الأحد، 4 أغسطس 2019

199-بعض روايات من أذية الحنابلة لأئمة السُنة الأشاعرة


بعض روايات من أذية الحنابلة لأئمة السُنة الأشاعرة
د/ منى زيتون
مقتطفات من كتابي "التطرف الديني"
منشور الأحد 4 أغسطس 2019

أذية الحنابلة للحافظ الخطيب البغدادي
كان ممن لقيهم بعض أذى من حنابلة بغداد، الإمام العلّامة المُفتي، الحافظ الناقد، مُحدِّث الوقت، أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي. كان الخطيب البغدادي حنبليًا أول أمره، ثم صار من كبار الشافعية، وممن يرى رأي الإمام الأشعري في العقيدة. أثبت عقيدته ومذهبه كل من ترجم له، ومنهم الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، والسبكي في "طبقات الشافعية"، وياقوت في "معجم الأدباء"، كما عدّه الحافظ ابن عساكر من أعيان الأشاعرة في "تبيين كذب المفتري".
وروى الذهبي في ترجمته، في "السير" (ج18، ص289) "قال المؤتمن: تحاملت الحنابلة على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه. قلتُ –أي الذهبي-: تناكد ابن الجوزي رحمه الله وغضّ من الخطيب، ونسبه إلى أنه يتعصب على أصحابنا الحنابلة. قلتُ: ليت الخطيب ترك بعض الحطّ على الكبار، فلم يَروِه"أهـ. وأقول: الذهبي رغم كونه شافعي المذهب إلا أنه يشير إلى الحنابلة بأصحابنا، كونه على عقيدتهم، وإن كان أقرب للقول بالتفويض وترك الخوض، ولعل الميل الذي عناه المؤتمن هو تغيير الخطيب عقيدته ومذهبه بالكُلية، كما ثبت عنه. كما يشير الذهبي من خفاء إلى بعض الروايات التي أوردها الخطيب عن الإمام أحمد بن حنبل بخصوص مسألة التلفظ بالقرآن.
ويؤكد ذلك ما ذكره ابن الجوزي في ترجمة الخطيب في "المنتظم" (ج16، ص132). قال: "وكان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا لمّا رأوا من ميله إلى المبتدعة –ويعني ابن الجوزي تغيير الخطيب عقيدته إلى الأشعرية-، وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتعصب في تصانيفه عليهم، فرمز في ذمهم، وصرّح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: سيد المُحدِّثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه"أهـ. ولأن الخطيب صار أشعريًا، ولأن الحنابلة يُصرُّون على عدّ الإمام أحمد في الفقهاء، فقد آذوه مثلما سبق وأن آذوا الإمام الطبري؛ عندما صرّح بأن أحمد مُحدِّث وليس فقيهًا.
ذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج4، ص34) "قال المؤتمن الساجي: تحاملت الحنابلة عليه. قلتُ –أي السُبكي-: وابتلى منهم بوضع أكاذيب عليه لا ينبغي شرحها"أهـ.
ولعل السُبكي يقصد بتلك الأكاذيب أو بعضها ما رواه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" (ج1، ص390-391) "ونقلتُ من خط أبي سعد السمعاني ومنتخبه لمعجم شيوخ عبد العزيز بن محمد النخشبي، قال: ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، يخطب في بعض قرى بغداد، حافظ فهم، ولكنه كان يُتَّهم بشرب الخمر، كنتُ كلّما لقيته بدأني بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يُسلِّم عليّ، ولقيته شبه المتغير، فلمّا جاز عني لحقني بعض أصحابنا، وقال لي: لقيتُ أبا بكر الخطيب سكران، فقلتُ له: قد لقيته متغيرًا، واستنكرت حاله، ولم أعلم أنه سكران، ولعله قد تاب إن شاء الله. قال السمعاني: ولم يذكر عن الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي، مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه"أهـ.
