الخميس، 8 أغسطس 2019

201-تغير عقيدة سُنة أهل بغداد في القرنين الخامس والسادس


تغير عقيدة سُنة أهل بغداد في القرنين الخامس والسادس
د/ منى زيتون
مقتطف من كتابي "التطرف الديني"
منشور الخميس 8 أغسطس 2019

في هذا المقال نراجع بعض الأخبار التي حوتها أمهات كتب التاريخ الإسلامي، والتي يتضح منها تغير عقيدة سُنة أهل بغداد في القرنين الخامس والسادس صعودًا وهبوطًا ما بين الأشعرية والحنبلية.
في أواخر القرن الثالث الهجري جاءت أول إشارة تاريخية وأول ظهور سياسي للحنابلة؛ تحديدًا أثناء حوادث فتنة خلع المقتدر وولاية ابن المعتز سنة 296هـ. وقد تقلبت أحوال تلك الفرقة وقوتها منذ نشأتها بحسب الدعم السياسي الذي كانت تتلقاه باختلاف خلفاء بني العباس والأمراء والوزراء، ووصلت لأوج ذلك الدعم في عهد الخليفة القادر بالله العباسي الذي اعتنق عقيدتهم وكتب كتابًا سُمي بالعقيدة القادرية كان يتلى في المساجد يوم الجمعة.
ففي بدء القرن الخامس، استتاب الخليفة ‏القادر بالله المعتزلة والشيعة‏ من عقائدهم، ومنعهم من تدريسها سنة 408هـ، ثم ‏كتب كتابًا عُرف باسم "العقيدة ‏القادرية"، حدد فيه أصولًا لا يجوز لأي مسلم أن يعتقد غيرها، يوافق عقيدة الحنابلة، وأخذ توقيعات العلماء عليه، وألزم فيه الرعية بأن هذا هو ‏اعتقاد المسلمين الصحيح. واستمرت العقيدة القادرية العقيدة الرسمية للعباسيين مدة خلافته وخلافة ولده القائم بأمر الله أيضًا، وكلاهما طالت مدة خلافته، فقد جاوزت مدة خلافتهما معًا خمسًا وثمانين سنة.
وفي سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وهي السنة التي ‏دخل فيها السلاجقة بغداد، أورد المؤرخون خبرًا جديدًا غير معتاد حدث ببغداد، وهو وقوع فتنة تُعرف باسم "فتنة الجهر بالبسملة"!
ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج8، ص325) "في هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو علي ابن الفراء وابن التميمي وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال. وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفًا وقال (أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها)"أهـ.
بينما يصف ابن كثير ‏في ‏"البداية والنهاية" (ج15، ص729)‏ وابن الجوزي ‏في "المنتظم" (ج15،ص347) تلك الفتنة بأنها فتنة بين الأشاعرة والحنابلة. قال ابن كثير: "وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة، وكان ‏جانب الحنابلة قويًا بحيث إنه كان لا يتمكن أحد من الأشاعرة شهود الجماعات"أهـ‏. وقال ابن الجوزي عنها: "وقعت بين الحنابلة والأشاعرة فتنة عظيمة حتى ‏تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفًا من الحنابلة"‏أهـ.‏ ‏وأقول: إن وصفهما أدق من وصف ابن الأثير لأن الداعي لتلك الفتنة أن الحنابلة ببغداد لا بد وقد شعروا بالخطر من العقيدة التي بدأت تنتشر في خُراسان، وأن البساط سينسحب من تحت أرجلهم عند وفودها إلى بغداد –وقد وفدت مع السلاجقة في العام نفسه-، فكانت تلك مقاومة منطقية منهم، وإلا فهل اكتشف الحنابلة فجأة وبعد قرون أن الشافعية يجهرون بالبسملة؟! وقد حدثت منهم الفتنة، وبالأسلوب ذاته الذي اعتادوه قبلًا مع الشيعة والمعتزلة.
