الاثنين، 29 يناير 2018

131-هل كان الإمام أحمد بن حنبل مجسمًا؟!

هل كان الإمام أحمد بن حنبل مجسمًا؟!
د/منى زيتون
الثلاثاء 6 فبراير 2018
لأن العقيدة ترتبط بالتطرف أكثر ‏مما يرتبط أي شيء آخر، وكان أكثر ما كفّر الحنابلة به المسلمين قديمًا وحديثًا هو اعتقادهم في صفات الله تعالى‏، ففي هذا المقال ألفت النظر إلى حقائق هامة، تتعلق بالأصول العقدية التي تدّعيها تلك الفرقة مسببة الفتنة، والذين يسمون أنفسهم تارة بالحنابلة وتارة بالسلفية، وأحمد بن حنبل والسلف الصالح منهم براء.
توفي الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، سنة مائتين وواحد وأربعين للهجرة، وبعد وفاته ثم وفاة ‏ابنه عبد الله وهو راوي مسنده سنة ‏تسعين ومائتين، استغلت تلك الفرقة التي عرفت منذ أوائل ‏القرن الرابع الهجري بالحنابلة ما حدث للإمام أحمد مع الخلفاء المأمون والمعتصم في فتنة خلق القرآن، وتقدير العامة له، لترويج أفكارهم العقدية والفقهية المليئة بالغلو، والتي نسبوها إليه؛ إذ لم يثبت عن الإمام أحمد أنه اعتقد اعتقادًا يخالف اعتقاد غيره من أئمة السلف، وهو الاعتقاد المليء بالتجسيم والتشبيه لذات الله تعالى الذي خرجت به علينا تلك الفرقة متابعة منهم لسلفيهم المجسمين مقاتل بن سليمان وابن كرام، والذين ناقشنا علاقة اعتقاداتهما بتلك الفرقة في مقال سابق.

ويمكن تقسيم الاستدلال حول عقيدة الإمام أحمد إلى قسمين رئيسيين هما:
(1)  ما ثبت لدى أئمة المسلمين عن اعتقاد الإمام أحمد أنه لم يكن يخالفهم، وأنه كان مفوضًا غير مجسِّم، على عكس من نسبوا أنفسهم إليه.
§        جاء في كتاب "تبيين كذب المفتري" للإمام ابن عساكر بعد حديثه عن عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري (ص163) "فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد ما أوضحه وأبينه، وتبينوا فضل أبي الحسن واعرفوا إنصافه، واسمعوا وصفه لأحمد بالفضل واعترافه، لتعلموا أنهما كانا في الاعتقاد متفقين، وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين، ولم تزل الحنابلة ببغداد في قديم الدهر على مر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع، لأنهم المتكلمون من أهل الإثبات، فمن تكلم منهم في الرد على مبتدع فبلسان الأشعرية يتكلم، ومن حقّق منهم في الأصول في مسألة فمنهم يتعلم، فلم يزالوا كذلك حتى حدث الاختلاف في زمن أبي نصر القُشيري ووزارة النظام –يعني الوزير نظام الملك-، ووقع بينهم الانحراف من بعضهم عن بعض لانحلال النظام، وعلى الجملة فلم يزل في الحنابلة طائفة تغلو في السنة وتدخل فيما لا يعنيها حبًا للخفوف في الفتنة، ولا عار على أحمد رحمه الله من صنيعهم، وليس يتفق على ذلك رأي جميعهم، ولهذا قال أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، وهو من أقران الدارقطني، ومن أصحاب الحديث المتسننين، ما قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر بدمشق، عن أبي محمد عبد العزيز بن أحمد قال، حدثني أبو النجيب عبد الغفار بن عبد الواحد الأرموي، قال: ثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، قال: سمعت ابن شاهين يقول: رجلان صالحان بُليا بأصحاب سوء؛ جعفر بن محمد –الصادق- وأحمد بن حنبل"أهـ.
§        وذكر الإمام العز بن عبد السلام في رسالته المعروفة بـ "مُلحة الاعتقاد"، كما رواها عنه ولده، وذكرها السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص222-223) "ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه، ولذلك جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف؛ فهم كما قال القائل: وكل يدعون وصال ليلى *** وليلى لا تقر لهم بذاكا، وأحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه وسائر علماء السلف برآء إلى الله مما نسبوه –يعني حشوية الحنابلة- إليهم واختلقوه عليهم"أهـ.