وأقول: صار الرجل سكرانًا ولاكه الحنابلة بألسنتهم؛ لأنه لم يُسلِّم على النخشبي! وتغيّر عليه، فما بال الإمام ابن قدامة لم يكن يُسلِّم على الحافظ ابن عساكر، ولم يتهمه الأشاعرة بالسُكر؟! والنخشبي هذا كان معاصرًا للخطيب، ولكنه لم يكن في قامته، وإن كان الخطيب قد أثنى عليه. روى الذهبي في ترجمته في "السير" (ج18، ص268) "قال يحيى بن منده: ضربه القاضي الخُطبي بسبب الإمام أبي حنيفة، رأيت علامة الضرب على ظهره". فقد سبق ووقع هذا النخشبي في الإمام أبي حنيفة، ومثله لا يعتدّ بشهادته، خاصة إن كانت في مثل الخطيب البغدادي.
****************
محنة الإمام أبي الفتوح الإسفراييني
تجددت الفتن بين الحنابلة والأشاعرة سنة 521هـ بسبب الإمام أبي الفتوح الإسفرايني، وكان لاعتقاده في الكلام دور بارز فيها. ذكر السبكي في ترجمته في "طبقات الشافعية" (ج6، ص172) "ورد بغداد سنة خمس عشرة –يعني وخمسمائة-، وظهر له القبول التام من الخاص والعام. وكان يتكلم على مذهب الأشعري فثارت عليه الحنابلة، ووقعت فتن، فأمر المسترشد –الخليفة- بإخراجه فخرج، إلى أن ولي المقتفي فعاد، واستوطن بغداد، فلم يزل يعظ ويظهر مذهب الأشعري إلى أن عادت الفتن على حالها، فأُخرج ثاني مرة، وأدركه أجله"أهـ.
أما عن الرواية السلفية، فرواها ابن كثير –وهو حنبلي العقيدة- في "البداية والنهاية" (ج16، ص275-276) مختصرة؛ فذكر في حوادث سنة 521هـ "وفيها ورد أبو الفتوح الإسفراييني فوعظ ببغداد، فأورد أحاديث كثيرة منكرة جدًا، فاُستتيب منها، وأُمر بالانتقال منها إلى غيرها، فشد معه جماعة من الأكابر، وردّوه إلى ما كان عليه، فوقع بسببه فتن كثيرة بين الناس، ورجمه بعض العامة في الأسواق؛ وذلك لأنه كان يُطلق عبارات لا يُحتاج إلى إيرادها، فنفرتْ عنه قلوب العامة وأبغضوه، وجلس الشيخ عبد القادر الجيلي –الجيلاني الحنبلي-، فتكلم على الناس فأعجبهم، وأحبوه وتركوا ذاك"أهـ.
وعلى العادة تكون رواية ابن الجوزي أكثر تفصيلًا؛ فقد ذكر في "المنتظم" (ج17، ص245)‏ أسباب الفتنة والتي كانت أن الإسفراييني سُئل عن حديث "ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" فقال إنه ليس بصحيح، والحديث في كتب الصحاح، ومن ثم فإنكار الحنابلة عليه لعدم قبوله إياه مفهوم، ثم وصف ابن الجوزي قول الإسفراييني بأنه "يتأول تأويلات باردة" وأنه "كان يتكلم بما يُسقط حرمة المصحف من قلوب الناس فافتتن به خلق كثير"، وهذا وصف عام لا يُفهم منه شيء، ولكنه عاد وأضاف أن الإسفراييني كان يقول: "ليس هذا الذي نتلوه كلام الله إنما هو عبارة ومجاز، والكلام الحقيقي قائم بالنفس"، وهنا فقط يأتي الكلام المفيد الذي يفهمنا حقيقة ما حدث؛ فالأمر وما فيه كان اعتراضًا من الحنابلة على العقيدة الأشعرية في مبحث الصفات.
وكان الحنابلة قد تجرأوا على الأشاعرة بعد مقتل الوزير السلجوقي الأشعري نظام الملك، وولده الأكبر فخر الملك، وضعف باقي أبنائه، فالإسفراييني لم يأت بجديد شاذ، وهذا الكلام الذي حكاه ابن الجوزي من قول الإسفراييني من الواضح أن ابن الجوزي قد كتبه قبل أن ينقلب هو نفسه على تجسيم الحنابلة، وإصرارهم على أخذ بعض الآيات التي اعتبروها تصف الله تعالى على ظاهرها بحيث نسبوا إليه سبحانه الجوارح، على النحو الذي فصّلنا فيه عند نقد عقيدتهم، بينما يرى الأشاعرة -ويشاركهم في ذلك المعتزلة والشيعة- وجوب التأويل في تلك الآيات لامتناع الظاهر في حق الله سبحانه وتعالى، وأن اليد والعين ونحوها إنما هي مجازات، وهذا ما عناه الإسفراييني، وهو ما كان يُدرس في المدرسة النظامية والتاجية وغيرهما من مدارس الأشاعرة ومجالس الوعظ ببغداد قبل تلك الواقعة ولأكثر من نصف قرن!
