السبت، 17 أغسطس 2019

204-التحديق والاتصال البصري ودوره في عملية التواصل


التحديق والاتصال البصري ودوره في عملية التواصل
د/ منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور السبت 17 أغسطس 2019
تتمثل السلوكيات غير اللفظية Non- verbal behaviors في العديد من أشكال الإيماءات والإشارات التي تستخدم للتعبير عن الموافقة والقبول أو الرفض أو الأمر أو التوسل أو الانفعالات المختلفة كالغضب أو الاشمئزاز أو الحزن أو الخجل أو السعادة. ودائمًا نستطيع إرسال الرسالة التفاعلية بأساليب مختلفة نحقق من خلالها الإدراك نفسه.
يشيع استخدام هذه السلوكيات، وتعتبر بصورتها الفطرية عالمية، وتصبح أحيانًا الوسيلة الوحيدة للتواصل بين أفراد يستخدمون لغات مختلفة. لكن قد يتطور استخدام تلك السلوكيات لتكوين لغة إشارة كالمستخدمة في تعليم الصم والبكم. تقوم فكرة تلك اللغة على التعبير باستخدام حركات اليدين والذراعين والرأس عن الأشياء والأفعال، بحيث تُختار أشد الخطوط وضوحًا في الأشياء وأشد سمات الأفعال وضوحًا.

أنماط السلوك غير اللفظي  Non-verbal Behavior Types
1-     التحديق والاتصال البصري Gaze and Eye contact. 
2-     تعبيرات الوجه Facial expressions.
3-     لغة الجسد Body Language.
4-     المسافة الشخصية Personal space.
5-     سلوكيات خاصة بالمكان Spatial behavior.
6-     سلوكيات خاصة بالوقت Time behavior.
7-     الخصائص الجسمية Physical characteristics.
8-     الملابس والمظهر الخارجي Clothes and appearance.
وهذه السلوكيات غير اللفظية المتنوعة تقدم معلومات عن سمات شخصية الفرد، واتجاهاته، وانفعالاته، أكثر صدقًا مما تقدمه الكلمات. ونُفصِّل في عرض كل منها لأهميتها.

1- التحديق والاتصال البصري Gaze and Eye contact
في كتابه الشهير "فقه اللغة" يذكر لنا الثعالبي حالات النظر، وكيف ميّزت اللغة العربية بينها. يقول: "إذا نظر الإنسان إلى الشيء بمجامع عينه قيل رمقه، فإن نظر إليه من جانب أذنه قيل لحظه، فإن نظر إليه بعجلة قيل لمحه، فإن رماه ببصره على حدة نظره قيل حدجه بطرفه".
وفي كتابه أول أربع دقائق The first four minutes  يذكر ليونارد زونين (Leonard Zunin,1972)  أننا نتصل مع الأشخاص الذين لا نعرفهم غالبًا من خلال العيون.
ومعروف أنه من بين جميع الكائنات لا تُوجد الصُلبة (بياض العين) سوى في الإنسان، وهذا يجعل نظرات الإنسان تحديدًا قادرة على حمل رسائل تواصل مختلفة، بل للعيون لغة مستقلة عند الشعراء. يقول أحمد شوقي:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت *** عيناي في لغة الهوى عيناكِ
يعتبر التحديق والاتصال البصري من أكثر أنماط الاتصال غير اللفظي أهمية. يحدث التحديق عندما ينظر أحد الأشخاص لشخص آخر بقوة في منطقة العينين، بحيث لا يكاد يرفع عينيه عنه، وسواء كان الشخص الآخر ينظر إليه أم لا، بينما يحدث الاتصال البصري عندما يكون كلا الشخصين ينظران بشكل متبادل إلى بعضهما في منطقة العينين.
قد يكون التحديق باردًا غير مصحوب بكلمات، وأحيانًا يحدث أثناء الاستماع كدلالة على الانتباه، بينما يكون المتحدث ينظر نظرات عابرة، وأحيانًا أخرى يقوم به المتحدث فيطيل التحديق ليركز على نقطة ما بينما المستمع لا ينظر إليه. أما الاتصال البصري فيكون مصحوبًا بتعبيرات الوجه، وهو علامة في أغلب الأحيان على الاسترخاء والود الذي يسود جو المحادثة بين الشخصين.
وكغيره من أنماط التواصل غير اللفظي فإنه قد يتم تلقائيًا دون قصد؛ فليس بالضرورة أن من ينظر إليك لديه رسالة يوصلها لك. كثيرًا ما قد يبدو الشخص ينظر إلى أحد الجالسين في حين أنه غير منتبه، ولا يكاد يركز معه فيما يقول.

