الخميس، 27 سبتمبر 2018

162-عندما يصبح الكذب وسيلة لغرض نبيل!


عندما يصبح الكذب وسيلة لغرض نبيل!
د/منى زيتون
الخميس 27سبتمبر 2018
الجمعة 21 يونيو 2019




على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي رسائل تطبيقي الماسنجر والواتس آب، نقرأ كثيرًا من الرسائل التي تحمل محتوى ديني أو تاريخي، يتناقله الناس طلبًا للثواب وتبليغًا للخير، قطعًا لأنهم يعتقدون صحته، لكن هل هذا المحتوى صحيح بالفعل؟
كثيرًا ما يصادفني محتوى كاذب ومدلس ليس له أساس من الصحة بين هذا الذي يتناقله الناس، يتفاوت هذا المحتوى ما بين أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وروايات تاريخية عن الصحابة والتابعين والأئمة، بل وقد يصل الأمر إلى أحاديث قدسية ينسبون فيها حوارات بين الله تعالى وأنبيائه أو بينه وبين ملك الموت، وهذه الحوارات يُقال إنها من المأثورات، لكن مؤخرًا وصلني حديث بينه تعالى وبين عصفور!

الإمام أحمد بن حنبل والمأمون!
من أمثال ذلك تلك القصة التي شاع تداولها على وسائط التواصل عن الليلة التي ذاق فيها الإمام أحمد بن حنبل مُر العذاب أثناء محنته، حتى دعا على الخليفة المأمون فأصبح المأمون ميتًا، وفُك أسر الإمام، وصاحب الرسالة –أو بالأحرى مؤلفها الفذ- لا ينسى ذكر هذا الدعاء المعجز، ويستحلفك بالله أن تنشره!
وكل من قرأ قليلًا في التاريخ الإسلامي لا يحتاج إلى تحقيق هذه القصة للتأكد من عدم صحة محتواها، فهي يستحيل أن تُوجد في أي كتاب؛ لأن الإمام أحمد –وببساطة- لم ير المأمون ولا رآه المأمون، فقد مات المأمون في طرسوس ودُفن، وعادوا بالممتحنين –وفيهم الإمام- إلى بغداد، قبل امتحانهم، ومحنة الإمام بجلده وسجنه تمت في عهد المعتصم!
ولا يُفوِّت أي ممن يريد ترويج تلك القصة الأكذوبة فرصة تكذيبي عندما أخبره بهذا، فيفتي مباشرةً من رأسه –ودون بحث- بأنه حتمًا والحال كذلك فالمقصود هو المعتصم، لكن التبس على الكاتب الأمر! بينما الحقيقة التي تثبتها كتب التاريخ أن الإمام أحمد كان يستغفر للمعتصم مع كل جلدة، وأن المعتصم بعد سنتين وشهرين أمر بإخراج الإمام من السجن، وعاش بعدها سنينًا!
إذًا فالقصة مختلقة من الألف إلى الياء، والغرض منها نشر ذلك الدعاء! أفلم يكن أفضل لمن كتبه ورأى فيه نفعًا أن ينشره كما هو دون تأليف تلك الأكذوبة التاريخية؟!
ومثلها قصص كثيرة عن الإمام أحمد وعلاقته بالإمام الشافعي، من أمثال "مرض الحبيب فزرته ...." وغيرها، التي تهدف إلى إظهار علاقة وثيقة بين الإمامين بأكثر مما كانت عليه في الحقيقة، لأن أحمد كان طالب علم حديث السن عندما زار الشافعي بغداد، ولم يطل مقامه بها، وكان الشافعي إمامًا كبيرًا وكهلًا، يُقدر تلميذه الذي قال فيه إنه لم يترك ببغداد من هو أفقه منه، لكنه لم يقل: زارني وزرته، ومثل تلك القصص الماسخة التي لا وزن لها.

الشيعة وموالاة الأكاسرة وليس آل البيت!
قصة أخرى يتم تداولها بكثرة عن السبب المزعوم لكون أئمة الشيعة الإمامية من بعد سيدنا الحسين من نسله فقط، ولم يكن أحد منهم من نسل سيدنا الحسن، وهذا السبب وفقًا للقصة التي يرويها هؤلاء أن سيدنا الحسين كان قد تزوج واحدة من بنات كسرى يزدجرد الثلاث اللاتي تم أسرهن في عهد سيدنا عمر بن الخطاب، وأنجبت له سيدنا علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، ومن ثم فالشيعة يوالون الفرس وليس آل البيت!
وتلك العلاقة السببية يعلم كل من له معرفة بالتاريخ أنها مختلقة، بالرغم من صحة زواج سيدنا الحسين ببنت كسرى يزدجرد. أول أسباب زيفها أن من افترض هذا السبب يتصور أن بلاد فارس كانت الغلبة فيها للشيعة منذ انقسم المسلمون إلى سنة وشيعة، وبقيت على هذا، وهذا غير صحيح، فانتشار التشيع في بلاد فارس بدأ مع الدولة البويهية عندما بزغ نجمهم عام 321هـ، وادّعوا أنهم من نسل يزدجرد آخر ملوك الفرس، ولم يثبت أي من المؤرخين العرب ويحققوا هذا النسب في كتبهم، بل اكتفوا بذكر تلك الدعوى، وتشيع ملوك بني بويه، ثم تقاربوا مع المعتزلة، وكان ذلك سببًا في تشرب الإمامية لكثير من عقائد المعتزلة. ولم يلبث ميزان القوى أن تغير مرة أخرى في بلاد فارس لصالح السُنة عندما قوي بيت سُبكتكين بدءًا من أواخر القرن الرابع الهجري، والذي تزامن مع ضعف البويهيين شيئًا فشيئًا حتى فنت دولتهم، ثم جاء السلاجقة السُنة أيضًا بعد ابن سُبكتكين، الذين بدأ أمرهم في البزوغ سنة 432هـ، فلم تكن الغلبة العددية في بلاد بلاد فارس طيلة تاريخها للشيعة كما يظن من اختلق هذه العلاقة السببية.
ثم إن عقيدة الإمامة أسبق بقرون من الدولة البويهية، كما أنها بدأت في العراق، وليس في بلاد فارس، وكان ذلك في القرن الأول الهجري، وتحديدًا بعد ثورة سيدنا الحسين على اللعين يزيد، وكان طبيعيًا اختيار شيعة العراق لسيدنا علي زين العابدين بن الإمام الحسين ليكون إمامهم، كونهم لم يعترفوا بإمامة بني أمية من الأساس، وكونه الناجي الوحيد من الذكور من مذبحة كربلاء، أما من نجا من نسل سيدنا الحسن فلم يشارك أي منهم في المعركة، والأهم أن هذا الاختيار كان شكلًا من أشكال التكفير عن تخاذلهم في نصرة الحسين بعد أن دعوه إليهم.
لكنها الطائفية تُعمي وتُصم، فلِم لا نختلق قصة تجعل الشيعة موالين للأكاسرة وليس لآل البيت؟! وهي فرصة للطعن في عقيدة الإمامة والتي لا نُقرها كسُنة!

