تفتقد القدرة على التفكير السليم، وكلما كان الطرح الآخر جديدًا وبعيد الصلة
عما سبق وطرحوه دل على مزيد من خراب عقولهم وفساد تفكيرهم، أما تلاميذهم –في حال كان
لهم تلاميذ- فهم متعصبون إلى أشد درجات التعصب. وسأفصل لأجل التوضيح.
فالنرجسية تعني
حب النفس، وهي اضطراب في الشخصية يجعلها تتميز بالغرور والتعالي والشعور الزائد المتضخم
بالأهمية، والمستويات العالية من النرجسية تجعل الشخص يميل لإعطاء قيمة عالية لأفعاله
وآرائه ظانًا منه أن كل ما يصدر عنه عظيم التأثير في كل من يتعرض له. ولدى النرجسي
حاجة شديدة للشعور بإعجاب من حوله، مع إظهار عدم مبالاته بهذا الإعجاب! وقد يُظن أن
من هذا حاله لديه ثقة عالية بالنفس، ولكنه في الحقيقة يفتقد الثقة بشدة، ما يجعله
لا يتحمل أقل درجات النقد. وعندما تصل به النرجسية إلى تصور أن كل من ينقده يظلمه
ولا يتحرى فيه العدل فهذا يعني أن الحالة قد أصبحت ميؤوسًا منها.
وغالبًا ما يكون
ذلك النرجسي من نوعية "أبي العُريف" الذي يدعي أنه خبير في أشياء كثيرة،
بينما هو ليس أكثر من فقاعة هواء تقرأ وتتقيأ ما قرأته توًا، ولا قدرة له على دمج
مصادر عديدة من المعلومات والخروج برؤية خاصة، فهو لا يستلهم الموضوعات التي يختار
إبداء رأيه فيها وحسب، وإنما يبغبغ بأفكار غيره دون إضافات، ثم يلصق الاتهام بمن يتوهم
تأثرهم به!
فالأدهى والأشد
نكاية ليست فيمن يطلب من غيره الصمت بعده عن طرح رأيه في موضوعات سبق وأن تطرق لها،
وإنما فيمن ينقل ويستنسخ أفكار آخر في الموضوع دون أن يكون لديه جديد، وربما توسع
في تلك الأفكار بإضافة مزيد من النقول أو المراجع، وهذه هي الإضافة الوحيدة التي قد
يقوم بها، ثم يحاول إيهام تلاميذه أن غيره ممن سبقه إلى الحديث في موضوع ما هو الذي
استلهمه منه ونقل أفكاره، وأنه سبق وتكلم فيه منذ زمن! وقد رأيت وسمعت هذه الحالة
بنفسي مرارًا.
ومن خلال متابعتي
للعديد منهم اتضح لي أن إدعاءاتهم ما هي إلا حيلة إسقاط دفاعية، وأن اتهامهم الكاذب
للآخرين بسرقة أفكارهم هو تغطية وتعمية عما يفعلونه بأفكار من سبقوهم التي ينقلونها
غالبًا دون إضافة حقيقية، والسبب ببساطة أن النرجسي لديه دائمًا مشاكل في التمييز
بين ذاته وبين الآخرين، ويرى في نفسه تشابهًا –قد يكون متوهمًا- بينه وبين من يعجبه
منهم، ومن ثم فأفكارهم هي أفكاره الأصيلة، ولا يستشعر أنه يسرقها دون أن ينسبها لهم
على المستوى الشعوري، لكن على المستوى اللاشعوري يشعر بالعار ويلجأ للإسقاط على الآخرين
لمداراة فعلته. فكل من أتى بجديد أو بتحليل عميق لما سبق أن ذكره هو عرضًا في سياق
سطحي تافه هو السارق! ولو كان دليل سرقته عنوانًا أو كلمة عرضية! ومهما اختلف المحتوى
فهو سارق لأفكاره السنية! لأن النرجسي غير قادر على تمييز رأيه عن رأيهم كما أسلفت.
ومما يظهر أيضًا
افتقاد هؤلاء النرجسيين لمهارات التفكير البسيطة -ولن أقول مهارات التفكير المركبة-،
فمن يعتقد أن غيره ليس أصيلًا في أفكاره لأنه تحدث في موضوع سبق أن تحدث هو فيه، أو
حتى ألمح إليه جزئيًا في سياق موضوع آخر، مع عدم ملاحظته تقديم ذلك الشخص الآخر فكرًا
يختلف عما طرحه هو، إنما يفتقد حتى المهارات البسيطة كالتحليل والمقارنة، وإلا لأمكنه
فهم الفروق بين الأطروحات.
ومما يزيد الطين
بلة أن يكون لهؤلاء النرجسيون أحيانًا تلاميذ يتعصبون لهم، فالمتعصبون يعز عليهم أن
يروا أستاذهم يُنقد أو يؤتى برأي أعمق من رأيه ومما ساقه من أفكار، فيلجأون إلى الكذب
بشأن قيمة ما يعرضه المفكرون الآخرون ولا مانع من الإدعاء بأنهم سارقون من أستاذهم
بغض النظر عن قوة الدليل الذي يقدمونه أو ضعفه للاحتجاج على دعاواهم، بينما حين ينعكس
الوضع ويُتهم أستاذهم بسرقة أفكار غيره والبناء عليها يصابون فجأة بانفتاح فكري ويكونون
أكثر الناس نعيقًا بخصوص فساحة الثقافة الإنسانية وحرية الرأي والاختلافات الفكرية
التي تثري الإنسانية.
أحدهم أعد منذ سنوات
سلسلة حلقات فيديو كاملة في موضوع معين سبق أن طرحه مفكر غيره في كتاب، ثم غضب من
ذاك المفكر لأنه لم ينفِ للناس أن صاحب السلسلة قد تأثر به رغم أنه من الواضح تمامًا
أنه فعلًا قد تأثر به! والأنكى أن صاحب السلسلة عاد بعدها بسنوات وانتقى موضوعه في
رسالة الدكتوراة ليكون الموضوع نفسه الذي تناوله أخونا المفكر الثاني في أحد كتبه،
ودفع صاحب الرسالة عن نفسه عندما سُئل عن الأمر بأن رسالته بها أبواب أكثر وتتناول
موضوعات فرعية أكثر فهي أعقد وأشمل وأنه عاد إلى مراجع كثيرة للغاية لم يرجع إليها
المفكر الثاني في كتابه، وعن نفسي فقد راجعت ما ذكر صاحب الرسالة ووجدته محقًا فيه،
وقطعًا يحق له ولغيره أن يبحث في أي موضوع طالما يأتي بجديد، لكن يبقى السؤال الهام:
لماذا تتوهم أيها النرجسي أن غيرك يأخذ منك أفكاره حتى لو كانت تلك الفكرة مجرد شيء
عرضي ذكره كاتب آخر معلقًا عليه وذاكرًا وجهة نظره، بينما تتجاهل تأثير غيرك في سلاسلك
بل وفي رسالتك للدكتوراة؟!
وأخيرًا، فليست دعوتي إلى الانفتاح العقلي في مقالتي هذه هي دعوى إلى الفوضى أو السماح بالسرقة والنقل والتقليد، بل هي دعوى للنرجسيين للتخفيف من نرجسيتهم، وأن يتوقفوا عن توهم قيمة أكبر من قيمتهم وقيمة آرائهم وما يطرحونه، والتخفيف من النظر لطروحات الآخرين بتعالي وعجرفة، والتعامي عما فيها من طرح جديد يختلف بل قد يكون أعلى قيمة من طروحاتهم، التي علمتني التجارب أن كثيرًا منها تكون منقولة.