الاثنين، 15 يوليو 2019

186- انتشار العامية وانحدار العربية!


انتشار العامية وانحدار العربية!
د/ منى زيتون
أوائل 2018
الاثنين 15 يوليو 2019

أول ما يُبدأ به تعلمنا النظامي اللغة؛ لأن اللغة أداتنا لاكتساب العلم ووسيلتنا إليه. من هنا كانت أهمية الاعتناء باللغة التي بها ندرس ونتلقى العلم. وقد تدهورت لغتنا العربية الفصحى في عصرنا الحاضر وانتشر استخدام العاميات في المقابل حتى قل من يتقنون الفصحى، وكثرت الدعوات إلى تجاهلها.

اختلاف لسان العرب قديم
بدايةً نقرر أن اختلاف ألسنة الناس هو مراد الله؛ فالبشر تختلف لغاتهم، بل وقد تكون للغة لغات فرعية منها.
عرفت العرب اختلاف اللسان رغم فصاحته، فكانت هناك لغات طي وهذيل وغيرها من قبائل العرب، وهي فصيحة وليست عامية، رغم اختلافها في بعض مفرداتها ومعانيها عن لغة قريش. كما قد يختلف نطق اللفظ الواحد؛ فإن كانت قريش تهمز فهذيل مثلًا لا تنطق بالهمز، وهكذا. كما أن هناك النبطية والسريانية والآرامية، وهي لغات شرقية من الجذر نفسه الذي للعربية، ويعدها البعض لغات فرعية للعربية.
لكن بتقدم الزمان واختلاط العرب بالعجم اختلط لسانهم، وظهرت العامية ثم العاميات المختلفة شيئًا فشيئًا، وشاع لحن القول عندهم.
على سبيل المثال، أذكر انني قرأت في ترجمة الإمام الطبري في "سير أعلام النبلاء" للذهبي طرفة للإمام مع أحد أصحابه، يرد فيها هذا الصاحب على الإمام الطبري، لمّا استعجم عليه كلامه فيقول للإمام: "ألا تعرف أن العرب تنطق القاء جيمًا؟"
وفي كتب التاريخ يمكن أن نقرأ كلمات مثل "الست" بمعنى السيدة، و "ايش؟" بمعنى: أي شيء؟ وهي تتكرر في حوارات كثيرة، بما يعني أنها دخلت إلى الفصحى منذ القدم وتداخلت معها رغم كونها ليست منها.

تطور اللغة ضرورة حتمية
اللغة هي أداة تعبير البشر عن أنفسهم، وطالما اختلف الناس باختلاف الزمان والمكان كان من الطبيعي أن تختلف اللغة.
في أحد مقالات كتابه "يسألونك"، المعنون باسم "بين التزمت والإباحة"، يرد الأستاذ العقاد على أحد الأدباء ممن استنكر استخدامه في كتابه "عبقرية الإمام" لألفاظ مثل "فشل" وفقًا لمدلولها المعنوي الحديث، في معنى "أخفق وخاب"، رغم أنها لم تكن مستخدمة بهذا المدلول زمن الإمام علي، وكان استخدامها في معنى "التراخي والضعف والخواء".
رد العقاد تلخص في أن تغير مدلولات المعاني وتطور اللغة أمر معروف وطبيعي في كل اللغات، وله أن يستخدم المدلولات الحديثة طالما لم يضعها على لسان رجل في زمان سابق وكأنه هو من تكلم بها، علمًا بأن العقاد كان من أشد المتصدين لهجمة العامية على الفصحى في زمانه، وعلى دُعاة التوسع في استخدام العامية، وله في "يسألونك" مقالين بهذا الخصوص هما "العامية والفقر" و "السلفية والمستقبلية".
فإن كان من الجمود وعدم التطور موقف من نقد العقاد بسبب ما استخدمه من ألفاظ في عبقرية الإمام، إلا أن ما يحدث في العامية ليس من التطور في شيء؛ فقد اختلفت العامية اختلافًا واسعًا عن الفصحى حتى يكاد من لم يتعلم العربية الفصحى من العرب ألا يفهم فُصحاه، لتباعد ما يستخدمه في حياته من ألفاظ ومفردات عن ألفاظ الفصحى، فضلًا عن خلو العامية من الحركات التي تميز الإعراب وتفصح عن تراكيب الجملة، والتي يجتهد من يتعلم الفصحى كي يتقنها.
وبينما اللهجات واللغات الفرعية من العربية قديمًا لم تكن تخالف ألفاظ الفصحى تمامًا، ولا كانت تخلو من حركات الإعراب، صارت العامية في عصرنا أقرب ما تكون للغة أخرى تسعى لاحتلال مكان ومكانة العربية الفصحى، خاصة بعد أن أسهمت وسائط التواصل وقنوات الإعلام في تقريب عاميات العرب.
واللغة، أي لغة ترتقي بارتقاء الناطقين بها. وحديث العقاد عن تغير مدلولات الألفاظ باختلاف الزمان يعني أولًا أن اللغات تتطور، كما يعني لنا أن الفصحى قد توقفت عن التطور ولا نجد لذلك سببًا سوى الحال العثر الذي تعيشه الأمة العربية في العقود الأخيرة بعد أن كانت أفاقت من سُباتها منذ نهضة محمد علي باشا.
ربما كان توقف الفصحى عن التطور وعدم مواكبتها للتغيرات الاجتماعية مما أسهم في تعاظم دور العامية، التي تطورت كثيرًا وزادت صيغها وتراكيبها، وأصبحت أقرب لحياة الناس، حتى المثقفين منهم، لقدرتها على التعبير عن واقعهم.
وأقول: لأن الفصحى أرقى من أن تتلاقى مع انحطاطنا لم تتطور لتعبر عنا الآن؛ لأنها لو تطورت لتعبر عن حال العرب في زماننا لما استحقت أن تكون لغة القرآن.

