الخميس، 25 يوليو 2019

196- مستقبل البحث في العلوم الاجتماعية


مستقبل البحث في العلوم الاجتماعية
د. منى زيتون
مقدمة كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"
صدرت النسخة الالكترونية عام 2019، والطبعة الأولى 2021
نُشر المقال الخميس 25 يوليو 2019

يُعتبر مصطلح العلوم الاجتماعية مصطلحًا واسعًا، يشمل عددًا من العلوم التي تهتم بالمجتمع وعلاقات أفراده. وعلى رأس هذه المجموعة المتنوعة من العلوم علم الاجتماع بفروعه المختلفة، وعلم النفس بفروعه، والتاريخ، وعلوم اللغة، وعلم الاقتصاد، والعلوم السياسية، والقانون، وغيرها من العلوم الإنسانية، التي تتعامل مع المجتمع كمنظومة، وعليها استكشاف الأساليب التي ينتظم بها.
والأهداف الرئيسية من سائر هذه العلوم هو فهم الظواهر التي تحدث في المجتمع، وتفسيرها، والتنبؤ بالتغيرات في السلوكيات والعمليات الاجتماعية التي تربط البشر كأفراد وجماعات، ونقد سلوكيات البشر أثناء تفاعلهم الاجتماعي، بغرض ضبطها وتحسينها. ولا بد أن يكون الهدف الرئيسي منها هو تفسير الظواهر الاجتماعية لا الحكم عليها.
ولسعة وتنوع مجالات البحث في العلوم الاجتماعية، فإنه قد يصعب تصنيف بحوثه، وكثيرًا ما يتشارك باحثون في تخصصات مختلفة البحث في موضوع واحد، لتشعب أهداف البحث، ووجود علاقات واضحة بين النظم الاجتماعية.
كما تتنوع مناهج البحث العلمية في مجال العلوم الاجتماعية، فقد يُستخدم المنهج الوصفي أو المنهج التجريبي أو المنهج التاريخي، وعليه فقد تكون أساليب جمع البيانات كمية أو كيفية.
والبحوث الاجتماعية هي دراسة علمية للبناء الاجتماعي للمجتمع، لجوانب ومكونات الحياة فيه، والعمليات الاجتماعية الحادثة فيه، وهي المعرفة المتجمعة باستخدام المناهج العلمية على اختلافها في الدراسات الاجتماعية المتنوعة.
إن أحد أهم أسباب مشاكلنا هو التفكك الاجتماعي، وعدم التعامل والتعاطي مع قضايا المجتمع كمنظومة متكاملة، والإصرار على الانعزالية في فهم الظواهر والقضايا والمشكلات الاجتماعية، وهذا نراه ونلمسه على مستوى الدول ككل، وكذا على مستوى أفراد المجتمع؛ ولأجل هذا فإن المنظور التكاملي لقضايانا في ضوء تخصصات العلوم الاجتماعية المختلفة، والابتعاد ما أمكن عن تصور الجزر المنعزلة عند معالجتها ضرورة لمجتمع سوي متحضر.
ما ميز علم الاجتماع في بداياته أن علماء الاجتماع كانوا يناقشون في أعمالهم الأديان، وعلم النفس، والفلسفة، والتعليم، والأخلاق، لكن في مرحلة لاحقة ظهرت نزعة تجريبية في بحوثه على يد كارل ماركس، وسادت تلك النزعة لفترة، لوحظ فيها تزايد مشكلات المجتمعات الإنسانية، وتفاقمها، وأزعم أننا بحاجة إلى العودة بقوة إلى المنهج الوصفي في البحوث الاجتماعية، لأن الفهم الدقيق هو أول خطوات حل المشكلات الاجتماعية؛ فللآراء ووجهات النظر التي تستند إلى تحليل للظاهرة أو القضية الاجتماعية أهميتها، والبحوث الاجتماعية لا تبنى فقط على التجريب، ولست من أنصار اعتبار نتائج البحوث التجريبية حقائق اجتماعية، مهما كان حجم العينة المستخدم فيها.
فالاستقصاء الكمي يوجه عنايته للكشف عما يسميه الحقائق الاجتماعية، فاصلًا إياها عن سياقها الاجتماعي وأحيانًا التاريخي! بينما من المعلوم أن العلوم الاجتماعية تختلف في طبيعتها عن العلوم الطبيعية، فلكل مجتمع خصائصه. والمجتمعات الإنسانية تتميز بوجود معايير وقيم وقواعد أخلاقية وثقافات، تؤثر في القضايا الاجتماعية، والإنسان ليس آلة، ولا يعمل بمعزل عن مجتمعه، كما أن قضايا مجتمعه ومشاكلها تتشابك معه على تنوعها، ولا يمكن النظر إليها بمعزل، وما نستدل عليه من نتائج بحث اجتماعي أُجري في مجتمع قد يختلف كثيرًا عن بحث مناظر في مجتمع آخر، أيًا كان المنهج العلمي المستخدم. بل إن مقارنة المجتمعات المختلفة أحد مجالات العلوم الاجتماعية.
وعلى هذا فالاستقصاء الكيفي من وجهة نظري له أهميته القصوى في مجال الدراسات الاجتماعية، حيث ندرس الظواهر الاجتماعية في مواقف طبيعية وليست اصطناعية، ونسعى من خلال ملاحظاتنا إلى تفسير تلك الظواهر، وتبسيطها، وإعطاء معنى اجتماعي للظواهر، مع تحليل العلاقات بين الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والعوامل الخارجية. ولا بد أن نقر أن لكل باحث مهما كانت الطريقة والمنهج الذي يستخدمه أفكاره وآراؤه وقيمه، وموضوعية الباحث في النهاية هي التي تحدد قيمة البحث، وليست الأرقام.
وأرى أن مستقبل العلوم الاجتماعية في البحوث الكيفية الإثنوجرافية Ethnography تحديدًا، التي تستخدم الملاحظة أساسًا في جمع البيانات، والاستقراء أساسًا في تحليل البيانات، فالباحث يغمر نفسه في الظاهرة التي يلاحظها ليتحصل على صورة عقلية كلية كاملة واضحة عنها، مستبعدًا أي تأثيرات من نتائج الأبحاث المقاربة التي تمت في بيئات أخرى.
ونتائج البحوث الاجتماعية على تنوعها تسهم في تطور المجتمعات وتقدمها، كونها توجه عنايتها لفهم مشكلات المجتمع، وتضع حلولًا لها، وما يميز المجتمعات المتطورة والناهضة بقوة أنها تهتم بنتائج هذه البحوث، على مستوى القادة والمشرعين والسياسيين والأكاديميين، فلا تقف عند حد التنظير، بل يتم تطبيق نتائجها؛ فتسهم إسهامًا حقيقيًا في صياغة السياسات العامة لتلك الدول، والتغلب على مشاكلها، وحتى مواطنو الدول المتقدمة فإن مما يميزهم اهتمامهم بنتائج هذه البحوث، فيضعوها نصب أعينهم لتحسين سلوكياتهم الاجتماعية.
فلأن الإنسان كائن اجتماعي، وعلى اتصال دائم بغيره من أفراد المجتمع، تعد الدراسات الاجتماعية بوجه عام من أكثر الدراسات أهمية للفرد العادي في المجتمع، والناس لا ينفكون يسألون عن سبب تزايد التعصب، أو سبب ارتفاع أعداد حالات الطلاق، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تنشأ من سلوكيات الأفراد في المجتمع، وتؤثر على أصحابها وعلى المجتمع ككل.
ولإيماني الشديد بأن العلم تكاملي البناء، وليس فقط تراكمي البناء، فأنا أحاول جاهدة أن أدمج معارفي المختلفة في نطاقات علم النفس وعلم الاجتماع والعقائد والتاريخ والنقد الأدبي وغيرها من فروع الإنسانيات، بل وحتى علم الأحياء، ومناقشة جميع القضايا الاجتماعية التي أطرحها في مقالاتي، حتى الدينية منها، من وجهة نظر اجتماعية.
فهدفي هو بحث مجموعة متنوعة من أهم القضايا التي تهم المجتمع العربي، والتي للوهلة الأولى قد يستشعر القارئ غرابة في وجود هذه الموضوعات والقضايا المتباينة ضمن اهتمامات كاتب واحد، ولكنها جميعها رغم تباينها تمت مناقشتها من منظور اجتماعي. ناقشت في مقالاتي موضوعات في عدة اختصاصات اجتماعية هامة كالتعليم، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع السياسي، والإدارة والتنظيم الاجتماعي، والعلاقات العرقية والدينية، والتطرف الفكري، والإلحاد، والممارسات الاجتماعية، والتغير الاجتماعي، والتقسيم الطبقي، وحرصت حرصًا تامًا على التنويع في طرق العرض، حتى أن بعض الأفكار التي أردت طرحها طرحتها من خلال النقد الأدبي لروايتين أدبيتين وبعض من الميثولوجيا اليونانية! وأرجو أن يجد كل قارئ فيما أكتب فائدة، وأن أسهم في التغلب على مشاكل مجتمعاتنا العربية.
إن النظرة التكاملية لقضايانا الاجتماعية ضرورة ملحة، إن أردنا أن نصل بمجتمعاتنا إلى التحضر الذي نبتغيه، مع الحفاظ على هويتنا، ولكنه يتطلب توسيع أفق الباحثين في الميادين الاجتماعية وزيادة إطلاعهم على اختصاصات عديدة؛ للقضاء على حالة التفكك والمنظور الأحادي في بحوثنا الاجتماعية.