وقد هيأ الله تعالى لعقيدة الأشاعرة أن تنتشر ببغداد وديار الإسلام، كما هيأ للانتقام من الوزير الكُندري، الذي تسبب في لعن الإمام الأشعري بنيسابور، والقبض على الأشاعرة وإهانتهم سنة 445هـ، وهي من أهم الفتن التي أشعلها المعتزلة. ذكر ابن كثير في البداية والنهاية (ج15، ‏ص793) أن "السلطان ألب أرسلان سنة 456هـ قبض على وزير عمه –طُغرلبك- عميد المُلك ‏الكُندري، وسجنه في بعض القلاع سنة، ثم أرسل إليه من قتله، واعتمد في الوزارة على نظام ‏الملك"أهـ.‏
ونظام المُلك هو أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق، وهو وزير الملك عضد الدولة ألب أرسلان أبو شجاع محمد بن داوود، ابن أخ السلطان طُغرلبك أول ملوك السلاجقة، ثم وزر من بعده لولده ملكشاه، ودامت وزارته لكليهما أكثر من تسع وعشرين سنة، لم يُنكب فيها حتى مات (السابع من المحرم 456هـ- العاشر من رمضان 485هـ). وكان قد تفقه صغيرًا على مذهب الشافعي، وبنى المدارس النظاميات ببغداد ونيسابور وغيرهما؛ ذلك أنه وفي سنة 457هـ -وبعد سنة من توليه الوزارة- ابتدأ نظام الملك بعمارة المدرسة النظامية ببغداد، وتم الفراغ من بنائها وبدء التدريس فيها سنة 459ه. قال ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص102) "وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة، جمع العميد أبو سعد القاضي الناس على طبقاتهم إلى المدرسة النظامية التي بناها نظام الملك ببغداد للشافعية، وجعلها برسم –أي عيّن لتدريسها ومشيختها- أبي إسحاق الشيرازي"أهـ. وكتب نظام المُلك في رسوم أوقافها أنها وقف على أصحاب الشافعي (أصلًا وفرعًا)، والتي ستعمل على نشر العقيدة الأشعرية بين العامة من أهل السنة ببغداد، وتحت إشراف ودعم الوزير نظام الملك -وإن كان نظام الملك لم يدخل المدرسة بنفسه حتى سنة 479ه لعدم تواجده ببغداد، وكان ابنه يتولى إدارتها-، مما سيوفر للعقيدة الجديدة الدعم السياسي بجانب الدعم العلمي والتثقيفي للعوام. وزاد الأمر على الحنابلة بعد وفاة الخليفة القائم بأمر الله سنة 467هـ، والذي كان على عقيدتهم هو وأبيه الخليفة القادر بالله.
وبعد أقل من عام من بدء التدريس في النظامية، ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص14) أنه "وفي يوم السبت النصف من جُمادى الآخرة سنة 460هـ قُرئ الاعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل السنة والجماعة والإنكار على أهل البدع، وقرأ أبو مسلم الليثي البخاري المحدِّث كتاب "التوحيد" لابن خُزيمة –وهو حنبلي العقيدة رغم كونه شافعي المذهب- على الجماعة الحاضرين. وذُكر بمحضر من الوزير ابن جَهير وجماعة الأعيان من الفقهاء وأهل الكلام، واعترفوا بالموافقة"أهـ.
وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص 105-106) "وقرأت بخط أبي علي ابن البناء قال: اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء وأعيان أصحاب الحديث في يوم السبت النصف من جمادى الأولى من سنة ستين –يعني وأربعمائة- بالديوان العزيز، وسألوا إخراج الاعتقاد القادري وقراءته، فأُجيبوا وقُرئ هناك بمحضر من الجمع، وكان السبب أن ابن الوليد المعتزلي عزم على التدريس، وحرّضه على ذلك جماعة من أهل مذهبه، وقالوا: قد مات الأجلّ ابن يوسف، وما بقي من ينصرهم، فعبر الشريف أبو جعفر إلى جامع المنصور –أكبر جوامع الحنابلة-، وفرح أهل السُنة –يعني الحنابلة- بذلك، وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدِّث معه كتاب "التوحيد" لابن خُزيمة، فقرأه على الجماعة، وكان الاجتماع يوم السبت في الديوان لقراءة الاعتقاد القادري والقائمي، وفيه قال السلطان: وعلى الرافضة لعنة الله، وكلهم كفار. قال: ومن لا يُكفِّرهم فهو كافر"أهـ. ويحكي ابن الجوزي أنهم قد طلبوا نسخة من الاعتقاد القادري لتُقرأ في المجالس، فقال الوزير ابن جهير: "هكذا فعلنا في أيام القادر، قُرئ في المساجد والجوامع، وقال: هكذا تفعلون، فليس اعتقاد غير هذا"، ثم أنه "في يوم الأحد سابع جمادى الآخرة: قرأ الشريف أبو الحسين ابن المهتدي الاعتقاد القادري والقائمي بباب البصرة –معقل الحنابلة-، وحضر الخاص والعام، وكان قد سمعه من القادر"أهـ.
