الأربعاء، 24 يوليو 2019

195- "الإهمال من حقي" أم "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"؟!!


"الإهمال من حقي" أم "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"؟!!
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الأربعاء 24 يوليو 2019
مما يُنسب إلى الإمام الشافعي من شعر هذان البيتان:
زِنْ من وزنَك بما وزنَك *** وما وزنَك به فَزِنهُ.
من جاءَ إليّك فَـ رُح إليّه *** ومن جَفاك فصُد عنهُ.
وبقدر ما يسرت بعض مواقع الشبكة العنكبوتية التواصل بين أفراد المجتمع -وإن قللت التواصل الحقيقي وزيارات الأقارب-، بقدر ما عقّدته، لدرجة أن أصبحنا أحيانًا نتوه عن معرفة السلوك الصائب اجتماعيًا في ضوء ما تربينا عليه من قيم! يبدو الحال أحيانًا كما لو كنا بحاجة إلى بلورة وصياغة قيم جديدة تناسب مستحدثاتنا.
أصبح التأخر في فتح رسائل تطبيقي الواتس آب والماسنجر من مسببات المشاكل الاجتماعية المستحدثة في مجتمعنا. وعلى إحدى الصفحات الاجتماعية الشهيرة دار حوار وسجال شارك فيه آلاف من البشر بين أصحاب وجهتي النظر الرئيسيتين في الموضوع.
كان من الواضح تمامًا من هذا الحوار وجود جبهة عريضة من الأفراد ترى أن من حقهم إهمال الرسائل المرسلة إليهم، وقدموا مبررات على هذا في تعليقاتهم؛ تمثلت في الانشغال الشديد، وتفاوت أهمية وأولوية الناس بالنسبة لهم، والمرور بحالة صحية أو نفسية لا تتقبل التواصل مع الناس.
في المقابل كانت الجبهة المعاكسة لا تتقبل موقفهم، واتهموا هؤلاء بالتعالي وادعاء الانشغال الكاذب، وقالوا إن الرد على المكالمات والرسائل لا يلزمه أن تكون العلاقة قوية بين الطرفين؛ فهذه مغالطة كبيرة من وجهة نظرهم، وأنكروا الأولوية من الأساس؛ بمعنى أن أي شخص يتصل يتحتم الرد عليه، وكذلك بالنسبة للرسائل. وقالوا لأصحاب الجبهة الأولى: طالما أنكم قبلتم صداقة شخص على الفيسبوك أو أعطيتموه رقمكم على الواتس آب فأنتم أعطيتموه الحق في أن يتواصل معكم، وليس من الصواب أن يقبل كل منكم صداقة 5000 شخص ثم يتكبر عليهم، كما يفعل الكثيرون ممن يفتحون الصداقات بلا رابط لأجل مزيد من المتابعة لصفحاتهم.
وللحكم بين الجبهتين ينبغي أولًا أن نميز بين نوعين من الرسائل؛ الرسائل العامة من نوعية الأدعية ومقاطع الفيديو وخلافه، والرسائل الحقيقية التي تحمل مضمونًا خاصًا موجهًا للمرسل إليه، يتمثل في خبر خاص هام يُنقل إليه أو استفسار عن أمر وما إلى ذلك.
ورأيي الشخصي أننا شعب متطرف ومن النادر أن نتوسط في أمر، فإما اتجاه نحو أقصى اليمين أو نحو أقصى اليسار؛ فأي شخص طبيعي من المنطقي أن تتفاوت علاقاته بالناس، وليس من المفروض فعلًا أن يقطع شخص مكالمة مع أمه أو أستاذه أو رئيسه في العمل أو حتى زميله لأجل أن يرد على شخص آخر، أو يقول لأمه: انتظري فهناك رسالة وصلت سأرى ممن؟ خاصة وأنه معتاد أن 99% مما يرده من الرسائل عامة وغير هامة؛ فنسبة كبيرة جدًا منا يرسلون أي فيديو أو رابط يعجبهم أو كلمات يقرأونها على الانترنت. كما أن هناك أناسًا لا يقل عدد منشوراتهم اليومية على صفحاتهم للتواصل عن عشرين منشورًا، يتناقلون فيها أخبار الصحف وسائر شئون الحياة، وقص ولصق الموضوعات من الصحف والصفحات الاجتماعية والدينية، لدرجة أنه أحيانًا قد يصعب تكوين انطباع عن شخصياتهم من نوعية المنشورات التي ينقلونها لتعارض وجهات النظر فيها!
