الجمعة، 19 يوليو 2019

190- أنماط التواصل اللفظي

أنماط التواصل اللفظي
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الجمعة 19 يوليو 2019

ذكرنا في مقال "نظرة على الوظيفة الاجتماعية للغة" وجود أنماط أساسية للتواصل اللفظي، وسنخصص هذا المقال للتفصيل في الحديث عن هذه الأنماط.

أنماط الاتصال اللفظي  Verbal Communication types
1-  التساؤل (الاستفهام) Questioning
2-  التفسير Explaining
3-  الإفصاح عن الذات  Self-disclosure
4-  المبادأة والإنهاء (الاستفتاح والختام) Opening and Closing
5-   التوكيدية Assertiveness      
6-  التدعيم Reinforcement
7-  الاستماع (الإصغاء) Listening

التساؤل (الاستفهام)
التساؤل هو مهارة المرسل في طرح الأسئلة على المستقبل لأجل استكشاف وجهة نظره في كافة الجوانب المتعلقة بموضوع الحوار. وتتضمن تلك المهارة الرئيسية مهارات فرعية.
ومن أهم دعائم تلك المهارة؛ طريقة التدرج في توجيه الأسئلة، واختيار نوعية الأسئلة، ومراعاة فنيات إلقاء الأسئلة. وينبغي مهما كانت طبيعة العلاقة أن يُلقى السؤال في جو من الود وألا يتحول التساؤل إلى استجواب.
بدايةً فإن موضوع السؤال يجب ألا يكون شخصيًا مع الغرباء، كما يجب أن يكون مفيدًا. وينبغي أن يتدرج توجيه الأسئلة منطقيًا من موضوع إلى آخر دون قفز، وأن ينتقل المرسل من الأسئلة الأكثر عمومية واتساعًا إلى الأسئلة الأكثر ضيقًا وتفصيلًا. وتكون الأسئلة المفتوحة أكثر تماشيًا مع الإجابات المتسعة المتطلبة في بداية الحوار، مثل: كيف ترى حياتك بوجه عام؟ ما يتيح للمستقبل الإجابة وفقًا لما يراه هامًا من وجهة نظره، ثم يبدأ المرسل استخدام الأسئلة المغلقة ذات الإجابات المقيدة. يمكن القول إن الأسئلة المفتوحة تمدنا بمعلومات أكثر عن مشاعر واتجاهات الشخص، بينما الأسئلة المغلقة تمدنا بمعلومات أكثر تحديدًا ودقة عن الجوانب التي نرغب في التعرف عليها.
وقد تُصاغ الأسئلة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. كما وتختلف أنواع الأسئلة وفقًا للغرض منها، فقد تُطرح بغرض طلب التوضيح أو التوسع في الحديث عن جانب ما أو طلبًا لإعطاء تفصيلات أو أمثلة أو أدلة. وأحيانًا قد تُصاغ الأسئلة بحيث توحي للمستقبل أن يجيب إجابة معينة!
وينبغي التقليل ما أمكن من أن يضع المرسل المستقبل في موقف دفاعي بأن يطلب من المستقبل تفسير موقفه باستخدام الأسئلة البادئة بـ "لماذا؟"، خاصة في الحوارات الشخصية. لا سيما في بداية الحوار.
ومن الضروري الاعتناء بأن تكون الأسئلة خالية من أي غموض أو التباس يجعل وجهة الحوار تتحول وقد توقفه تمامًا بسبب سوء الفهم، كما ينبغي ألا يتابع المرسل إلقاء عدد من الأسئلة بشكل متتالي دون سكوت بينها، لأن هذا لا يعطي للمستقبل فرصة كافية للرد على كل سؤال، ويشعره أنه يتم استجوابه. كذلك ينبغي التأكيد على عدم مقاطعة المستقبل ومساعدته على إطلاق العنان لأفكاره ومشاعره المتعلقة بالتساؤل المطروح.