اختلاق قصص لأجل الدراما التمثيلية
وتأليف حوادث غير حقيقية وربطها بشخصيات تاريخية يحدث كثيرًا في الدراما، وتكاد لا تخلو قصة يتم تمثيلها من أمثال تلك الاختلاقات لخدمة أهداف درامية.
وعلى قدر حبي لأستاذنا الأديب الكبير نجيب محفوظ فلم تعجبني إضافاته الدرامية عند مخالفتها للوقائع في فيلم الناصر صلاح الدين، الذي كتب له السيناريو والحوار، رغم أني أعترف بأن السيناريو كان متماسكًا وحقق أهدافًا نبيلة، ولم يحمل إساءة لأحد، بل ربما كانت بعض مخالفاته الدرامية ضرورية؛ كتلك المرتبطة بشخصية عيسى العوام واختلاق شخصية لويزا فهي فكرة متميزة بحق وخلفية جيدة لإضافة حوار عن أن تلك الحروب المسماة بالصليبية لم تكن حروبًا مقدسة بل حروبًا لأجل نهب خيرات الشرق، لكن ربما لأني أحب التاريخ وأقدس الحقيقة كما هي شعرت هذا الشعور.
مسلسل الخديو إسماعيل أيضًا شاهدت بضع حلقات متناثرة من الجزء الأول منه متصورةً أنني سأضيف إلى معلوماتي حول عهد إسماعيل، وإذا بي أشعر أن علي التوقف عن المتابعة كي لا يختلط التاريخ الحقيقي في ذهني بحوادث المسلسل شديدة الاختلاط والاختلال؛ فخوشيار أم إسماعيل أصبحت هانم في المسلسل وليس قادين كما كانت في الواقع، بل وتتفاخر بذلك! وحسين كامل صار ابنًا غير شرعي للخديو وأمه هي الأميرة فريال! والأدهى أن يموت فؤاد الطفل، علمًا بأن هذا الطفل الذي جعلوه يموت في المسلسل لم يمت حقيقة، وكان ملكًا لمصر لسنوات في شيخوخته! ويبدو أنهم تداركوا الكارثة التاريخية التي صنعتها درامتهم الملتاثة في آخر المسلسل، وأوجدوا فؤادًا جديدًا. وهذه مجرد أمثلة لبعض مما شاهدت في المسلسل.

تذكرني هذه الاختلاقات بمن كانوا يضعون الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في فضائل بعض سور القرآن؛ حثًا للمسلمين على قراءته، لمّا شاع الاهتمام بالعلوم الدنيوية والفلسفة وغيرها، ويقولون: إنما نكذب له لا عليه!
ولا شك أن التأليف لأجل إيصال هدف نبيل موهبة جميلة، ويمكن لمن يملكها أن يحسن توظيفها لأجل إيصال هدفه، لكن على ألا يختلط ذلك بالتاريخ ويشوه حقائقه. وإن كان للتأليف الدرامي أحيانًا مبرراته، كما فعل نجيب محفوظ في الناصر صلاح الدين، فإن التأليف على شبكات التواصل الاجتماعي كذب وتدليس لا مبرر له، والبعرة تدل على البعير، فمن غير تلك الجماعة المسماة بالسلفية يمكن أن يؤلف مثل تلك الأخبار عن الإمام أحمد أو يختلق سببًا لاختيار الأئمة عند الشيعة من نسل الحسين بينما هو تاريخيًا لاحق على النتيجة بقرون وليس سابقًا لها! فأي علاقة سببية تلك؟!!
الأغراض النبيلة ليس السبيل إليها الوسائل القذرة. هل علّمنا الإسلام الميكيافيلية؟! لم يشتط الإسلام في التحذير من خُلق سيء مثلما حذّرنا من الكذب، وأخبرنا أنه الطريق الهادي للفجور، وعدّه أول صفات المنافقين.
المشكلة ليست في السلفية ومواهبهم الفذة في التأليف التي يسيئون استثمارها، المشكلة الأكبر فيمن ينقلون عنهم، ولا يدعوها تقف عندهم، إطاعةً للعبارة الشهيرة التي تختم أمثال تلك الرسائل "ارسلها لعشر" أو "ارسلها لكل من عندك"، وربما أضاف "حتى لو كنت أنا"!