الجمعة، 2 أغسطس 2019

197- محنة الإمام البخاري


محنة الإمام البخاري
د/ منى زيتون
أحد مقالات كتابي "التطرف الديني"
منشور الجمعة 2 أغسطس 2019

وإن كان الأشاعرة والسلفية قد اتفقوا على قدم القرآن الذي هو كلام الله، إلا أن السلفية قد قالوا إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت، كما ميّز الأشاعرة بين كلام الله القديم وبين أفعال العباد الحادثة، بأن يتلوه بألسنتهم ويكتبوه بأيديهم.
وكان الإمام البخاري ممن ميّز بين المدلول القديم الأزلي والدلالة المخلوقة المحدثة كعادة أهل العلم، ويعدّه الأشاعرة منهم رغم أنه توفي قبل أن يظهر الإمام الأشعري، ويؤطر عقائد السلف تحت مسمى الأشعرية. وقد ذكره السُبكي في "طبقات الشافعية"، بينما يدعيه من أسموا أنفسهم بالحنابلة، وأورده ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة"، رغم أن محنته كانت على أيديهم! علمًا بأن الإمام أحمد بن حنبل لا دخل له بهذه العصابة التي ظهرت وانتسبت إليه بعد وفاته بأكثر من نصف قرن!
وادّعاء الحنابلة الإمام البخاري منهم ليس فيه ما يثبت، فالإمام أحمد بن حنبل كان من معاصري البخاري، ولم يكن من مشايخ البخاري بالمعنى الدقيق رغم مجالسته له في رحلاته الأولى إلى بغداد، بل ولم يُكثر البخاري في الرواية عنه في صحيحه؛ فليس ثمة حديث رواه عنه بلا واسطة إلا حديث (5105) في كتاب النكاح، باب (ما يحل من النساء وما يحرم)، كما روى عنه حديث (4473) بواسطة أحمد بن الحسن، وهو آخر حديث في كتاب المغازي بصحيحه. قال الإمام ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (ج9، ص58) تعليقًا على الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن الإمام ابن حنبل في كتاب النكاح: "قوله –أي البخاري- (وقال لنا أحمد بن حنبل) هذا فيما قيل أخذه المصنف عن الإمام أحمد في المذاكرة أو الإجازة، والذي ظهر لي بالاستقراء أنه إنما استعمل هذه الصيغة في الموقوفات، وربما استعملها فيما فيه قصور ما عن شرطه، وليس للمُصنِّف في هذا الكتاب رواية عن أحمد إلا في هذا الموضع، وأخرج عنه في آخر المغازي حديثًا بواسطة، وكأنه لم يكثر عنه، لأنه في رحلته القديمة –أي إلى بغداد- لقي كثيرًا من مشايخ أحمد، فاستغنى بهم، وفي رحلته الأخيرة، كان أحمد قد قطع التحديث، فكان لا يُحدِّث إلا نادرًا، فمن ثم أكثر البخاري عن علي بن المديني دون أحمد"أهـ.
والشافعي أيضًا لم يكن من مشايخ البخاري، لكن البخاري تفقّه على تلاميذه. ذكر السبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ص214-215) أن البخاري سمع من الزعفراني وأبي ثور والكرابيسي، وتفقه على الحميدي بمكة، وكلهم من أصحاب الشافعي. وإن كان "لم يرو عن الشافعي فى الصحيح. لأنه أدرك أقرانه، والشافعي مات مكتهلًا، فلا يرويه نازلًا، وروى عن الحسين وأبي ثور مسائل عن الشافعي، وذكر الشافعى فى موضعين من صحيحه فى باب فى الركاز الخمس وفى باب تفسير العرايا من البيوع"أهـ. فكان البخاري على عقيدة الأشاعرة وفقه الشافعي. وأهم ما يعنينا أنه على عقيدة الأشاعرة في الكلام، بل هو أول من صاغها، وهي سبب محنته.