الأربعاء، 24 يوليو 2019

195- "الإهمال من حقي" أم "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"؟!!


"الإهمال من حقي" أم "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"؟!!
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الأربعاء 24 يوليو 2019
مما يُنسب إلى الإمام الشافعي من شعر هذان البيتان:
زِنْ من وزنَك بما وزنَك *** وما وزنَك به فَزِنهُ.
من جاءَ إليّك فَـ رُح إليّه *** ومن جَفاك فصُد عنهُ.
وبقدر ما يسرت بعض مواقع الشبكة العنكبوتية التواصل بين أفراد المجتمع -وإن قللت التواصل الحقيقي وزيارات الأقارب-، بقدر ما عقّدته، لدرجة أن أصبحنا أحيانًا نتوه عن معرفة السلوك الصائب اجتماعيًا في ضوء ما تربينا عليه من قيم! يبدو الحال أحيانًا كما لو كنا بحاجة إلى بلورة وصياغة قيم جديدة تناسب مستحدثاتنا.
أصبح التأخر في فتح رسائل تطبيقي الواتس آب والماسنجر من مسببات المشاكل الاجتماعية المستحدثة في مجتمعنا. وعلى إحدى الصفحات الاجتماعية الشهيرة دار حوار وسجال شارك فيه آلاف من البشر بين أصحاب وجهتي النظر الرئيسيتين في الموضوع.
كان من الواضح تمامًا من هذا الحوار وجود جبهة عريضة من الأفراد ترى أن من حقهم إهمال الرسائل المرسلة إليهم، وقدموا مبررات على هذا في تعليقاتهم؛ تمثلت في الانشغال الشديد، وتفاوت أهمية وأولوية الناس بالنسبة لهم، والمرور بحالة صحية أو نفسية لا تتقبل التواصل مع الناس.
في المقابل كانت الجبهة المعاكسة لا تتقبل موقفهم، واتهموا هؤلاء بالتعالي وادعاء الانشغال الكاذب، وقالوا إن الرد على المكالمات والرسائل لا يلزمه أن تكون العلاقة قوية بين الطرفين؛ فهذه مغالطة كبيرة من وجهة نظرهم، وأنكروا الأولوية من الأساس؛ بمعنى أن أي شخص يتصل يتحتم الرد عليه، وكذلك بالنسبة للرسائل. وقالوا لأصحاب الجبهة الأولى: طالما أنكم قبلتم صداقة شخص على الفيسبوك أو أعطيتموه رقمكم على الواتس آب فأنتم أعطيتموه الحق في أن يتواصل معكم، وليس من الصواب أن يقبل كل منكم صداقة 5000 شخص ثم يتكبر عليهم، كما يفعل الكثيرون ممن يفتحون الصداقات بلا رابط لأجل مزيد من المتابعة لصفحاتهم.
وللحكم بين الجبهتين ينبغي أولًا أن نميز بين نوعين من الرسائل؛ الرسائل العامة من نوعية الأدعية ومقاطع الفيديو وخلافه، والرسائل الحقيقية التي تحمل مضمونًا خاصًا موجهًا للمرسل إليه، يتمثل في خبر خاص هام يُنقل إليه أو استفسار عن أمر وما إلى ذلك.
ورأيي الشخصي أننا شعب متطرف ومن النادر أن نتوسط في أمر، فإما اتجاه نحو أقصى اليمين أو نحو أقصى اليسار؛ فأي شخص طبيعي من المنطقي أن تتفاوت علاقاته بالناس، وليس من المفروض فعلًا أن يقطع شخص مكالمة مع أمه أو أستاذه أو رئيسه في العمل أو حتى زميله لأجل أن يرد على شخص آخر، أو يقول لأمه: انتظري فهناك رسالة وصلت سأرى ممن؟ خاصة وأنه معتاد أن 99% مما يرده من الرسائل عامة وغير هامة؛ فنسبة كبيرة جدًا منا يرسلون أي فيديو أو رابط يعجبهم أو كلمات يقرأونها على الانترنت. كما أن هناك أناسًا لا يقل عدد منشوراتهم اليومية على صفحاتهم للتواصل عن عشرين منشورًا، يتناقلون فيها أخبار الصحف وسائر شئون الحياة، وقص ولصق الموضوعات من الصحف والصفحات الاجتماعية والدينية، لدرجة أنه أحيانًا قد يصعب تكوين انطباع عن شخصياتهم من نوعية المنشورات التي ينقلونها لتعارض وجهات النظر فيها!
لكن المشكلة ليست فيمن ينشرون على صفحاتهم الشخصية لأن كلًا منهم حر في صفحته، المشكلة الحقيقية أن هناك صنفًا عدده لا يُستهان به منا يفضلون التواصل الخاص عن التواصل العام؛ فعوضًا عن أن يرفعوا المنشورات التي تعجبهم على صفحاتهم يبعثونها في رسائل لكل أصدقائهم! وصفحاتهم قد تظل دون أي منشورات عليها لأسبوع أو لأسبوعين! ولأن هؤلاء لا يبعثون برسالة واحدة مثلًا كل فترة، بل بعدة رسائل يوميًا، فصداقة ثلاثة أو أربعة منهم كافية لإغراق صندوق بريد أي شخص بعدد هائل من الرسائل يوميًا.
أيضًا لا يمكن إنكار أن هناك خطأ من الجهة المقابلة؛ فمثلما أن هناك أناسًا تتطرف بادعاء أن كل الذين يتواصلون معهم مثل بعضهم ولا أولويات، ففي المقابل هناك من يخطئ بادعاء الانشغال الدائم، وهم كاذبون. وقد يكونون هم مسببو الأزمة لأنفسهم بالاتساع في قبول الصداقات على الفيسبوك لدرجة غير طبيعية، وإعطاء رقم تليفون الواتس آب لكل البشر، فتصلهم أعداد هائلة من الرسائل يستحيل أن يجدوا وقتًا للإطلاع عليها كلها.
أما بالنسبة لموضوع الحالة النفسية السيئة التي يتعلل بعضهم بها كسبب لإغفال الرد على غيرهم حتى المقربين، فكلنا نمر بحالات نفسية سيئة، ولا أحد مزاجه معتدل على الدوام، لكن ليس لدرجة أن نتعمد تجاهل الآخرين، خاصة المقربين منا غير المزعجين، وخاصة أيضًا في حالات الرسائل وليس المكالمات.
مع ذلك فكل ما سبق مما عرضته من رأيي قد يُعتبر كلامًا خلافيًا تتباين فيه وجهات النظر، لكن هناك أمورًا يستحيل أن تكون موضع خلاف. وأشهر مثال على ذلك رسائل واتصالات الأعياد.
لم يعد موسم الأعياد موسمًا للمسرات وتبادل التهاني فقط، بل صار موسمًا للمشاكل الاجتماعية الالكترونية بسبب عدم فتح بعض الناس رسائل التهنئة بالعيد! وليس فقط عدم الرد عليها! وأي شخص يضع نفسه محل من يشكون سيجد أن ما يحدث معهم أمر في منتهى قلة الذوق واللياقة؛ فما لا يمكن أن أتصوره أبدًا أن أبعث رسالة تهنئة بعيد أو مناسبة لمخلوق مهما كان سنه ومقامه ولا يرد عليها ولا أغضب! اللهم إلا إن كان أبي أو أمي إن كانا أحياء. في مثل هذه الحالات تسقط جميع المبررات، ووقتها لن يكون من التطرف أن أعلن انضمامي وتضامني التام مع حزب "ليس من حقك أن تعاملني هكذا"، بل سأبادر بالانضمام إلى حزب "الحظر أولى بك"؛ فمن أبجديات التفاعل الاجتماعي أنه ليس كل من نقطع صلتنا بهم حثالة، لكن غالبًا تكون للعقل قراراته حول بعض العلاقات والأشخاص نتيجة مواقف وكلمات.
والخلاصة أن من يريد أن يستخدم وسيلة الكترونية عليه أن يستخدمها وفقًا لأعرافها، ولن نخسر شيئًا لو فتحنا رسالة فيها دعاء أو فيديو أو ...، حتى لو لم نفتح الفيديو نفسه لضيق الوقت، وليس لازمًا أن تكون من بعثت دعاءً على سبيل المثال صديقتي المقربة كي أشعرها أني أقدر ذوقها وتذكرها لي فأفتح رسالتها. ولو كان الأمر مجهدًا يمكن فتح الرسائل كل يومين أو كل ثلاثة أيام، لكن عدم الفتح بشكل دائم غير مبرر، ويرسل رسالة رفض لمرسل الرسالة. ومن تأتيه رسالة حقيقية كاستفسار مثلًا ينبغي أن يرد عليها. والانشغال الذي يتعللون به غير مبرر، الكبر هو السبب الوحيد لاعتياد هذا السلوك. بل إن هؤلاء مدعي الانشغال الدائم أكثر من يتضايق لو تأخر شخص في الرد على رسالة لهم. والاستنتاج الأخير عن تجربة عملية.