وكما أسلفنا فالاعتقاد القادري هو تلك الرسالة التي وضعها الخليفة القادر بالله والذي كان حنبليًا، وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة هو الكتاب الذي وضعه في الصفات، ويقول عنه الإمام فخر الدين الرازي الأشعري: "هو في الحقيقة كتاب الشرك". فكان ما حدث محاولة من الحنابلة لإبراز عقيدتهم على أساس كونها العقيدة الرسمية للدولة، والعقيدة الصحيحة لأهل السُنة، وكان ذلك بعد موت الشيخ الأجلّ عبد الملك بن محمد بن يوسف البغدادي، ناصر الحنابلة، وبعد أقل من سنة من بدء تدريس العقيدة الأشعرية في المدرسة النظامية.
وظاهر الحوادث أنها تحرش معتاد من الحنابلة بالمعتزلة والشيعة، ولكنني أرى في باطنه أن الحنابلة ببغداد أظهروا اعتراضهم على تدريس العقيدة الأشعرية بالنظامية بشكل سلمي وحضاري –على غير العادة-، ولا أرى مبررًا لهذا إلا الدعم الذي لاقته المدرسة النظامية من الوزير نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان، خاصة وقد قُرئ الاعتقاد القادريء مصحوبًا بكتاب ابن خُزيمة في الصفات، والذي يُناقض صراحة صُلب العقيدة الأشعرية المنزِّهة. واللافت أن الخليفة قد عزل الوزير ابن جهير الملقب بفخر الدولة الذي قُرئ الاعتقاد القادري وكتاب "التوحيد" بحضرته في السنة نفسها، ثم أعاده بشفاعة ابن مزيد في السنة الآتية، وأعاد عزله مرة أخرى بسبب مساندته للحنابلة على الأشاعرة في فتنة القشيري، كما أوضحنا في مقال سابق.
ويمكن القول إنه في منتصف القرن الخامس الهجري حدث تغير في اعتقاد نسبة كبيرة من السُنة ببغداد إلى العقيدة الأشعرية، ولم يتم ذلك غصبًا، وإنما تم بالعلم والتثقف، وكأن ما قدمه الوزير نظام الملك بتأسيسه المدرسة النظامية في بغداد، وإيقاف الأوقاف عليها لأجل تثبيت عقيدة الأشاعرة، وما تلا النظامية من مدارس -أسسها غيره كالتاجية والكمالية- كان توفير البيئة للعامة ليتعلموا تلك العقيدة، فاعتقدوها طواعية ورغبوا عن الحنبلية التي صارت تُعرف في عصرنا بالسلفية، والتي كانت قد غلبت على سُنة بغداد.
كان من عواقب انتشار العقيدة الأشعرية التقارب الذي حدث بين البيت التميمي الحنبلي والفقهاء الشافعيين الأشاعرة ببغداد، حتى حكى الذهبي في ‏"سير أعلام النبلاء" (ج18، ص613‏) ‏عن أبي محمد التميمي قوله: "كل الطوائف تدعيني". أي أنه قد خفّت غلواء الحنابلة وشعورهم باحتكار الحقيقة حتى نشأ بينهم من يتقبل العلماء الآخرين ولا يُفسّقهم، وقد كان هذا في نظري مكسبًا حققته المدرسة النظامية لا يقل عن نشرها العقيدة الأشعرية. صحيح أن الحنابلة لم يستطيعوا تقبل المعتزلة بتاتًا حتى نقموا على إمامهم ابن عقيل سماعه دروس أبي علي ابن الوليد المعتزلي، لكن محاولة تقرب ابن عقيل في حد ذاتها لفهم ما تقوله المعتزلة هو شكل من أشكال الانفتاح الفكري المحمود لواحد من أكابر الحنابلة، وتعبر عن تغير الجو العلمي ببغداد، ومن الطبيعي إن كان قد طال أكابر علماء الحنابلة أن يطال العامة. وقد روى ابن كثير في "البداية والنهاية" أن أبا الوفاء ابن عقيل هو من غسّل الشيخ أبا إسحاق الشيرازي عندما تُوفي.