الفصحى أوسع وأدق
في مقال "فلسفة اللغة العربية" تحدثنا عما أورده د/عثمان أمين في كتابه عما يميز العربية من اتساعها ودقتها المستمدان من سعة اشتقاقاتها، ومن ظلالها وألوانها، فللكلمة الواحدة كلمات تنتسب لها تعبر عن درجاتها كدرجات اللون الواحد، تعطي مدلولات معاني دقيقة أشد الدقة عن الحال، ولا يماثل العربية في ذلك لغة من لغات العالم.
ففي الفصحى كلمات: عطش- ظمأ- صدى- أوام- هيام، والتي تتدرج في مدلولاتها التعبيرية عن الاحتياج إلى الماء. أما غاية العامية من التعبير عن المعاني ذاتها أن تنهج نهج اللغات الأخرى فتضيف ألفاظًا وتراكيب لتوضيح درجة الحال، كأن يُقال بالعامية "عطشان قوي" للتعبير عن الظمأ، أو "هأموت من العطش" للتعبير عن الصدى، أو "مش شايف ويهلوس من العطش" للتعبير عن الهيام. وذلك بدلًا من استخدام لفظ واحد دقيق يوضح درجة الحال.
وما يميز العامية دائمًا تخففها من قيود الفصحى، فتغير في الألفاظ الأصلية، كما لا ترى بأسًا في تعريب ألفاظ أخرى وضمها إلى قاموسها اللفظي. وقد تجري عليها تعديلات لأجل ذلك؛ فتصرف الكلمة المعربة كما تُصرف الكلمات في العربية على الأوزان نفسها، على سبيل المثال: "يُكنسل" يستخدمها العرب اليوم بمعنى "يلغي"، وهي مصوغة كما تُصاغ أفعال العرب وياء المضارعة تسبقها، وأصلها cancel الإنجليزية.
وتعدد العاميات يجعل إحلال إحداها محل الفصحى ضرب من المستحيل، هذا مع ضيقها وعدم دقة مدلولات ألفاظها. لكن مع التوسع في استخدام وسائل التواصل وقنوات الإعلام تقاربت اللهجات العامية بين العرب، وعُرفت اللهجة البيضاء، التي هي خليط من العاميات العربية، ويفهمها ‏الجميع.‏ وتجددت الدعوة إلى اعتماد العامية لغة رسمية في ساحات العلم!
وهذا من أعجب ما يكون، فالإنجليزية –على سبيل المثال- رغم تعدد لهجات من يتكلمون بها اليوم إلا أنهم لا زالوا في معاهد العلم يعتبرون الإنجليزية البريطانية هي المعيار، حتى أنهم لا يقبلون في الرسائل العلمية الاختصارات التي شاعت في الإنجليزية الأمريكية وانتشرت من خلالها مثل don’t وغيرها.