§        وكذا ذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شُبه من شبه وتمرد" (ص10- 11) "إن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام أخباث السريرة، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد، والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة، وهم أكفر ممن تمرد وجحد". يضيف الحصني (ص12) "كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول أمرّوا الأحاديث كما جاءت، وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم، ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي، وكان من المحققين، وكذلك أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب، وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد، وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء. فقال تحت السياط: فكيف أقول ما لم يقل؟، وقال في آية الاستواء: هو كما أراد، فمن قال عنه إنه قال في الاستواء إنه من صفات الذات أو صفات الفعل، أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه، مما فيه إلحاقه عز وجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزَّه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون، ومنهم ابن حامد والقاضي تلميذه وابن الزاغوني، وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام، ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده، مما ذكرت بعضه، وبالغوا في الافتراء، إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم".
§        ويقول الحافظ المجتهد التقي السُبكي في "السيف الصقيل" (ص21) "وأما الحشوية فهي طائفة رذيلة جُهَّال، ينتسبون إلى أحمد، وأحمد مبرأ منهم. وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة وثبت في المحنة، نقلت عنه كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الاعتقاد السيء، وصار المتأخر منهم يتبع المتقدم، إلا من عصمه الله. وما زالوا من حين نبغوا، مستذلين، ليس لهم رأس ولا من يُناظر، وإنما كانت لهم في كل وقت ثورات ويتعلقون ببعض أتباع الدول، ويكفي الله شرهم"أهـ. يقول الكوثري محقق الكتاب: وهم طوائف كالكرَّامية والبربهارية والسالمية، ومن جملة ما يقوله ابن الجوزي فيهم:
فقد فضحوا ذاك الإمام –يعني أحمد- بجهلهم **** ومذهبه التنـزيه لكن هم اختلّوا
§        ويقول الإمام الكوثري في مقدمة كتاب "تبيين كذب المفتري" للإمام ابن عساكر (ص 16‏) إن الإمام ‏الأشعري في مناظراته مع الحنابلة، كان يقول لهم أنه على مذهب أحمد، لكنهم لم يترجموا الأشعري في طبقاتهم، ‏ولم يعدونه منهم. فهو على اعتقاد أحمد، وهو ما لم يفهمه كثير ممن أسموا أنفسهم بالحنابلة، وادّعوا الانتساب إلى أحمد. وكيف لا يكون على اعتقاده وقد فارق المعتزلة القائلين بخلق القرآن. يذكر النشار في مقدمة تحقيقه لـ "الشامل في أصول الدين" للجويني (ص65) "لمّا رجع أبو الحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال، سلك طريقة ابن كلاب ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما ذكر ذلك في معظم كتبه: الإبانة عن أصول الديانة، والمقالات، والموجز، وغيرها. وكان مختلطًا بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم. لكن الأشعري وأتباعه من بعده كانوا أتبع لأصول ابن حنبل وأمثاله من أئمة الحديث من الحنابلة أنفسهم كابن عقيل وابن الجوزي"أهـ.
§        ويقول أبو المظفر الإسفراييني في "التبصير" (ص157) -بعد أن شرح معتقد الأشاعرة من أهل السُنة تفصيلًا في كل المسائل-: "واعلم أن جميع ما ذكرناه من اعتقاد أهل السُنة والجماعة فلا خلاف في شيء منه بين الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله، وجميع أهل الرأي والحديث مثل مالك، والأوزاعي، وداود –يعني الظاهري-، والزُهري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وسفيان بن عُيينة، ويحيى بن معين، وإسحق بن راهوية، ومحمد بن إسحق الحنظلي، ومحمد بن أسلم الطوسي، ويحيى بن يحيى، والحسين بن الفضل البجلي، وأبي يوسف –القاضي صاحب أبي حنيفة-، ومحمد –ابن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة-، و زُفر –ابن الهذيل صاحب أبي حنيفة-، وأبي ثور، وغيرهم من أئمة الحجاز والشام والعراق، وأئمة خراسان، وما وراء النهر، ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين"أهـ.