‏وذكر ابن الجوزي في ‏"المنتظم" (ج 16، ص281) عن سنة 482هـ ‏أنه "في تاسع عشر ‏المحرم درّس أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج المُلك أبو ‏الغنائم –الذي ولي وزارة السلطان ملكشاه بعد مقتل نظام الملك سنة 485هـ، وثلاثتهم ماتوا تباعًا في السنة نفسها- بباب أبرز ببغداد، ووقفها على أصحاب الشافعي، وسماها التاجية"أهـ.‏ وكان قد ذكر (ج16، ص271) أنه قد شُرع في بناء التاجية سنة 480هـ.
وكان قد تتابع على التدريس في النظامية بعد وفاة أبي إسحاق الشيرازي عدد من الأئمة مثل المتولي والصبّاغ. وفي سنة 483هـ جاء منشوران من نظام الملك للفقيهين أبو عبد الله الطبري وأبو محمد عبد الوهاب الشيرازي بالتدريس في نظامية بغداد. ثم جاء زمن الغزالي. يذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص292) و (ج17، ص18) ‏أنه في جمادى الأولى سنة 484هـ قدم أبو حامد الغزالي من أصبهان إلى بغداد للتدريس بالنظامية، وله أربع وثلاثون سنة، ولقّبه نظام الملك: بزين الدين شرف الأئمة، وكان كلامه معسولًا وذكاؤه شديدًا"أهـ. "واستمر في التدريس بالنظامية حتى ذي القعدة من سنة 488هـ حيث خرج من بغداد متوجهًا إلى بيت المقدس تاركًا التدريس في النظامية، زاهدًا في الدنيا، لابسًا خشن الثياب بعد ناعمها، وناب عنه أخوه في التدريس، وعاد في السنة الثالثة من خروجه، وقد صنّف كتاب (الإحياء)، فكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه منه، ثم حج في سنة تسعين وأربعمائة، ثم عاد إلى بلده"أهـ. وكان للإمام الغزالي دوره الكبير في نشر العقيدة الأشعرية ببغداد بين العامة.
ومما يُروى في هذا الشأن، أنه ليس فقط العامة من تحولوا من الحنبلية، بل وحتى الفقهاء. من أمثلة ذلك أن أحمد بن علي بن برهان أبو الفتح الفقيه، المعروف بابن الحمامي، والمتوفي سنة 518هـ، كان حنبليًا، تفقه على ابن عقيل، ثم صار شافعيًا، وتفقه على الغزالي والشاشي. ولكن كان هناك تعريض بمن يتحول عن الحنبلية من العلماء، وأنهم ما فعلوا هذا إلا بسبب الرواتب التي كانت تُجرى على الشافعية، أما الوجيه المبارك بن أبي الأزهر سعيد بن الدهان الواسطي النحوي الضرير، المتوفي سنة 612هـ. فيقول ابن الأثير عنه في "الكامل" (ج10، ص368) "كان نحريرًا فاضلًا، قرأ على الكمال ابن الأنباري، وعلى غيره، وكان حنبليًا، فصار حنفيًا، ثم صار شافعيًا، فقال فيه أبو البركات ابن زيد التكريتي:
ألا مبلغًا عني الوجيه رسالةً **** وإن كان لا تُجدي لديه الرسائلُ
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبلٍ **** وفارقته إذ أعوزتك المآكلُ
وما اخترت رأي الشافعي تدينًا **** ولكنما تهوى الذي هو حاصلُ
وعما قليلُ أنت لا شك صائرٌ **** إلى مالكٍ، فافطن لِما أنا قائلُ
        وحُكي أن سبب تحوله حنفيًا أن الخليفة طلب لولده حنفيًا يعلمه النحو، ثم جاءته فرصة لتدريس النحو بالمدرسة النظامية، وشرط وقفها ألّا يُدرس فيها إلا شافعي؛ فتحول شافعيًا.
        لكن كلام ابن عقيل الحنبلي في عطايا نظام المُلك للعلماء السُنة، الذي نقله عنه ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص306)، يظهر عدم تمييزه، وإن كان من الثابت عنه أنه لم يكن يسمح سوى للشافعية بالتدريس في المدارس النظامية، وكذا ما رواه المؤرخون عن سياسة نور الدين زنكي في دمشق وحلب، حيث كان زنكي حنفيًا، ولكنه لا يميز بين أهل المذاهب السُنية، وبنى المدارس لأصحاب المذاهب الأربعة، على حسب ما تقتضيه الحاجة.
