الجمعة، 19 يوليو 2019

191- التفاعل بين الاتصالين اللفظي وغير اللفظي أثناء المحادثة


التفاعل بين الاتصالين
اللفظي وغير اللفظي أثناء المحادثة
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
السبت 20 يوليو 2019

قد يكون التفاعل الاجتماعي لفظيًا؛ يعتمد أساسًا على الحوار بين المتفاعلين، كالرسائل المكتوبة ومنشورات وتعليقات وسائط التواصل الاجتماعي المنحصرة في الكلمات فقط، وقد يكون غير لفظي إطلاقًا؛ لا تُنطق فيه كلمات، ويقوم على الاتصال البصري وتعبيرات الوجه وحركات الجسم، ولكنه في الأغلب الأعم يجمع بين نوعي الوسائط كليهما؛ فيكون لفظيًا وغير لفظي.
فرغم تصنيف سلوكيات اتصال الفرد إلى لفظية وغير لفظية إلا أنه في الحقيقة لا يمكن الفصل بين كلا النمطين؛ فلا يمكن تحقيق التواصل اللفظي بمعزل عن أنماط السلوك غير اللفظية، لأنه حتى وإن كان التواصل يتم عبر الهاتف وليس وجهًا لوجه ستبقى بعض الملامح غير اللفظية كنبرة الصوت وسرعة الكلام قادرة على إيصال رسائل للمستقبل أكثر مما تحمله الكلمات. وحتى وسائط التواصل الاجتماعي لا تخلو من رسوم الأوجه التعبيرية التي تعتبر محاولة الكترونية لمحاكاة ونقل تعبيرات الوجه، كما أن من يظن أنه يمكنه توصيل رسالته بفاعلية باستخدام وسائط التواصل غير اللفظي والاستغناء عن الكلمات لا شك واهم؛ فالبشر لا يمكن أن يتواصلوا بفاعلية ما لم يتحدث بعضهم إلى بعض.
إذًا هناك صعوبة كبيرة للتمييز بين نوعي الاتصال، وكثيرًا ما يتوزع نوعا الاتصال بشكل سلس كفعل واستجابة، ما يعطي ثراء للتفاعل الاجتماعي، فيرسل المرسل رسالة غير لفظية يستجيب لها المستقبل باستجابة لفظية، أو العكس، لكن في بعض الأحيان يسبب هذا التنوع في نمطي التواصل بين المرسل والمستقبل بعض المشاكل الاجتماعية.
من أنماط التفاعل السيء بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي ما يفعله كثيرون كاستجابة لانفعال الغضب عند محاولتهم تهدئة انفعال الغضب بالنقاش اللفظي! إن أسوأ ما يمكن أن يسمعه الشخص الغاضب كلمة "اهدأ"! إن مثل هذه الكلمة تثير مزيدًا من الغضب لدى كثيرين، لكن بعض البشر يصرون على تحويل غضبك لنقاش بدلًا من أن يساعدوك على تخطي الشعور السلبي الذي تشعر به. إن غضب محدثك اجعله يهدأ دون أن تطلب منه أن يهدأ، ودون أن تتفلسف وتتمنطق عليه؛ فوقت الغضب هو أسوأ وقت للنقاش. وبدلًا من أن تناقش الغاضب امسك يده. أجلسه على أريكة واجلس جواره. أحضر له شراب ليمون. اطلب منه أن يتكلم عما يزعجه لو كان هذا يريحه؛ ففي بعض الحالات ربما يكون من الأفضل أن يُترك الغاضب لينفس عن مشاعره، فهذا أفضل سبيل لاستعادة هدوئه. لكن ينبغي الانتباه إلى أن إظهار فورة المشاعر تلك صادقة، وأنك لا تعطي تعزيزًا يزيد احتمال تكرارها لدى الفرد عند سماحك له بالتنفيس عنها، لأن هناك نوعية من البشر تحاول استغلال ذلك.