§        قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (ج12، ص197) في إطار حديثه عن مسألة التلفظ بالقرآن: "رأيت بخط القاضي أبي يعلى على ظهر (كتاب العدة) بخطه، قال: نقلتُ من آخر (كتاب الرسالة) للبخاري أن القراءة غير المقروء، وقال: وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجهًا كلها يخالف بعضها بعضًا، والصحيح عندي أنه قال: ما سمعت عالمًا يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. قال: وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين!!! قال أبو عبد الله البخاري: قال ابن حنبل: اللفظي الذي يقول: القرآن بألفاظنا مخلوق"أهـ.
ذكر الذهبي في "السير" (ج11، ص291) في ترجمة الإمام أحمد، برواية عن فوران صاحب أحمد، قال: سألني الأثرم وأبو عبد الله المعيطي أن أطلب من أبي عبد الله –يعني الإمام أحمد- خلوة، فأسأله فيها عن أصحابنا الذين يفرقون بين اللفظ والمَحْكي، فسألته، فقال: القرآن كيف تُصرِّف في أقواله وأفعاله فغير مخلوق، فأما أفعالنا فمخلوقة. قلت: فاللفطية تعدُّهم يا أبا عبد الله في جملة الجهمية؟ فقال: لا، الجهمية الذين قالوا: القرآن مخلوق". وعن فوران أيضًا أنه قال: "جاءني ابن شداد برقعة فيها مسائل، وفيها: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فضرب أحمد بن حنبل على هذه، وكتب: القرآن حيث تُصُرِّف غير مخلوق"أهـ.
ورواية فوران هذه هي نص ما قاله الإمام البخاري في التمييز بين القرآن وتلفظنا به، وأن القرآن غير مخلوق، لكن تلفظنا من أفعالنا المخلوقة، بينما هناك فريق آخر نسب إلى الإمام أحمد العكس في مسألة اللفظ، وقالوا أنه لم يفرق القرآن عن التلفظ به، بل واختلفوا هل آثر التوقف فقط، أم بدَّعهم وعدّهم جهمية؟
يقول البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص62) عن مسألة اللفظ بالقرآن: "فأما ما احتجّ به الفريقان لمذهب أحمد، ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد، وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة"أهـ. يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (ج12، ص194) "كل واحدة من الطائفتين: الذين يقولون (لفظنا بالقرآن غير مخلوق)، والذين يقولون (لفظنا وتلاوتنا مخلوقة) تنتحل أبا عبد الله –أحمد بن حنبل-، وتحكي قولها عنه، وتزعم أنه كان على مقالتها"، ثم يُتبع ابن تيمية (ص195) بأن جمهور أهل السُنة قد وافقوا الإمام أحمد على إنكاره الأمرين. وجمهور السُنة الذين يعنيهم ابن تيمية هم السلفية، ولم يكونوا يومًا جمهورًا.
وهنا نقرر أمرين هامين:
وصف أبي يعلى لافتراق أصحاب الإمام أحمد وعدم إحسانهم تحديد عقيدته في التلفظ بالقرآن ليس بالأمر الهيّن، وفيه قدح في أصحاب أحمد الأوائل، وأي قدح، سواء في عدالتهم في النقل فيما ادّعوه من قوله حول اللفظ بالقرآن أو نفى دقة فهمهم لقوله في المسألة، والعجيب أنها ليست أي مسألة، بل مسألة متعلقة بسبب محنته، فإن كانوا يدّعون أخبارًا كثيرة منها غير ثابت عن الإمام أحمد –كما ذكر الإمام البخاري في "خلق أفعال العباد"-، أو متهمون بسوء الفهم، فكيف يوثق في هؤلاء أن يكونوا مصدرًا للتعرف على عقيدة الإمام أحمد، خاصة وأن فيما ادّعوه من المخالفات لأهل الإسلام ما فيها؟ وليس ذلك الوصف بأقل قدحًا من شهادة الطبري في المتأخرين من المنتسبين إليه، عندما قال: "لم أجد له أصحابًا يُعوَّل عليهم".
