الاثنين، 5 أغسطس 2019

200- الفتنة القشيرية


الفتنة القشيرية
د/ منى زيتون
مقتطف من كتابي "التطرف الديني"
الاثنين 5 أغسطس 2019

حدثت فتنة شهيرة بين الحنابلة والأشعرية سُميت بالفتنة القُشيرية‏ نسبة إلى ابن القشيري، وهو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري، وكان لأبيه أبي القاسم القشيري القدح المعلى في فتنة لعن الأشاعرة بنيسابور، وهي من أشهر الفتن التي أشعلها المعتزلة، وقد توفي أبوه أبو القاسم سنة 465هـ، وهو صاحب ‏رسالة "شكاية أهل السنة".
ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج8، ص413) أنه في سنة 469هـ "ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري حاجًا، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة ومن تبعهم سوق المدرسة النظامية، وقتلوا جماعة. وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحق وشيخ الشيوخ وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة"أهـ. وقد فصّل كثيرون في رواية وقائع الفتنة، منهم ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج 16، ص59: 61) وابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص 181: 183)
قال ابن كثير ضمن ما روى: "وفي شوال سنة 469هـ ‏وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية؛ وذلك لأن ابن القشيري قدم بغداد ‏فجلس يتكلم في المدرسة النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام ‏الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة، وذهب جماعة إلى الشريف أبي ‏جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة وهو في مسجده، فدافع عنه آخرون، وقُتِل رجل خياط من سوق الثلاثاء –أو سوق التبن-، وجُرح آخرون، وثارت ‏الفتنة، وكتب الشيخ أبو إسحاق، وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك، فجاء كتابه إلى ‏فخر الدولة –وهو الوزير ابن جهير- يُنكر ما وقع، ويكره أن يُنسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك. ‏وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد؛ غضبًا مما وقع من الشر، فأرسل إليه ‏الخليفة يُسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي وأبي نصر القشيري عند الوزير –يقصد ابن جهير-"‏أهـ.
وأهم ما يمكن استخلاصه من الحوار الذي رواه المؤرخون –على الخلاف بينهم- هو نقمة الحنابلة، ولسانهم في هذا الشريف أبي جعفر، على أبي إسحاق الشيرازي لتدريسه العقيدة الأشعرية، وعلى السلطان السلجوقي وخواجا بُزُرْك –يعني نظام الملك-، وأن الخليفة المقتدي بالله حفيد القائم والقادر رغم كونه على اعتقاد الحنابلة الذي هو اعتقاد جديه إلا أن الكلمة الأولى والأخيرة ببغداد لنظام الملك رغم عدم إقامته فيها.
ولمنع الفتنة من التفاقم روى ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص70-76) ‏أنه اُعتقل الشريف أبو جعفر ابن أبي موسى الهاشمي في دار الخلافة مُكرمًا بعد فتنة ‏القشيري، كما مُنع الوعّاظ من الجلوس، ولم يؤذن لهم بعدها إلا سنة 473هـ. كما جاء في ترجمته للقشيري سنة وفاته 514هـ أن ابن القشيري أُمر بالخروج من بغداد لإطفاء الفتنة، فعاد إلى بلده.
وأقول إن فتنة لعن الأشاعرة بنيسابور بسبب الوزير الكُندري المعتزلي، التي سُجن فيها الإمام أبي القاسم القشيري والد أبي نصر قبلها بسنوات قد أثرت ولا شك في تعصب إمام شاب مثله للعقيدة التي يؤمن بها، وسُجن والده بسبب اعتقاده بها. ولو حققنا في المسألة، آخذين في الاعتبار رواية ابن كثير، فسنخلص منها أنه لم يكن الحنابلة من تحرش لبدء الفتنة، لكن يدهم في أثناء الفتنة لا تخفى كالعادة. ولكن رواية أخرى عند ابن الجوزي توضح أن ما عدَّه ابن كثير ذمًا وتحرشًا بالحنابلة، كان إجابة أبي نصر عن مسألة في العقائد وفقًا لعقيدة الأشاعرة، ووافقه مدرسو المدرسة النظامية، وعلى رأسهم أبي إسحق الشيرازي، فقامت ثائرة الحنابلة لذلك، كونهم لا يعترفون بالخلاف، بل يعدون مُنكِر أي شيء يعتقدونه إما كافر وإما مبتدع –على حسب الحال-، ويجب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاهه، وهو ما يُفسر مسارعتهم للشريف أبي جعفر الهاشمي، المعروف عنه المسارعة إلى تطبيق الأمر والنهي. يروي ابن الجوزي في "المنتظم" (ج16، ص190-191) خبرًا في حوادث سنة 470هـ، عن ورود كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب بعض كتبه التي صدّرها إليه في قضية الحنابلة. وفيه: "وكان ما انتهى إلينا أن السبب في تجديد ما تجدد مسألة سُئل عنها أبو نصر القشيري عن الأصول، فأجاب عنها بخلاف ما عرفوه في معتقداتهم"أهـ.