كيف يتم ترجمة واستقبال التحديق والاتصال البصري؟
تعتبر العيون إحدى أهم القنوات التي تصل من خلالها رسائلنا غير اللفظية للآخرين؛ فالعين هي النافذة التي تطل من خلالها مشاعر الإنسان الداخلية الحقيقية إلى الآخرين، فإن كانت تعبيرات الوجه يمكن تزييفها فليس الحال مشابهًا بالنسبة لنظرات العيون. وقد تعرف الناس منذ القدم أن مواجهة المتحدث في عينيه من أيسر الطرق لكشف مشاعره الحقيقية دون كذب.
وحاسة النظر من أهم الحواس التي نستقبل بها مدخلاتنا عن العالم، وتجنب النظر إلى بعض المثيرات البصرية أمام العين تعني ببساطة رغبتنا في عدم التفاعل معها. لا يلزم أن يكون ما نتجنب النظر إليه أشخاص بعينهم، بل يمكن أن نرفض النظر إلى مشهد بأكمله لأنه دموي أو مرعب. قد يتم ذلك عن طريق حجب أو تغطية العينين بإحدى اليدين، وهو سلوك انعكاسي فطري شائع لرفض الاتصال عند استقبال مثيرات مزعجة غير متقبلة سواء كانت بصرية أو سمعية. قد يتوقف الحجب على العينين، وقد يمتد لتغطية الوجه بكلتا اليدين أو إحداهما. ويمكن أن نحجب عن أعيننا نصف الرؤية بالإغلاق الجزئي للعين للتعبير عن الانزعاج الشديد، خاصة عندما تقترن مع خفض الحاجبين كما وكأن ضوء الشمس شديد، بينما إطباق الجفون تمامًا لغلق العينين هو تعبير عن الشعور بمشاعر سلبية. في كلتا الحالتين -النظر وتجنب النظر- نحن نكشف عن مشاعرنا تجاه ما يواجه أعيننا.
يمكن من خلال نظرات العيون التعبير عن العديد من الانفعالات؛ يمكنها توصيل الإعجاب والانجذاب الجنسي، كما يمكن توصيل الحنو والشفقة أو الغضب أو الخوف أو المفاجأة أو الاحتقار. والسعادة الحقيقية لا يتم التعبير عنها فقط بواسطة ابتسامة الشفتين، بل يدل عليها غلق العينين قليلًا لدرجة تجعد الجلد على حافتيهما، والتي تُعرف بخطوط الابتسامة. بغير ذلك تكون الابتسامة مصطنعة غير حقيقية.
مع ذلك كثيرًا ما تكون رسائل العيون محيرة ومربكة في تفسيرها، فنحن نفسر حركة العين، ومدى اتساع أو ضيق بؤبؤ العين، ولمعان العين، والانقباضات والانبساطات في المنطقة حول العين، ونستخلص من كل هذا تصورنا حول ما يشعر به الشخص.
يلعب عامل اتساع العين أو ضيقها دورًا كبيرًا في إيصال الانفعال. كذلك تلعب الحدقة (تُعرف أيضًا بالبؤبؤ أو إنسان العين) دورًا كبيرًا في ذلك. والحدقة (البؤبؤ) هي فتحة في مركز القُزحية (الجزء الملون من العين) حجمها قابل للتغير من خلال عضلتين في القزحية إحداهما مُوسِعة تتحكم فيها الألياف العصبية السمبثاوية، والأخرى قابضة تتحكم فيها الألياف العصبية البارا سمبثاوية الموجودة في العصب المحرك للعين.
ويكون ذلك فسيولوجيًا بالأساس للتحكم بكمية الضوء الداخل إلى العين والساقط على الشبكية؛ إذ تتسع الحدقة في الظلام لتمرر كمًا أكبر من الضوء، وتضيق في النور -خاصة الشديد- لتمرر فقط القدر الملائم من الضوء. كما تتسع وتنقبض وفقًا لبعد الجسم المرئي، فيضيق البؤبؤ عند النظر إلى جسم قريب. كذلك يتسع البؤبؤ عند الانتباه الشديد وعند أداء المهام الصعبة، بينما يضيق البؤبؤ في المقابل قليلًا عند أداء المهام المعقدة لأجل مزيد من التركيز.
