الاثنين، 29 يناير 2018

145-شُح الموارد وأثره في تغير السلوكيات

شُح الموارد وأثره في تغير السلوكيات
د/منى زيتون
الثلاثاء 3 أبريل 2018
الجمعة 29 يونيو 2018
الخميس 4 يوليو 2019


نسب أبو نُعيم الأصبهاني في "حلية المتقين" –في رواية عن أنس- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كاد الفقر أن يكون كفرًا".
كما ومن المأثور عن سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قوله: "لو كان الفقر رجلًا لقتلته"ـ ويُنسب لسيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قول آخر: "لو دخل الفقر إلى بلد لقال له الكفر: خذني معك".

يتساءل كثيرون عن سبب تغير سلوكيات الشعب المصري؛ لم يعد ذلك الشعب الذي تظهر الأصالة والجدعنة في كل ملمح من سلوكيات أبنائه. لم يعد قطاع عريض منهم يفزع من أن توصم سلوكياته بالعيب، ناهيك عن الحرام.
ظهرت سلوكيات لم نكن نعهدها في المصريين، وأصبح المجتمع بجملته فاسدًا؛ فانتشرت في مجتمعنا شخصيات مثل المتحرش والمرتشي والغشاش، فيما اختفت سلوكيات أخرى كانت تطبع مجتمعنا بطابع الأصالة؛ فقلت العائلات التي على استعداد لرعاية كبار السن، وافتقد أطفال الزوج أو الزوجة من زواج سابق أو الأيتام الاهتمام الذي كانوا يلقونه قديمًا من كرام النفوس، وربما تمت إساءة معاملتهم إلى حد التعذيب.
ومحاولة بسيطة لتحليل كل ظاهرة سلوكية من تلك الظواهر على حدة يُظهر الدور الكبير الذي لعبه ويلعبه ضيق ذات اليد في وصول مجتمعنا للحالة المزرية من الانحدار الخلقي التي وصلنا إليها؛ فالمرتشي والغشاش ومن يرفض رعاية والإنفاق على كبار السن وأطفال ليسوا أطفاله أغلبهم لم يكن ليفعل لو كان ميسور الحال، أما التحرش فمن أكثر الظواهر التي تتعدد وتتنوع أسبابها، ويلزم التفصيل فيها في مقال على حدة.
تجربة الفئران
من التجارب الشهيرة في علم النفس الاجتماعي التي تظهر الأثر السئ لقلة الموارد على سلوكيات أفراد المجتمع، تجربة أُجريت على الفئران.
في قفص ذي مساحة محدودة تم وضع عدد من الفئران يتناسب ومساحة القفص، وتم إمدادهم بكميات من الطعام والمياه تكفي احتياجاتهم. لاحظ الباحثون الجو الودي الذي اتسمت به سلوكيات الفئران في القفص، وعدم تهاوشهم مطلقًا على الطعام عند إحضاره إليهم.
بمرور الوقت تكاثرت الفئران وتزايدت أعدادها، مع تركها في القفص ذاته، الذي لم يعد يسعهم بما يكفي ليرتاحوا فيه، كما لم تصبح كميات الطعام المقدمة لهم كافية لعددهم. وهنا بدأ التدافع والتصارع بين أفراد المجتمع الذي يضمه القفص، وكلما قلت الموارد وزاد الازدحام كلما ساءت السلوكيات، وضاع الهدوء.
مشاهد من الانتخابات المصرية
لعل من أكثر ما أثار الاستياء في مشهد الانتخابات الرئاسية المصرية الصورية 2018، وغيرها من الانتخابات النيابية والاستفتاءات الدستورية، هو منظر تزاحم البسطاء للمشاركة في الانتخابات لأجل الحصول على مكافأة من الأطعمة أو مبلغ مالي لا يتجاوز في أغلب الأحيان المائة جنيه، كما يتم استئجار فتيات وسيدات لإبداء مظاهر الفرح أمام اللجان الانتخابية، على أن تكون أجورهن يومية. وهو ما تشهد به تقارير كبريات الصحف حول العالم.
