الثلاثاء، 23 يوليو 2019

194- احرص على حفظ القلوب من الأذى


احرص على حفظ القلوب من الأذى
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الثلاثاء 23 يوليو 2019

من أجمل ما نُسب إلى سيدنا الإمام علي من شعر قوله:
احرص على حفظ القلوب من الأذى *** فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها *** شبه الزجاجة كسرها لا يشعب
والمتابع للصفحات الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي سيجدها تمتلئ بعبارات كُتبت بالعامية أو الفصحى، تحث الناس على التخفيف من ضبطهم الانفعالي لانفعالاتهم السلبية كالغضب والضيق، وعدم الاكتراث بردود أفعال الآخرين إزاء ما يظهر من سلوكيات هؤلاء الغاضبين الحانقين، وإشعار المعترضين أن التعبير عن هذه الانفعالات السلبية دون مصاحبتها بأي تعبير لفظي يوضح أسبابها هو من حقوقهم!
من أمثلة ذلك:
ü     "عمرهم ما هيفهموا إنك بتمر بحالة صعبة ومخنوق ومضغوط. هيفهموا بس إنك عصبي وبقيت خنيق، فما تحاولش تشرح"!
لم يسأل من كتب هذا الكلام نفسه: ما ذنب الناس أن يصبح من تنصحه هذه النصيحة عصبيًا خنيقًا معهم؟! وهل صاحبك فقط من لديه مشاكل؟! لا يفهم هذا أن حق الإنسان على من يحب أن يقفوا جانبه ويساندوه، وليس أن يُفرغ فيهم شحنة غضبه، ويسيء معاملتهم.
ü     "عندما أتغير عليك فجأة تأكد بأني أريدك أن تشعر بي، لا أن تتركني. لكن إن كنت تراها فرصتك، فهي لك!"
هذا المتحدث غبي؛ يريد أن يتغير في معاملته مع صديقه أو شريكه ليجعله يشعر بمعاناته، والثاني عندما يبدي انزعاجًا يُفسر هذا بأنه تصيد منه للفرصة! ماذا لو جربت أن تخبره بما تشعر به بدلًا من هذا الفيلم الهندي؟!
ü     "الشخص الذي يحبك يتحمل أسلوبك. يحن عليك رغم قسوتك عليه. ويخبرك أنه سيكون معك دائمًا"!
الحقيقة أن أقصى درجة من الانحطاط الانفعالي يمكن لبشر أن يصل إليها أن يتصور أن من حقه أن يسيء التعامل مع الناس ويقسو عليهم، وأن من لا يتحمل إساءته لا يحبه!
ü     "ذات مرة وثقت بمكانتي عند أحدهم، فتركته لأتأكد، وجل من لا يخطئ"!
لا يسعني إلا مصارحتك بأنك مخطئ يا أحدهم! كيف تترك هذا المريض الذي تركك معتبرًا إياك فردة جورب لن تتحرك من مكانك مهما أهملك؟!
****
هذا الكلام الفارغ من كل معنى يذكرني بأغبى وأجمل بكائية غنائية كتبها الأبنودي وغناها عبد الحليم في أحد أفلامه، ليعبر عن حزنه عندما رجع من رحلة عربدة، ولم يرحب به أصدقاؤه!
"مشيت على الأشواك، وجيت لأحبابك. لا عرفوا ايه ودّاك ولا عرفوا ايه جابك"!
مخطئون هم! ليس لهم حق في فعلتهم! وأحضان الحبايب شوك يا قلبي! لكن فعلًا "ايه ودّاك وايه جابك؟!"
ربما يظن بعض الناس أنني أتفلسف والأمر لا يستحق، لكن الحقيقة أن مستوى انحدار الذكاء الاجتماعي لدى بعض الأفراد في مجتمعنا صار مبهرًا؛ وهم يظنون أن تغيير معاملتهم مع من يخالطوهم هكذا دون توضيح، هو حق طبيعي لهم، ومن الواضح أن هناك من يروج للفكرة على مواقع التواصل لدرجة تجعل هناك من يتصورون أن هذه سلوكيات طبيعية، بل ويمكن التبرير لها! والأهم أن لديهم من الوقاحة ما يسمح بانتقاد الآخرين الرافضين لهذه الطريقة في المعاملة.
في الدول ذات الثقافات الراقية نجد عندهم إدراكًا لقيمة تعلم أي شيء في الحياة. المرأة الحامل حتى يحين موعد ولادتها تكون قد قرأت على الأقل عشرة كتب عن الحمل وتربية الطفل. والمقبل على الزواج يقرأ عن الحياة الزوجية وكيفية التعامل مع شريك الحياة. ومن يجد نفسه غير ناجح في حياته الشخصية أو عمله لأن مهارات التواصل لديه ضعيفة يقرأ ويأخذ دورات لتحسينها على يد متخصصين.
أما نحن فأمورنا كلها تمشي بالعشوائية، نمضي في حياتنا بطريقة "العك"، ونفشل تمامًا في رؤية أثر سلوكياتنا السيئة على ردود أفعال الآخرين تجاهنا! بل من الممكن أن نشعر بالمظلومية ونلومهم!
لا تستهينوا بكسر القلوب، فالحزن يضعف عضلة القلب، ويمزق الأوتار؛ الحزن يمكن أن يميت. جرِّب أن تقترب ممن تحب حين تحزن، أن تفضفض وتخبره بما يحزنك. فرق بين أن يحزن لأجلك حين يعلم ما يحزنك، فتتقاسما الحزن ويخف ألمك، وبين أن يحزن بسبب سوء تصرفاتك معه. لا تكن أنانيًا وتنقل حزنك إليه.