الثلاثاء، 23 يوليو 2019

194- احرص على حفظ القلوب من الأذى


احرص على حفظ القلوب من الأذى
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الثلاثاء 23 يوليو 2019

من أجمل ما نُسب إلى سيدنا الإمام علي من شعر قوله:
احرص على حفظ القلوب من الأذى *** فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن القلوب إذا تنافر ودها *** شبه الزجاجة كسرها لا يشعب
والمتابع للصفحات الاجتماعية على مواقع التواصل الاجتماعي سيجدها تمتلئ بعبارات كُتبت بالعامية أو الفصحى، تحث الناس على التخفيف من ضبطهم الانفعالي لانفعالاتهم السلبية كالغضب والضيق، وعدم الاكتراث بردود أفعال الآخرين إزاء ما يظهر من سلوكيات هؤلاء الغاضبين الحانقين، وإشعار المعترضين أن التعبير عن هذه الانفعالات السلبية دون مصاحبتها بأي تعبير لفظي يوضح أسبابها هو من حقوقهم!
من أمثلة ذلك:
ü     "عمرهم ما هيفهموا إنك بتمر بحالة صعبة ومخنوق ومضغوط. هيفهموا بس إنك عصبي وبقيت خنيق، فما تحاولش تشرح"!
لم يسأل من كتب هذا الكلام نفسه: ما ذنب الناس أن يصبح من تنصحه هذه النصيحة عصبيًا خنيقًا معهم؟! وهل صاحبك فقط من لديه مشاكل؟! لا يفهم هذا أن حق الإنسان على من يحب أن يقفوا جانبه ويساندوه، وليس أن يُفرغ فيهم شحنة غضبه، ويسيء معاملتهم.
ü     "عندما أتغير عليك فجأة تأكد بأني أريدك أن تشعر بي، لا أن تتركني. لكن إن كنت تراها فرصتك، فهي لك!"
هذا المتحدث غبي؛ يريد أن يتغير في معاملته مع صديقه أو شريكه ليجعله يشعر بمعاناته، والثاني عندما يبدي انزعاجًا يُفسر هذا بأنه تصيد منه للفرصة! ماذا لو جربت أن تخبره بما تشعر به بدلًا من هذا الفيلم الهندي؟!
ü     "الشخص الذي يحبك يتحمل أسلوبك. يحن عليك رغم قسوتك عليه. ويخبرك أنه سيكون معك دائمًا"!
الحقيقة أن أقصى درجة من الانحطاط الانفعالي يمكن لبشر أن يصل إليها أن يتصور أن من حقه أن يسيء التعامل مع الناس ويقسو عليهم، وأن من لا يتحمل إساءته لا يحبه!
ü     "ذات مرة وثقت بمكانتي عند أحدهم، فتركته لأتأكد، وجل من لا يخطئ"!
لا يسعني إلا مصارحتك بأنك مخطئ يا أحدهم! كيف تترك هذا المريض الذي تركك معتبرًا إياك فردة جورب لن تتحرك من مكانك مهما أهملك؟!
****
هذا الكلام الفارغ من كل معنى يذكرني بأغبى وأجمل بكائية غنائية كتبها الأبنودي وغناها عبد الحليم في أحد أفلامه، ليعبر عن حزنه عندما رجع من رحلة عربدة، ولم يرحب به أصدقاؤه!
"مشيت على الأشواك، وجيت لأحبابك. لا عرفوا ايه ودّاك ولا عرفوا ايه جابك"!
مخطئون هم! ليس لهم حق في فعلتهم! وأحضان الحبايب شوك يا قلبي! لكن فعلًا "ايه ودّاك وايه جابك؟!"
ربما يظن بعض الناس أنني أتفلسف والأمر لا يستحق، لكن الحقيقة أن مستوى انحدار الذكاء الاجتماعي لدى بعض الأفراد في مجتمعنا صار مبهرًا؛ وهم يظنون أن تغيير معاملتهم مع من يخالطوهم هكذا دون توضيح، هو حق طبيعي لهم، ومن الواضح أن هناك من يروج للفكرة على مواقع التواصل لدرجة تجعل هناك من يتصورون أن هذه سلوكيات طبيعية، بل ويمكن التبرير لها! والأهم أن لديهم من الوقاحة ما يسمح بانتقاد الآخرين الرافضين لهذه الطريقة في المعاملة.
في الدول ذات الثقافات الراقية نجد عندهم إدراكًا لقيمة تعلم أي شيء في الحياة. المرأة الحامل حتى يحين موعد ولادتها تكون قد قرأت على الأقل عشرة كتب عن الحمل وتربية الطفل. والمقبل على الزواج يقرأ عن الحياة الزوجية وكيفية التعامل مع شريك الحياة. ومن يجد نفسه غير ناجح في حياته الشخصية أو عمله لأن مهارات التواصل لديه ضعيفة يقرأ ويأخذ دورات لتحسينها على يد متخصصين.
أما نحن فأمورنا كلها تمشي بالعشوائية، نمضي في حياتنا بطريقة "العك"، ونفشل تمامًا في رؤية أثر سلوكياتنا السيئة على ردود أفعال الآخرين تجاهنا! بل من الممكن أن نشعر بالمظلومية ونلومهم!
لا تستهينوا بكسر القلوب، فالحزن يضعف عضلة القلب، ويمزق الأوتار؛ الحزن يمكن أن يميت. جرِّب أن تقترب ممن تحب حين تحزن، أن تفضفض وتخبره بما يحزنك. فرق بين أن يحزن لأجلك حين يعلم ما يحزنك، فتتقاسما الحزن ويخف ألمك، وبين أن يحزن بسبب سوء تصرفاتك معه. لا تكن أنانيًا وتنقل حزنك إليه.

ثقافة الاعتذار
معلوم أننا نفتقد كثيرًا ثقافة الاختلاف في مجتمعاتنا، وهذا سبب رئيسي لكثير من مشاكلنا، لكني أعتقد في وجود سبب ثانٍ مهم لما نواجهه من مشاكل اجتماعية، وهو أن ثقافة الاعتذار مفقودة عندنا هي الأخرى.
المفترض أن على من يخطئ أن يُقر بخطئه، ويعتذر عنه، لكن كثيرين تربوا على تجاهل أهمية الاعتذار، والمماطلة فيه وإضاعة الوقت، فلأن الوقت يمر ولا يقف عند الموقف الذي أخطأ فيه أحدهم، ولأن حوادثًا كثيرة قد حدثت بعد ذاك الموقف الذي كان يتطلب الاعتذار، فهو يتعلل بأن من يبقى متذكرًا للموقف الأول هو المخطئ! وبعد فترة نراه يتعامل مع من كان ينبغي تقديم الاعتذار له وكأن شيئًا لم يكن!
هذه الثقافة لا تقتصر ندرتها عند الأفراد في مجتمعنا، بل ونجد الحال بالمثل في الجماعات الفرعية في المجتمع، ونلمسها في جميع الميادين على تنوعها. لا مسئول عندنا يعتذر، ولا جماعة أو حزب أو مؤيدوهم يعرفون شجاعة الاعتذار. والشخصيات التي تقر بغلطها وتتحمل مسئوليتها ما أقلها، وهذا ليس بالأمر الهين.
وما يساعد في تفاقم المشكلة، وإظهار توابعها، أن من لا يعتذر هو في الحقيقة لا يدرك خطأه إدراكًا حقيقيًا، ومن ثم لا توجد ضمانات كافية أن ما حدث من خطأ لن يتكرر.
كما أن الاعتذار لا معنى له دون مبادرة؛ فالاعتذار الحقيقي ليس أن تلقى إنسانًا أخطأ في حقك فيحاول مراضاتك فقط لأنه رآك! وليس أن تذهب إلى المخطئ طمعًا في أن يُقدم اعتذارًا!
هناك أيضًا إشكالية قيمة المخطئ وعمره؛ حيث يتعارض احترامنا للشخص وتقديرنا لمكانته الاجتماعية أو عمره وفقًا لثقافة مجتمعنا مع اعتذاره إلى من هم دونه مكانة وسنًا، رغم أن السُنة النبوية الشريفة مليئة بدروس وعبر عن ترضية الرسول الكريم لكل من ظن أنه أخطأ في حقه.
كما أنه من أشد صور نقص الذكاء الاجتماعي أن تُتاح لبعض الناس فرصة لإصلاح الخطأ والاعتذار عنه، ولكنه يُسوِّف ويظل يتصرف كما ولو أن تلك الفرصة التي أُتيحت ستظل متاحة إلى الأبد!
قال من قبلنا: الاحترام تربية وليس ضعفًا، والاعتذار خُلق وليس مذلة.