ومن المهم للغاية في العلاقات الإنسانية، وللحفاظ على كونه حوارًا وليس استجوابًا أن يتبادل طرفا الحوار دوري المرسل والمستقبل، فيكون لكل منهما الدور في طرح الأسئلة، كما يجب عليه الإجابة على تساؤلات الطرف الآخر، وعدم التحرج إذا لم يعرف إجابة سؤال ما، بل يخبر من يسأله ببساطة أنه لا يعرف الجواب، أو أنه سيبحث ويوافيه بإجابة قريبًا.
والتساؤل كمهارة يمكن أن يفيد فائدة عظيمة في مساعدة المستقبل على استكشاف مشكلات التواصل والدور الذي يلعبه سلوكه دون وعي منه في ظهورها، فهو يستبصر بنفسه عن طريقه. ويمكن في المقابل أن يكون سببًا في إفساد العلاقات بين الأشخاص تمامًا.
وتتداخل سلوكيات الاتصال غير اللفظي مع الكلمات لتؤثر في فعالية التساؤل، واحتمال حدوث مشاكل تواصلية. على سبيل المثال فإن نبرة الصوت يمكن أن تحمل الدفء والتعاطف ويمكن أن توصل رسالة بالاتهام أو رسالة أخرى بالسخرية والتهكم، وكذا تحمل سرعة الكلام وتعبيرات الوجه والإيماءات والتواصل البصري وحركات الأيدي وغيرها من قنوات التواصل غير اللفظي رسائل كثيرة للمستقبل تتداخل مع معنى الاستفهام المطروح. وكلما اختلفت الثقافة التي ينتمي إليها المرسل والمستقبل كان احتمال إساءة الفهم والتفسير للرسالة أكبر، لكن استخدام التغذية المرتدة (الآراء الراجعة) تعمل على تصحيح وتلاشي أي خطأ.

التوضيح
عندما تفهم سلوكياتك يمكنك المشاركة في تفاعل اجتماعي أقوى والمساهمة في حل مشاكلك، ولن تفهمها إلا عندما تجري نقاشًا عميقًا عن أفكارك وانفعالاتك المرتبطة بها ليتحقق لك هذا الفهم الحقيقي والوعي بهذه السلوكيات.
هذا الفهم العميق من الفرد لسلوكياته أو القدرة على التوضيح لها، يتفاوت نصيب الناس منه، فكثيرون لا يتأتى لهم إلا بعد كثير من الملاحظة للنفس والنقاش الهادف حول سلوكياتهم. ولا بد أن يعمد من يناقشهم إلى استخدام التركيز، ليُحول انتباه شريك الحوار إلى النقاط التي تساعده على استيضاح وفهم سلوكياته وأفكاره.
وهذا النمط اللفظي من أكثر ما يستخدمه المعالح أثناء التحليل النفسي لمساعدة المريض على استكشاف أسباب مرضه، لكننا في الحياة الاجتماعية لا نصل إلى الحد الذي يصله التحليل النفسي، فلا نفترض عند مناقشة سلوكياتنا أن هناك عقدًا تتحكم في الفرد ينبغي حلها، ولا نطلب من الفرد أن يغوص في أعماق طفولته المبكرة ونجبره على تذكر خبرات سيئة نعتقد أنه يسقطها من ذاكرته.
عند استخدام التوضيح كنمط تواصل اجتماعي لفظي فنحن فقط نضع في الاعتبار أن هناك سلوكيات اجتماعية يقوم بها الفرد، ربما كانت خبراته عنها غير مكتملة، وعليه أن يكون أكثر وعيًا بها وفهمًا لها لأجل مساعدته أن يسلك بشكل أفضل، ويمكن مناقشة ماضي الفرد لأجل تحقيق هذا الهدف لأنه قد يكون حدث له في الماضي ما جعله يسلك على هذا النحو السيء.