وقد كان إمام نيسابور محمد بن يحيى الذُهلي هو سبب المحنة التي تعرض لها ‏الإمام البخاري بسبب تصريحه بأن اللفظ بالقرآن مخلوق في كتابه "خلق أفعال العباد". والذُهلي كان معاصرًا للإمام أحمد ومن أشد المعجبين به، ويعتبر منسوبًا إلى الحنابلة رغم أن الحنابلة لم تكن موجودة كطائفة ذات كيان واضح وقته. ذكر الذهبي –وهو حنبلي العقيدة- في "سير ‏أعلام النبلاء" (ج11، ص198) "وقال محمد بن يحيى الذهلي: جعلت أحمد إمامًا فيما بيني وبين الله"، وقال: (ج12، ص284-285) "كان الذُهلي شديد التمسك بالسُنة، قام على محمد بن ‏إسماعيل البخاري؛ لكونه أشار في (مسألة خلق أفعال العباد) إلى أن تلفظ القارئ بالقرآن مخلوق، ‏فلوّح وما صرّح. والحق أوضح. ولكن أبى البحث في ذلك أحمد بن حنبل، وأبو زُرعة، والذُهلي. ‏والتوسع في عبارات المتكلمين سدًا للذريعة فأحسنوا، أحسن الله جزاءهم. وسافر ابن إسماعيل ‏مختفيًا من نيسابور، وتألم من فعل محمد بن يحيى"أهـ.
ثم أُخرج البخاري من بُخارى بكتاب من ‏الذُهلي إلى أمير بُخارى، وجعل الناس ينقسمون حوله في كل بلد، حتى ضاقت عليه الأرض بما ‏رحبت، ورحمه الله بأن قبضه إليه. روى الذهبي (ج12، ص443) عن ابن عدي "سمعتُ عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي، يقول: جاء محمد –يعني البخاري- إلى أقربائه بخَرْتَنْك، فسمعتُه يدعو ليلة إذ فرغ من وِرده: اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، فاقبضني إليك. فما تمّ الشهر حتى مات"أهـ.
ولعلّ أفضل من يروي تفاصيل ما دار بين البخاري والذهلي هو الإمام البخاري نفسه، وإن كان قد رواه مغمضًا دون تصريح بالاسم، في الجزء الثاني من كتابه "خلق أفعال العباد"، والذي أضافه بعد خروجه من نيسابور بسبب الخلاف مع الذهلي. يقول البخاري (ص105- 106): "زعم بعضهم أن القرآن بألفاظنا، وألفاظنا به شيء واحد، والتلاوة هي المتلو، والقراءة هي المقروء، فقيل له: إن التلاوة فعل التالي وعمل القارئ، فرجع وقال: ظننتهما مصدرين، فقيل له: هلّا أمسكت كما أمسك كثير من أصحابك، ولو بعثت إليّ من كتب عنك فاسترددت ما أثبت، وضربت عليه، فزعم أن كيف يمكن هذا، وقد قلت ومضى؟ فقيل له: كيف جاز لك أن تقول في الله عز وجل شيئًا لا يقوم به شرح وبيان إذا لم تميز بين التلاوة والمتلو؟ فسكت إذًا، لم يكن عنده جواب". ثم يتبع البخاري قائلًا: فإن اعتراض جاهل لا يترفع بقوله، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قال: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، دلّ أن القراءة في الصلاة. قيل له: إنك قد أغفلت الأخبار المفسرة المستفيضة عن رسول الله. إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فأوضح أن قراءة القارئ وتلاوته غير المقروء والمتلو، وإنما المتلو فاتحة الكتاب لا اختلاف فيه بين أهل العلم. وإن لم يعلم هذا المعترض اللغة فليسأل أهل العلم من أصناف الناس، إن فقه وفهم، فما تحملنا على كثرة الإيضاح والشرح، إلا معرفتنا بعُجمة كثير من الناس، ولا قوة إلا بالله"أهـ.