الأحد، 21 يوليو 2019

193- أخطاء التفكير


أخطاء التفكير
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
منشور الاثنين 22 يوليو 2019

هل توجد ميكانيزمات عقلية تقف وراء تشكل كثير من الأفكار والاعتقادات الخاطئة بالأساس في البنية المعرفية للأفراد، ومن ثم ظهور السلوكيات المُشكِلة خاصة في مجال التواصل البشري؟
هذا سؤال هام ولا شك، وينبغي التنبه إليه لأنه أُس البلاء. يُلاحظ وجود ما يُعرف بأخطاء التفكير لدى من يعانون مشاكل في التواصل الإنساني؛ أي الطريقة التي يُفكر بها الإنسان وتتسبب في تكون اعتقادات وأفكار خاطئة، وتدفعه إلى التفاعل الاجتماعي بشكل خاطئ.
 وليس هدفي إجراء بحث علمي موسع عن الموضوع، فما ينتج عن تلك الأخطاء في تفكير الأفراد أعمّ بكثير من أن يُحصر في مشكلات بعينها. هدفي أن ألفت فقط إلى وجود تلك العمليات في تفكيرنا.
ولعل من أهم تلك الميكانيزمات العقلية، إلقاء اللوم على الآخرين،‏ وعدم التفريق بين الحقائق والآراء، والتعميم الزائد، وتشويه الحقائق، وغيرها. هذه الميكانيزمات تتسبب في تكوين أفكار واعتقادات خاطئة ينشأ عن اعتناقها غالبًا سلوكيات مشكلة، قد يتأذى الفرد وحده بسببها، وقد ينتشر أذاها نحو المجتمع.
يعتبر إلقاء اللوم على الآخرين من أكثر أنواع أخطاء التفكير التي يستخدمها الفاشلون لتبرير فشلهم، وإظهار براءتهم من سوء أحوالهم؛ فالأفراد ينقسمون في استجابتهم لما يمر بهم من حوادث إلى ذوي مركز تحكم داخلي، وذوي مركز تحكم خارجي.
من يكون مركز تحكمهم داخليًا يتميزون بارتفاع درجة ثقتهم بأنفسهم، وتحملهم مسئولية نتائج أي سلوكيات يقومون بها، وكما يفتخرون بتحقيقهم للنجاحات وينسبونها لأنفسهم، فهم لا يتهربون من تحمل مسئولية أي فشل حدث بسبب سلوكياتهم وقراراتهم. في حين أن العكس يحدث مع الصنف الثاني الذين يكون مركز تحكمهم النفسي خارجيًا، فهؤلاء لا يحكمون السيطرة على ما يواجهون من مواقف، ويرفضون الإقرار بمسئولية سلوكياتهم وقراراتهم عن أي نتائج سيئة تحدث بسببهم؛ فإما أن يلقي بالاتهام على غيره من البشر أو يدعي أنها إرادة الله تعالى، وأن الأمور جرت على النحو الذي جعل الأمور تؤول إلى ما آلت إليه، ولم يكن بالإمكان تغيير المقادير!
هناك أيضًا خطأ ما يُسمى بالتوجيه المتعمد Intentional Orientation حيث نتأثر بالتسمية التي تُطلق على شيء ما، ونتعامل مع الشيء في ذاته وفقًا للصورة التي يخلقها الاسم في الأذهان، وإن كانت هذه التسمية لا تشير إلى حقيقة الشيء بدقة، ولكنها تشير إلى إدراكنا له.
من أخطاء التفكير أيضًا عدم التفريق بين الحقائق والآراء، والحقائق موضوعية بينما الآراء ذاتية. كثيرًا ما لا تكون المشكلة في التعبير عن الرأي، بل تكمن المشكلة عندما يتعامل الكثير منا مع الرأي على أنه حقيقة، بينما قد يكون الرأي خاطئًا إذا كان مبنيًا على استدلال غير سليم!
وتتسبب إشكالية التعميم وعدم التمييز -كخطأ شائع في التفكير- في مشاكل عديدة لعدد متعاظم من البشر، والتي تنشأ من أن عدم قدرتهم على التمييز تتسبب في إصدار حكم واحد أو سلوك واحد نحو عدد كبير من الأشخاص أو المواقف لأنهم يفترضون تشابهها التام، ويفشلون في النظر إليها بشكل فردي وملاحظة أوجه الاختلافات بينها!
والتعميم الزائد هو أساس تشكل الأنماط الجامدة أيًا كان أساسها، سواء كان الدين أو السلالة أو النوع أو غيرها. والنمط الجامد هو صورة عقلية ثابتة يتم تعميمها على الأفراد التابعين لجماعة ما، دون ملاحظة الفروق الفردية بينهم أو الفروق التي ترجع إلى عوامل أخرى.
والاستقطاب خطأ شائع في التفكير له ارتباطه الواضح بالتعميم. يمكن القول بلا تردد إن أغلب البشر عنصريون، ولديهم ما يمكن أن أسميه الهوس بالتفرع الثنائي ‏dichotomania، فهم يحبون التقسيم الثنائي الحدّي فقط؛ الشيء ونقيضه. جرّب أن تعرض تقسيمًا ثلاثيًا في أي نطاق وستجد عزوفًا ‏عنه؛‏ فالثنائية تعني الحدّية القطبية؛ إما أبيض أو أسود، إما مؤمن أو كافر، إما أنك سني أو شيعي، ‏ودائمًا القطب المقابل هو العدو. من ليس معنا فهو ضدنا. فالتصنيف الثنائي يكرس للعداوة، بينما تقبل وجود تصنيفات متعددة ثلاثية أو رباعية أو أكثر، ‏يمجد التنوع الإنساني، ويصب في النهاية في بحر الإنسانية الذي يوحدهم دون تصنيف، لكن البشر يبحثون عما يقسمهم ويتجاهلون سبب توحدهم "الإنسانية"‏.
فماذا عن تشويه الحقائق؟
يعتبر انتشار الانحلال الجنسي كسلوك على مستوى العالم، وتوجيه الأفراد والمجتمعات إلى تقبله باسم الثقافة، نتيجة مباشرة لتشويه مجموعة من الأفكار الخاصة عن أمانة الجسد للرجل والمرأة، خاصة المرأة، فأصبح قطاع عريض من البشر يعتبرون أن الإنسان حرٌ في التصرف في جسده، ولا معنى لديهم للعفة ولا للشرف. تلك الأفكار المادية غير الأخلاقية في حد ذاتها ناتجة عن الثقافة الغربية المعاصرة التي جعلت من القيم الأخلاقية –فضلًا عن الدينية- مناقضة للحداثة والتطور.
لطالما تم النظر إلى علاقة الرجل الجنسية بالمرأة على أنها علاقة أخذ من الرجل وعطاء من المرأة، وربما لأجل هذا كان اللوم الأكبر يقع دائمًا على المرأة عند الانخراط في علاقات مُحرَّمة؛ كونها الطرف المُفرِّط، ولكن لدى المنادين بالحرية في العلاقات الجنسية فلا أخذ ولا عطاء، وليس للأمر علاقة بالشرف من الأساس؛ فشرف الإنسان لا علاقة له بجسده. وخطأ التفكير الذي يقوم عليه هذا السلوك هو تشويه الحقائق خاصة أمام المرأة؛ فالأمر أشبه بشخص معه خاتم ثمين من الماس قام أحد المحتالين بإقناعه أنه لا يساوي شيئًا فنتج عنه أن فرّط فيه بسهولة. والحقيقة أن المُفرِّط ملام على تفريطه، وهذا لا يعني ألّا يُلام المحتال.
كما لم يقتصر التحول الفكري الحادث، على العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة؛ فلأن التركيز صار على كون العلاقة الجنسية هي علاقة متبادلة يعطي كل طرف فيها نفسه للآخر، كان مما ترتب على تلك الفكرة الجديدة أن أي شخص بالغ عاقل يمكنه أن يقرر إقامة علاقة مع شخص آخر بكامل إرادته، أيًا كان هذا الشخص، سواء كان من جنسه نفسه، أو حتى من محارمه! وهو تبرير للشذوذ الجنسي وزنا المحارم، أقل ما يُقال عنه أنه مُقرف لمن يمتلك فطرة سليمة.
وبلغ تشويه الحقائق مرحلة أن أصبح بعض الداعين لنشر الانحلال –كثقافة- في مجتمعنا يروجون أن المهر الذي يعطيه الرجل للمرأة قبل الزواج، وعرفته أغلب المجتمعات قديمًا كتعبير من الرجل عن محبته للمرأة ورغبته فيها، ليس أكثر من أن المرأة تبيع نفسها! وللأسف فإن كثيرًا من الرجال –ربما تحت تأثير الضغوط الاقتصادية- قد حدث له تحول فكري فاعتنق هذه الفكرة العجيبة، ووصل الأمر إلى درجة أن فتيات ممن لا يرين العلاقات غير الشرعية انحلالًا صرن يتبنين الفكرة نفسها! وأنا قطعًا لا أتحدث هنا عن المغالاة في المهور، بل عن مفهوم المهر ذاته ودلالته.
ووصلت محاولة تشويه الحقائق وتغيير الأفكار إلى مفهوم الزواج نفسه الذي كان مقدسًا إلى يوم قريب، فالزواج بلا حب هو اغتصاب لا حق للرجل فيه وفقًا لهؤلاء! ويتم تبرير الخيانة للمرأة بناءً عليه، والترويج لها! فالاحترام من وجهة نظرهم مرادف لما نراه نحن انحلالًا. في مسلسلي "جراند أوتيل" و "لا تطفئ الشمس" على سبيل المثال يظهر نموذج الزوجة الخائنة حاضرًا، مع إيجاد مبررات درامية لها ونعومة رومانسية تمتزج بتلك الخيانة لجعل المشاهد يتقبلها، لتتسلل تلك السلوكيات المقرفة والمحرمة إليه تدريجيًا، ويتقبل الأفكار التي تعكسها.
وليست أخطاء التفكير وحسب هي ما يمكن أن تغير البنية المعرفية لأفراد المجتمع، بل يمكن نشر فكرة في المجتمع، والترويج لها، على أن يكون المعروض سطحيًا كقمة جبل الجليد، بينما جذور الفكرة الحقيقية تبقى في العمق، ولا يكون سهلًا على المواطن العادي في أحايين كثيرة إدراكها.
إن بث فكرة جديدة في المجتمع يعني تقبل سلوكيات جديدة ترتبط بها، وانتشار السلوكيات دليل على تخلل الأفكار التي تنبني عليها في العقول وتقبلها، حتى وإن كنا لا ندرك ونعي العمق الحقيقي لتلك الأفكار. والحل يكمن لأجل تغيير تلك السلوكات في تفنيد الأفكار التي تقف خلفها وبيان عوارها.