وأقول أيضًا: إن ما رواه ابن تيمية نقلًا عن أبي يعلى عن كل من الإمام أحمد والإمام البخاري كله يتفق مع اعتقاد السُنة الأشاعرة، وليس توقف السلفية، فليس عالم من يقول أن اللفظ بالقرآن غير مخلوق أي قديم! فلا قديم سوى الله وصفاته القائمة بذاته، وأفعال العباد ومنها ألفاظنا كلها مخلوقة محدثة، كما أن القرآن هو كلام الله القديم غير المخلوق ولا يكون بألفاظنا ولا بغيرها مخلوقًا، فأهل العلم على أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه من ألفاظ وكتابة مخلوقة. وهذا نص اعتقاد الأشاعرة في القرآن، والتي هي عقيدة أهل العلم من السلف، وهو التمييز بين التلاوة والمتلو، وهذا دليل آخر عن مطابقة عقيدة الإمام أحمد لعقيدة جمهور العلماء، ومباينته لما يدّعيه عليه المُسمون بالسلفية.
§        ويقول ابن الأثير في "الكامل" (ج 8، ص428‏): "ورد إلى بغداد هذه السنة -سنة 475هـ- ‏الشريف أبو القاسم البكري المغربي ‏الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك –الوزير السلجوقي الأشعري-، فأحبه ومال إليه، ‏وسيّره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية، وكان يذكر ‏الحنابلة ويعيبهم، ويقول: "‏‏‏﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا‏‏﴾‏‏، والله ما كفر ‏أحمد ولكن أصحابه كفروا"أهـ.

فكان اعتقاد أئمة الأمة عبر العصور عن مخالفة هؤلاء المشبِّهة للإمام أحمد اعتقاد راسخ، وكانت أول عقيدة تجسيمية أدخلوها على عقائد المسلمين هي عقيدة الإقعاد، والتي أوذي بسببها الإمام الطبري، وكانت سببًا في فتنة بين العوام سنة 317هـ، ثم تفشت اعتقاداتهم التجسيمية بين العوام تدريجيًا، وأول إشارة تاريخية يثبتها المؤرخون عن تفشي تلك الاعتقادات بين المنتسبين للإمام أحمد حدثت سنة 323هـ، في بغداد، بين أتباع البربهاري، الذي كان أول من جمعهم وصيّرهم فرقة، والمستحق أن ينتسبوا إليه وليس إلى الإمام ابن حنبل، وقد تسبب البربهارية وقتها في فتنة كبيرة رواها المؤرخون، كابن الأثير والذهبي، وغيرهما؛ مما اضطر الخليفة الراضي للتدخل بنفسه لزجرهم بمرسوم جاء فيه "فخرج توقيع الراضي بما يُقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم، ويوبّخهم باعتقاد التشبيه وغيره، فمنه تارة إنّكم تزعمون أنّ صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذلة على هيئته، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين والنعلين المُذهّبَين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوًّا كبيرًا.....".

(2)  بعض كبار علماء الحنابلة لم يعجبهم كثير مما قاله إخوانهم في باب العقائد عن  صفات الله عز وجل، وتوقفوا في إثبات الصفات أو قبلوا التأويل، حتى كان بعضهم أقرب إلى الأشاعرة‏. من ذلك:
§        نقل الذهبي في ‏"سير أعلام النبلاء" (ج18، ص613‏) قول أبي محمد التميمي "كل الطوائف تدّعيني"‏. وكان البيت التميمي من علماء الحنابلة، قريب من الأشاعرة، وكانت بين أبي الحسن التميمي وأبي بكر الباقلاني القاضي الأشعري الشافعي صُحبة.
§        في ترجمة الذهبي في ‏"سير أعلام النبلاء" (ج 19، ص606-607)‏ لأبي الحسن ابن الزاغوني الحنبلي، ذكر أمر قصيدته التي شرح فيها عقيدته، وفيها بيت من الشعر قال فيه:‏
عالٍ على العرش الرفيع بذاته    سبحانه عن قول غاوٍ وملحد
قال الذهبي –وهو حنبلي العقيدة-: "وقد ذكرنا أن لفظة "بذاته" لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، ‏وتركها أولى". "ورأيت لأبي الحسن بخطه مقالة في الحرف والصوت –أي يتحدث فيها عن صفة الكلام لله عز وجل- عليه ‏فيها مآخذ، والله يغفر له، فليته سكت"‏أهـ.
§        كانت للحنابلة ثورة على الإمام ابن عقيل الحنبلي، وخاصموه خمس سنين، لأنه كان يحضر دروس أبي الوليد المعتزلي، ورأوا منه ما اعتبروه تعطيلًا لما يثبتونه من صفات في حق ذات الله تعالى.