جوانب التشابه
هناك جوانب كثيرة من التشابه بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، فكلاهما لغة رمزية لها شفرتها لدى من يعبر عنها ومن يستقبلها، لكن القاعدة تقول إن الرسالة كما تُرسل ليست بالضرورة هي الرسالة كما تُستقبل، وإن كان الاتصال اللفظي أكثر تحديدًا في شفرة رموزه، وأقل لغطًا عند محاولة فك شفرته.
من أوجه التشابه المتعارف عليها عبر الثقافات بين كلا نمطي الاتصال، أن لكليهما قواعد تحكمه، فكما نتصل لفظيًا لنقول مرحبًا، فمن المتعارف عليه أن نبتسم عند الترحيب، وكما تختلف الكلمات التي نطلقها في المناسبات الاجتماعية المختلفة تختلف أيضًا الأزياء التي نرتديها وفقًا للمناسبة. وكما تُعبر الألفاظ التي نستخدمها عن مستوى علاقاتنا بالآخرين تُعبر المسافات بيننا وبينهم ووضع الجلسة وتنظيم الأثاث وغيرها من الوسائط غير اللفظية عن حدود تلك العلاقة.
من أوجه التشابه أيضًا أن كلا نمطي الاتصال قد يكون مقصودًا ويمكن التحكم فيه في بعض المواقف أو قد يكون غير مقصود في مواقف أخرى. وكلا النمطين قد يكون مباشرًا أو غير مباشر.
أيضًا يتشابه نمطا الاتصال في تأثرهما بالثقافة المحيطة، فكما أن اللغة تتأثر بالثقافة، فكذلك أغلب أنواع سلوكيات الاتصال غير اللفظي، وإن كانت هناك بعض سلوكيات التواصل غير اللفظي شائعة عالميًا؛ فمن ذا الذي لا يفهم معنى الابتسام أو الإيماء بالرأس يمينًا ويسارًا؟!

جوانب الاختلاف
هناك اختلافات رئيسية بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، أولها أنه في الاتصال اللفظي تتدخل حاسة واحدة فقط في استقباله، هي السمع في حال ما إن كان منطوقًا، أو البصر إن كان مكتوبًا. بينما تُستخدم الحواس الخمس في استقبال وتفسير قنوات الاتصال غير اللفظي.
والاختلاف الرئيسي الثاني بين الاتصالين أن وسائط الاتصال غير اللفظي أكثر استمرارية في التأثير على التفاعل الاجتماعي من الكلمات التي قد يتوقف تأثيرها عند انتهاء التلفظ بها أو كتابتها.
أما الاختلاف الثالث فيتعلق بسرعة تفسير الرسائل الخاصة بكل نمط منهما؛ إذ إنه بالرغم من أن تفسير الرسائل غير اللفظية في المواقف التي تخضع لتحليلات الخبراء -والتي غالبًا ما تكون مصورة-، يأخذ وقتًا للتحليل والتفسير، لكن في مواقف التفاعل الاجتماعي بين المرسل والمستقبل يتم تفسير الرسائل غير اللفظية من قِبل المستقبل بطريقة تلقائية، والاستجابة لها سريعًا. على العكس في حال الرسائل اللفظية التي يسترجع المستقبل محتواها ويحاول تحليلها والتأكد من تفسيرها ويتمهل نوعًا قبل إصدار الاستجابة لها حتى لو كان الحوار وجهًا لوجه، ومن أشهر الاستراتيجيات التي تتيح له التمهل استفتاح الاستجابة بإعادة صياغة ما قاله المرسل لأن هذا يزيد وضوح الرسالة في ذهن المستقبل قبل الرد عليها.

أشكال العلاقة بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي
على وجه الدقة يمكننا القول إن وسائط الاتصال غير اللفظي تؤثر على الرسالة اللفظية بطرق عديدة تحدد أشكال العلاقة بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، وهي:
-التأكيد على الرسالة اللفظية: من أمثلة ذلك أن يرفع الشخص نبرة صوته للتأكيد على كلمة أو عبارة، أو أن يبتسم عند الترحيب بالضيوف.
-مناقضة الرسالة اللفظية: كالعبوس عند الترحيب بالضيوف! ويعتبر توصيل رسائل لفظية وغير لفظية متناقضة غير متسقة من أهم سُبل استكشاف الخداع.
-الإضافة إلى الرسالة اللفظية: كالابتسام عند حكاية قصة مضحكة، أو العبوس عند حكاية قصة حزينة، بما ينقل مشاعر الفرد نحو الرسالة وليس فقط الكلمات.
-تكرار الرسالة اللفظية: كإشارة اليد بالذهاب بعد جملة "هيا نذهب".
-يحل محل الرسالة اللفظية: فهز الرأس على الجانبين إشارة كافية لتوصيل رسالة الرفض، دون الحاجة إلى نطق أي كلمة.
-التحكم في الرسالة اللفظية: كاستخدام السلوكيات غير اللفظية مثل رفع اليد لأجل المقاطعة وأخذ الدور في الحديث أو العكس عند استخدام تلك السلوكيات لإعلام الطرف الآخر أنني لم أنهِ حديثي بعد.