ويضيف الإمام البخاري تعريضًا (ص114-115) "ويُقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف، ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن من ذكر الله في القرآن من الجن والإنس والملائكة والمدائن ومكة والمدينة وغيرهما، وإبليس وفرعون وهامان وجنودهما، والجنة والنار عاينتهم بأعيانهم في المصحف، لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب. ويلزمك أكثر من هذا حين يقول في المصحف، وهذا أمر بيّن لأنك تضع يدك على هذه الآية وتراها بعينك ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾‏ [البقرة: 255]، فلا يشك عاقل بأن الله هو المعبود، وقوله ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾‏‏‏ هو قرآن، وكذلك جميع القرآن هو قوله، والقول صفة القائل موصوف به، فالقرآن قول الله عز وجل، والقراءة والكتابة والحفظ للقرآن هو فعل الخلق"أهـ. والإمام البخاري يعني أن القرآن القديم لو كان هو المداد المكتوب في المصحف لأمكن معاينة ما فيه، وحاشا لله أن يُدّعى ذلك، وإنما المكتوب في المصحف هو الدلالة على كلام الله القديم، وهي من فعل العباد، وأفعال العباد حادثة. ويوضح ذلك قوله (ص116) "القرآن مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مقروء على اللسان، والقراءة والحفظ والكتابة مخلوق، وما قُرئ وحُفِظ وكُتِب ليس بمخلوق، ومن الدليل عليه أن الناس يكتبون "الله" –أي يكتبون لفظ "الله"-، ويحفظونه –يعني يحفظون اللفظ-، ويدعونه، فالدعاء والحفظ والكتابة من الناس مخلوق، ولا شك فيه، والخالق الله بصفته، ويُقال له: أترى القرآن في المصحف؟.........."أهـ.
وقد روى الواقعة بين البخاري والذهلي كثيرون، فأفاضوا وأكثروا، ورواياتهم تثبت صحة قول البخاري باللفظ، ونُقِلت عنهم في كتب التراجم، في صفحات مطولة، فذكرها السبكي في ترجمة ‏البخاري في "طبقات الشافعية" (ج2، ص212: 241).‏ وكذا الذهبي أيضًا في ترجمة البخاري في "السير" (ج12، ص453: 462)، وغيرهما. والثابت عن الإمام البخاري فيما رواه ابن حجر العسقلاني في "هدي الساري، مقدمة فتح الباري" (ص515)، من رواية الإمام مسلم أن المحنة حدثت عندما سأله رجل عن اللفظ بالقرآن، فأجاب: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا"، ومن رواية أحمد بن عدي قال البخاري: "القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة"ـ ومن رواية الإمام الحاكم في "تاريخ نيسابور" قال البخاري: "أفعال العباد مخلوقة". ومن رواية أبي قدامة السرخسي يقول: "ما زلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة، قال محمد بن إسماعيل –البخاري-: حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المبين المثبت في المصاحف، الموعى في القلوب، فهو كلام الله غير مخلوق، وقال إسحق بن راهويه: أما الأوعية، فمن يشك أنها مخلوقة؟". أما الذُهلي فالرواية عنه لا تقل وضوحًا، قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ولا يُجالس ولا يُكلم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه"أهـ، فحرّض عليه، وأقام الفتنة، حتى انقطع الناس عنه إلا الإمام مسلم وأحمد بن سلمة. وفي كتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري كانت عبارات البخاري المنقولة فيه أدق يذكر (ص47) "عن يحيى بن سعيد، يقول: ما زلت أسمع من أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة، قال أبو عبد الله –البخاري-: حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف، المسطور المكتوب، الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق"أهـ.
وفي "السير" (ج12، ص460) روى الذهبي روايات عن الإمام مسلم أنه ناصر الإمام البخاري عندما وقع بينه وبين الذهلي في مسألة اللفظ، وأصر على عدم الانقطاع عن البخاري، وفارق مجلس الذهلي، وأن مسلم كان يُظهر القول باللفظ ولا يكتمه، حتى أنه بعث إلى الذهلي ما كتبه عنه على ظهر جَمَّال.