ولأن اتساع وضيق البؤبؤ لا يمكن لإنسان ضبطه والتحكم فيه فهو من أصدق ما يعكس مشاعرنا ويكشف عنها. واتساع بؤبؤ العين هو عامل مشترك في الكثير من الانفعالات كالإعجاب بالجنس الآخر، والسعادة، كما يتسع البؤبؤ عند المفاجأة وعند الخوف وعند الضيق وعند الشعور بالألم العضوي، لكنه يضيق عند الشعور بالاشمئزاز وعند الغضب. قد لا ننتبه إلى اتساع وانقباض بؤبؤ العين، ولكن مجمل تعبيرات الوجه وتعبيرات المنطقة حول العين وحركة الجسد تنبهنا إلى وجود تغير ما، وهي التي تحدد بأي الانفعالات يشعر الإنسان.
وكسائر القنوات غير اللفظية ينبغي مراعاة أن اتساع وانقباض بؤبؤ العين يعكس حالتنا الفسيولوجية والصحية وليس فقط الانفعالية. إضافة لكمية الضوء في المكان، قد يكون اتساع البؤبؤ بسبب التعرض لمواد كيميائية سامة أو مواد طبيعية مسببة للحساسية مثل لحاء شجر الخروب أو بعض الأدوية والمخدرات كالكوكايين أو الأمفيتامين، بل وأحيانًا يكون اتساعه دائمًا علامة على مشكلات عصبية أو ورم دماغي أو نزيف دماغي! لدرجة أن تسليط الطبيب الضوء على العينين لا يؤثر عليه ولا يسبب انقباضه! وعلى العكس قد يؤدي تناول الكحوليات والمورفين إلى انقباض البؤبؤ.
ويُضاف إلى ذلك لمعان بؤبؤ العين والذي يحدث عند اتساع الألياف العصبية السمبثاوية وانقباض الألياف العصبية نظيرة السمبثاوية. هذا اللمعان يدل في أغلب الأفراد على حالة من الإثارة أو التوتر يمر بها الفرد، ومعروف أن الشعور بالسعادة يجعل العيون براقة، والشعور بالحزن يقلل من بريق العيون، وهذا ما أثبتته الدراسات عن تغير مزاج البشر؛ لذا فالعين هي مرآة وانعكاس لشعور الإنسان؛ فالإنسان عندما يكون سعيدًا ومبتهجًا، وفي حالة ذهنية هادئة ينعكس ذلك على حدقة العين، فيكون لها بريق زاهٍ ولمعة شفافة، وتأتي هذه اللمعة بطريقة فسيولوجية من انبساط الغدة الدمعية وإفرازها الدموع بصورة تلقائية ولكنها بسيطة –مجرد مسحة دمعية تكسو العين-، إلى جانب انبساط العضلات التي تتحكم في العين فتبدو العين وكأنها تضحك، فتظهر جاذبية وجمالاً ونعومة، نراها بشكل ملحوظ في الصور الفوتوغرافية للأشخاص السعداء وأحياناً لمن يمثل الشعور بالسعادة لحظيًا –عشان الصورة تطلع حلوة-، ويظهر هذا البريق بشكل أوضح عند النساء.
وعندما يحزن الإنسان يحدث نوع من الانكسار للعين، وذلك لأن الجفن يثقل وكأنه حمولة على الإنسان يصعب رفعه، فتبدو العين شبه مغلقة، ولا تفرز الغدة الدمعية إفرازاتها الملائمة مع كل حركة جفن، وتختفي اللمعة المصاحبة لمسحة الدموع، وتكون العين في حالة ذبول.
ولأننا نختلف فسيولوجيًا عن بعضنا فهناك نسبة قليلة من البشر لديهم هذا البريق في أعينهم بشكل مستديم تقريبًا، وهو علامة جمالية ولا شك، ويجب الحذر عند تفسير تواصل هؤلاء الأشخاص غير اللفظي بناءً على هذا التعبير.
يمكن لنظرات العين أيضًا تقريب المسافات رغم البعد الجسدي؛ فنحن نستشعر قرب من ينظرون إلينا حتى عن بعد.
وقطعًا فإن اتصال العين الفعلي لا يحدث إلا في اللحظات التي يشترك فيها كلا الفردين في النظر مباشرة إلى عيني الآخر، وتكرار ذلك يشير إلى تفاعل اجتماعي كامل وناجح، ويبعث على الارتياح، ويكون علامة على العلاقة الودية بينهما، لكن الأمر يكون بحاجة لتفسير تعبيرات الوجه المصاحبة للتأكد من ذلك الانطباع. على العكس من تجنب اتصال العين الدائم أثناء المحادثة، والذي يشير إلى تفاعل اجتماعي فاشل وغير ناجح، لأن أحدهما لا يهتم بالآخر أو غير قادر على التأثير فيه. في المقابل فإن استدامة النظر من أحد الطرفين والذي لا يوجد ما يناظره من الطرف الآخر، والذي يُعرف بالتحديق، يكون باردًا أغلب الأوقات، وقد يترجم كرغبة من المُحدِّق في إظهار السيطرة.
