السبت، 3 أغسطس 2019

198- محنة الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني


محنة الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني
د/ منى زيتون
أحد مقالات كتابي "التطرف الديني"
منشور السبت 3 أغسطس 2019

من أقدم ما يُروى عن تحرش الحنابلة بالأشاعرة، ما حدث مع الإمام الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني المتوفي سنة 430هـ. حكى الذهبي في "سير أعلام ‏النبلاء" ‏‏(ج 17، ص459) "قال أبو طاهر السلفي: سمعت أبا ‏العلاء الفُرساني يقول: حضرت ‏مجلس أبي ‏بكر بن أبي علي الذكواني المعدل في ‏صغري مع أبي، فلما فرغ من إملائه، قال ‏إنسان: من أراد ‏أن يحضر مجلس أبي ‏نُعيم، فليقم، وكان أبو نُعيم في ذلك الوقت مهجورًا بسبب ‏المذهب، وكان ‏بين ‏الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل، ‏فقام إليه ‏أصحاب ‏الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد الرجل يُقتل. قال الذهبي: ما هؤلاء بأصحاب ‏الحديث، بل فجرة ‏جهلة، أبعد الله شرهم"أهـ.‏
ورواية أخرى يذكرها الذهبي في "السير" (ج17، ص40-41)، يقول: "أنبأنا الثقة عن مثله، عن يحيى بن مَنْده، قال: سمعتُ عمي عبد الرحمن، سمعتُ محمد بن عُبيد الله الطبراني يقول: قمتُ يومًا في مجلس والدك رحمه الله، فقلت: أيها الشيخ، فينا جماعة ممن يدخل على هذا المشؤوم –أعني أبا نُعيم الأشعري-، فقال: أخرجوهم. فأخرجنا من المجلس فلانًا وفلانًا، ثم قال: على الداخل عليهم حرج أن يدخل مجلسنا، أو يسمع منا، أو يروي عنا، فإن فعل فليس هو منّا في حِلّ"أهـ.
وهاتان الروايتان من الذهبي تحديدًا لهما أهميتهما، لأن أبا نُعيم الأصبهاني الأشعري العقيدة على كثرة ما لقي من أذى الحنابلة، صار بعض الحنابلة المحدثين يدّعيه منهم! ويستدل ببعض اعتقاداته التي رواها الذهبي في "العلو للعليّ الغفار"، فأقول: هاهو الذهبي نفسه يثبت عقيدة أبي نُعيم، كما روى الذهبي في "السير" ما حدث للحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي من محنة بأصبهان بسبب تعصب الأشاعرة عليه لوقوعه في أبي نُعيم، بعد أن انقلب الحال لهم لا عليهم. وروى ابن الجوزي في حوادث فتنة سنة 555هـ عندما ذم بعض صبيان الحنابلة المتأولين، ولعنوا وسبُّوا أبا نُعيم بسبب تصانيفه التي يثبت فيها التأويل. فالرجل لم يكن حنبليًا، وكان يؤول الصفات، مع اعتقاده أن صفات الله قديمة ويذم المعتزلة، كما أنه كان يدافع عن المتصوفة، وهو معدود في أصحاب الأشعري، وذكره ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري". وأقول: هذه عادة الحنابلة المحدثين، يحاولون نسبة كل عظيم من أئمة المسلمين إليهم زورًا، حتى لو كانت عقيدته ثابتة في مخالفتهم، ويخلطون فهومهم ببعض ما رُوي عنه ليتوهموا موافقته لهم، بل ويفعلون هذا حتى لو كان قد ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن أسلافهم قد آذوه!
وفي "المنتظم"، ذكر الإمام أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، في ترجمة الخطيب البغدادي (ج16، ص133-134) قول لإسماعيل ابن أبي الفضل القومسي يُنكر فيه على الحُفاظ الثلاثة: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نُعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب، تعصبهم. قال ابن الجوزي: "وقال الحق، فإن الحاكم كان متشيعًا ظاهر التشيع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة"أهـ. فالرجل أشعري لا خلاف في ذلك بين المتقدمين، ولا عبرة بمن قال خلاف ذلك من سلفية العصر.