لكن من المنظور الاجتماعي فالتركيز ينبغي أن ينصب على الحاضر والمستقبل؛ أي إننا نناقش سلوكيات الفرد في الحاضر، وإن كانت للسلوك جذور في الماضي نستوضحها، وهو ما يختلف عن التحليل النفسي الذي يركز بالأساس على التنقيب في الماضي.

التفسير
يرتبط التوضيح بالتفسير، والذي هو إعادة وصف السلوكيات الاجتماعية بطريقة مختلفة لأجل تحقيق فهم واستبصار أوضح لها، أو يمكن القول إنه ترجمة كلمات وانفعالات الفرد وصياغتها بطريقة أخرى تجعل الدوافع وراءها أكثر وضوحًا.
وإعادة الوصف لأجل الفهم والاستبصار هذه تتطلب درجة عالية من الانتباه والإصغاء ودقة الملاحظة والربط للسلوكيات الاجتماعية مهما دقّت كي يمكن الاستبصار بما وراءها.
وكي يكون تفسير السلوكيات فعّالًا اجتماعيًا ينبغي معرفة أنه من الأهمية بمكان أن يكون الفرد قادرًا على تفسير سلوكياته تفسيرًا صحيحًا بنفسه؛ لأن قدرة غيره على تفسيرها لا تعني شيئًا ما لم يصل هو بنفسه إلى هذه التفسيرات، ليكون ذلك مقدمة لتحسين سلوكياته.
وتختلف قدرة الفرد على تفسير السلوكيات الاجتماعية في ضوء معرفته بنظريات الشخصية المختلفة، لكن هذا لا يمنع أنه تبقى لأي شخص على درجة من الثقافة العامة قدرته التفسيرية؛ لأن للخبرات الاجتماعية أثرها الواضح في اكتساب مهارة التفسير؛ ففلان سلك هذا السلوك بدافع الغيرة وهذا سلك بدافع المحبة والحرص على إخوته، و....
ينبغي أيضًا التمييز بين التفسيرات الأولية لأي سلوك والتي قد تكون خاطئة وتفتقد إلى الفهم والاستبصار الجيد بأسباب ودوافع السلوك، وبين التفسيرات العميقة التي يصل إليها الفرد بعد تدقيق، وربما يرتبك ويتفاجأ في بداية إدراكه لها.
مع ذلك ينبغي أيضًا ملاحظة أنه مهما كانت درجة خبرة ومهارة الفرد الاجتماعية، تبقى تفسيراته للسلوكيات الاجتماعية –الخاصة به وبالآخرين- ظنِّية، ولا ينبغي التعامل معها على أنها حقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش.

الإفصاح عن الذات
يُقصد بالإفصاح عن الذات ما يخبر به الفرد الآخرين عن نفسه عندما يتواصل معهم اجتماعيًا. هذه المعلومات التي يُعرِّف بها الفرد نفسه تنقسم حسب عموميتها؛ فهناك معلومات عامة متاحة للجميع ولا مشكلة لديه في أن يعرفها أحد مثل أنه متزوج، ومعلومات أخرى قد تكون متاحة لفئات خاصة ربما لا يرحب بأن يعرفها الجميع مثل العمر بالنسبة لأغلب النساء، ومعلومات شديدة الخصوصية يعرفها الفرد عن نفسه ولا يرغب أن يشاركه فيها أحد.
مع ملاحظة أن توزيع نوعية المعلومات على تلك المستويات الثلاثة يختلف من فرد لآخر، فما يعتبره شخص معلومات عامة لا يضيره معرفة الناس بها قد يراها آخر حصرية على فئات خاصة أو شديدة الخصوصية.