ثقافة الاعتذار
معلوم أننا نفتقد كثيرًا ثقافة الاختلاف في مجتمعاتنا، وهذا سبب رئيسي لكثير من مشاكلنا، لكني أعتقد في وجود سبب ثانٍ مهم لما نواجهه من مشاكل اجتماعية، وهو أن ثقافة الاعتذار مفقودة عندنا هي الأخرى.
المفترض أن على من يخطئ أن يُقر بخطئه، ويعتذر عنه، لكن كثيرين تربوا على تجاهل أهمية الاعتذار، والمماطلة فيه وإضاعة الوقت، فلأن الوقت يمر ولا يقف عند الموقف الذي أخطأ فيه أحدهم، ولأن حوادثًا كثيرة قد حدثت بعد ذاك الموقف الذي كان يتطلب الاعتذار، فهو يتعلل بأن من يبقى متذكرًا للموقف الأول هو المخطئ! وبعد فترة نراه يتعامل مع من كان ينبغي تقديم الاعتذار له وكأن شيئًا لم يكن!
هذه الثقافة لا تقتصر ندرتها عند الأفراد في مجتمعنا، بل ونجد الحال بالمثل في الجماعات الفرعية في المجتمع، ونلمسها في جميع الميادين على تنوعها. لا مسئول عندنا يعتذر، ولا جماعة أو حزب أو مؤيدوهم يعرفون شجاعة الاعتذار. والشخصيات التي تقر بغلطها وتتحمل مسئوليتها ما أقلها، وهذا ليس بالأمر الهين.
وما يساعد في تفاقم المشكلة، وإظهار توابعها، أن من لا يعتذر هو في الحقيقة لا يدرك خطأه إدراكًا حقيقيًا، ومن ثم لا توجد ضمانات كافية أن ما حدث من خطأ لن يتكرر.
كما أن الاعتذار لا معنى له دون مبادرة؛ فالاعتذار الحقيقي ليس أن تلقى إنسانًا أخطأ في حقك فيحاول مراضاتك فقط لأنه رآك! وليس أن تذهب إلى المخطئ طمعًا في أن يُقدم اعتذارًا!
هناك أيضًا إشكالية قيمة المخطئ وعمره؛ حيث يتعارض احترامنا للشخص وتقديرنا لمكانته الاجتماعية أو عمره وفقًا لثقافة مجتمعنا مع اعتذاره إلى من هم دونه مكانة وسنًا، رغم أن السُنة النبوية الشريفة مليئة بدروس وعبر عن ترضية الرسول الكريم لكل من ظن أنه أخطأ في حقه.
كما أنه من أشد صور نقص الذكاء الاجتماعي أن تُتاح لبعض الناس فرصة لإصلاح الخطأ والاعتذار عنه، ولكنه يُسوِّف ويظل يتصرف كما ولو أن تلك الفرصة التي أُتيحت ستظل متاحة إلى الأبد!
قال من قبلنا: الاحترام تربية وليس ضعفًا، والاعتذار خُلق وليس مذلة.