        وقد كان التحول بين المذاهب حادثًا قبل نظام الملك ومدارسه، واستمر بعده. من أمثلة المتحولين من كبار الأئمة:
        محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، كان مالكيًا كأبيه، ثم صار شافعيًا عند قدوم الشافعي مصر، ثم رجع مالكيًا، وابن فارس صاحب "المجمل في اللغة"، كان شافعيًا كأبيه، ثم صار مالكيًا، وأبو ذر الهروي راوي البخاري كان شافعيًا وقيل حنبليًا ثم صار مالكيًا. وعكسهم، الإمام المجتهد ابن دقيق العيد، كان مالكيًا كأبيه، ثم تحول شافعيًا، وهو يفتي على المذهبين، وأبو المظفر منصور بن محمد السمعاني، كان مالكيًا ثم صار شافعيًا.
        ومن أشهر المتحولين من مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي: الإمام أبي ثور وعبد الكريم بن السمعاني، وعكسهم ممن كان شافعيًا ثم صار حنفيًا: الإمام ابن عابدين صاحب الحاشية والإمام الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة.
        أما من كانوا حنابلة وانتقلوا إلى مذهب الشافعي، فمنهم سيف الدين الآمدي الأصولي، وقاضي القضاة جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن حملة الدمشقي، والخطيب البغدادي، وابن برهان أبو الفتح الأصولي، ونجم الدين أحمد بن محمد بن خلف المقدسي. وعكسهم: ابن هشام النحوي كان شافعيًا ثم صار حنبليًا، وقيل إن الإمام عبدالقادر الجيلاني كان شافعيًا ثم صار حنبليًا، وهو يفتي على كلا المذهبين.
        والمهاجرون من الأندلس، كابن مالك وأبو حيان والحميدي، أغلبهم كانوا في الأندلس مالكية، ثم صاروا شافعية.
        ومن أشهر المنتقلين بين المذاهب في عصرنا: أحمد الغماري كان مالكيًا، ثم تحول شافعيًا، ثم تبع الاجتهاد. وابن الوزير والشوكاني والأمير الصنعاني، كانوا زيدية ثم تبعوا الاجتهاد.
واستطاع فقهاء الشافعية إقناع نسبة كبيرة من العامة ببغداد بالعقيدة الأشعرية، ومع انتشار العقيدة الأشعرية والمذهب الشافعي ضعف تأثير الحنابلة على العامة، وعلى الخاصة، حتى وصل الأمر للخليفة. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" ج17، ص66) في حوادث سنة 494هـ "في رمضان هذه السنة تقدم الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن يصلى فيه صلاة التراويح، ولم تكن العادة جارية بذلك، ورتّب فيه للإمامة أبو الفضل محمد بن أبي جعفر عبد الله بن أحمد بن المهتدي، وأمر بالجهر بالبسملة، ‏والقنوت على مذهب الشافعي"أهـ. فكان النصف الثاني من القرن الخامس الهجري هو عهد الأشاعرة ببغداد، قبل أن يحل القرن السادس، وهو قرن الجيلاني ثم ابن الجوزي، وكلاهما ليسا من غُلاة الحنابلة.
وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج17، ص92)‏ ‏و ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص188) حضور الوزير سعد الدولة (سعد الملك) عند إلكيا الهراسي –وهو تلميذ إمام الحرمين الجويني وسبق أن حاول الحنابلة الوشاية به عند السلطان بأنه باطني- في درسه بالنظامية سنة 498هـ، ليُرغِّب الناس في العلم. والحقيقة أنه ترغيب منه للعامة في حضور دروس العقيدة الأشعرية. ثم عاد المؤرخون وذكروا أنه بدءًا من شعبان سنة 504هـ درّس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية –وكان يُدرس بالتاجية وحدها بدءًا من سنة 482هـ-، وحضر عنده الوزير والأعيان من الدولة وغيرهم.