ويعتبر عدم التطابق في الرسائل الاجتماعية غير قاصر على تناقض الرسائل اللفظية والرسائل غير اللفظية:
-فقد يكون هناك عدم تطابق بين الأقوال والأفعال، فيدّعي رجل أمام الناس أنه يحب زوجته، بينما أفعاله كلها تتناقض مع هذا الادعاء.
-كما قد يحدث عدم تطابق بين محتوى الرسائل الاجتماعية الحالية والسابقة أيًا كان نوعها لفظية أو غير لفظية؛ فتقول الآن ما يناقض ما قلته بالأمس!
-وقد يكون عدم التطابق بين الواقع والشعور المُدرَك. فكثيرًا ما نجد شخصًا يردد أن أمه لا تحبه، لكن هل حقًا أمه لا تحبه؟! حقيقة الأمر أنه يشعر بذلك الشعور الخادع المخالف للواقع لكونه يُحرِّف الواقع ويسيء تفسير أقوالها وأفعالها. وأشكال تحريفات الواقع أكثر من أن تُحصى.
وفي جميع حالات عدم تطابق الرسائل الاجتماعية ينبغي مساعدة الشخص على إدراكه، وأفضل السُبل لتحقيق هذا هو توضيح وجود التعارض أمامه، ثم جعل النظرتين المتعارضتين في وضع مقارنة، ومطالبته بتوضيح موقفه، وبالاستدلال على وجهة النظر التي سيُضمِّنها موقفه، ومواجهة إنكاره في بعض الحالات عندما لا يتفق ما يقوله مع المنطق.

بعض الأنماط التي يظهر فيها التفاعل بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي
المقاطعة والتحكم أثناء المحادثة
في الحوارات اللفظية عامة، والثنائية منها تحديدًا، لا يكتفي المستقبل بالاستماع إلى المرسل، بل عليه إصدار إشارات غير لفظية توضح أنه يصغي له، وإشارات أخرى تنقل رسالة له بأن لديه الرغبة في الحديث والمشاركة في الحوار. هذه السلوكيات غير اللفظية تساعد في تنظيم التفاعل الاجتماعي. صحيح أنه أحيانًا تُستخدم الكلمات لأداء الوظيفة نفسها، لكن غالبًا ما يتم هذا التنظيم من خلال وسائط الاتصال غير اللفظي.
بالنسبة لصغار السن يستخدم الآباء والمعلمون غالبًا إشارة تحريك الحاجب مع إمالة الرأس للإشارة نحو الطفل الذي يريدون منه أن يتحدث أو يسكت.
وبالنسبة لتنظيم الحوار بين الكبار، فعادة يتم رفع اليد أو ربما قلم كإشارة إلى الرغبة في أخذ دور في الحوار. وعند مطالبة المتحدث بالإسراع في إنهاء كلمته يتم تحريك إصبع السبابة دائريًا، وهي إشارات متعلمة منتشرة عالميًا في العديد من الثقافات، ومن الإشارات المصطنعة التي أصبح متعارفًا عليها لإعلام شخص بانتهاء الوقت المخصص لحديثه هو تكوين شكل حرف T بالإنجليزية بكلتا اليدين، وهو الحرف الأول من كلمة Time.