أهمية الفصحى
قديمًا قالوا إن وجود أصوات في لغة وافتقادها لأصوات ما، بل وقوة ووضوح تلك الأصوات هو وسيلة البشر الذين يعيشون في بيئة ما للتعبير عن أنفسهم ورؤيتهم للعالم من حولهم، والعربية الفصحى إذا ما قورنت أصواتها بأصوات غيرها من اللغات سنجد أكمل الأصوات فيها؛ حيث تنطق الحروف كاملة غير منقوصة، حتى بالنسبة للحروف المنتشرة في كل لغات العالم. على سبيل المثال، اللام العربية الفصيحة لا تضاهى بها اللام في الإنجليزية والفرنسية من حيث قوتها واكتمالها، كما لا تضاهى بها اللام في كثير من اللهجات العامية والتي تكاد تبدو نصف لام أو لام خاطفة.
ولا بد من لغة واحدة معيارية يستخدمها المتعلمون. هذه اللغة يتوحد الناطقون بها على الدلالات والمدلولات المعنوية للألفاظ، وهو ما لا يمكن أن تتفق فيه اللهجات العامية. الفعل "يُعيِّط" على سبيل المثال يعني في العامية المصرية "يبكي" وفي العامية الشامية "يصرخ".
والفصحى أوسع وأفسح وأدق من العامية، أي عامية، لذا كانت الفصحى لغة كل العلوم بدءًا من العلوم الشرعية التي هي قاعدة المعرفة، وارتقاءً في الهرم المعرفي حتى العلوم البحتة والتطبيقية.
وغني عن البيان أن العربية الفصحى هي لغة القرآن ووسيلتنا لفهمه وبيان معانيه وأحكامه. كذا هي وسيلتنا لفهم كتب الأقدمين وكُنه ما يقولون. والقرآن في المقابل لم يحافظ على العربية لفظًا فقط، بل لفظًا ومعنى.
لا أريد أن أسرف في التشاؤم لتصوير محاولة القطع مع العربية على أنها في حقيقتها هجمة على القرآن والعلوم الشرعية، وإضعاف وتقليل لأعداد متعلميهم، ولا أرى الأمر بحاجة للزج بفكرة التآمر لأن القطع مع العربية الفصحى هو في حقيقته كذلك؛ أي قطع مع القرآن وهجر لفهمه، وقطع مع علومنا الشرعية وإضعاف لها.
كما سبق وتحدثنا في مقال "نظرة على الوظيفة الاجتماعية للغة" عن أن اللغة تؤدي وظيفة اجتماعية وتمكن الناس من التواصل بدقة لا تمكنهم منها سائر الوسائط غير اللفظية للتفاعل الاجتماعي كالإيماءات وتعبيرات الوجه وغيرها؛ فاللغة هي وسيلة التواصل التي جعلت البشر أرقى الكائنات الحية.
والمقارنة بين الفصحى وأي من اللهجات العامية في أداء تلك الوظيفة الاجتماعية في المجتمع العربي على اتساعه لن يكون في صالح العامية، حتى لو أخذنا أوسع اللهجات العربية العامية انتشارًا وأسلسها وأقربها فهمًا لكل العرب، وهي ما يُعرف باللهجة القاهرية، نسبة إلى القاهرة.
تبقى العامية محدودة مخصوصة بمجتمعات أصغر من المجتمع العربي الواسع، عاجزة عن تحقيق الفهم الدقيق بين المتكلم والسامع من بيئتين مختلفتين ومجتمعين فرعيين، تجعل الغريب من بينهما يصاب بعزلة ثقافية كأنه انتقل إلى مجتمع جديد يتكلم لسانًا آخر.

العامية تتفاوت!
في عصر نهضتنا، كانت المقالات في الصحف والمجلات الثقافية بالفصحى الرصينة لكبار كتاب الوطن العربي. وكانت الإذاعة تقدم كل برامجها بالفصحى. والعوام كانوا يسمعون ويرددون القصائد الشعرية لفطاحل الشعراء مُغنَّاة مشكولة.
لكن بدأ دخول العامية إلى وسائل الإعلام من خلال التليفزيون. كانت البرامج الدينية والثقافية فقط ما تسيطر عليها اللغة الفصحى، ثم انتشرت العامية حتى في البرامج الدينية. ثم أثرت وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا في انتشار العامية. كما أن التحول الذي تم في دبلجة أفلام الكارتون للأطفال من الفصحى إلى العامية كان من سوءات المصريين، وأسهم في مزيد من تدهور مستوى اللغة العربية الفصحى لدى النشء، على العكس من الدبلجة بالفصحى التي انتهجها الشوام.
ولعل الأثر الثقافي أبعد من أن يقتصر فقط على استبدال الفصحي بالعامية، بل يتعدى إلى المحتوى الذي تحمله العامية.
فمع كل ما سبق وأشرنا إليه من أهمية الفصحى كأداة رئيسية للعلم والثقافة، لا بد من مراعاة أن العامية ذاتها تتفاوت، فما يسمى بالشعر العامي التافه في أيامنا هذه لا يقارن بأشعار الزجل في القرن العشرين، حيث كانت الألفاظ المستخدمة أكثر رقيًا. قرأنا أشعار بيرم التونسي ورباعيات صلاح جاهين، وسمعنا أغاني الشيخ سيد درويش، وقديمًا تغنى الشعراء في ريف وصعيد مصر على الربابة بالسيرة الهلالية وغيرها من السير الشعبية. وكانت كل هذه الأشعار والأزجال بالعامية. كما كان هناك شعراء مجيدون كتبوا قصائد بالعامية تغنى بها كبار مطربينا، ومعانيها الراقية لا تقل عظمة عما تغنوا به من قصائد بالفصحى.
وفي رأيي فإنه يوجد فرق كبير بين أن تسهم العامية إلى جانب الفصحى في تواصل الناس وتوصيل المعاني النبيلة إلى الطبقات الأقل تعلمًا في المجتمع، وبين أن تصبح بديلًا للفصحى، فلا غنى لنا جميعًا عن لغتنا الفصحى.