أما عن قول الإسفراييني إن الكلام قائم بالنفس، فأعتقد أنه يقصد ما ينُصّ عليه الأشاعرة في عقيدتهم من أن الكلام صفة من صفات ذاته تعالى، وصفاته قائمة بذاته، أو ما يعنيه الغزالي بأننا لا نثبت في حق الله سوى الكلام النفسي، ومجالس الغزالي استمرت لسنوات ببغداد، ولم يجرؤ عوام الحنابلة على فعل ما فعلوا بالإسفراييني مع الغزالي، ولكن نظام الملك كان قد مات، وعادت ريما إلى عادتها القديمة كما يقول المثل العامي. لكن ينبغي هنا أيضًا الإشارة إلى أن ابن الجوزي مع تحوله في مرحلة متأخرة عن التجسيم إلى تأويل الصفات الذي هو جزء من اعتقاد الأشاعرة، لم يصبح أشعريًا. ومن الغريب أيضًا أن الجيلاني الذي جلس للناس فأحبوه، على قول ابن كثير، قد تأثر في طريقته الصوفية بالغزالي، الذي ما خرج الإسفراييني عن معتقده وقوله أنملة.
ثم يحكي ابن الجوزي في "المنتظم" (ج18، ص 31) في حوادث سنة 538هـ "في هذه السنة قدم مع السلطان فقيه كبير القدر اسمه الحسن بن أبي بكر النيسابوري، وكان من أصحاب أبي حنيفة، وكانت له معرفة حسنة باللغة وفهم جيد في المناظرة، وجالسته مدة، وسمعت مجالسه كثيرًا، فجلس بجامع القصر وجامع المنصور وأظهر السُنة، وكان يلعن الأشعري جهرًا على المنبر، ويقول: كن شافعيًا ولا تكن أشعريًا، وكن حنفيًا ولا تكن معتزليًا، وكن حنبليًا ولا تكن مشبِّهًا، ولكن ما رأيت أعجب من أصحاب الشافعي يتركون الأصل ويتعلقون بالفرع. ومدح الأئمة الأربعة وذم الأشعري"أهـ. وأقول: ربما نسي أن يقول أو سقط من النُسَّاخ "كن مالكيًا ولا تكن جبريًا"! ولكن ما رواه ابن الجوزي دال على ذمه للعقيدة الأشعرية عمومًا، وربما نجد فيه تفسيرًا لجسارته على إصلاح عقيدة الحنابلة برفض نسبة التجسيم والتشبيه إلى الإمام أحمد، وقبوله التأويل في آيات وأحاديث الصفات، ما لم يقبله منه كثير من رءوس الحنابلة، وأدى لتصادمه معهم، في حين حظي بحب العامة والخلفاء، وكان سببًا في إعادة سُنة بغداد رويدًا رويدًا إلى العقيدة الحنبلية.
ويضيف ابن الجوزي في حوادث السنة نفسها -538هـ- (ص32) أن هذا الواعظ –الحسن بن أبي بكر النيسابوري- "جلس يوم الجمعة العشرين من رجب في دار السلطان، فحضر السلطان مسعود مجلسه، فوعظه فبالغ، وكان قد كُتب على المدرسة النظامية اسم الأشعري، فتقدم السلطان بمحوه، وكتب مكانه اسم الشافعي، وكان أبو الفتوح الإسفرائيني يجلس في رباطه ويتكلم على مذهب الأشعري، فتجري الخصومات، فمضى أبو الحسن الغزنوي الواعظ إلى السلطان فأخبره بالفتن، وقال له: إن أبا الفتوح صاحب فتنة، وقد رُجِم ببغداد مرارًا، والصواب إخراجه من البلد، فتقدم السلطان بإخراجه، وخرج الحسن بن أبي بكر إلى بلده فأقام بعد ذلك، وأُخرج في رمضان"أهـ. فكان إخراج الإمام أبي الفتوح من بغداد مرتين، وتغيير ما كُتب على وقف النظامية، وإرادة تحويلها إلى تدريس المذهب الفقهي الشافعي دون العقيدة الأشعرية، هو البداية الحقيقية للتحرش الحنبلي الرسمي ضد الأشاعرة، والذي سيصل ذروته بعد ذلك فترة وزارة ابن هُبيرة.