وكعادة الحنابلة، يحاولون الاحتجاج برواية ضعيفة متفرِّدة بأن البخاري لم يقل "لفظي بالقرآن مخلوق"، وتلك الرواية المتفرِّدة رواها غنجار في "تاريخ بخارى"، ورواها عنه ابن حجر في "هدي الساري، مقدمة فتح الباري" في ختام حديثه عن محنة البخاري مع الذُهلي، علمًا بأن ابن حجر العسقلاني أشعري، وقوله في القرآن والتلفظ به هو عين قول البخاري، وإنما روى تلك الرواية المتفرِّدة من باب الأمانة كرواية وصلته في ختام المبحث، بعد أن روى روايات تثبت قول البخاري بأن اللفظ مخلوق. كما أن الذهبي أيضًا في "السير" (ج12، ص453: 462) وبعد أن روى تفاصيل القصة عن كثيرين، وكلها روايات تثبت صحة نسبة القول إلى الإمام البخاري بأن التلفظ بالقرآن من أفعال العباد، وأفعالنا مخلوقة، باستثناء رواية غنجار، نقل الذهبي عن غُنجار نفسه رواية أخرى (ج12، ص456)، وقد نقلها عنه غير الذهبي، تثبت أن البخاري روى نفي الاعتقاد بأن الكلام ذاته مخلوق، وليس أن التلفظ به المخلوق. "قال غُنجار: حدثنا محمد بن أحمد بن حاضر العبسي، حدثنا الفربري، سمعت البخاري يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. ومن قال مخلوق، فهو كافر"أهـ. وأقول: فإن كانت رواية غنجار المتفردة صحيحة، فلِم لمْ يُعلِن البخاري التبرؤ من القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق في بخارى، حتى أُخرِج من بخارى أيضًا بعدما تكلموا في مذهبه؟!
وقد شغَّب الإمام الذهبي حول المراد باللفظ بالقرآن، وأن المراد قد يكون في الأذهان (فعل العبد) وقد يكون (الملفوظ به). ورأي الذهبي في المسألة هو التوقف عن التصريح كالإمام أحمد، مع الاعتقاد أن أفعال العباد مخلوقة؛ فالذهبي يُنصف بالجزم بصحة الاعتقاد أن المتلو غير التلاوة، وأن التلاوة من أعمالنا. ذكر الذهبي في "العلو للعليّ  الغفار" (ص192) "المتلو وإن تعدد التالون به واحد، مع كونه سورًا وآيات وأجزاء متعددة، هو كلام الله ووحيه وتنزيله وإنشاؤه، ليس هو بكلامنا أصلًا نعم، وتكلمنا به وتلاوتنا له ونطقنا به من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له وأصواتنا به من أعمالنا. قال الله عز وجل: ‏‏‏﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [الصافات: 96]، فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا كلام الله ليس بمخلوق، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين؛ فالتلاوة إذ ذاك والمتلو ليسا بمخلوقين، ولهذا يقول الإمام أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق –يريد به القرآن- فهو جُهمي"أهـ، فهذا تفسير الذهبي لما نسبه البعض للإمام أحمد من رفض للاعتقاد بأن التلفظ مخلوق، ثم يُتبع الذهبي "فالمسألة صعبة، وما فصّلته فيها، وإن كان حقًا، فأحمد رحمه الله تعالى وعلماء السلف لم يأذنوا في التعبير عن ذلك"أهـ. ثم زاد الإمام الذهبي في تعليل موقف الإمام أحمد المُصرّ على كراهية التكلم في اللفظ وأن يُقال مخلوق أو غير مخلوق بأن قال (ص193): "فعل الإمام أحمد رضي الله عنه هذا حسمًا للمادة، وإلا فالملفوظ كلام الله، والتلفظ به فمن كسبنا"أهـ.
