الخميس، 25 يوليو 2019

196- مستقبل البحث في العلوم الاجتماعية


مستقبل البحث في العلوم الاجتماعية
د. منى زيتون
مقدمة كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"
صدرت النسخة الالكترونية عام 2019، والطبعة الأولى 2021
نُشر المقال الخميس 25 يوليو 2019

يُعتبر مصطلح العلوم الاجتماعية مصطلحًا واسعًا، يشمل عددًا من العلوم التي تهتم بالمجتمع وعلاقات أفراده. وعلى رأس هذه المجموعة المتنوعة من العلوم علم الاجتماع بفروعه المختلفة، وعلم النفس بفروعه، والتاريخ، وعلوم اللغة، وعلم الاقتصاد، والعلوم السياسية، والقانون، وغيرها من العلوم الإنسانية، التي تتعامل مع المجتمع كمنظومة، وعليها استكشاف الأساليب التي ينتظم بها.
والأهداف الرئيسية من سائر هذه العلوم هو فهم الظواهر التي تحدث في المجتمع، وتفسيرها، والتنبؤ بالتغيرات في السلوكيات والعمليات الاجتماعية التي تربط البشر كأفراد وجماعات، ونقد سلوكيات البشر أثناء تفاعلهم الاجتماعي، بغرض ضبطها وتحسينها. ولا بد أن يكون الهدف الرئيسي منها هو تفسير الظواهر الاجتماعية لا الحكم عليها.
ولسعة وتنوع مجالات البحث في العلوم الاجتماعية، فإنه قد يصعب تصنيف بحوثه، وكثيرًا ما يتشارك باحثون في تخصصات مختلفة البحث في موضوع واحد، لتشعب أهداف البحث، ووجود علاقات واضحة بين النظم الاجتماعية.
كما تتنوع مناهج البحث العلمية في مجال العلوم الاجتماعية، فقد يُستخدم المنهج الوصفي أو المنهج التجريبي أو المنهج التاريخي، وعليه فقد تكون أساليب جمع البيانات كمية أو كيفية.
والبحوث الاجتماعية هي دراسة علمية للبناء الاجتماعي للمجتمع، لجوانب ومكونات الحياة فيه، والعمليات الاجتماعية الحادثة فيه، وهي المعرفة المتجمعة باستخدام المناهج العلمية على اختلافها في الدراسات الاجتماعية المتنوعة.
إن أحد أهم أسباب مشاكلنا هو التفكك الاجتماعي، وعدم التعامل والتعاطي مع قضايا المجتمع كمنظومة متكاملة، والإصرار على الانعزالية في فهم الظواهر والقضايا والمشكلات الاجتماعية، وهذا نراه ونلمسه على مستوى الدول ككل، وكذا على مستوى أفراد المجتمع؛ ولأجل هذا فإن المنظور التكاملي لقضايانا في ضوء تخصصات العلوم الاجتماعية المختلفة، والابتعاد ما أمكن عن تصور الجزر المنعزلة عند معالجتها ضرورة لمجتمع سوي متحضر.
ما ميز علم الاجتماع في بداياته أن علماء الاجتماع كانوا يناقشون في أعمالهم الأديان، وعلم النفس، والفلسفة، والتعليم، والأخلاق، لكن في مرحلة لاحقة ظهرت نزعة تجريبية في بحوثه على يد كارل ماركس، وسادت تلك النزعة لفترة، لوحظ فيها تزايد مشكلات المجتمعات الإنسانية، وتفاقمها، وأزعم أننا بحاجة إلى العودة بقوة إلى المنهج الوصفي في البحوث الاجتماعية، لأن الفهم الدقيق هو أول خطوات حل المشكلات الاجتماعية؛ فللآراء ووجهات النظر التي تستند إلى تحليل للظاهرة أو القضية الاجتماعية أهميتها، والبحوث الاجتماعية لا تبنى فقط على التجريب، ولست من أنصار اعتبار نتائج البحوث التجريبية حقائق اجتماعية، مهما كان حجم العينة المستخدم فيها.
فالاستقصاء الكمي يوجه عنايته للكشف عما يسميه الحقائق الاجتماعية، فاصلًا إياها عن سياقها الاجتماعي وأحيانًا التاريخي! بينما من المعلوم أن العلوم الاجتماعية تختلف في طبيعتها عن العلوم الطبيعية، فلكل مجتمع خصائصه. والمجتمعات الإنسانية تتميز بوجود معايير وقيم وقواعد أخلاقية وثقافات، تؤثر في القضايا الاجتماعية، والإنسان ليس آلة، ولا يعمل بمعزل عن مجتمعه، كما أن قضايا مجتمعه ومشاكلها تتشابك معه على تنوعها، ولا يمكن النظر إليها بمعزل، وما نستدل عليه من نتائج بحث اجتماعي أُجري في مجتمع قد يختلف كثيرًا عن بحث مناظر في مجتمع آخر، أيًا كان المنهج العلمي المستخدم. بل إن مقارنة المجتمعات المختلفة أحد مجالات العلوم الاجتماعية.