وهناك معلومات أخرى عن الفرد لا يفصح عنها لأنها غير معروفة له، وتقع في مستويين:
·        المستوى الأول، حين تكون المعلومات عن الفرد غير معروفة للفرد نفسه ومعروفة للآخرين، ولمعلومات هذا المستوى أهميتها العظمى في ميدان التواصل الاجتماعي؛ حيث يرى الناس صورة للفرد لا يراها لذاته، وربما يعرفون عنه ما يتناقض مع معرفته لنفسه، فقد يرى الفرد نفسه قائدًا بينما يراه الآخرون مسيطرًا! وقد يرى نفسه مراعيًا لحقوق الناس بينما يراه الآخرون عدوانيًا! وقد يرى نفسه حريصًا على التواصل مع الآخرين بينما يراه الآخرون عازفًا ومقصرًا عن التواصل معهم! وقد يرى نفسه معتزًا بكرامته ويراه الآخرون مغرورًا! وقطعًا يصعب أن يتفق الناس على نظرة واحدة للفرد الواحد فمن يرون شخصًا عدوانيًا ربما كان ذلك لوقوفه مع أصحاب الحق ومعاداتهم لأنهم الطرف الظالم في قضية ليس إلا. لكن، مع ذلك يبقى التعرف على منظور الآخرين حول الفرد وكيف يرونه هامًا، ويلفت نظر الفرد إلى مسببات كثيرة لسوء الفهم الذي يتصل بسلوكياته.
·        المستوى الثاني من المعلومات غير المعروفة عن الفرد تكون غير معروفة له عن نفسه، وكذلك غير معروفة للآخرين. هذه المعلومات التي تظهر مع الأيام ومع تغير الظروف، لنفاجأ وكأننا أمام بشر لم نعرفهم، ونحسبهم تغيروا، لكن بمراجعة صغائر السلوكيات في الماضي نكتشف أن أحدًا لم يتغير، وأن هناك جذورًا عميقة لسلوكياتهم الحاضرة جعلتها المستجدات تنمو وتتفرع، فبرزت بعد أن كانت خافية. فالشاب أو الشابة الذي يخشى الزواج سبق وأن ظهرت منهما سلوكيات أثناء المراهقة توضح وجود ذلك القلق المرضي، لكن لم يلاحظه لا الفرد ولا الآخرين.

ويُعتبر الإفصاح عن الذات أحد الأنماط اللفظية ذات الأهمية القصوى في التواصل الاجتماعي، فعندما يحكي فرد عن مشاعره وأفكاره وخبراته يشجع هذا المستقبل على التعبير، خاصة عندما يلمح تشابهًا بين ما أفصح عنه المرسل وبين مشاعره وأفكاره وخبراته هو، ما يُسهم في تقارب العلاقة بينهما أيًا كان نوعها.
ويعتبر الإفصاح الانتقائي ذو فاعلية كبرى؛ ويركز على نوعية الأفكار والمشاعر المطلوب تشجيع الآخر على البوح بها. ومهما كانت درجة التعبير اللفظي منخفضة لدى الشخص فإن إفصاح الآخرين أمامه عن ذواتهم يشجعه على الإفصاح عن أشياء ربما لم يكن يفكر في البوح بها مع أقرب الأقربين.
ويُعتبر هذا ملحوظًا في علاقاتنا الاجتماعية؛ إذ إن الإنسان التلقائي البسيط الذي يتحدث ببساطة عما يشعر به، ويحترم الخلاف، ويدعم الآخرين، ولا يحمل رغبة في الانتقاد والحكم على سلوكيات الناس، قد يُفصح الناس أمامه عن أفكار وخبرات ومشاعر ليس من السهل أن يبوحوا بها أمام غيره، حتى وإن كانوا يلقونه للمرة الأولى!
كما أن عبارات التدعيم التي يتلقاها الفرد عند إفصاحه عن ذاته، ربما تساعده على مزيد من الإفصاح. وهنا يرتبط نمطان من أنماط التواصل اللفظي: الإفصاح والتدعيم.