192-مهارات التواصل والضغوط النفسية


مهارات التواصل والضغوط النفسية
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
الأحد 21 يوليو 2019

يُعرف الضغط النفسي بأنه أي تغيير داخلي أو خارجي في بيئة الفرد من شأنه أن يؤدي إلى استجابة انفعالية حادة ومستمرة.
والضغط إما أن ينشأ نتيجة لعوامل داخلية كالقلق والاكتئاب والمخاوف المرضية، أو بسبب إساءة استخدام العقاقير الطبية. وقد تكون الضغوط الداخلية على الفرد بسبب طموحه ورغبته في التفوق. كما قد تأتي الضغوط من متطلبات البيئات الخارجية التي تسبب تزايد أعباء الفرد اليومية من ضغوط العمل وضغوط الأسرة والضغوط الاجتماعية.
تتمثل الضغوط الاجتماعية في العادات والتقاليد والقوانين الواجب مراعاتها في المجتمع الذي يحيا فيه الفرد، والتي قد تختلف مع توجهات الأفراد، ومع ذلك يضطرون إلى مسايرتها.
وتختلف المجتمعات في قوة الضغط الذ‏ي تمارسه على أفرادها للخضوع والامتثال لمعاييرها، وعادة لا يجرؤ الأفراد في المجتمعات الصغيرة والريفية والقبلية على مجرد التفكير في الانحراف عن السلوك المرغوب اجتماعيًا أو إبداء الإعجاب بأفكار تخالف أعراف المجتمع حتى لو كانت أكثر منطقية، بينما تعطي المجتمعات الكبيرة والمفتوحة فرصة أكبر لأعضائها للانحراف عن معاييرها.
لكن ينبغي الإقرار بأنه لا يوجد مجتمع لا يطلب من أفراده مسايرة معاييره بدرجة أو بأخرى، ونخطيء حين نتصور أن المجتمعات المتقدمة في عصرنا تتيح حرية لأفرادها أكثر من المجتمعات النامية لأن القوانين التي يفرضها أي مجتمع متقدم هي جزء من معاييره التي يضغط على أفراده لأجل الامتثال لها، ويمكنني القول إن إخضاع الأفراد لقوانين المجتمع يكون أقوى في المجتمعات المتقدمة بينما إخضاع الأفراد لأفكار وقيم المجتمع يكون أقوى في الدول النامية.
ولا ننكر أن لدى كل فرد درجة من المسايرة وإلا لصارت حياته عراكًا مستمرًا بينه وبين مجتمعه لا يملك أي شخص أن يحتملها، ولكن المشكلة تكمن في المسايرة المفرطة التي تفقد الفرد استقلاليته وقدرته على نقد ما يستحق النقد، فينبغي ألا يساير العادات الاجتماعية على حساب نفسه عندما تكون عديمة المعنى والقيمة. ومهارات الفرد التواصلية تسهم بشكل أساسي في توازن الفرد مع الضغوط الاجتماعية وتحقيقه لكلا التوافقين النفسي والاجتماعي.
أما ضغوط العمل فيمكن أن تتمثل في زيادة حجم العمل أو إدمانه، وقد تظهر على العكس في قلة العمل وما يسببه ذلك من ضغط على الفرد، والأهم من كم العمل هو الضغط الناشيء عن عدم حرص الأفراد في مجتمعنا على الاسترخاء وتجديد النشاط في العطلات، ما يؤدي إلى الإجهاد، والذي يؤدي تراكمه بدوره إلى القلق، فالاضطرابات النفسية والجسدية، حيث يمكن أن يُصاب الإنسان ببعض الأمراض الجسدية، كما يتشتت الانتباه وتضعف الذاكرة ويتشوش التفكير وتتعطل القدرة على اتخاذ القرارات السليمة، وترتفع درجة الحساسية ويرغب الشخص في الانعزال عن الناس، وربما يفتقد الضبط الانفعالي ويصبح عدوانيًا عند التعامل معهم. وتكون أول ما تتأثر العلاقة الأسرية.
والأشخاص الناجحون حقًا هم من ينجحون في علاقاتهم الشخصية والمهنية وليس المهنية فقط. هؤلاء هدفهم في الحياة لا يقتصر على تكوين الثروة واكتساب المركز الاجتماعي المرموق، بل يخصصون وقتًا لأنشطة تجمعهم بعائلاتهم.
هذا لا يمنع من أن الأسرة نفسها قد تكون أحد مصادر الضغوط الخارجية على الفرد عندما يغيب التوافق بين الزوجين ويشعران بافتقاد الحب والسعادة. ويسهم حظ كلا الزوجين من مهارات التواصل الاجتماعي في إحداث التوافق الزوجي، بل ومساعدة بعضهما في تخطي ضغوط العمل وسائر الضغوط الاجتماعية.
والضبط الانفعالي –كمثال- من أهم مهارات التواصل اللازمة لتفاعل اجتماعي ناجح، واكتساب الدرجة الملائمة منه تسهم في التغلب على الضغوط النفسية. ويعتبر انفعال الغضب من أهم الانفعالات التي يسهم التدريب على ضبطها في التغلب على الضغوط؛ ذلك أن الشخصية العصبية تواجه الكثير من المواقف الاجتماعية التي تفشل في التوافق معها بسبب التعبير المبالغ فيه عن الغضب بطرق سيئة، ويتم ذلك بشكل لا إرادي. هذا الشخص غالبًا يفشل في توزيع الأعباء الملقاة عليه، وفي معالجة أسباب الضغوط ولا يواجهها أولًا بأول، ما يؤدي إلى تراكمها وتعقدها إلى الدرجة التي قد يصعب معها حلها. ويُنصح بتخصيص وقت لقضائه مع الزوجة، ووقت للأبناء، وكذلك للعائلة والأصدقاء مهما كان قدر انشغاله في عمله. كما لا بد من اقتطاع وقت للاسترخاء يوميًا فلا ينسى نفسه، ووقت للأنشطة التي تسعده، وكذلك عليه أن يتعلم خلق حوار إيجابي مع النفس ومع الآخرين.
الضائقة الاقتصادية والمشاكل النفسية!
شابة جامعية جميلة في عامها الجامعي الأول، في الفصل الدراسي الأول كان لديها يومان في الأسبوع، يبدأ فيهما جدولها الدراسي في تمام الثامنة صباحًا.
وكعادة الفتيات الصغيرات في بلادنا فهن يكثرن الاهتمام بمظهرهن في بداية المرحلة الجامعية، فكانت تتأخر حتى تجهز نفسها في الصباح، وكانت غالبًا تمر سريعًا لتشتري شيئًا لفطورها في هذين اليومين، من أحد الأكشاك في طريقها، والتي يعمل بها أحد الشباب، والذي لم تهتم حتى بأن تعرف اسمه.
في الفصل الدراسي الثاني، قررت الفتاة أن تبدأ حمية غذائية، ومن ثم فقد توقفت عن المرور على الكشك لشراء البسكوت أو المقرمشات التي كانت تفطر بها. ثم كان أن شعرت يومًا بالجوع الشديد لأنها كانت قد تناولت وجبة عشاءها مبكرًا، فقررت أن لا ضير في كسر الحمية وشراء شيء لتأكله من الكشك قبل الذهاب إلى الجامعة، وإذا بالشاب يعاتبها، ويكلمها كما لو كانت قد خاصمته، وهو لا يفهم السبب!
والمشكلة ليست في أنه أُعجب بها، بل جوهر المشكلة أنه أوهم نفسه أنها مهتمة به لمجرد أنها كانت تشتري منه بانتظام مرتين أسبوعيًا، بينما هناك عشرات وربما مئات البشر يشترون منه بشكل أكثر استدامة، وفيهم فتيات، ولكنه لم يظن هذا الظن في أي فتاة من بينهن! لأن هذه الفتاة الجميلة وحدها، التي أوهم نفسه باهتمامها به، هي من يتمنى حقًا أن يكون الواقع معها على نحو ما توهم!
من خلال متابعتي لأحوال المجتمع، وما يُعرض عليّ من مشكلات، رأيت أن كثيرًا من الشباب صاروا يهربون من الواقع الذي يعجزون فيه عن تحقيق أحلامهم، ويغرقون في الأوهام؛ فعندما يضغط عليهم الواقع، ويكونون أضعف من تحمله، يهربون منه، ويختلق كل منهم واقعه الزائف في خياله! وهذا خطر على صحتهم النفسية.
فما يحدث من سياسات اقتصادية خاطئة لن يجعل فقط أناسًا تفتقد حاجاتها الأساسية، بل وسيزيد من أعداد المرضى النفسيين!