وأقول: لكن عبارات البخاري واضحة تمام الوضوح إنه يتحدث عن فعل العبد، ومع ذلك لم يقبل الحنابلة منه ذلك؛ لذا أقول بأن تهوكات الحنابلة في أجيال تالية ومحاولاتهم التشغيبية حول المراد بالقول أن "لفظنا بالقرآن مخلوق" لتبرئة ساحة أسلافهم الملوثة بالإساءة للعلماء من المخالفين لن تُجدي. وأزيد: فلِم صنّف البخاري "خلق أفعال العباد" إذن؟! وكل ما فيه يثبت عقيدة البخاري، التي هي عقيدة أهل السُنة الأشاعرة –وليس السلفية-، ومعتقدهم أن كل ما يفعله العبد مخلوق، ومن بينها التلفظ بالتلاوة وكتابة المصاحف. جاء في "خلق أفعال العباد" (ص53) "قال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" يقول البخاري: "فبيّن أن قراءة القرآن هي العمل"، وذكر (ص66) "حدثنا موسى بن وهب عن داود عن الشعبي في بيع المصاحف، أنه لا يبيع كتاب الله، إنما يبيع عمل يديه"، ويروي (ص67) عن علي رضي الله عنه قال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "زيِّنوا القرآن بأصواتكم"، وبعد أن يستعرض كثيرًا من الآيات الكريمة التي جاء فيها الأمر من الله بتلاوة القرآن، يقول البخاري (ص70): "فبيّن أن التلاوة من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن الوحي من الرب، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يُتلى، فبينت رضي الله عنها أن الإنزال من الله، وأن الناس يتلونه" وقال (ص104): "القراءة هي التلاوة، والتلاوة غير المتلو"أهـ. وغير ذلك الكثير من الأخبار عن السلف مما طفح به كتاب البخاري، وقد فصّل البخاري في بيانه والاستدلال عليه. ولكن أغلب السلفية المحدثين ممن يستعصي عليهم فهم دلالة مصطلحيّ مخلوق وغير مخلوق يخلطون ولا يفهمون، فيأتي سلفي ويدعي أن البخاري لم يقل إن قراءة القرآن والتلفظ به وكتابته من أفعال العباد المخلوقة، المنفصلة عن القرآن ذاته الذي هو كلام الله القديم غير المخلوق!
وكذا ما في الكتاب من حديث عن الاستواء، ما هو إلا إثبات للآيات على لفظها، وبيان أن مذهب أهل العلم هو تفويض المعنى بلا كيف، وقد روى البخاري (ص63) عن الرسول صلى الله عليه وسلم "ما علمتم منه فقولوا، وما لا، فكِلوه إلى عالمه"، وروى عن ابن مسعود: "من علم علمًا فليقل به، ومن لا، فليقل: الله أعلم"أهـ؛ ذلك أن الجُهم بن صفوان ثبت عنه كما روى البخاري أنه قال عن آية الاستواء (ص38): "أما والله لو وجدت سبيلًا إلى حكِّها لحككتها من المصحف"، ولكن السلفية يتوهمون من الكتاب عكس ما قصد مؤلفه، وليس بجديد عليهم.
كان كتاب "خلق أفعال العباد" ردًا من الإمام البخاري على كل من المعتزلة والحنابلة، فكل طائفة منهما لم يميزوا بين المتلو والتلاوة، فالمعتزلة اعتبرت القرآن مخلوقًا كما رفضت القول بأن أفعالنا مخلوقة لله، والحنابلة اعتبروا القرآن قديمًا غير مخلوق، لكن لم يميزوا فعل العبد من أفعال العباد، فرفضوا التصريح بأن تلاوتنا وكتابتنا للقرآن محدثة!
وممن نالهم الأذى أيضًا بسبب عدم تمييز الحنابلة بين القرآن القديم وأفعال العباد المخلوقة، الإمام الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني، ونتناول محنته في مقال آخر.

المراجع
القرآن الكريم
أحمد بن علي بن محمد شهاب الدين المعروف بابن حجر العسقلاني. ‏‏ تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي. (د.ت) فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. القاهرة: دار الريان للتراث.
‏عبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي تاج الدين السبكي. تحقيق: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو. (1993). طبقات الشافعية الكبرى. ط2. القاهرة: دار هجر.‏
محمد بن أبي يعلى الفرّاء. تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين. (1419هـ). طبقات الحنابلة. الرياض: دارة الملك عبد العزيز.
محمد بن أحمد بن عثمان شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. تحقيق: أشرف بن عبد المقصود (1995). العلو للعليّ الغفَّار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها. الرياض: مكتبة أضواء السلف.
محمد بن أحمد بن عثمان شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم الزيبق. (1996)‏. سير أعلام النبلاء. ط 11.‏ بيروت: مؤسسة الرسالة.
محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري. تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر. (1422هـ). الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وسننه وأيَّامه المشهور بـصحيح البخاري. دار طوق النجاة (نسخة الكترونية مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)+ طبعة القاهرة: ألفا للنشر والتوزيع.
https://drive.google.com/file/d/0B28-lgXs2FQmQTMxN25nRUJmNm8/view?usp=sharing
محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري. تحقيق: عبد الرحمن عميرة. (1398هـ). خلق أفعال العباد. ط2. جدة: دار عكاظ.