وذكر المؤرخون في حوادث سنة 535هـ أن المدرسة الكمالية ببغداد المنسوبة إلى كمال الدين أبي الفتوح حمزة بن طلحة، صاحب المخزن قد كملت، ودرّس فيها الشيخ أبو الحسن ابن الخل، وحضر عنده الأعيان والرؤساء. كما ذكر المؤرخون جلوس يوسف الدمشقي للتدريس بالمدرسة التي بناها ابن الأبري بباب الأزج، وذلك سنة 540هـ، وحضر قاضي القضاة وصاحب المخزن وأرباب الدولة. كل هذا كان ترغيبًا للعامة في حضور حلقات دروس العقيدة الأشعرية، وكان لهذا الترغيب أثره.
ولكن وفقًا لما أورده ابن الجوزي في حوادث سنة 538هـ، في أثناء محنة الإمام أبي الفتوح الإسفراييني أنه كان قد كُتب على المدرسة النظامية ببغداد اسم الأشعري، فتقدم السلطان مسعود بمحوه، وكتب مكانه اسم الشافعي، وكان هذا الحدث بتغيير ما كُتب على وقف النظامية، وإرادة تحويلها إلى تدريس المذهب الفقهي الشافعي دون العقيدة الأشعرية، هو البداية الحقيقية للتحرش الحنبلي الرسمي ضد الأشاعرة، والذي سيصل ذروته بعد ذلك فترة وزارة ابن هُبيرة.
وكان للحنابلة محاولاتهم لجذب العامة بطرق تختلف تمامًا عن طريق الترغيب في العلم التي اتبعها الأشاعرة. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص55) أنه وفي صفر من سنة 542هـ "شاع أن رجلًا رأى في المنام أنه من زار قبر أحمد بن حنبل غُفر له، فما بقي خاص ولا عام إلا وزار. قال ابن الجوزي: وعقدت يومئذ مجلسًا فحضر ألوف لا يُحصون"أهـ. لكن الإنصاف يقتضي عدم إغفال الدور التعليمي التثقيفي لأبي الفرج ابن الجوزي في نشر المذهب الحنبلي من خلال مؤلفاته الهائلة، وتدريسه للعامة، وابن الجوزي هو صاحب كتاب "دفع شبهة التشبيه" الذي نزّه فيه مذهب الإمام أحمد عن التجسيم والتشبيه الذي كان سمته بسبب الكتب التي صنّفها بعض الحنابلة الأوائل، وقد سبق الحديث عنه في مقالات سابقة تناولت العقائد. وكذلك لا نغفل الدور الذي لعبه الإمام عبد القادر الجيلاني في نشر التصوف بين حنابلة بغداد، وما كان له من أثر في تهذيب سلوكهم، خاصة وقد كان اعتقاده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهذبًا كاعتقاد علماء الأشاعرة، فيميز بين إنكار السلاطين وإنكار العلماء وإنكار العامة، باليد واللسان والقلب على التوالي، وأن العلماء من ينوط بهم تحديد المعروف والمنكر، وحدد شروطًا وصفات لا بد من توفرها للأمر والنهي. وقد أدى هذا إلى تخلص كثير من عامة حنابلة بغداد من همجيتهم التي عُرفوا بها، رغم أنهم بقيوا على كراهيتهم للشيعة والمعتزلة والأشاعرة.
ثم أنه وبسبب حدوث خلافات بين الخلفاء العباسيين وسلاطين السلاجقة في القرن السادس الهجري، فقد انعكس هذا على دعم الخلفاء للعقيدة الأشعرية، وحاول المقتفي لأمر الله نكاية في السلاجقة إعادة الاعتبار للحنابلة ببغداد، وكان من ذلك تعيينه للوزير الحنبلي ابن هُبيرة. وقد حاول الوزير عون الدين ابن هُبيرة -الذي ولي الوزارة للخليفة سنة 544هـ وحتى وفاته سنة 560ه- إحياء العقيدة السلفية ببغداد فأنشأ مدرسة بباب البصرة سنة 557هـ –معقل الحنابلة القديم- لتواجه المدارس التي أنشأها الوزير نظام الملك وغيره لنشر العقيدة الأشعرية، ولكنه لم يفلح كثيرًا، وبدا ذلك واضحًا في قلة الفتن بين العامة، والتي كانت تنتج بسبب عقيدة الحنابلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع غلبة أعدادهم، بما يعني من الناحية التطبيقية التحرش بمخالفيهم في الاعتقاد ومشاكلتهم، ربما لأنهم تحولوا من مشاكلة الشيعة إلى مشاكلة فقهاء النظامية.