الجمعة، 19 يوليو 2019

191- التفاعل بين الاتصالين اللفظي وغير اللفظي أثناء المحادثة


التفاعل بين الاتصالين
اللفظي وغير اللفظي أثناء المحادثة
د. منى زيتون
أحد مقالات كتابي "مهارات التواصل"
السبت 20 يوليو 2019

قد يكون التفاعل الاجتماعي لفظيًا؛ يعتمد أساسًا على الحوار بين المتفاعلين، كالرسائل المكتوبة ومنشورات وتعليقات وسائط التواصل الاجتماعي المنحصرة في الكلمات فقط، وقد يكون غير لفظي إطلاقًا؛ لا تُنطق فيه كلمات، ويقوم على الاتصال البصري وتعبيرات الوجه وحركات الجسم، ولكنه في الأغلب الأعم يجمع بين نوعي الوسائط كليهما؛ فيكون لفظيًا وغير لفظي.
فرغم تصنيف سلوكيات اتصال الفرد إلى لفظية وغير لفظية إلا أنه في الحقيقة لا يمكن الفصل بين كلا النمطين؛ فلا يمكن تحقيق التواصل اللفظي بمعزل عن أنماط السلوك غير اللفظية، لأنه حتى وإن كان التواصل يتم عبر الهاتف وليس وجهًا لوجه ستبقى بعض الملامح غير اللفظية كنبرة الصوت وسرعة الكلام قادرة على إيصال رسائل للمستقبل أكثر مما تحمله الكلمات. وحتى وسائط التواصل الاجتماعي لا تخلو من رسوم الأوجه التعبيرية التي تعتبر محاولة الكترونية لمحاكاة ونقل تعبيرات الوجه، كما أن من يظن أنه يمكنه توصيل رسالته بفاعلية باستخدام وسائط التواصل غير اللفظي والاستغناء عن الكلمات لا شك واهم؛ فالبشر لا يمكن أن يتواصلوا بفاعلية ما لم يتحدث بعضهم إلى بعض.
إذًا هناك صعوبة كبيرة للتمييز بين نوعي الاتصال، وكثيرًا ما يتوزع نوعا الاتصال بشكل سلس كفعل واستجابة، ما يعطي ثراء للتفاعل الاجتماعي، فيرسل المرسل رسالة غير لفظية يستجيب لها المستقبل باستجابة لفظية، أو العكس، لكن في بعض الأحيان يسبب هذا التنوع في نمطي التواصل بين المرسل والمستقبل بعض المشاكل الاجتماعية.
من أنماط التفاعل السيء بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي ما يفعله كثيرون كاستجابة لانفعال الغضب عند محاولتهم تهدئة انفعال الغضب بالنقاش اللفظي! إن أسوأ ما يمكن أن يسمعه الشخص الغاضب كلمة "اهدأ"! إن مثل هذه الكلمة تثير مزيدًا من الغضب لدى كثيرين، لكن بعض البشر يصرون على تحويل غضبك لنقاش بدلًا من أن يساعدوك على تخطي الشعور السلبي الذي تشعر به. إن غضب محدثك اجعله يهدأ دون أن تطلب منه أن يهدأ، ودون أن تتفلسف وتتمنطق عليه؛ فوقت الغضب هو أسوأ وقت للنقاش. وبدلًا من أن تناقش الغاضب امسك يده. أجلسه على أريكة واجلس جواره. أحضر له شراب ليمون. اطلب منه أن يتكلم عما يزعجه لو كان هذا يريحه؛ ففي بعض الحالات ربما يكون من الأفضل أن يُترك الغاضب لينفس عن مشاعره، فهذا أفضل سبيل لاستعادة هدوئه. لكن ينبغي الانتباه إلى أن إظهار فورة المشاعر تلك صادقة، وأنك لا تعطي تعزيزًا يزيد احتمال تكرارها لدى الفرد عند سماحك له بالتنفيس عنها، لأن هناك نوعية من البشر تحاول استغلال ذلك.

جوانب التشابه
هناك جوانب كثيرة من التشابه بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، فكلاهما لغة رمزية لها شفرتها لدى من يعبر عنها ومن يستقبلها، لكن القاعدة تقول إن الرسالة كما تُرسل ليست بالضرورة هي الرسالة كما تُستقبل، وإن كان الاتصال اللفظي أكثر تحديدًا في شفرة رموزه، وأقل لغطًا عند محاولة فك شفرته.
من أوجه التشابه المتعارف عليها عبر الثقافات بين كلا نمطي الاتصال، أن لكليهما قواعد تحكمه، فكما نتصل لفظيًا لنقول مرحبًا، فمن المتعارف عليه أن نبتسم عند الترحيب، وكما تختلف الكلمات التي نطلقها في المناسبات الاجتماعية المختلفة تختلف أيضًا الأزياء التي نرتديها وفقًا للمناسبة. وكما تُعبر الألفاظ التي نستخدمها عن مستوى علاقاتنا بالآخرين تُعبر المسافات بيننا وبينهم ووضع الجلسة وتنظيم الأثاث وغيرها من الوسائط غير اللفظية عن حدود تلك العلاقة.
من أوجه التشابه أيضًا أن كلا نمطي الاتصال قد يكون مقصودًا ويمكن التحكم فيه في بعض المواقف أو قد يكون غير مقصود في مواقف أخرى. وكلا النمطين قد يكون مباشرًا أو غير مباشر.
أيضًا يتشابه نمطا الاتصال في تأثرهما بالثقافة المحيطة، فكما أن اللغة تتأثر بالثقافة، فكذلك أغلب أنواع سلوكيات الاتصال غير اللفظي، وإن كانت هناك بعض سلوكيات التواصل غير اللفظي شائعة عالميًا؛ فمن ذا الذي لا يفهم معنى الابتسام أو الإيماء بالرأس يمينًا ويسارًا؟!