وكان هذا الهجر لأبي نُعيم بعد أن كان مرتحلًا إليه، وليس في المسلمين نظيره! ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة أبي نُعيم في "السير" (ج17، ص459) عن أحمد بن محمد بن مردويه تلميذ أبي نعيم قوله: "كان أبو نعيم في وقته مرحولاً إليه، ولم يكن في أُفق من الآفاق أسندُ ولا أحفظُ منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قريب الظهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ، وكان لا يضجر، لم يكن له غداءٌ سوء التصنيف والتسميع"ـ ثم نقل الذهبي عن حمزة بن العباس العلوي، قال: "كان أصحاب الحديث يقولون: بقي أبو نُعيم أربع عشرة سنة بلا نظير، لا يوجد شرقًا ولا غربًا أعلى منه إسنادًا، ولا أحفظ منه"أهـ.
وأقول: قد كانت محنة أبي نُعيم زمن استقواء الحنابلة والكرامية، أيام خلافة القادر بالله، ولغلبة الغزنويين، وكان محمود بن سُبكتكين حنبليًا، وقيل بل مائل للكرامية. وكان السبب الرئيسي في محنة أبي نُعيم هو أحد مشائخه، وهو محمد بن إسحاق بن منده، المتوفي سنة 395هـ، وكان حنبلي العقيدة؛ وذلك بعد أن دبّ بينهما الخلاف العقدي بسبب الاعتقاد في الصفات، من حيث الموقف من تأويل الصفات، ومن المعروف أن الحنابلة يرفضون، ويصرون على الأخذ بظاهر المعنى، وكذلك كان الخلاف بينهما في القول في التلفظ بالقرآن.
والثابت أن أبا نُعيم انتهى من إملاء تلاميذه كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" من حفظه، بعد أن كان قد تعدى الثمانين، وتحديدًا أواخر سنة 422هـ، قال أبو نُعيم في ختام الكتاب (ج10، ص408): "هذا آخر ما أمليته يوم الجمعة سلخ ذي الحجة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة"أهـ. وهذا يعني أن محنته قد طالت حتى بعد وفاة ابن منده، وربما لم تنتهي إلا سنة 420هـ عندما غضب ابن سُبكتكين على أهل أصبهان لقتلهم الوالي الذي عيّنه عليهم، بدلًا من واليهم علاء الدولة، فقتلهم ابن سُبكتكين يوم جمعة في الجامع، وكانوا يضطهدون أبا نُعيم ولا يتيحون له الخروج إلى الجامع، فنجا وهلكوا، وفُرِّج عنه بعدها. ذكر القصة ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" (ص247)، وحكاها عنه الذهبي في "السير" (ج17، ص460)، ويؤكدها ما رواه ابن الأثير في حوادث سنة 420هـ في "الكامل" (ج8، ص171).

المراجع
أحمد بن عبد الله أبو نُعيم الأصفهاني. تحقيق: الناشرون. (1996). حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. بيروت: دار الفكر.
عبدالرحمن بن علي بن محمد  أبو الفرج ابن الجوزي.‏ تحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. (1995). ‏المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية.
علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي. تحقيق: محمد زاهد الكوثري. (1347هـ). تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري. دمشق: مطبعة التوفيق.
علي بن محمد بن محمد الشيباني أبو الحسن ا‏بن الأثير الجزري. تحقيق: عبد الله القاضي ومحمد يوسف الدقاق. (1987). الكامل في التاريخ.  ‏بيروت: دار الكتب العلمية.‏
محمد بن أحمد بن عثمان شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. تحقيق: أشرف بن عبد المقصود (1995). العلو للعليّ الغفَّار في إيضاح صحيح الأخبار وسقيمها. الرياض: مكتبة أضواء السلف.
محمد بن أحمد بن عثمان شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم الزيبق. (1996)‏. سير أعلام النبلاء. ط 11.‏ بيروت: مؤسسة الرسالة.