لكن في أحيان كثيرة يستقبل المتحدث تلك الإشارات على نحو عدائي، ويعتبر أنها محاولات للتحكم فيه والتضييق عليه، كما أن الطرف الآخر في الحوار قد يبدأ في المقاطعة.
تحدث المقاطعة عندما يتوقف المرسل عن الحديث لالتقاط أنفاسه أثناء الحوار، فما يلبث المستقبل أن يبادله الدور ويبدأ في الكلام، دون أن ينتظره ليتم كلامه، وقد يسوء الأمر في بعض الأحيان فيشتبك المستقبل مع المرسل مانعًا إياه من الاسترسال في الكلام وذلك قبل أن يتوقف الأول، ويكون ذلك عادة مصحوبًا بإشارات بالأيدي. التصفيق أيضًا قد يُشكل شكلًا من أشكال المقاطعة إن لم يحدث في وقته المناسب.
والملاحظ دائمًا أنه عندما يقاطع المستقبل المرسل فإن المقاطعة بينهما تتكرر وتصبح عادة، وكما قاطع الأول الثاني فإن الثاني سيبادله الفعل نفسه ويقاطعه أيضًا.
الصمت
على العكس من المقاطعة التي تُجبر الشخص على إنهاء رسالته اللفظية بالتوقف عن الاسترسال في الكلام، يكون الصمت، ويعني أن يتوقف الشخص بملء إرادته عن الكلام لفترة بين رسالتين لفظيتين! أو رفضه الاشتراك في التواصل اللفظي من البداية.
ويمكن أن يوصل هذا الصمت رسائل عدة تتفاوت حسب الموقف، وتساعد الرسائل غير اللفظية المصاحبة للصمت في استكشافها.
نوعيات الرسائل التي يوصلها الصمت:
-الراحة والطمأنينة؛ عندما يكون الشخص مع أناس قريبين منه، إذ لا حاجة كثيرًا للكلام.
-الخجل؛ عندما يتحاور الشخص مع غرباء لا يعرفهم، ويتجنب الكلام معهم لهذا السبب.
-السلبية؛ إذ لا يوجد لدى الشخص ما يُقال، سواء كان يعرف من يحاوره أو لا يعرفه.
-الاحترام؛ فالإقلال من الكلام مرغوب فيه في بعض الثقافات الشرقية، خاصة مع كبار السن.
-الارتباك؛ يحدث أحيانًا في النقاشات، عندما يكون موقف المحاور أقوى، والشخص غير قادر على تقديم حُجة للرد عليه، فيلجأ للصمت.
-رفض الاستجابة للعدوان اللفظي؛ إذ إنه لا خيار أمام الشخص المعتدى عليه لفظيًا إلا الصمت أو الرد الذي يؤجج الصراع، ويُلحق مزيدًا من الضرر بالعلاقة؛ فالصمت أحد الخيارين المتاحين.
-العقاب بالتجاهل واللامبالاة؛ فبعد أي صراع أو خلاف بين شخصين، قد يرفض أحد الشخصين أو كلاهما أي تواصل لفظي مع الآخر.
-التحدي أو اللامبالاة! يحدث أي منهما عندما يرفض الشخص التواصل لفظيًا مع الأشخاص ذوي السُلطة.
-الصمت كمقوي لأثر الرسائل غير اللفظية؛ فعندما تتوقف تمامًا عن الكلام مع إرسال رسائل انفعالية من خلال تعبيرات الوجه أو عقد الذراعين أو زم الشفاه يتيح هذا للمستقبل التركيز على محتوى الرسالة غير اللفظية، ويكون أثرها أقوى.