وينبغي الأخذ في الاعتبار أن عوامل مثل: نوعية العلاقات بين الأفراد ومناسبات الإفصاح عن الذات والطبقات الاجتماعية والثقافات المختلفة تتداخل ويتفاعل بعضها مع بعض، لتقرر ما إذا كان الفرد يمكن أن يُفصح عن نفسه، وإلى أي حد؛ فبعض الناس حذرون تمامًا فيما يخص مسافاتهم الشخصية، وليسوا على استعداد للإفصاح، ولأن يكونوا كتابًا مفتوحًا أمام الآخرين، بل هم أيضًا لا يرغبون في الاستماع كثيرًا إلى الآخرين. وهنا تلعب الفروق الفردية دورها، فحتى هؤلاء الحذرين اجتماعيًا، يوجد أشخاص يمكن أن يتشجعوا للإفصاح أمامهم.
كما قد تنشأ الإشكالية من نقص الحساسية الانفعالية لدى الفرد، فعندما يستمع إلى شخص يفصح عن خبرات مؤلمة لا يكون هذا دافعًا له ليفصح عن ذاته لدعمه وإشعاره أنه هو الآخر وآخرين مروا بخبرات مشابهة، بل يستشعر الضيق بهذه الخبرات التي تُروى له دون داعٍ، ولا علاقة له بها! ودائمًا أقول إن أصعب ما يخص أي شيء يتعلق بالإنسان هو صعوبة التنبؤ به.

المبادأة والإنهاء (الاستفتاح والختام)
تعتبر المبادرة اللفظية من أهم السلوكيات المرتبطة بمهارة التعبير اللفظي، وتعني قدرة الفرد على البدء بتعريف نفسه للآخرين. كما تتضمن المبادرة ما هو أكثر من المبادأة، فتشمل الاستمرار في الحوار، وصولًا بعد ذلك إلى إنهائه.
يؤثر هذا النمط اللفظي في التفاعلات الاجتماعية بأنواعها تأثيرًا كبيرًا، ويكون تأثيره أوقع فيما يخص العلاقات الشخصية.
ويرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالمعايير الاجتماعية المقبولة، وما يُتعارف عليه بآداب الحوار. وترتبط المبادأة تحديدًا بالثقة في النفس التي تدفع بالفرد إلى عدم التردد في بدء الحوار.

التوكيدية
تعتبر التوكيدية أحد أهم الأنماط اللفظية المرتبطة بالتفاعلات الاجتماعية اللفظية.
يمكن القول إن التوكيدية هي نمط من السلوك اللفظي موجه نحو الذات، يجعل الفرد يعبر عن مشاعره وأفكاره وأهدافه الحقيقية بصراحة وبطريقة مناسبة، ويرى ذلك من حقه، ويحترم مع ذلك مشاعر وأفكار الآخرين وإن اختلفوا معه، كما ولا يسمح للآخرين باستغلاله، مهما كانت درجة قرابتهم منه، لكن دون الإساءة للآخرين. وحتى في المواقف التي يتم فيها الرفض، يكون هذا الرفض مصحوبًا بالاحترام والتفهم للآخر.
إنها موقف إيجابي عادل نحو نفسك ونحو الحياة، واحترام لنفسك وللآخر؛ فلا انسحاب ولا خوف، وكذلك لا سيطرة على الآخر ولا مهاجمة للآخر في المقابل.
وهناك مظاهر تقترن بضعف توكيد الذات، أهمها انخفاض الثقة بالنفس، وضعف تقدير الفرد لذاته، وارتفاع درجة القلق، وانخفاض التوافق النفسي والاجتماعي لدى الفرد، ومشاكل كبيرة في التواصل وعدم القدرة على إقامة تفاعل اجتماعي ناجح مع الآخرين.
ولا شك أن التدريب على توكيد الذات في المقابل يُعلي الثقة بالنفس، ويُحسن مفهوم الذات لدى الفرد، ويجعل مرجعية الفرد داخلية فليس بحاجة إلى محاولة إرضاء الآخرين على حساب نفسه.
ونظرًا لارتباط نجاح الفرد في الحياة بالتوكيدية، فيجب أن يُقيِّم الفرد مستوى توكيديته لذاته، وهناك استبيانات كثيرة متوفرة لذلك.