§        وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبه وتمرد" (ص22) "قال ابن عقيل: تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة، وهذا عين التجسيم، وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض، فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكون. تعالى الله عن تخايل الجسمية، وذكر كلامًا مطولًا بالغًا في التنزيه وتعظيم الله تعالى. وقد تمسك بهذا الحديث ابن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات، وزاد فروى من حديث ابن عباس رضي الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لما أُسري بي رأيت الرحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ، وقد نهيت عن صفته لكم، فسألت ربي أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كُشف عنه حجابه مستو على عرشه)، وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم فرية ممن شبّه الله عز وجل بأمرد وعروس. وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجع ويقول: ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم يُنسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد، فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب، والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم، وحاشاه من ذلك، بل هو من أعظم المنزهة لله عز وجل، وقد خاب من افترى. وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين: من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر. تقدس الله عز وجل عما يقولون علوًا كبيرًا"أهـ.
§        أنكر فضلاء الحنابلة على أبي يعلى الفراء كتابه الشهير "إبطال التأويلات لأخبار الصفات". ذكر ابن الأثير في ‏"الكامل" (ج8، ص378)‏ في ترجمته: "وهو مصنف كتاب ‏الصفات، أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض تعالى الله ‏عن ذلك، وكان ابن تميمي الحنبلي يقول: لقد خري أبو يعلى ابن الفراء على ‏الحنابلة خرية لا يغسلها الماء".
§        حتى صنّف الإمام أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، كتابًا بعنوان ‏"دفع شبهة التشبيه" ويعتبر أفضل رد كُتب للرد على المجسمة ممن شانوا عقيدة الإمام أحمد؛ ذلك أن ابن الجوزي كان شيخ الحنابلة في وقته. قال عنه (ص 80) "ولمّا علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم ‏يعجبهم، لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم من المجسمة، فقالوا: ليس هذا المذهب. قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلّدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد، ونفيت عنه كذب المنقولات، وهذيان المقولات، غير مقلد فيما أعتقده"‏. ويقول ابن الجوزي في مقدمة الكتاب (ص ص 6: 11): "ورأيت من أصحابنا ‏من يتكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله ابن ‏حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني، فصنّفوا كتبًا شانوا بها المذهب، ‏ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته، فأثبتوا له صورة، ووجهًا زائدًا على الذات، وعينين، وفمًا، وأضراسًا، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين، وأصابع، وكفًا، وخنصرًا، وإبهامًا، وصدرًا، وفخذًا، وساقين، ورجلين، وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
وقالوا: يجوز أن يمس ويُمَس ويُدني العبد من ذاته، وقال بعضهم ويتنفس، ثم إنهم يرضون العوام بقولهم (لا كما يُعقل).
وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات، فسمّوها بالصفات تسمية مبتدعة، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى: ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث، ولم يقنعوا بأن يقولوا: صفة فعل، حتى قالوا: صفة ذات.
ثم لما أثبتّوا أنها صفات، قالوا لا نحملها على توجيه اللغة، مثل يد على نعمة وقدرة، ولا مجيء وإتيان على معنى بر ولطف، ولا ساق على شدة، بل قالوا نجملها على ظواهرها المتعارفة، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين، والشيء إنما يُحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حُمل على المجاز، ثم يتحرّجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السنة، وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوام، وقد نصحت التابع والمتبوع، فقلت لهم: يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل واتّباع، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول وهو تحت السياط: كيف أقول ما لم يقل؟ فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه؛ ثم قلتم في الأحاديث (تُحمل على ظاهرها) فظاهر القدم الجارحة، فإنه لمّا قيل في عيسى عليه الصلاة والسلام (روح الله)، اعتقدت النصارى أن لله سبحانه وتعالى صفة هي روح ولجت في مريم.
ومن قال استوى بذاته المقدسة، فقد أجراه سبحانه وتعالى مجرى الحسيات، وينبغي أن لا يُهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل، فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقِدم، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر أحد عليكم، إنما حملكم إياها على الظاهر قبيح.
فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه، فلقد كسيتم هذا المذهب شيئًا قبيحًا، حتى صار لا يُقال عن حنبلي إلا مجسم، ثم زيّنتم مذهبكم أيضًا بالعصبية ليزيد بن معاوية، وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته –وقد صنّف ابن الجوزي كتاب "الرد على المتعصب العنيد المانع من ذم يزيد" للرد على عبد المغيث الحنبلي الذي ألّف كتابًا عن "فضائل يزيد" أتى فيه بالعجائب، ولم يكن ابن الجوزي فقط من انتقده، بل انتقده واستهجنه كل من ذكر سيرته من المؤرخين كابن الأثير وابن كثير والذهبي-. يتابع ابن الجوزي: وقد كان أبو محمد التميمي –وهو حنبلي- يقول في بعض أئمتكم –يعني أبي يعلى- (لقد شان المذهب شيئًا قبيحًا لا يُغسل إلى يوم القيامة).
ويتابع ابن الجوزي: وقد غلط المصنفون الذين ذكرتهم في سبعة أوجه:
أولها، أنهم سمُّوا الأخبار أخبار صفات، وإنما هي إضافات، وليس كل مضاف صفة، فإنه قال تعالى: ‏﴿‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي‏‏﴾‏‏. وليس لله صفة تُسمى روحًا، فقد ابتدع من سمى المضاف صفة.
والثاني، أنهم قالوا هذه الأحاديث من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، ثم قالوا: نحملها على ظواهرها، فواعجبًا ما لا يعلمه إلا الله تعالى أي ظاهر له؟!؛ وهل ظاهر الاستواء إلا القعود وظاهر النزول إلا الانتقال؟!
والثالث، أنهم أثبتوا لله سبحانه وتعالى صفات، وصفات الحق جل جلاله لا تثبت إلا بما تثبت به الذات من الأدلة القطعية.
والرابع، أنهم لم يفرقوا في الإثبات بين خبر مشهور كقوله صلى الله عليه وسلم "ينزل تعالى إلى سماء الدنيا"، وبين حديث لا يصح كقوله "رأيت ربي في أحسن صورة"، بل أثبتوا بهذا صفة وبهذا صفة.
والخامس، أنهم لم يفرّقوا بين حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبين حديث موقوف على صحابي أو تابعي، فأثبتوا بهذا ما أثبتوا بهذا.
والسادس، أنهم تأوّلوا بعض الألفاظ في موضع، ولم يتأولوها في موضع كقوله "ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، قالوا: ضرب مثلًا للإنعام.
والسابع، أنهم حملوا الأحاديث على مقتضى الحس، فقالوا: ينزل بذاته وينتقل ويتحول، ثم قالوا: لا كما نعقل، فغاظوا من يسمع، وكابروا الحس والعقل، فحملوا الأحاديث على الحسّيات.
فرأيت الرد عليهم لازمًا، لئلا يُنسب الإمام أحمد رحمه الله إلى ذلك، وإذا سكتّ نسبت إلى اعتقادي ذلك، ولا يهولني أمر يعظم في النفوس، لأن العمل على الدليل وخصوصًا في معرفة الحق تعالى لا يجوز فيها التقليد، وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن مسألة فأفتى فيها فقيل: هذا لا يقول به ابن المبارك، فقال: ابن المبارك لم ينزل من السماء، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: استخرت الله تعالى في الرد على الإمام مالك رحمه الله" (انتهى كلام ابن الجوزي).

ولقد كان الإمام فخر الدين الرازي من أكابر علماء المسلمين، ممن وقع فيه المُجسِّمة لدرجة ‏التكفير، والرمي بالردة، ومع ذلك؛ وبالرغم من تكفيرهم لكل من لا يوافقهم على عقيدتهم غير ‏المنزهة لله تعالى؛ يذكر الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص257) أن "للعلماء فيهم قولين، ‏أحدهما أن من يُثبت كونه تعالى جسمًا متحيزًا مختصًا بجهة معينة كافر، والقول الثاني: إنا لا ‏نكفرهم، لأن معرفة التنزيه لو كانت شرطًا لصحة الإيمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم ‏بإيمان أحد إلا بعد أن يتفحص أن ذلك الإنسان هل عرف الله بصفات التنزيه أو لا؟، وحيث حكم ‏بإيمان الخلق من غير هذا التفحص، علمنا: أن ذلك ليس شرطًا للإيمان"أهـ.‏


المقال القادم إن شاء الله نناقش فيه مدى صحة نسبة ‏مذهب هؤلاء الخوارج الفقهي إلى الإمام أحمد.‏