ومع كل هذه الرسائل التي يرسلها الصمت يبقى أسلوبًا غامضًا في التفاعل الاجتماعي، كثيرًا ما يصعب تفسيره.
ويختلف تفسير الصمت في ضوء عوامل كثيرة، منها العلاقة بين الأفراد المتفاعلين، والثقافة التي ينتمي إليها كل منهم، وأعمارهم، ومراكزهم الاجتماعية، كما وتعتبر مدة الصمت محددًا أساسيًا في تفسيره، فالصمت القصير قد يكون مجرد إعطاء النفس برهة للتفكير والبحث عن المعنى الذي يعبر عنه، أو لحظة يصل فيها الفرد للاستبصار وإدراك العلاقات بين الحوادث التي يرويها، وليس لرغبة منه في قطع التواصل اللفظي أو لتوصيل أي رسالة مما سبق الحديث عنها أعلاه.
ويمكن محاولة كسر حاجز الصمت في بعض الأحيان عن طريق إرسال رسائل لفظية واضحة تحث الفرد على المشاركة في الحوار، أو إصدار أصوات همهمة لحثه على الاسترسال إن كان قد توقف، أو إرسال رسائل غير لفظية بإيماءات الرأس والتواصل البصري.

الخداع والكذب Deception
مما توارثه الجدود أن الكاذب يتجنب الاتصال البصري بالعين. صحيح أن هذا لا يصدق مع الجميع، فهناك من يتجنبون التواصل البصري لأسباب أخرى غير الكذب، وهناك من يكذب وهو ينظر في عينيك بتبجح، ولكن هذه النظرية كثيرًا ما تكون صائبة.
ذكرنا أن الاتصال غير اللفظي يسهم في تشكيل انطباعات الناس بعضهم عن بعض؛ من حيث الصِدقية credibility، ما يحدد درجة تأثير الفرد في الآخر الذي يتواصل معه، والناس عادة تصدق الرسائل غير اللفظية إذا ما تعارضت مع الرسائل اللفظية؛ لذلك تؤثر قنوات الاتصال غير اللفظي في قدرة الفرد على خداع الآخرين وفي قدرته على استكشاف الخداع الصادر عنهم.
ليس هذا فقط بل لا بد أيضًا أن تتناسق الرسائل غير اللفظية مع بعضها لأجل وثوقية عالية في محتوى الرسالة؛ فليس من المنطقي أن تجلس في وضعية جسم توحي بعدم الانتباه لمحدثك ويعطيه وجهك في الوقت نفسه تعبيرات مريحة، وتطلب منه أن يستقبل رسالة ملؤها الترحيب والود!
ويرتبط النجاح في الخداع بدرجة الوعي بالذات، فالإنسان يُولد بقدرة فطرية على التعبير عن النفس، وتعمل التنشئة الاجتماعية على ضبط ذلك التعبير، ومنع الأطفال من التعبير بالكلمات أو بأي وسيلة من الوسائل غير اللفظية عن بعض ما يفكرون فيه أو يشعرون به، من أجل تهذيب الطفل، ومن هنا يخف تأثير الفطرة شيئًا فشيئًا ويبدأ الاصطناع، والذي يتعدى عند بعض الناس إلى ما نسميه الخداع؛ فابتسامة في وجه ضيف مزعج لا تعد خداعًا وإنما تهذيبًا، لكن محاولات إرسال رسالة زائفة للآخرين في الغالب تكون خداعًا، خاصة عندما يكون الأمر متكررًا، ولنتذكر كيف يحتال علينا الشحاذون بالكلمات ونبرة الصوت والتعبيرات الجسدية كأقوى مثال على ذلك. إنها سلوكيات واعية تمامًا ومتعمدة تُستخدم لتوصيل رسالة غير حقيقية.
في دراسة لألدرت فريج (Aldert Vrij,2000) عن التنبؤ بالخداع عن طريق السلوكيات اللفظية وغير اللفظية، أظهرت النتائج أنه على أساس السلوكيات غير اللفظية وحدها يمكن تصنيف نسبة كبيرة من الكذب والصدق بشكل صحيح –78% كما ورد بالدراسة–، ولكن بالرغم من ذلك فإنه أمكن تصنيف نسبة أعلى بشكل صحيح عندما أُخذت أساليب التحليل التي تعتمد على السلوكيات اللفظية وغير اللفظية معًا.
وقد اقترح بارجون وباتلر وكيورورو (Burgoon, Butler, and Cuerroro)  عام 1995، نظرية الخداع بين الأشخاص Interpersonal Deception Theory (IDT)، والتي تقترح أنه يوجد اختلاف بين الأفراد الماهرين اجتماعيًا والأفراد غير الماهرين عندما يحاولون خداع الآخرين. وجد الباحثون أن مستوى المهارات الاجتماعية الفردي يؤثر في الخداع والنجاح في استكشاف الخداع؛ فامتلاك مهارة الضبط الانفعالي تساعد المرسل والمستقبل في إخفاء عدم الارتياح والقلق والتأثيرات السالبة العامة التي تحدث عندما تخدع شخصًا أو تستكشف الخداع من الآخر، وبالمقابل فإن امتلاك المستقبل لمهارتي الحساسية اللفظية والحساسية الانفعالية يجعل لديه احتمالية أعلى لاكتشاف الخداع أو الكذب من الآخرين.
لكن ينبغي الحذر والتيقن أن المتهم بالخداع لم تظهر عليه سلوكيات الانزعاج التي تم وصمه بالخداع لأجلها لأسباب أخرى، وأنه ربما كان متوترًا وقلقًا أو غاضبًا أو حزينًا لأمر لا يتعلق بتاتًا بالموضوع موضع التحقق من جانبك.
كما أن البشر قد يكذبون لأسباب قد تختلف تمامًا عن الأسباب التي نظنها. قد يكذبون لتقليل الحرج عن أنفسهم أو لتجنب التوبيخ على أمر تافه لا يُقارن بما يدور في مخيلتك أو لإخفاء خطأ أو إخفاء حقائق لا يرغبون أن تعرفها، وقد يخدعونك لابتزازك عاطفيًا! ويصدر هذا السلوك الأخير غالبًا عن النساء، ولكنه قد يصدر أحيانًا عن الرجال!
وعلينا أن نتذكر أننا نتواصل لتحسين تفاعلنا الاجتماعي وتقوية علاقاتنا، وليس لاتهام بعضنا بالكذب والتشكك دون داعٍ.