في حالات عديدة يتضح من خلال تقييم توكيدية الفرد أن نقص التوكيدية يرتبط ببعض المواقف أو يكون بإزاء بعض الأشخاص فقط من ذوي الأهمية كالأب والأم، الذين قد يصعب على الأبناء التعبير عن آراء وأفكار وأهداف تعارض آراءهم وأفكارهم وأهدافهم. وأحيانًا تحدث المشكلة أمام المدير في العمل. لذلك فإن تحديد المشكلة بدقة هو أول خطوة على الطريق.

التدعيم (التعزيز)
كما أن الفرد بحاجة أن يتعلم كيف يؤكد ذاته، فهو بحاجة أيضًا أن يتعلم كيف يدعم الآخرين. هذا الدعم يؤثر إيجابيًا على تفاعله الاجتماعي مع الآخرين، ومهما كان الفرد قويًا يستند إلى ذاته، فلا شك أن علاقته تتأثر إيجابيًا بمن يلمس منهم دعمًا له خاصة في الشدائد.
ويُعرف التدعيم أو التعزيز الخارجي بأنه عملية تزيد من احتمالية تكرار السلوك في المستقبل. غير أن آثاره النفسية الإيجابية على صاحب السلوك المعزز أكثر أهمية من زيادة احتمالية تكرار السلوك؛ حيث يتحسن مفهوم الذات لديه، وتزيد دافعيته؛ فالتدعيم يساعد الفرد على إدراك أن الآخرين يرون سلوكه على نحو إيجابي.
قد يكون التدعيم الذي يتلقاه الفرد من مدعّميه إيجابيًا بتقديم مكافأة أو إشادة بالسلوك الجيد، وقد يكون سلبيًا باستبعاد جزاء تم توقيعه نتيجة إهمال سابق واعتباره كأن لم يكن. وفي الحالين يُقدَم دعم للسلوكيات الجيدة التي يظهرها الفرد.
وما يعنينا هنا تحديدًا هو تدعيم الآخرين لفظيًا، بوصفه أحد أنماط التواصل اللفظي، وليس أي من وسائل التدعيم غير اللفظية. ولكن لا يخفى أن من الناس من يظهرون تقديم الدعم الاجتماعي للآخرين لفظيًا بينما سلوكياتهم التواصلية غير اللفظية تحمل رسالة أخرى تبدو من خلال نبرة الصوت وسرعته وتعبيرات الوجه وغيرها.
وهناك عوامل لها اتصالها الوثيق بالتدعيم منها مقداره، وتوقيته، فكلما زاد مقدار التدعيم زادت قيمته، وكلما زادت فترة الإرجاء قلت قيمته؛ فلا يُعقل أن تُبارك لأحد نجاحه بعد شهور وتتصور أنك تدعمه!
من المهم جدًا أن نتفهم أيضًا أن التدعيم المستمر الذي يُستخدم لأي سلوك يفقد قيمته وتأثيره، ويشبه أن يكون شكلًا من أشكال النفاق الاجتماعي. والتدعيم المشروط يكون للسلوك الجيد فقط. كما أنه لا يلزم أن يتم تدعيم كل سلوك جيد يصدر عن الفرد، بل الأفضل أن تظهر دعمك للآخرين بشكل متقطع.
وقد يُساء استخدام التدعيم إلى الحد الذي يُعيق تنمية الدافعية الداخلية لدى الفرد، فيُصبح الفرد أسيرًا لانطباعات الآخرين وآرائهم عنه.

الاستماع (الإصغاء)
لا يُعتبر الاستماع نمطًا من أنماط التواصل اللفظي فقط، بل هو أحد المهارات الأربع الرئيسية للتواصل إذا نظرنا إليه كعملية مهاراتها الرئيسية هي (التحدث- الكتابة- القراءة- الاستماع).