وعلى هذا فالاستقصاء الكيفي من وجهة نظري له أهميته القصوى في مجال الدراسات الاجتماعية، حيث ندرس الظواهر الاجتماعية في مواقف طبيعية وليست اصطناعية، ونسعى من خلال ملاحظاتنا إلى تفسير تلك الظواهر، وتبسيطها، وإعطاء معنى اجتماعي للظواهر، مع تحليل العلاقات بين الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والعوامل الخارجية. ولا بد أن نقر أن لكل باحث مهما كانت الطريقة والمنهج الذي يستخدمه أفكاره وآراؤه وقيمه، وموضوعية الباحث في النهاية هي التي تحدد قيمة البحث، وليست الأرقام.
وأرى أن مستقبل العلوم الاجتماعية في البحوث الكيفية الإثنوجرافية Ethnography تحديدًا، التي تستخدم الملاحظة أساسًا في جمع البيانات، والاستقراء أساسًا في تحليل البيانات، فالباحث يغمر نفسه في الظاهرة التي يلاحظها ليتحصل على صورة عقلية كلية كاملة واضحة عنها، مستبعدًا أي تأثيرات من نتائج الأبحاث المقاربة التي تمت في بيئات أخرى.
ونتائج البحوث الاجتماعية على تنوعها تسهم في تطور المجتمعات وتقدمها، كونها توجه عنايتها لفهم مشكلات المجتمع، وتضع حلولًا لها، وما يميز المجتمعات المتطورة والناهضة بقوة أنها تهتم بنتائج هذه البحوث، على مستوى القادة والمشرعين والسياسيين والأكاديميين، فلا تقف عند حد التنظير، بل يتم تطبيق نتائجها؛ فتسهم إسهامًا حقيقيًا في صياغة السياسات العامة لتلك الدول، والتغلب على مشاكلها، وحتى مواطنو الدول المتقدمة فإن مما يميزهم اهتمامهم بنتائج هذه البحوث، فيضعوها نصب أعينهم لتحسين سلوكياتهم الاجتماعية.
فلأن الإنسان كائن اجتماعي، وعلى اتصال دائم بغيره من أفراد المجتمع، تعد الدراسات الاجتماعية بوجه عام من أكثر الدراسات أهمية للفرد العادي في المجتمع، والناس لا ينفكون يسألون عن سبب تزايد التعصب، أو سبب ارتفاع أعداد حالات الطلاق، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تنشأ من سلوكيات الأفراد في المجتمع، وتؤثر على أصحابها وعلى المجتمع ككل.
ولإيماني الشديد بأن العلم تكاملي البناء، وليس فقط تراكمي البناء، فأنا أحاول جاهدة أن أدمج معارفي المختلفة في نطاقات علم النفس وعلم الاجتماع والعقائد والتاريخ والنقد الأدبي وغيرها من فروع الإنسانيات، بل وحتى علم الأحياء، ومناقشة جميع القضايا الاجتماعية التي أطرحها في مقالاتي، حتى الدينية منها، من وجهة نظر اجتماعية.
فهدفي هو بحث مجموعة متنوعة من أهم القضايا التي تهم المجتمع العربي، والتي للوهلة الأولى قد يستشعر القارئ غرابة في وجود هذه الموضوعات والقضايا المتباينة ضمن اهتمامات كاتب واحد، ولكنها جميعها رغم تباينها تمت مناقشتها من منظور اجتماعي. ناقشت في مقالاتي موضوعات في عدة اختصاصات اجتماعية هامة كالتعليم، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع السياسي، والإدارة والتنظيم الاجتماعي، والعلاقات العرقية والدينية، والتطرف الفكري، والإلحاد، والممارسات الاجتماعية، والتغير الاجتماعي، والتقسيم الطبقي، وحرصت حرصًا تامًا على التنويع في طرق العرض، حتى أن بعض الأفكار التي أردت طرحها طرحتها من خلال النقد الأدبي لروايتين أدبيتين وبعض من الميثولوجيا اليونانية! وأرجو أن يجد كل قارئ فيما أكتب فائدة، وأن أسهم في التغلب على مشاكل مجتمعاتنا العربية.
إن النظرة التكاملية لقضايانا الاجتماعية ضرورة ملحة، إن أردنا أن نصل بمجتمعاتنا إلى التحضر الذي نبتغيه، مع الحفاظ على هويتنا، ولكنه يتطلب توسيع أفق الباحثين في الميادين الاجتماعية وزيادة إطلاعهم على اختصاصات عديدة؛ للقضاء على حالة التفكك والمنظور الأحادي في بحوثنا الاجتماعية.