وقد وجد دوفيديو وآخرون (Dovidio et al.,1988)  أن مستوى الاتصال البصري يمكن أن تكون له علاقة بالمكانة والسيطرة؛ ففي سلسلة من الأبحاث درست العلاقة بين السيادة البصرية والقوة الاجتماعية ظهر جليًا أن الأشخاص ذوي السيطرة ينظرون أكثر أثناء الحديث، وذوي المكانة الأقل ينظرون أكثر أثناء الاستماع.
اتجاه نظرة الفرد أيضًا يكون هامًا، وربما ينبئ عن سلوكياته وانفعالاته تجاه الأفراد الآخرين في تفاعل اجتماعي متسع. على سبيل المثال فاتجاه النظر بعيدًا وإلى أسفل يُفسر غالبًا بأنه شعور بالخجل وربما يكون شعورًا بالذنب، وربما في بعض الأحيان يُترجم كعلامة على الخوف، ولغة الجسد وتعبيرات الوجه المصاحبة تحدد التفسير الصحيح. كذلك فإن النظرة الجانبية قد تشير إلى الشك والارتياب، خاصة إذا صاحبها إمالة للرأس.
ويختلف البشر في حساسيتهم لنظرات الآخرين نحوهم. هناك أشخاص حساسون للغاية عندما يشعرون أن شخصًا ما يختصهم بالنظر وسط تجمع من الناس. يختلف ذلك وفق مستوى الحساسية الانفعالية للفرد، ويكون عادة أعلى لدى الإناث، كما يتأثر بالعمر، فالأطفال أكثر حساسية من الكبار تجاه أي نظرات توجه إليهم، مهما كانت قصيرة.
وقد وجد نيكولاس وشامبنس (Nichols & Champness,1971) علاقة بين استقبال التحديق من الآخرين واستجابة الجلد الجلفانية، وهي العلامة الشائعة على الإثارة الانفعالية. وليس الإنسان فقط من يتأثر بالنظر إليه، فقد لُوحظ تغير مستوى الطاقة الكهربية لجذع المخ لدى القرود الهندية عند النظر إليها.
ويعتبر الاتصال البصري أيضًا من الأساليب المستخدمة لتنظيم الدور أثناء المحادثات، فكأن المتكلم ينظر لمحاوره ليخبره أن دوره قد جاء وعليه الرد، كما أن نظر المتكلم لمن يحاوره يعطيه تغذية مرتدة عن رأي المستقبل في حديثه. ويختلف انطباع المرسل تمامًا إن كان المستقبل يُحدق فيه أو لا يحدق، إضافة إلى تفسير معاني نظراته إليه.
هذا وينبغي الانتباه للفروق الثقافية عند تفسير الاتصال البصري، فهناك ثقافات تشجع عليه، كالثقافة الأوروبية –بوجه عام- والثقافة الأمريكية، وهناك اعتقاد لدى كثيرين من أبناء هذه المجتمعات بأن الشخص الكاذب فقط هو من يتحاشى الاتصال البصري عند الحديث، وهناك ثقافات أخرى كالثقافات الآسيوية والتركية لا تحبذ التواصل البصري مع كبار السن، ويعتبرونه نوعًا من التبجح وإساءة الأدب، بينما في الثقافات العربية على المرأة تحديدًا الانتباه في الحوارات الثنائية مختلطة الجنس لأن الرجال يتصورون أن تواصل المرأة البصري معهم تعبير عن الانجذاب والإعجاب. وقلة من النساء أيضًا يعتقدن هذا ويسئن تفسير نظرات الرجال ما يدفع كثيرًا من الرجال المهذبين لتحاشي النظر إلى النساء عامة أثناء الحديث، وإذا ما كان الحديث طويلًا فإنه يقلب بصره ما بين ناظر ومتحاشي النظر طيلة الوقت.
وكذلك ينبغي مراعاة الفروق الفردية لأن من الناس من ينعدم اتصالهم البصري لدرجة غلق العيون لأجل تحقيق إصغاء تام، على العكس ممن يديمون الاتصال كعلامة على الانتباه والإصغاء!
وعندما نتلعثم أو نبحث عن الكلمات المناسبة أو نُسأل عن معلومات مفاجئة قد لا نكون مستعدين لها فإن معدلات رفرفة الرموش تزداد. قد يرى بعض الناس في تلك الحركة محاولة للخداع، ولكنها غالبًا لا تكون كذلك، فليست كل الناس تتمتع بالطلاقة اللفظية، وكثيرًا ما لا تُسعفنا الكلمات، خاصة عندما يُطلب منا التحدث بلغة ليست لغتنا.