والتحدث والكتابة هما الوسيلتان الأهم لأي شخص للتعبير لفظيًا عن نفسه، بينما القراءة والاستماع هما وسيلتاه الأساسيتان للإحساس بالآخر وفهمه. لن تفهم شخصًا لمجرد أنك تعبر له عن نفسك، بل لا بد أن تستمع إليه بغرض فهمه، ولا تتعجل في الرد أثناء الاستماع، ولا تبحث عما تنقده به من سقطات كلامه. الاستماع هو وسيلة لفهم الآخر لتعزيز العلاقة وليس للانتصار للنفس. هذه بدهية يغفل عنها كثير من الناس وتتسبب في الكثير من المشاكل.
ويعتبر الاستماع نمطًا سلبيًا للتواصل اللفظي، رغم أنه في ذاته عملية نشطة تتطلب بذل الجهد؛ فالتفاعل الاجتماعي الناجح لا يكفي فيه أن يكون الإنسان متحدثًا فقط، بل جزء أساسي منه أن يعرف الفرد كيف يستمع للآخرين ويُنصت إليهم، فهذا جزء أساسي من أي حوار فعّال ثنائي الاتجاه.
يختلف الاستماع عن عملية السمع؛ فالسمع كعملية فسيولوجية ترتبط بسلامة الأذنين وسلامة مركز السمع في المخ، لكن الاستماع عملية معقدة تتطلب إظهار الاهتمام لما يقوله الطرف الآخر، فهو يرتبط بعدد من العمليات العقلية كالانتباه والإدراك لمحتوى الرسائل اللفظية والتفكير فيه وتذكره، إضافة للسمع كعملية فسيولوجية.
يساعد الإصغاء على بناء تواصل اجتماعي فعّال، لأنه يشعر المتحدث بالتقبل والأمان، وأن أفكاره ومشاعره تصل للآخر بطريقة سليمة.
ويتضمن الاستماع الفعال –كنمط للتواصل اللفظي- إرسال رسائل غير لفظية لأجل إشعار المرسل بفهم الرسالة. وغالبًا فإن الصمت أثناء الإصغاء مع إعطاء تعبيرات وجهية مناسبة واستدامة خط النظر يعطي انطباعًا أفضل بكثير من إصدار أصوات من نوعية "إمممم" و "آآآآآآ"، لكن في أحوال أخرى كالتواصل اللفظي عبر الهاتف حيث تُفتقد تعبيرات الوجه والاتصال البصري تكون لتلك الأصوات قيمتها.
كما أن المستمع الجيد يلجأ إلى طرق تساعده في إشعار محاوره بانتباهه لما كان يقول بعد انتهاء المتحدث من كلامه، قد تكون تلك الطرق أيضًا لفظية أو غير لفظية. ومن الطرق اللفظية إعادة صياغة المحتوى اللفظي لحديث المحاور، أو تلخيص محتوى حديثه بعد انتهائه من بعض الجزئيات؛ فمما يساعد في إعطاء التأثير بالإصغاء إعادة صياغة المحتوى اللفظي للطرف الأول بكلمات شريك الحوار؛ فإعادتها عليه بعبارات أخرى بعد انتهائه من حديثه تُعرِّفه أن ما يعنيه قد وصل الطرف الثاني بالفعل، كما تسمح بتصويب أي فهم خاطئ للرسالة اللفظية يكون قد وصل الطرف الثاني. ويختلف ذلك عن التكرار الحرفي لما قاله المرسل، والذي لا يعطي انطباعًا كافيًا للمرسل بأن ما قاله قد فُهِم.