والعجيب بالنسبة للعقلاء أن تُستهدف هذه الفئات، بينما هؤلاء البسطاء أنفسهم الذين تم إجبارهم على الحضور إلى لجان الانتخابات لإظهار الإقبال على التصويت، وأولئك الذين تم إذلالهم بإجبارهم على التراقص أمام اللجان من الصباح إلى المساء، هم أكثر من عانى في فترة حكم السيسي الأولى، ويُنتظر أن تزداد معاناتهم إن قدّر الله وأمضى عقابه علينا باستمراره في الحكم. لكنهم خرجوا للحاجة. لم تُخرجهم سواها.
اللافت فيما يخص الإنسانيات هو تشابك العوامل التي تؤثر في أي ظاهرة وتعقدها، وكذا بنيتها الهرمية المتصاعدة المتسلسلة التي تسهم في تعقيد أي مشكلة اجتماعية، حتى يمكن لنتيجة عن أحد العوامل أن تمثل سببًا لنتيجة غيرها! من ثم، فإن تغير السلوكيات الناتج عن الفقر لم يتوقف عند هذه الفئات المعوزة؛ فأفراد المجتمع الإنساني ليسوا جزرًا منعزلة، بل تؤثر تصرفاتهم في بعضهم البعض.
شاهدنا كيف كانت ردة فعل المقاطعين للانتخابات الرئاسية تجاه وفاة امرأة بسيطة أثناء رقصها أمام إحدى اللجان بالإسكندرية، وكيف تهكم كثيرون منهم عليها، وأظهروا الشماتة في موتها، باعتبارها ممن باع صوته الانتخابي، وبيّض وجه النظام قليلًا وأخفى عواره، وأعطى بعضًا من الشرعية للاستبداد، ولم تنس صفحات التواصل الاجتماعي أن تنشر بجانب خبر وفيديو وفاتها دعوات بأن يهبنا الله حسن الخاتمة، ليتبين لنا بعدها أنها مريضة بالضغط والسكر، وتعمل خادمة في المنازل لإعالة نفسها، وأنها كانت فيمن تم استئجارهم من منطقة كليوباترا لقضاء اليوم بأكمله رقصًا أمام إحدى اللجان؛ لإظهار فرح المصريين بإجراء الانتخابات وشعبية السيسي الزائفة، ولم تكن تستطيع العودة إلى منزلها سوى آخر اليوم رغم مرضها وإلا ضاع أجرها اليومي المتفق عليه!
ربما أسهمت معرفة الناس بحالها في تخفيف شماتة كثيرين منهم في موتها، وربما أمكننا القول إن فقر المرأة لم يكن له دور في إظهار الشماتة في موتها أمام اللجنة الانتخابية. لكن في النهاية فقد ظهر لنا سلوك غير معهود لدى الشعب المصري ينبني على سلوك آخر لم يكن أيضًا معهودًا؛ فهل كنا يومًا نتصور أن تتم المتاجرة بالبسطاء إلى هذه الدرجة أو أن يشمت أحدنا في موت أخيه؟! ولو بحثنا عن مبدأ البلاء سنجد أنه الفقر.
والحقيقة أنني لا أبرئ نفسي من تغير سلوكي تجاه بائعي الأصوات؛ ففي النهاية لست إلا فردًا من أفراد هذا المجتمع. في اليوم الثاني من أيام الانتخابات الرئاسية توجهت لقضاء حاجة في فرع البنك الذي أتعامل معه، ودائمًا ما توجد بائعة ليمون أمام البنك، تصر على العملاء أن يشتروا منها، فيفعلون. وعدتها بالشراء عند خروجي كعادتي، ولكنني لم أجدها بعدما خرجت. ولأن البنك يقع في شارع رئيسي، وفي أحد الشوارع المتفرعة منه توجد مدرسة بها مقر إحدى اللجان الانتخابية، فقد قررت تفقد الوضع من الخارج، فإذا بي أشاهد بائعة الليمون بجوار المدرسة! ولا أنكر ضيقي منها لانتظارها المكافآت الانتخابية كغيرها، ولولا أني وعدتها بالشراء ما اشتريت منها، كما أنه لأول مرة لا أجزل لها في العطاء!