*************
محنة الإمام الفخر الرازي
ذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج10، ص262) في حوادث سنة 595هـ، وقوع فتنة عظيمة بفيروزكوه من خراسان بسبب المذاهب، بين الفخر الرازي وهو الإمام المشهور الفقيه الشافعي الأشعري وبين الكرّامية الذين تطاولوا على الإمام، ونسبوه إلى الزندقة. يقول ابن الأثير: "وثار الناس من كل جانب، وامتلأ البلد فتنة، وكادوا يقتتلون ويجري ما يهلك فيه خلق كثير، فبلغ ذلك السلطان، فأرسل جماعة من عنده إلى الناس، وسكَّنهم، ووعدهم بإخراج الفخر من عندهم، وتقدم إليه بالعود إلى هراة، فعاد إليها"أهـ. والكرامية هم مذهب مجسم أقرب ما يكون لمذهب الحنابلة –السلفية- في عقيدتهم في الصفات. دافع عنهم ابن تيمية في كتبه، وأثبت اتفاقهم مع الحنابلة في أغلب العقائد.
وقد أورد السبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص86) في ترجمة الفخر الرازي "إن الكرامية وضعوا عليه من سقاه سمًا فمات".
كما ذكر هاني محمد حامد محقق كتابه "الإشارة في علم الكلام" للرازي (ص16) نقلًا عن ابن خلِّكان "وقد خاف الرازي أن تعبث الكرامية بجثته، فتنبشها وتمثل بها، فطلب من تلاميذه أن يخفوا نبأ موته، وقد نفذوا ذلك، فدفنوه آخر النهار، أو في الليل، واُختلف في مكان دفنه، فقيل: دُفن في قرية مزدلخان قريبة من هراة، وقيل: إنه دُفِن في بيته". وهذا يذكرنا بما فعله حنابلة بغداد مع الإمام الطبري.
****************
والأسلوب ذاته الذي استخدمه أشقاء الحنابلة المجسمة (الكرامية) للقضاء على شيخ الإسلام الإمام فخر الدين الرازي كان قد حدث مع ابن فُورك. يذكر السبكي عنه في ‏"طبقات الشافعية" (ج4، ص130‏) "ودُعي إلى مدينة غزنة، وجرت له بها مناظرات، ‏ولما عاد منها سُم في الطريق. فتوفي سنة ست وأربعمائة". كما روى السبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص86) في ترجمته "وأقام بهراة، وكان يلقب بها شيخ الإسلام، وكان كثير الإزراء بالكرامية، فقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سمًا فمات"أهـ.
****************
والبروي الفقيه الشافعي الأشعري أيضًا من الأئمة الذين رُوي عنهم أنهم قد قتلوا بدس السم لهم من قِبل المجسمة. يروي ابن الأثير في "الكامل" (ج10، ص567) أنه في سنة 567هـ، مات البروي، الفقيه الشافعي، تفقه على محمد بن يحيى –تلميذ الغزالي-، وقدم بغداد، ووعظ، وكان يذم الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال، فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إن الحنابلة أعدوا له حلواء، فأكل منها، فمات وكل من أكل منها. وروى السبكي في "طبقات الشافعية" (ج6، ص390-391) نقلًا عن سبط ابن الجوزي –وهو حنبلي- "يُقال إن الحنابلة دسوا عليه امرأة جاءته في الليل بصحن حلواء مسموم، وقالت: هذا يا سيدي من غزلي، فأكل هو وامرأته وولد صغير، فأصبحوا موتى". وأقول: إنه لو لم ينكشف أمر الحلواء المسمومة التي دسوها عليه، لكذبوا كعادتهم، وادعوا أن الله قد انتقم لهم منه.