ولكارل روجرز رؤية إيجابية حول التكرار اللفظي –وليس التكرار الحرفي للعبارات-، فهو يراه أكثر فاعلية في بناء العلاقات؛ فأغلب الناس لديهم ألفاظهم التي يكونون أكثر راحة عند استخدامها، وهم يحبون من يستخدم ألفاظهم خاصة حين يتحدث عنهم. يمكنني أن أضرب مثالًا؛ فأنا كمسلمة أكون أكثر ارتياحًا لوصف ديانتي بالإسلام وليس بالمحمدية، والذي صار الوصف الذي يُطلق على المسلمين في بعض الدول الغربية، وأعتقد أن المسيحي سيشعر براحة أكثر في التعامل مع من يسميه مسيحيًا والنقيض مع من يسميه نُصرانيًا، رغم أن لفظ نُصراني في حد ذاته ليس مسبة. أعرف صديقة قديمة كان سبب خلافها الأول مع زوجها، والذي توسع إلى حد الانفصال بينهما أنه كان دائم المزح معها أمام الناس وتعريفهم عليها بأنها "أم العيال"، بينما هي أستاذة جامعية! ومن الهدي النبوي أن تنادي أخاك بأحب أسمائه إليه.
وعودة إلى صياغة المحتوى اللفظي، حيث يمكن القول إن إعادة صياغة المحتوى اللفظي بعد انتهاء المرسل من إرسال الرسالة هو الجانب الإيجابي للإصغاء، والتأثير الناشئ عن تلك العملية أقوى من كل قنوات التواصل غير اللفظي كالإيماءات وتعبيرات الوجه وإدامة الاتصال البصري أثناء الحوار والتي قد تُستخدم لإعلام المتحدث بأن شريكه يتواصل معه ويهتم لما يقول.
وقد تؤثر الظروف المحيطة بالموقف على الاستماع فتعيقه، كما قد تؤثر عوامل أخرى تتعلق بسمات شخصية الفرد أو صفاته العقلية. على سبيل المثال: يتأثر الاستماع سلبًا بالضوضاء المحيطة، كما تكون سمات مثل نقص النشاط العقلي وضعف الانتباه أو سرعة الملل وقلة الصبر من أسباب ضعف الاستماع. وأحيانًا لا يكون ضعف القدرة على الاستماع راجعًا لأي من الأسباب السابقة بل يكون عارضًا بسبب الإرهاق.
ولا يرتبط الاستماع الجيد بعمليات التفكير وحسب، بل يرتبط بفهم وتحليل الكلام، ومساعدة المرسل على توضيح أي غوامض في رسائله لا تصل للآخرين بشكل سليم، وتكوين حكم على تلك الرسائل، ومحاولة كشف أي تناقضات أمام الفرد بين الواقع كما نلاحظه وبين ما يعتقده هو عن نفسه، فمن أهم فوائد الإصغاء مساعدة المتكلم على فهم نفسه ومشاكله والتعبير عن مشاعره بشكل عميق، وربما مساندته من غير تخطئة ووعظ، وأسوأ ما ينتج عن الاستماع السيء هو التسرع في الحكم على آراء الشخص بسبب اجتزاء حديثه وعدم الاستماع إليه كاملًا.
وتوجد فروق كبيرة بين الجنسين، وكذلك فروق ثقافية، في الاستماع كنمط من أنماط التواصل اللفظي، وكثيرًا ما يتولد سوء فهم بسبب تفسير قنوات التواصل غير اللفظي المصاحبة له. وسنتوسع في شرح تلك الفروق في الفصل الخاص بعلاقة الثقافة بمهارات التواصل، وفي فصول الباب الثاني الخاص بالفروق بين الجنسين في التواصل الاجتماعي.
بالرغم من تلك الفروق فيكاد يكون مجمعًا عليه أن المستمع الجيد لا بد أن يحاول المحافظة على قدر من الاتصال البصري مع من يحاوره، وألا يتجنب مواجهة خط النظر تمامًا كما يفعل المستمعون السيئون، وعليه أن يجلس جلسة مناسبة يأخذ فيها وضعًا منفتحًا مع الميل قليلًا تجاه محدثه، وأن يتجنب الحركات غير الضرورية التي تدل على قلة الانتباه والتملل من كلام المتحدث. وعليه أيضًا أن يومئ بحركات توحي بالمتابعة والإصغاء، مع تجنب إعطاء انطباع بالموافقة. ينبغي كذلك عدم مقاطعة المتحدث، مع الحرص على تبادل الأدوار بينهما.