جوانب الاختلاف
هناك اختلافات رئيسية بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، أولها أنه في الاتصال اللفظي تتدخل حاسة واحدة فقط في استقباله، هي السمع في حال ما إن كان منطوقًا، أو البصر إن كان مكتوبًا. بينما تُستخدم الحواس الخمس في استقبال وتفسير قنوات الاتصال غير اللفظي.
والاختلاف الرئيسي الثاني بين الاتصالين أن وسائط الاتصال غير اللفظي أكثر استمرارية في التأثير على التفاعل الاجتماعي من الكلمات التي قد يتوقف تأثيرها عند انتهاء التلفظ بها أو كتابتها.
أما الاختلاف الثالث فيتعلق بسرعة تفسير الرسائل الخاصة بكل نمط منهما؛ إذ إنه بالرغم من أن تفسير الرسائل غير اللفظية في المواقف التي تخضع لتحليلات الخبراء -والتي غالبًا ما تكون مصورة-، يأخذ وقتًا للتحليل والتفسير، لكن في مواقف التفاعل الاجتماعي بين المرسل والمستقبل يتم تفسير الرسائل غير اللفظية من قِبل المستقبل بطريقة تلقائية، والاستجابة لها سريعًا. على العكس في حال الرسائل اللفظية التي يسترجع المستقبل محتواها ويحاول تحليلها والتأكد من تفسيرها ويتمهل نوعًا قبل إصدار الاستجابة لها حتى لو كان الحوار وجهًا لوجه، ومن أشهر الاستراتيجيات التي تتيح له التمهل استفتاح الاستجابة بإعادة صياغة ما قاله المرسل لأن هذا يزيد وضوح الرسالة في ذهن المستقبل قبل الرد عليها.

أشكال العلاقة بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي
على وجه الدقة يمكننا القول إن وسائط الاتصال غير اللفظي تؤثر على الرسالة اللفظية بطرق عديدة تحدد أشكال العلاقة بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي، وهي:
-التأكيد على الرسالة اللفظية: من أمثلة ذلك أن يرفع الشخص نبرة صوته للتأكيد على كلمة أو عبارة، أو أن يبتسم عند الترحيب بالضيوف.
-مناقضة الرسالة اللفظية: كالعبوس عند الترحيب بالضيوف! ويعتبر توصيل رسائل لفظية وغير لفظية متناقضة غير متسقة من أهم سُبل استكشاف الخداع.
-الإضافة إلى الرسالة اللفظية: كالابتسام عند حكاية قصة مضحكة، أو العبوس عند حكاية قصة حزينة، بما ينقل مشاعر الفرد نحو الرسالة وليس فقط الكلمات.
-تكرار الرسالة اللفظية: كإشارة اليد بالذهاب بعد جملة "هيا نذهب".
-يحل محل الرسالة اللفظية: فهز الرأس على الجانبين إشارة كافية لتوصيل رسالة الرفض، دون الحاجة إلى نطق أي كلمة.
-التحكم في الرسالة اللفظية: كاستخدام السلوكيات غير اللفظية مثل رفع اليد لأجل المقاطعة وأخذ الدور في الحديث أو العكس عند استخدام تلك السلوكيات لإعلام الطرف الآخر أنني لم أنهِ حديثي بعد.

ويعتبر عدم التطابق في الرسائل الاجتماعية غير قاصر على تناقض الرسائل اللفظية والرسائل غير اللفظية:
-فقد يكون هناك عدم تطابق بين الأقوال والأفعال، فيدّعي رجل أمام الناس أنه يحب زوجته، بينما أفعاله كلها تتناقض مع هذا الادعاء.
-كما قد يحدث عدم تطابق بين محتوى الرسائل الاجتماعية الحالية والسابقة أيًا كان نوعها لفظية أو غير لفظية؛ فتقول الآن ما يناقض ما قلته بالأمس!
-وقد يكون عدم التطابق بين الواقع والشعور المُدرَك. فكثيرًا ما نجد شخصًا يردد أن أمه لا تحبه، لكن هل حقًا أمه لا تحبه؟! حقيقة الأمر أنه يشعر بذلك الشعور الخادع المخالف للواقع لكونه يُحرِّف الواقع ويسيء تفسير أقوالها وأفعالها. وأشكال تحريفات الواقع أكثر من أن تُحصى.
وفي جميع حالات عدم تطابق الرسائل الاجتماعية ينبغي مساعدة الشخص على إدراكه، وأفضل السُبل لتحقيق هذا هو توضيح وجود التعارض أمامه، ثم جعل النظرتين المتعارضتين في وضع مقارنة، ومطالبته بتوضيح موقفه، وبالاستدلال على وجهة النظر التي سيُضمِّنها موقفه، ومواجهة إنكاره في بعض الحالات عندما لا يتفق ما يقوله مع المنطق.

بعض الأنماط التي يظهر فيها التفاعل بين الاتصال اللفظي والاتصال غير اللفظي
المقاطعة والتحكم أثناء المحادثة
في الحوارات اللفظية عامة، والثنائية منها تحديدًا، لا يكتفي المستقبل بالاستماع إلى المرسل، بل عليه إصدار إشارات غير لفظية توضح أنه يصغي له، وإشارات أخرى تنقل رسالة له بأن لديه الرغبة في الحديث والمشاركة في الحوار. هذه السلوكيات غير اللفظية تساعد في تنظيم التفاعل الاجتماعي. صحيح أنه أحيانًا تُستخدم الكلمات لأداء الوظيفة نفسها، لكن غالبًا ما يتم هذا التنظيم من خلال وسائط الاتصال غير اللفظي.
بالنسبة لصغار السن يستخدم الآباء والمعلمون غالبًا إشارة تحريك الحاجب مع إمالة الرأس للإشارة نحو الطفل الذي يريدون منه أن يتحدث أو يسكت.
وبالنسبة لتنظيم الحوار بين الكبار، فعادة يتم رفع اليد أو ربما قلم كإشارة إلى الرغبة في أخذ دور في الحوار. وعند مطالبة المتحدث بالإسراع في إنهاء كلمته يتم تحريك إصبع السبابة دائريًا، وهي إشارات متعلمة منتشرة عالميًا في العديد من الثقافات، ومن الإشارات المصطنعة التي أصبح متعارفًا عليها لإعلام شخص بانتهاء الوقت المخصص لحديثه هو تكوين شكل حرف T بالإنجليزية بكلتا اليدين، وهو الحرف الأول من كلمة Time.
لكن في أحيان كثيرة يستقبل المتحدث تلك الإشارات على نحو عدائي، ويعتبر أنها محاولات للتحكم فيه والتضييق عليه، كما أن الطرف الآخر في الحوار قد يبدأ في المقاطعة.
تحدث المقاطعة عندما يتوقف المرسل عن الحديث لالتقاط أنفاسه أثناء الحوار، فما يلبث المستقبل أن يبادله الدور ويبدأ في الكلام، دون أن ينتظره ليتم كلامه، وقد يسوء الأمر في بعض الأحيان فيشتبك المستقبل مع المرسل مانعًا إياه من الاسترسال في الكلام وذلك قبل أن يتوقف الأول، ويكون ذلك عادة مصحوبًا بإشارات بالأيدي. التصفيق أيضًا قد يُشكل شكلًا من أشكال المقاطعة إن لم يحدث في وقته المناسب.
والملاحظ دائمًا أنه عندما يقاطع المستقبل المرسل فإن المقاطعة بينهما تتكرر وتصبح عادة، وكما قاطع الأول الثاني فإن الثاني سيبادله الفعل نفسه ويقاطعه أيضًا.
الصمت
على العكس من المقاطعة التي تُجبر الشخص على إنهاء رسالته اللفظية بالتوقف عن الاسترسال في الكلام، يكون الصمت، ويعني أن يتوقف الشخص بملء إرادته عن الكلام لفترة بين رسالتين لفظيتين! أو رفضه الاشتراك في التواصل اللفظي من البداية.
ويمكن أن يوصل هذا الصمت رسائل عدة تتفاوت حسب الموقف، وتساعد الرسائل غير اللفظية المصاحبة للصمت في استكشافها.
نوعيات الرسائل التي يوصلها الصمت:
-الراحة والطمأنينة؛ عندما يكون الشخص مع أناس قريبين منه، إذ لا حاجة كثيرًا للكلام.
-الخجل؛ عندما يتحاور الشخص مع غرباء لا يعرفهم، ويتجنب الكلام معهم لهذا السبب.
-السلبية؛ إذ لا يوجد لدى الشخص ما يُقال، سواء كان يعرف من يحاوره أو لا يعرفه.
-الاحترام؛ فالإقلال من الكلام مرغوب فيه في بعض الثقافات الشرقية، خاصة مع كبار السن.
-الارتباك؛ يحدث أحيانًا في النقاشات، عندما يكون موقف المحاور أقوى، والشخص غير قادر على تقديم حُجة للرد عليه، فيلجأ للصمت.
-رفض الاستجابة للعدوان اللفظي؛ إذ إنه لا خيار أمام الشخص المعتدى عليه لفظيًا إلا الصمت أو الرد الذي يؤجج الصراع، ويُلحق مزيدًا من الضرر بالعلاقة؛ فالصمت أحد الخيارين المتاحين.
-العقاب بالتجاهل واللامبالاة؛ فبعد أي صراع أو خلاف بين شخصين، قد يرفض أحد الشخصين أو كلاهما أي تواصل لفظي مع الآخر.
-التحدي أو اللامبالاة! يحدث أي منهما عندما يرفض الشخص التواصل لفظيًا مع الأشخاص ذوي السُلطة.
-الصمت كمقوي لأثر الرسائل غير اللفظية؛ فعندما تتوقف تمامًا عن الكلام مع إرسال رسائل انفعالية من خلال تعبيرات الوجه أو عقد الذراعين أو زم الشفاه يتيح هذا للمستقبل التركيز على محتوى الرسالة غير اللفظية، ويكون أثرها أقوى.