واقعة أخرى روتها صفحات التواصل الاجتماعي عن سيدة مُسنة مريضة، كان إصبع يدها ملطخًا بحبر الانتخابات، استقلت إحدى الحافلات العامة مع ابنتها، ووفقًا للراوي فركاب الحافلة رفضوا أن يقوموا لها ويجلسوها. وقد دشّن الشباب حملة لمقاطعة القيام لكبار السن بوجه عام في وسائل المواصلات العامة، تحت عنوان "ما دمت عرفت تقف في طابور الانتخابات اقف في المترو!".
إذًا فتغير السلوكيات لم يكن فقط تجاه من باعوا أصواتهم للحاجة، بل وُجه حتى نحو من صوّتوا بإرادتهم للسيسي، وأغلبهم من كبار السن، ولو دققنا لوجدنا الفقر أيضًا هو السبب الرئيسي الذي تسبب في أخذ الشباب تحديدًا هذا الموقف، والذين وصلوا إلى حالة غير مسبوقة من الإحباط التي يطل الفقر برأسه من خلفها.
شح موارد أم زيادة استهلاك؟
دائمًا ما كانت معيشة عموم الشعب المصري بسيطة. لا تشغلهم الكماليات، وفقط ينشدون الستر، لكن منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين شاع نمط استهلاكي لدى المصريين لم يكن معروفًا عند غالبيتهم، ثم تفاقم الأمر بالانفتاح الثقافي في عصر الانترنت، حيث زادت معرفة المصريين بمستحدثات العالم من حولهم، وتحركت غريزة الطمع الإنساني فيهم.
وبالرغم من كون زيادة تطلعات البشر للرفاه مؤثر ولا شك في معاناة من تتطاول أعناقهم لما يفوق مواردهم، فإن سوء توزيع الموارد والثروات وتفاوته الكبير بين أفراد المجتمع يقف كسبب رئيسي لإحساس نسبة كبيرة من الفقراء بافتقاد العدالة الاجتماعية، والذي يؤثر بدوره في اكتسابهم سلوكيات يرغبون من ورائها في الحصول على مزيد من الثروة.
والفساد هو السبب الرئيسي ولا شك لسوء توزيع الثروة على وجه الأرض، فقد أخبرنا ربنا أنه خلق الأرض وقدّر فيها أقواتها، وما فيها من موارد يكفي سكانها، ولكن قلة تستأثر لنفسها بالنصيب الأعظم من الثروات وتحرم منه قطاعًا عريضًا من البشر!
الزهد أم عدم التعلق؟!
مما يميز الفلسفة الإسلامية في التعامل مع الموارد أنها لم تتغافل عن الجانب المادي في الإنسان، فلم تطلب منه أن يزهد فيما أباحه الله، لكنها في الوقت ذاته شجعت المسلم دومًا على الانفكاك من أسر تلك الموارد وغلبتها عليه وتحكمها فيه، أو ما يمكن تسميته فلسفة عدم التعلق، فما بالنا عندما يكون الحصول على تلك الموارد حرامًا!
بهذه النظرة فالمسلم الذي يعي مقاصد دينه لا يؤثر فيه شُح الموارد، ولا يمكن أن يؤدي به إلى أن يسلك سلوكيات وضيعة لأجل اكتساب مزيد من المال، لكن ليس كل الناس يبقون على مبادئهم مع هذا الوضع!
وقد علّمنا رسول الله أن المحافظة على الأصل الطيب لا تكون سوى بالترفع عن التعلق بموارد الدنيا ورفض الدنيّة فيها، ومن هنا كانت حكمة تحريم الصدقة على آل البيت.
كما نعرف جميعًا قصة الابتلاء بماء النهر الذي ابتُلي به جيش طالوت، وأخبرنا به الله عز وجل في القرآن الكريم، وأن من اجتاز اختبار عدم التعلق بنجاح كانوا القلة التي شاء الله أن تلاقي العدو وتهزمه.
ولأن شُح الموارد سبب التقاتل على الدنيا بين البشر؛ فالجنة هي الوفرة. هي غنى الموارد؛ حيث لا يتطلع أحد إلى ما في يد غيره من كثرة ما أُعطي. هي النعيم والسلام المقيم؛ لذا حُق أن يصف الرحمن سكانها فيقول: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47].