لكن المشكلة ليست فيمن ينشرون على صفحاتهم الشخصية لأن كلًا منهم حر في صفحته، المشكلة الحقيقية أن هناك صنفًا عدده لا يُستهان به منا يفضلون التواصل الخاص عن التواصل العام؛ فعوضًا عن أن يرفعوا المنشورات التي تعجبهم على صفحاتهم يبعثونها في رسائل لكل أصدقائهم! وصفحاتهم قد تظل دون أي منشورات عليها لأسبوع أو لأسبوعين! ولأن هؤلاء لا يبعثون برسالة واحدة مثلًا كل فترة، بل بعدة رسائل يوميًا، فصداقة ثلاثة أو أربعة منهم كافية لإغراق صندوق بريد أي شخص بعدد هائل من الرسائل يوميًا.
أيضًا لا يمكن إنكار أن هناك خطأ من الجهة المقابلة؛ فمثلما أن هناك أناسًا تتطرف بادعاء أن كل الذين يتواصلون معهم مثل بعضهم ولا أولويات، ففي المقابل هناك من يخطئ بادعاء الانشغال الدائم، وهم كاذبون. وقد يكونون هم مسببو الأزمة لأنفسهم بالاتساع في قبول الصداقات على الفيسبوك لدرجة غير طبيعية، وإعطاء رقم تليفون الواتس آب لكل البشر، فتصلهم أعداد هائلة من الرسائل يستحيل أن يجدوا وقتًا للإطلاع عليها كلها.
أما بالنسبة لموضوع الحالة النفسية السيئة التي يتعلل بعضهم بها كسبب لإغفال الرد على غيرهم حتى المقربين، فكلنا نمر بحالات نفسية سيئة، ولا أحد مزاجه معتدل على الدوام، لكن ليس لدرجة أن نتعمد تجاهل الآخرين، خاصة المقربين منا غير المزعجين، وخاصة أيضًا في حالات الرسائل وليس المكالمات.
مع ذلك فكل ما سبق مما عرضته من رأيي قد يُعتبر كلامًا خلافيًا تتباين فيه وجهات النظر، لكن هناك أمورًا يستحيل أن تكون موضع خلاف. وأشهر مثال على ذلك رسائل واتصالات الأعياد.
لم يعد موسم الأعياد موسمًا للمسرات وتبادل التهاني فقط، بل صار موسمًا للمشاكل الاجتماعية الالكترونية بسبب عدم فتح بعض الناس رسائل التهنئة بالعيد! وليس فقط عدم الرد عليها! وأي شخص يضع نفسه محل من يشكون سيجد أن ما يحدث معهم أمر في منتهى قلة الذوق واللياقة؛ فما لا يمكن أن أتصوره أبدًا أن أبعث رسالة تهنئة بعيد أو مناسبة لمخلوق مهما كان سنه ومقامه ولا يرد عليها ولا أغضب! اللهم إلا إن كان أبي أو أمي إن كانا أحياء. في مثل هذه الحالات تسقط جميع المبررات، ووقتها لن يكون من التطرف أن أعلن انضمامي وتضامني التام مع حزب "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"، بل سأبادر بالانضمام إلى حزب "الحظر أولى بك"؛ فمن أبجديات التفاعل الاجتماعي أنه ليس كل من نقطع صلتنا بهم حثالة، لكن غالبًا تكون للعقل قراراته حول بعض العلاقات والأشخاص نتيجة مواقف وكلمات.
والخلاصة أن من يريد أن يستخدم وسيلة الكترونية عليه أن يستخدمها وفقًا لأعرافها، ولن نخسر شيئًا لو فتحنا رسالة فيها دعاء أو فيديو أو ...، حتى لو لم نفتح الفيديو نفسه لضيق الوقت، وليس لازمًا أن تكون من بعثت دعاءً على سبيل المثال صديقتي المقربة كي أشعرها أني أقدر ذوقها وتذكرها لي فأفتح رسالتها. ولو كان الأمر مجهدًا يمكن فتح الرسائل كل يومين أو كل ثلاثة أيام، لكن عدم الفتح بشكل دائم غير مبرر، ويرسل رسالة رفض لمرسل الرسالة. ومن تأتيه رسالة حقيقية كاستفسار مثلًا ينبغي أن يرد عليها. والانشغال الذي يتعللون به غير مبرر، الكبر هو السبب الوحيد لاعتياد هذا السلوك. بل إن هؤلاء مدعي الانشغال الدائم أكثر من يتضايق لو تأخر شخص في الرد على رسالة لهم. والاستنتاج الأخير عن تجربة عملية.