يذكر المؤرخون –وننقل من ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص359)- أنه "في المحرم من سنة 545هـ حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية، وخُلع عليه، وحضر عنده الأعيان، ولمّا لم يكن ذلك بإذن الخليفة، بل بمرسوم السلطان وابن نظام الملك مُنع من ذلك، فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية، وولي بعده الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان". وكان ابن الجوزي قد ذكر في "المنتظم" (ج18، ص77) أن "أبا النجيب قد جلس للتدريس في النظامية يتقدم السلطان مسعود، فإنه مضى إلى مدرسته، وصلى وراءه الصبح، وتقدم إليه بالتدريس في النظامية، فقال له: أريد إذن الخليفة، فاستخرج له إذن الخليفة". أي أنه هو من طلب إذن الخليفة كي لا يكون مصيره كمصير الدمشقي. وأقول إن هذا غريب وشكل من أشكال التحرش بمدرسيّ النظامية لأنها منذ أُنشأها نظام الملك كان هو ومن بعده أولاده من يعطون المراسيم للفقهاء للتدريس بها، ولم يسبق أن أعطى الخليفة مرسومًا لأحد للتدريس فيها أو في أي مدرسة، وكانت تلك الحادثة من ثمرات تولي الوزير ابن هُبيرة –الحنبلي- وزارة الخلافة.
ويروي ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص81) ‏أنه "في رمضان سنة 546هـ دخل السلطان مسعود إلى بغداد، وسأل ابن العبادي أن يجلس في جامع المنصور، فقيل له: لا تفعل فإن أهل الجانب الغربي لا يُمكنّون إلا الحنابلة، فلم يقبل، فضمن له نقيب النقباء وأستاذ الدار وخلق كثير الحماية، فجلس يوم الجمعة خامس ذي الحجة في الرواق وحضر النقيبان وأستاذ الدار وخلق كثير، فلما شرع في الكلام أخذته الصيحات من الجوانب، ونفر الناس وضربوا بالآجر، فتفرق الناس منهزمين كل قوم يطلبون جهة، وأُخذت عمائم الناس وفوطهم، وجُذبت السيوف حوله، وتجلد وثبت، وسكن الناس، وتكلم ساعة ونزل وأرباب الدولة يحفظونه حتى انحدر وقد طار لُبه"أهـ.
كما روى ابن الجوزي وابن كثير بعض حوادث التحرش بمدرسيّ النظامية سنة 547هـ ساقها ابن الجوزي مفصَّلة وتحامل على الفقهاء، وأوردها ابن كثير مختصرة في "البداية والنهاية" (ج16، ص367). قال: "تُوفي يعقوب الخطاط الكاتب بالنظامية، فجاء ديوان الحشرية؛ ليأخذوا ميراثه لبيت المال، فمنعهم الفقهاء، فجرت فتنة عظيمة، آل الحال إلى عزل مدرسها الشيخ أبي النجيب، وضربه بالديوان تعزيرًا"أهـ.
وفي صفر سنة 555هـ، ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص138) ‏أنه "مُنع المحدِّثون من قراءة الحديث في جامع القصر، وسببه أن صبيانًا من الجهلة –والتعبير لابن الجوزي وهو حنبلي مُنَزِّه- قرأوا شيئًا من أخبار الصفات –يعني ما يُصر الحنابلة على إلصاقه من الجوارح بذات الله-، ثم أتبعوا ذلك بذم المتأولين، وكتبوا على جزء من تصانيف أبي نُعيم اللعن له والسب، فبلغ ذلك أستاذ الدار، فمنعهم من القراءة"أهـ. ونلاحظ أن المنع حدث من قِبل أستاذ الدار وليس الوزير ابن هُبيرة.
ويروي ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص 444) في حوادث سنة 556هـ "في ربيع الأول، خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان، والغلمان يطرقون له، وأرادوا يردون باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة –وهي من المدارس المخصصة لتدريس المذهب الشافعي- فمنعهم الفقهاء، وضربوهم بالآجر، فشهر أصحاب الوزير السيوف، وأرادوا ضربهم، فمنعهم الوزير، ومضى إلى الديوان، فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير، فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار، فمضى أستاذ الدار، وعاقبهم هناك، واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب، ثم إن الوزير أعطى كل فقير دينارًا، واستحل منهم، وأعادهم إلى المدينة، وظهر مدرسهم!"أهـ. والقصة بهذه الرواية تبدو غير مفهومة أن يخرج الفقهاء ليرجموا وزير الخليفة الذي جاء لزيارتهم وسط أصحابه المقلدين بالسيوف، ثم يشكونه! ولا شك أنه كانت لديهم رواية أخرى كتبوها في شكايتهم خلاف تلك الرواية الرسمية.