*****************
محنة الإمام العز بن عبد السلام
وكان الحنابلة أيضًا السبب الرئيسي في إيغار قلب الملك الأشرف موسى بن الملك العادل بن أيوب ضد الإمام العز بن عبد السلام، وذلك بدمشق، قبل خروج الإمام إلى الديار المصرية، وكان سبب كتابته لرسالته الصغيرة المعروفة باسم "مُلحة الاعتقاد" هو رد على ما وشى به الحنابلة إلى الملك الأشرف عنه في مسألة كلام الله تعالى.
ذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص218) روايةً عن الإمام شرف الدين عبد اللطيف ولد الشيخ عز الدين "كانت طائفة من مبتدعة الحنابلة القائلين بالحرف والصوت، ممن صحبهم السلطان في صغره، يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف، وأنه اعتقاد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه، وصار يعتقد أن مخالف ذلك كافر حلال الدم، فلمّا أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين دسّت هذه الطائفة إليه وقالوا: إنه أشعري العقيدة يُخطىء من يعتقد الحرف والصوت ويُبدعه، فاستهال ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب عليه، فكتبوا فُتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه –أي إلى الإمام العز- مريدين أن يكتب عليها بذلك فيسقط موضعه عند السلطان، وكان الشيخ قد اتصل به ذلك كله، فلمّا جاءته الفُتيا قال: هذه الفُتيا كُتبت امتحانًا لي، والله لا كتبت فيها إلا ما هو الحق، فكتب العقيدة المشهورة"، وحدثت مداولات ووشايات حنبلية، حتى شرط السلطان على الإمام ثلاثة شروط، أحدها أنه لا يفتي، والثانية أنه لا يجتمع بأحد، والثالثة أنه يلزم بيته. واستمر الحال على هذا ثلاثة أيام حتى تدخل الشيخ الحصيري شيخ الحنفية عند السلطان، واعلمه أن اعتقاد العز هو اعتقاد المسلمين الصحيح.
يقول السُبكي (ص237-238): "وكانت الحنابلة قد استنصروا على أهل السُنة –يعني استنصروا على الأشاعرة على اختلاف مذاهبهم الفقهية-، وعلت كلمتهم، بحيث إنهم صاروا إذا خلوا بهم في المواضع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم، فعندما اجتمع الشيخ جمال الدين الحصيري رحمه الله بالسلطان، وتحقق ما عليه الجم الغفير من اعتقاد أهل الحق، تقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام، وأن لا يفتي فيها أحد بشيء، سدًا لباب الخصام، فانكسرت المبتدعة بعض الانكسار وفي النفوس ما فيها"أهـ. حتى اتفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله إلى دمشق من الديار المصرية، وكان أشعريًا، فتمّ انكسار الحنابلة.
*****************
الحنابلة والحافظ ابن عساكر
حكى السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص184) "وكان الشيخ فخر الدين ابن عساكر بينه وبين الحنابلة ما يكون غالبًا بين رعاع الحنابلة والأشاعرة، فيُذكر أنه كان لا يمر بالمكان الذي يكون فيه الحنابلة خشية أن يأثموا بالوقيعة فيه، وأنه ربما مر بالشيخ الموفق ابن قدامة فسلَّم، فلم يرد الموفق السلام. فقيل له، فقال: إنه يقول بالكلام النفسي، وأنا أرد عليه في نفسي. –يعني أنه أشعري لا ينسب لله تعالى إلا الكلام النفسي وليس الحرف والصوت كما يعتقد الحنابلة، فهو يرد عليه بالطريقة نفسها-، فإن صحَّت هذه الحكاية، فهي مع ما ثبت عندنا من ورع الشيخ موفق الدين ودينه وعلمه غريبة، فإن ذلك لا يكفيه جواب سلام، وإن كان ذلك منه لأنه يرى أن الشيخ فخر الدين لا يستحق جواب السلام"أهـ.
*************
وكذا آذى وأخرج المجسِّمة الإمام ابن حِبَّان من سِجِستان لأنه أنكر الحدّ لله تعالى. ذكر الذهبي في "السير" (ج16، ص97) "قال أبو إسماعيل الأنصاري: سمعت يحيى بن عمّار الواعظ، وقد سألته عن ابن حبّان، فقال: نحن أخرجناه من سِجِستان، كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحدّ لله، فأخرجناه"أهـ.