ثم روى ابن الجوزي وقوع فتنة ثانية بين الحنابلة والأشعرية سنة 470هـ، وفصّل في حوادثها، وكذا رواها ابن الأثير في "الكامل" (ج8، ص415) قال: "وكان ببغداد في هذه السنة -470هـ- فتنة بين أهل سوق المدرسة –يعني السوق المجاور للمدرسة النظامية- وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد، فنهب بعضهم بعضًا. وكان مؤيد المُلك ابن نظام المُلك ببغداد بالدار التي عند المدرسة، فأرسل إلى العميد والشحنة فحضرا ومعهم الجند، فضربوا الناس فقُتل بينهم جماعة وانفصلوا"أهـ.‏ أما ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص65) ‏فقال: "وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين بعض فقهاء النظامية، وحمىّ لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقُتل بينهم نحو من عشرين قتيلًا، ثم سكنت الفتنة"أهـ.
وقد روى ابن الأثير في "الكامل" (ج8، ص417-418) مما كتبه أبو الحسن الواسطي الفقيه الشافعي إلى نظام المُلك واصفًا الحال:
يا نظام الملك قد حلّ ببغداد النظام **** وابنك القاطن فيها مستهان مستضام
وبها أودى له قتلى غلام، وغلام **** والذي منهم تبقى سالمًا فيه سهام
يا قوام الدين لم يبق ببغداد مقام **** عظم الخطب وللحرب اتصال ودوام
فمتى لم تحسم الداء أياديك الحسام **** ويكف القوم في بغداد قتل وانتقام
فعلى مدرسة فيها ومن فيها السلام **** واعتصام بحَريم لك من بعد حرام
وزاد ابن الأثير أن نظام الملك قد عظم عليه ما جرى من الفتن وقصد مدرسته والقتل بجوارها مع أن ابنه مؤيد الملك فيها، وبعث رسالة إلى الخليفة المقتدي بأمر الله سنة 471هـ، يتضمن الشكوى من بني جهير، وسأله عزل فخر الدولة ابن جهير من وزارة الخليفة المقتدي؛ بسبب ما نُسب له وإلى الخدم من يد فيما فعلت الحنابلة ومن معهم في فتنة القشيري. وقد أشار لذلك ابن كثير إشارة خفية بقوله "وكتب الشيخ أبو إسحاق، وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك، فجاء كتابه إلى فخر الدولة يُنكر ما وقع". وقد حدث هذا رغم المصاهرة القديمة التي كانت بينهما؛ ذلك أن الوزير فخر الدولة ابن جهير كان قد زوّج ابنه عميد الدولة لابنة نظام الملك سنة 462هـ والتي ماتت نفساء سنة 470هـ. واستطاع عميد الدولة أن يُصلح ما بينه وبين نظام الملك وتزوج ابنة بنت له سنة 471هـ، ثم أن نظام الملك راسل الخليفة في إعادة بني جهير للوزارة فأعيد ابنه عميد الدولة وسُمح لفخر الدولة بمغادرة منزله سنة 472هـ. وذكر الخبر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص71) ‏قال: "وفيها عُزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك، بسبب ممالأته على الشافعية، ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته، فأُعيد ولده وأُطلق هو"أهـ. فحسب رواية ابن كثير يكون الخليفة هو من أراد التحقق من انصلاح الأحوال بين بني جهير ونظام الملك قبل إعادتهم.
وكأن المصائب قد توالت على الحنابلة مؤذنة بغياب سطوتهم على العامة ببغداد، فقد مات بعد نشوب الفتنة بأربعة شهور، وتحديدًا في صفر سنة 470هـ، الشريف أبو جعفر ابن أبي موسى الهاشمي، والذي كان من دعائم ما يسميه الحنابلة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما أورد في ترجمته الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج18، ص548)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص69).
وفي مقال تالٍ نراجع بعض الأخبار التي حوتها أمهات كتب التاريخ الإسلامي، والتي يتضح منها تغير عقيدة سُنة أهل بغداد في القرنين الخامس والسادس صعودًا وهبوطًا ما بين الأشعرية والحنبلية.