وفي سنة 570هـ أُنشئت مدرسة للحنابلة ببغداد وبُنيت لهم دكة في جامع القصر، ويكفي أن نقرأ ما دونه ابن الجوزي لندرك كيف تغير ميزان المذاهب ببغداد خلال قرن، حتى صار الحنابلة يسعدون عندما يميل الخليفة إليهم، ويُفرد لهم بعض العناية. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص214) "وكانت تلك المدرسة دارًا لأبي نصر ابن جهير وتغيرت ملكيتها، حتى أُوقفت على أصحاب أحمد. وتقدم ببناء دكة لنا في جامع القصر فانزعج لهذا جماعة من الأكابر، وقالوا ما جرت عادة للحنابلة بدكة". وقد درّس في المدرسة أبو الفرج ابن الجوزي. كما ذكر (ج18، ص220) أنه في سنة 571هـ "كُتب على حائط المدرسة التي وقفتها الجهة وسلمتها إليّ "وقفت هذه المدرسة الميمونة في أيام سيدنا ومولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين على أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وفوضت التدريس بها إلى ناصر السُنة أبي الفرج ابن الجوزي". وذكر (ج18، ص239) أن أمير المؤمنين في سنة 573هـ قد أنشأ مسجدًا كبيرًا وعمره عمارة فائقة، وأضافه للحنابلة. وذكر المؤرخون، وننقل عن ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص530) عن سنة 574هـ ‏"أمر الخليفة المستضيء بكتابة لوح على قبر الإمام أحمد بن حنبل، فيه آية الكرسي، وبعدها: هذا قبر تاج السُنة، وحيد الأمة، العالي الهمة، العالم العابد الفقيه الزاهد". وذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص249) أنه في السنة نفسها "تقدم أمير المؤمنين بعمل دكة بجامع القصر للشيخ ابن المنى الحنبلي، فماتوا أهل المذاهب من عمل مواضع للحنابلة، وما كانت العادة قد جرت بذلك، وجعل الناس يقولون لي هذا بسببك، فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك. وصار لي خمس مدارس، وهذا شيء ما رآه الحنابلة إلا في زمني"أهـ.‏
ثم ولي الناصر لدين الله. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص659) أنه ‏وفي سنة 589هـ جدد الخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد، ونقل إليها ألوفًا من الكتب الحسنة المثمنة، بعد أن عدمت المدد والعطايا من السلاجقة. وكانت خلافة الناصر لدين الله قد شهدت زوال دولة السلاجقة سنة 590هـ، بعد معركة مع الخوارزميين، وإن كانت عودة استقلال الخلفاء العباسيين بالسلطة في العراق، قد حدثت قبل ذلك التاريخ، وكان الخليفة الناصر عادلًا بين طوائف الرعية، بل حتى أهل الذمة في عهده كانوا في أحسن حال، مما قلّل الفتن. واستمرت خلافته حتى طالت الربع الأول من القرن السابع، وبعد وفاته مع عدم وجود دعم من السلاجقة عادت سطوة الحنابلة وهمجيتهم في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى سقوط بغداد في يد التتار منتصف القرن السابع.
ولم تكن تلك المناكفات بين الحنابلة والأشاعرة قاصرة على بغداد. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص684)‏ وفاة الملك العزيز ابن صلاح الدين الأيوبي صاحب مصر سنة 595هـ، كما ذكر ابن الأثير الخبر، ولكن ابن كثير تفرد برواية –من الواضح أنها لم تثبت عند ابن الأثير فلم يثبتها-، وهي أنه فيما يُقال: "كان قد عزم على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته أن يخرجوهم من بلادهم، فلمّا مات أثناء خروجه للصيد عظم قدر الحنابلة بديار مصر والشام عند الخاص والعام". وأقول إن هذه القصة الملفقة من حيل الحنابلة المعتادة عندما يبورون عند العوام.