**************
ولم يخل الأمر من مكائد لم يكشف لنا التاريخ عن مدبريها، خاصة بعد مقتل نظام الملك وضعف السلاجقة. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج17، ص74)، وابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص181) "أنه في المحرم من سنة 495هـ قُبض على إلكيا أبي الحسن علي بن محمد الهرّاسي المدرس بالنظامية، فحُمل إلى موضع أُفرد له، ووكل به جماعة، وذلك أنه رُفع عنه إلى السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي بأنه باطني، وكتب أبو الوفاء ابن عقيل –الفقيه الحنبلي المعتدل- خطة له بصحة الدين، وشهد له بالفضل، وخوطب من دار الخلافة في تخليصه فاُستنقذ"أهـ.
***************
وتجددت الفتن في سنة 495هـ. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج17، ص76)‏ ‏"قدم إلى بغداد أبو المؤيد عيسى بن عبد الله الغزنوي، ووعظ في الجامع، وأظهر المذهب الأشعري، ومال معه صاحب المخزن ابن الفقيه، فوقعت فتنة وجاز يومًا من مجلسه ماضيًا إلى منزله برباط أبي سعد الصوفي، فرُجم من مسجد ابن جردة، فارتفع بذلك سوقه وكثُر أصحابه، وخرج من بغداد في ربيع الآخر سنة ست وتسعين، فكانت إقامته سنة وبعض أخرى"أهـ. بينما كانت رواية ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص181) أقل من حيث التفاصيل ولكنها أكثر وضوحًا في تحديد الخصوم. قال: "وعظ الناس، وكان شافعيًا أشعريًا، فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشاعرة ببغداد"أهـ.
*****************
ويذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج9، ص 478) في حوادث سنة 560هـ أيضًا "في صفر، وقع بأصفهان فتنة عظيمة، بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي –وهو عالم أشعري شافعي وممن درسّوا في المدرسة النظامية ببغداد- وبين غيره من أصحاب المذاهب، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة، قُتل فيها خلق كثير، واحترق وهُدم كثير من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبح صورة"أهـ. ولم يذكر ابن الجوزي خبر تلك الفتنة في "المنتظم". واكتفى ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص 414-383-672) بذكر وقوع فتنة عظيمة بين الفقهاء بأصبهان بسبب المذاهب سنة 560هـ، وأرخّ لوفاة محمد عبد اللطيف بن الخجندي سنة 552هـ، أي قبل حدوث الفتنة بثمان سنوات!! كما ذكر أن حفيده صدر الدين محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخُجندي رئيس الشافعية قُتل بأصبهان سنة 592هـ، قتله فلك الدين سُنقر الطويل، وكان ذلك سبب زوال مُلك أصبهان عن الديوان.
وبالرجوع إلى "طبقات الشافعية" يذكر السبكي (ج6، ص133: 135) يقول: "محمد بن عبد اللطيف صدر الدين الخجندي، من أهل أصبهان، كان رئيسها، والمقدم عند السلاطين. قدم بغداد وولي تدريس النظامية. وكان يعظ بها وبجامع القصر. خرج إلى أصبهان من بغداد، فنزل قرية بين همذان والكرج، نام في عافية وأصبح ميتًا، في الثاني ‏والعشرين من شوال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة. قال ابن الأثير: وقعت لموته فتنة عظيمة قُتل فيها خلق بأصبهان. أما محمد بن عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي فهو ولد ولد المقدم ذكره. كان يلقب بلقب جده صدر الدين. قال ابن باطيش: انتهت إليه رياسة الشافعية بأصبهان بعد موت أبيه".
وذكر ابن الأثير في "الكامل" (ج10، ص212) في حوادث سنة 587هـ أن قزل أرسلان، والذي كان قد ملك أران وأذربيجان وهمذان وأصفهان والريّ، وما بينهما، قد سار إلى أصفهان، والفتن بها متصلة من لدن توفي أخيه البهلوان إلى ذلك الوقت، فتعصب على الشافعية، وأخذ جماعة من أعيانهم فصلبهم.
وبعد، فقد كانت هذه بعض روايات تحكي ما لاقى أعلام وأئمة كبار على يد سفهاء الأمس أسلاف من ابتلينا بهم في عصرنا، والذين لا زالوا يستحلون دماء المخالفين لهم من المسلمين وغير المسلمين.