ومع كل هذه الرسائل التي يرسلها الصمت يبقى أسلوبًا غامضًا في التفاعل الاجتماعي، كثيرًا ما يصعب تفسيره.
ويختلف تفسير الصمت في ضوء عوامل كثيرة، منها العلاقة بين الأفراد المتفاعلين، والثقافة التي ينتمي إليها كل منهم، وأعمارهم، ومراكزهم الاجتماعية، كما وتعتبر مدة الصمت محددًا أساسيًا في تفسيره، فالصمت القصير قد يكون مجرد إعطاء النفس برهة للتفكير والبحث عن المعنى الذي يعبر عنه، أو لحظة يصل فيها الفرد للاستبصار وإدراك العلاقات بين الحوادث التي يرويها، وليس لرغبة منه في قطع التواصل اللفظي أو لتوصيل أي رسالة مما سبق الحديث عنها أعلاه.
ويمكن محاولة كسر حاجز الصمت في بعض الأحيان عن طريق إرسال رسائل لفظية واضحة تحث الفرد على المشاركة في الحوار، أو إصدار أصوات همهمة لحثه على الاسترسال إن كان قد توقف، أو إرسال رسائل غير لفظية بإيماءات الرأس والتواصل البصري.

الخداع والكذب Deception
مما توارثه الجدود أن الكاذب يتجنب الاتصال البصري بالعين. صحيح أن هذا لا يصدق مع الجميع، فهناك من يتجنبون التواصل البصري لأسباب أخرى غير الكذب، وهناك من يكذب وهو ينظر في عينيك بتبجح، ولكن هذه النظرية كثيرًا ما تكون صائبة.
ذكرنا أن الاتصال غير اللفظي يسهم في تشكيل انطباعات الناس بعضهم عن بعض؛ من حيث الصِدقية credibility، ما يحدد درجة تأثير الفرد في الآخر الذي يتواصل معه، والناس عادة تصدق الرسائل غير اللفظية إذا ما تعارضت مع الرسائل اللفظية؛ لذلك تؤثر قنوات الاتصال غير اللفظي في قدرة الفرد على خداع الآخرين وفي قدرته على استكشاف الخداع الصادر عنهم.
ليس هذا فقط بل لا بد أيضًا أن تتناسق الرسائل غير اللفظية مع بعضها لأجل وثوقية عالية في محتوى الرسالة؛ فليس من المنطقي أن تجلس في وضعية جسم توحي بعدم الانتباه لمحدثك ويعطيه وجهك في الوقت نفسه تعبيرات مريحة، وتطلب منه أن يستقبل رسالة ملؤها الترحيب والود!
ويرتبط النجاح في الخداع بدرجة الوعي بالذات، فالإنسان يُولد بقدرة فطرية على التعبير عن النفس، وتعمل التنشئة الاجتماعية على ضبط ذلك التعبير، ومنع الأطفال من التعبير بالكلمات أو بأي وسيلة من الوسائل غير اللفظية عن بعض ما يفكرون فيه أو يشعرون به، من أجل تهذيب الطفل، ومن هنا يخف تأثير الفطرة شيئًا فشيئًا ويبدأ الاصطناع، والذي يتعدى عند بعض الناس إلى ما نسميه الخداع؛ فابتسامة في وجه ضيف مزعج لا تعد خداعًا وإنما تهذيبًا، لكن محاولات إرسال رسالة زائفة للآخرين في الغالب تكون خداعًا، خاصة عندما يكون الأمر متكررًا، ولنتذكر كيف يحتال علينا الشحاذون بالكلمات ونبرة الصوت والتعبيرات الجسدية كأقوى مثال على ذلك. إنها سلوكيات واعية تمامًا ومتعمدة تُستخدم لتوصيل رسالة غير حقيقية.
في دراسة لألدرت فريج (Aldert Vrij,2000) عن التنبؤ بالخداع عن طريق السلوكيات اللفظية وغير اللفظية، أظهرت النتائج أنه على أساس السلوكيات غير اللفظية وحدها يمكن تصنيف نسبة كبيرة من الكذب والصدق بشكل صحيح –78% كما ورد بالدراسة–، ولكن بالرغم من ذلك فإنه أمكن تصنيف نسبة أعلى بشكل صحيح عندما أُخذت أساليب التحليل التي تعتمد على السلوكيات اللفظية وغير اللفظية معًا.
وقد اقترح بارجون وباتلر وكيورورو (Burgoon, Butler, and Cuerroro)  عام 1995، نظرية الخداع بين الأشخاص Interpersonal Deception Theory (IDT)، والتي تقترح أنه يوجد اختلاف بين الأفراد الماهرين اجتماعيًا والأفراد غير الماهرين عندما يحاولون خداع الآخرين. وجد الباحثون أن مستوى المهارات الاجتماعية الفردي يؤثر في الخداع والنجاح في استكشاف الخداع؛ فامتلاك مهارة الضبط الانفعالي تساعد المرسل والمستقبل في إخفاء عدم الارتياح والقلق والتأثيرات السالبة العامة التي تحدث عندما تخدع شخصًا أو تستكشف الخداع من الآخر، وبالمقابل فإن امتلاك المستقبل لمهارتي الحساسية اللفظية والحساسية الانفعالية يجعل لديه احتمالية أعلى لاكتشاف الخداع أو الكذب من الآخرين.
لكن ينبغي الحذر والتيقن أن المتهم بالخداع لم تظهر عليه سلوكيات الانزعاج التي تم وصمه بالخداع لأجلها لأسباب أخرى، وأنه ربما كان متوترًا وقلقًا أو غاضبًا أو حزينًا لأمر لا يتعلق بتاتًا بالموضوع موضع التحقق من جانبك.
كما أن البشر قد يكذبون لأسباب قد تختلف تمامًا عن الأسباب التي نظنها. قد يكذبون لتقليل الحرج عن أنفسهم أو لتجنب التوبيخ على أمر تافه لا يُقارن بما يدور في مخيلتك أو لإخفاء خطأ أو إخفاء حقائق لا يرغبون أن تعرفها، وقد يخدعونك لابتزازك عاطفيًا! ويصدر هذا السلوك الأخير غالبًا عن النساء، ولكنه قد يصدر أحيانًا عن الرجال!
وعلينا أن نتذكر أننا نتواصل لتحسين تفاعلنا الاجتماعي وتقوية علاقاتنا، وليس لاتهام بعضنا بالكذب والتشكك دون داعٍ.